223

Rayhaniyyat

الريحانيات

Nau'ikan

هباسيا زينة نساء الإسكندرية في تلك الأيام، ورئيسة الفلسفة الأفلاطونية، وصديقة الأمراء المحبين للعلم والعلماء، ومرشدة الحكام، وعدوة التعصب والخرافة، كلنا نسمع بالملكة «كليوباترا» الداهية الفاسقة، ولكن من منا يسمع بهباسيا العالمة العفيفة العذراء؟ في المتحف الذي وصفته كانت تلقي دروسها على الألوف من الطلبة وفيهم الأعيان والأغنياء واللاهوتيون، في ذاك المتحف كانت تعلم بأفصح لسان وأجلى بيان فلسفة «أفلاطون» الجديدة التي تدعى في تاريخ الفلسفة «نيوبلاطونيزم»، في ذاك المتحف الذي شيده «بطليموس» رفيق الإسكندر أنارت هباسيا أنوارا أطفأها الجهل والتعصب فظلت بعدئذ أوروبا تعمه في الظلمات أحد عشر قرنا.

وقد كانت هذه الوثنية الفاضلة رائعة الجمال، فصيحة اللسان، شديدة العارضة، سديدة الرأي، سريعة الخاطر، شريفة الشمايل، والخصال. وإن آباء الكنيسة أنفسهم ليعترفون لها بذلك، على أنها كانت تتعب فكرها عبثا في مسائل قد تشغل الفلاسفة بعد ألفي سنة من اليوم كما أشغلتهم منذ ألفين مضت، من أين الحياة وإلى أين؟ فإن هباسيا، سيدتي - أمد الله بحياتك وأنارها - كانت تحاول حل هذا اللغز القديم العظيم: ما هو العقل؟ وما هو العلم؟ وما هو الله؟

في مثل هذه المواضيع الخطيرة كانت الفيلسوفة العذراء تلقي دروسها وخطبها، والحقيقة أن فلسفة الإسكندرية في أيام هباسيا وقبلها إنما هي مزيج من فلسفات اليونان كلها كفلسفة المشائين والرواقيين والكلبيين وغيرهم.

ومن تلاميذ هباسا الذين حازوا شهرة في زمانهم «سينيسيوس» أسقف عكا، وقد بعث هذا الأب الفاضل برسائل عديدة إلى ابنة «ثيون» البارعة، فيها ثناء جميل عليها واعتراف بفضلها وجميلها عليه. ولم تزل هذه الرسائل محفوظة، وفي إحداها يستشير المراسل أستاذته في عمل الأسطرلاب دليل أنها كانت تميل إلى علمي الفلك والميكانيكيات أكثر من سواهما، وقد ألفت كتابا وشرحت كتب «آبولونيوس» في هذه المواضيع، ولكن ابن العاص الذي جاء الإسكندرية بعدئذ لم ير فيها وفي الألوف مثلها كبير فائدة فوزعها على الحمامات لتسخن على نارها المياه. برد الله مثواه!

قد شهد المؤرخون لهباسيا الوثنية بالعفة والنزاهة كما شهدوا لها بالفضل والعلم والحكمة، وهم متفقون في أنها عاشت وماتت عذراء، وأما ما قاله «سويدس» في أنها اقترنت بالفيلسوف «أزيدوروس» فلا صحة له، وقد قيل: إنه محض اختلاق وافتراء، والنمامون منذ البدء كثيرون، فالأسقف «سينيسيوس» أول من اعترف بفضلها وعلمها، وعندما تعرف بها وأخذ يحضر محاضراتها كانت أضحت في الأربعين من عمرها، وكانت قد قضت في المتحف عشرين سنة تخطب وتعلم، وظلت الصداقة بين الفيلسوفة الوثنية والأسقف المسيحي نقية الأسباب وثيقة العرى، فلا هباسيا اعتنقت الدين المسيحي ولا «سينيسيوس» خلع ثوبه الكهنوتي (على أني قرأت في أثر لأحد آباء الكنيسة أن أسقف عكا لم يتقبل قواعد الدين المسيحي ولم يعترف بعقائده كلها، فهل في ذلك دليل على أرجحية الفلسفة في كفة ميزانه؟ الله أعلم.)

أما في سلوكها ولبسها ومعيشتها فقد كانت آية البساطة والجمال، وإني لأتخيلها واقفة أمام تلاميذها بثيابها البيضاء المهلهلة وقد عقصت بشريطة من الحرير شعرها، وسدلت على كتفها ذيل ردائها، وفي رجلها العارية نعل يونانية بسيطة، فلا قبعة تثقل رأسها، ولا مشد يضعف رئتها وقلبها، ولا كعبا عاليا يضر بعمودها الشوكي، وبمجموع أعصابها. آية في البساطة والبراعة والجمال! وحبذا لو عادت نساء اليوم، سيدتي، إلى الزي اليوناني القديم البسيط، خمسة أذرع من القماش الكتان الرقيق خير من عشرين ذراعا من الحرير الثقيل المخيط على آخر «موده» فلا تثقلي وتشددي جسمك، سيدتي، كما لو كان جسم عدوتك، ناهيك بأمر الاقتصاد والتوفير، على أننا لسنا الآن في موضوع الأزياء والاقتصاد.

لنعد إلى هباسيا، وقد وصلنا إلى ما يثير الأحزان من أمرها فإن هذه العالمة الحكيمة التي كان يكرمها الإسكندريون الراقون ويستفتيها العلماء العاملون، ويستشيرها في أمور السياسة الحكام؛ لم تنج من كره المتعصبين من المسيحيين، فبعد أن خدمت العلم والفلسفة أربعين سنة خدمات جليلة ماتت موت الشهداء على أفظع طريقة وأنكرها - كما ستعلمين.

البطريرك كيرللوس

لم تكن الإسكندرية في ذاك الزمن مهد العلوم المادية فقط، بل كانت عش الكلام أيضا والسفسطة، وبينا كان «نستوروس» و«كيرللوس» يتنازعان في عقيدة عبادة العذراء و«اثناسيوس» و«آريوس» يتناقشان في عقيدة المشيئة الواحدة والمشيئتين، كان علماء الإسكندرية يشتغلون هادئين باكتشافاتهم واختراعاتهم، ومن آباء الكنيسة الذين اشتهروا بالفصاحة والعلم، وبالتعصب والدهاء، وبالمعاندة والمكابرة، الكاهن «كيرللوس» الذي كان بطريرك الإسكندرية على زمن هباسيا، فبينا هي كانت تلقي دروسها في العلوم الفلسفية على الألوف من الطلبة كان «كيرللوس» يثير من على منبره خواطر النصارى على اليهود، ولما ارتقى إلى المنصة البطريركية في الإسكندرية كانت هباسيا في أوج شهرتها وقد تجاوزت الخمسين من عمرها، ومنذ ذاك الحين إلى أن قتلت لم يطب للبطريرك عيش ولم يسغ له شراب.

وإن أمره في التعصب والحقد والاستبداد مشهور لدى المؤرخين، فحينما ذهب إلى أفسس ليناقش «نستوروس» في عقيدة العذراء استصحب زمرة من رعاع الإسكندرية حتى إذا ضاقت به أبواب الجدال هاجهم على عدوه، وعندما تبوأ كرسي السيادة طرد اليهود من الإسكندرية وبعث بعسكر على معابدهم وبيوتهم فنهبوها ودمروها وارتكبوا من الفظائع فيها ما تقشعر لهوله الأبدان.

Shafi da ba'a sani ba