224

Rayhaniyyat

الريحانيات

Nau'ikan

ولا يخفى عليك يا سيدتي أن البطريرك في تلك الأيام كانت له قوة الحاكم المدني، فإن فرقة من الجنود كانت دائما موقوفة لخدمته لتنفيذ أوامره، على أن محافظ البلد «أورستيس» لم يستطع صبرا وسكوتا على هذه الفظائع التي ارتكبها «كيرللوس» باسم الدين، فناهضه برهة وكانت هباسيا في هذا الخصام نصيرة المحافظ بل نصيرة الحق، واستمر هذا النزاع إلى أن حدث الحادث الهائل الذي أودى بحياة ابنة «ثيون» العالمة الجميلة.

ولا تظني يا سيدتي أن هذا هو السبب الوحيد الذي أثار خاطر «كيرللوس» على هباسيا، فإن رأس الخلاف بينهما لأبعد من هذا، أجل إنما هو نزاع بين العلم والخرافة، بين التعصب والفلسفة، بين الحرية والاستبداد، بل هو نزاع بين عذراء وثنية أقامت على فضائل الدين المسيحي دون أن تعتنقه وبين بطريرك استخدم الدين واسطة لإشفاء غليله ونيل مآربه، وفاز بذلك فوزا مبينا، حتى إن المحافظ «أورستيس» أشفق على منصبه وحياته من تعصب البطريرك وتغيظه، ولكن ذنب المحافظ ذنب سياسي فقط، وذنب هباسيا سياسي علمي ديني، لذلك اختارها «كيرللوس» هدفا لحقده وغضبه، وسأنقل إليك حادثة قتلها كما رواها واتفق في روايتها المؤرخون.

عندما كانت هباسيا عائدة في عربتها من المتحف الملكي قاصدة بيتها تصدى لها جمهور من رعاع المسيحيين وفيهم الرهبان وفي مقدمتهم بطرس الشماس الذي كانت له في الجريمة المنكرة اليد الطولى، فأسقطوها من العربة، وجروها إلى السيزاريوم - وقد كانت في ذاك الزمان كنيسة للنصارى - ونزعوا عنها كل ثيابها ومزقوا جسدها تمزيقا بصدف المحار - وقيل: بشقف من القرميد والفخار - ثم قطعوها إربا إربا وذهبوا بها إلى خارج المدينة وأحرقوها هناك، وكان ذلك في آذار سنة 415 في عهد الملك «تيودوسيوس» الثاني.

فقدس «كيرللوس» في صباح اليوم التالي على عادته، وأكل جسد الرب، ولكنه لم يستطع أن يقول ما قاله «بيلاطوس» قبله بأربعة قرون «أنا بريء من دم هذا الصديق» لا؛ فإن البطريرك مسئول عن قتل هباسيا على هذه الطريقة الفظيعة الشنعاء، وقد يتطرف المؤرخون ويعتدلون بحسب نزعاتهم السياسية وصبغاتهم الدينية، ولكن ما من واحد منهم يرتاب في أن البطريرك «كيرللوس» هو العامل الخفي على قتل هباسيا، وقد قال «ثيودورس» وهو من آباء الكنيسة المشهورين، إن لكيرللوس يدا خفية في هذه الجريمة، وقال أحد المؤرخين المعتدلين: إن لم تقتل هباسيا بأمر صريح واضح من البطريرك فقد قتلت بعلمه وإرادته.

وقد أدهشني عنوان طويل لكتاب طبع في إنكلترا سنة 1730 في هذا الموضوع، قال المؤلف إن هذا «تاريخ امرأة عظيمة في علمها وفضلها وفصاحتها وأخلاقها وجمالها، قتلها إكليروس الإسكندرية ومزقوها إربا إربا إكراما لخاطر بطريركهم الذي يدعى بلا استحقاق القديس كيرللوس.»

وفي قتلها أقفل باب المتحف العظيم الذي شيده رفيق الإسكندر. في قتلها كانت نهاية العلم والفلسفة في المغرب، في قتلها تم للتعصب النصر على الحرية والتهذيب، فأقفل باب النور الذي فتحه «بطليموس» في الإسكندرية كما أقفله «يوستنيانوس» في أثينا، فكان «سميليسيوس» آخر الفلاسفة في بلاد اليونان وكانت هباسيا خاتمة الفلاسفة في بلاد مصر، ومنذ هاتين الحادثتين المنكرتين تبتدئ ما يدعى في التاريخ «العصور المظلمة» وتستمر في أوروبا أحد عشر قرنا.

هذي هي سيرة هباسيا، «العظيمة في علمها وفضلها وجمالها» بل هذه قصة النزاع بين الدين والفلسفة في ذلك الزمان، ومهما قيل في البطريرك كيرللوس فمن المقرر يا سيدتي أن الرجل الذي يعمل ما عمله في اليهود، الرجل الذي يهيج رعاعه على «نستورس» في مجمع أفسس، الرجل الذي يستخدم القوة العسكرية لإثبات عقيدة لاهوتية وتعزيزها؛ لا يتردد في أمر امرأة عملت على هدم صروح الخرافة والأوهام، فقولي - إذا: رحم الله أمثال «كيرللوس» من البطاركة وجعل أمثال هباسيا من المقربين المكرمين.

القديس أغسطينوس والغزالي

1

الرأي محترم أيا كان مبديه، محترم إلى أن يظهر الخطأ فيه، وعلى المفكرين أن يخلصوا العمل في النقد والتمحيص فيحملون على ما فسد من الآراء والعقائد، ولا يتعرضون لأصحابها. فإذا قال أحد الفلاسفة مثلا: «إن الله لا يوحي إلى أحد من الناس وحيا خصوصيا ماديا كما في الكتب المقدسة» فليس من العدل والإنصاف ولا من التعقل والحكمة أن نحمل عليه سبا وشتما وتعييرا، فنقول: إنه كافر، قليل الأدب، جاحد نعمة ربه، وقد يكون هذا العالم الملحد أشرف عملا، وأسلم نفسا، وأكرم خلقا، من أدعياء الدين الذين يسفهون ذاك العالم ويثيرون عليه أحقاد الجهلة وغضب المتعصبين. أوما قالوا حتى في نبي الإسلام إنه سفه الأحلام وضلل الناس.

Shafi da ba'a sani ba