Freischutz
لفيبر بمفرده، مع ارتكاب كثير من الأخطاء، لم يعد يشعر بالحاجة إلى دراسة البيانو؛ وأدت الدراسة في نظره رسالتها، ما دامت قد أوصلته إلى ما يريد. وهكذا أحس ڤاجنر منذ البداية بأن ما يود التعبير عنه شيء عظيم التعقيد، لا تكفي له أصابع البيانو أو أوتار الكمان، بل لا بد له من فرقة كاملة ومجموعات متناسقة ضخمة.
ومنذ ذلك الحين اتجه ڤاجنر نحو الموسيقى الألمانية بكل روحه. وكان فيبر هو أول مثل أعلى تعلقت به روحه. والواقع أن للدراما عند فيبر خصائص كثيرة تجمع بينها وبين دراما ڤاجنر كما سنرى فيما بعد؛ فوقائعها تدور في جو أسطوري، وشخصياتها جنيات مسحورة، والغموض يكتنفها، والصوفية الوثنية الكامنة في قلب كل ألماني تستيقظ على نداء أبواقها. بل إن تلك الدراما كانت في الواقع إنسانية، تنبض كل شخصية من شخصياتها بمشاعر عامة شاملة. وتلك كلها صفات أساسية في الدراما التالية عند ڤاجنر.
ولكن، كيف السبيل إلى كشف بقاع ذلك العالم الصوفي الغامض بدون دراسة؟ لا شك أن التأليف الموسيقي لا يماثل كتابة الشعر في تلقائيتها، بل هو يقتضي دراسة طويلة شاقة متدرجة. وهكذا بدأ ڤاجنر، رغم مصاعبه المالية، يدرس «الهارموني» سرا، فلما وصل النبأ إلى أسرته، كان نكبة جديدة أضيفت إلى بقية النكبات التي حلت عليهم من ذلك الابن الشاذ.
على أن دروسه في الهارموني لم تكن أسعد حظا من دروسه في اللغات الكلاسيكية؛ إذ كان يعدها حذلقة لا طائل تحتها، وتبدت له القواعد أمرا سقيما ثقيلا على النفس: «كانت الموسيقى في نظري شيئا شيطانيا، فيه غرابة صوفية رفيعة ؛ لذا كان من شأن كل ما يتصل بالقواعد أن يفسد طبيعتها.»
وكان من بين المدونات الموسيقية التي اقتناها في ذلك الحين، قطعة كان لها أكبر الأثر في حياته الموسيقية التالية، رسمت له اتجاها واضح المعالم يحقق كل نظرياته في الموسيقى والدراما؛ تلك هي السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، التي كانت منار الإلهام لڤاجنر، والتي أحس نحوها على الدوام بخشوع وتقديس وعرفان للجميل. ولنستمع إلى ڤاجنر وهو يصف تأثيرها فيه فيقول:
غدت تلك السيمفونية النقطة الصوفية الجاذبة التي تشع منها كل أفكاري الموسيقية. ولقد بدأ اهتمامي بها على شكل حب استطلاع؛ إذ كان الرأي الشائع هو أن بيتهوفن قد ألفها وهو على حافة الجنون؛ ولذا عدت أقصى درجات الغرابة والشذوذ والغموض في الموسيقى. وكان هذا وحده سببا كافيا دفعني إلى دراستها بشغف مستمد من ذلك الإلهام الشيطاني الذي أثارته في، وما إن ألقيت عليها نظرة - بعد حصولي على تقسيمها بعد عناء كبير - حتى فتنني الشعور بالمصادفة للقدرة التي تمثلت لي فيها؛ إذ إن الأنغام الطويلة التي تعزفها الآلات الوترية في بدايتها قد ذكرتني بتلك الأصوات التي لعبت في طفولتي دورا سحريا عجيبا، وبدت لي كأنها الصوت الغامض الذي يمثل حياتي أصدق تمثيل. ولا ريب أن تلك السيمفونية تنطوي على سر الأسرار؛ ولذا اهتممت لتوي بحيازة نسخة منها عانيت ألما عظيما في تدوينها ونسخها.
وربما كان في وقوفه مشدوها أمام هذا الإعجاب الفني الرائع ما ولد في نفسه نوعا من اليأس؛ إذ لم يكن قد توفر له من التعليم الموسيقي ما يمكنه من مجاراته، وإن أحس بأنه لا يفتقر إلى الإلهام وإلى الروح الخالقة لمثل هذه المعجزات؛ لذا انتابته فترة من اليأس البالغ، والقلق على مستقبله؛ غير أن حادثا فريدا قد أعاد إليه الثقة في نفسه، وجلب له الخلاص الروحي؛ إذ مرت ببلدته مغنية مشهورة هي: فلهلمين شرودور-ديفرينت
Wilhelmine Sehröder-Devrient
واستمع إليها ڤاجنر وهي تؤدي «فيدليو» لبيتهوفن، فكانت تلك ليلة فاصلة في حياته، وبلغ تأثره بها حدا جعله يسرع إلى إرسال خطاب إلى الفنانة يعبر لها فيه عن تقديره لصنيعها وعرفانه لجميلها إذ أعادت إليه ثقته في نفسه وفي حاسته الموسيقية، ويؤكد لها أنه لو أصبح له شأن في عالم الفن يوما ما، فإن الفضل الأكبر في ذلك سيكون راجعا لذلك اليوم الذي استمع فيه إليها. ولكم سر ڤاجنر فيما بعد حين قدمت إليه فلهلمين ذلك الخطاب الفريد وهو في أوج شهرته!
Shafi da ba'a sani ba