والروية والفكرة البرهانية ففي كل إنسان لم تلحقه آفة، وله قوة على قبولها. فأما وجود هذه القوة البرهانية ملكة فإنما هي للإنسان بالاكتساب. وقد توجد لبعض الناس بالطبع على ما يقوله تامسطيوس في القياس في ذوي الفطر الفائقة. فأما الروية فالاستعداد لها ينشأ بتنشئتنا، وهي تكمل باكتمالنا. وقد لخص أرسطو أمرها في السادسة من كتاب نيقوماخيا وليس الارتياض نحوها صناعة محدودة، ولا للأفعال الرياضية فيها اسم تختص به، والتجريب من أصنافها.
وأما القوة على الفكرة البرهانية، فإن الرياضة التي تصيرها ملكة أصناف كثيرة، وهذه تسمى عند القدماء التعاليم والعلوم الرياضية. فأما صناعة المنطق فليست برياضة، بل هي صناعة تشتمل على أنواع الفكر وكيف تكون، وتلخص كل واحد من أصنافها. ونسبها إلى العلوم الرياضية نسبة النحو إلى قصائد الشعر وأجزائها والخطب وأجزاءها ولذلك يروض نحويوا العرب من يعلمونه بتكليفهم إعراب أشعار العرب كشعر امرئ القيس وغيره.
وهذه التعاليم أربعة أجناس، ويشتمل كل جزء منها على أجزاء وما يجري مجرى الأجزاء، وقد لخص ذلك في كتاب البرهان. فأما هل كل واحد منها يروض قوة جزئية غير القوة الجزئية التي تروضها كلها يروض نوعًا واحدًا من الرياضة وتتعاون له، فذلك مما يليق بغير هذا النحو. فقد يظن أن الكل متعاونة على تخريج الذهن وتسديده نحو العلم البرهاني، إذ كان بالطبع إنما عرف وألف الطرق الخطابية. إلا أنه إن كانت صناعة الارتماطيقي الموضوعة في كتب الارتماطيقًا وغيره تعليمية وأقاويلها فرياضتها غير رياضة الهندسة، رياضة الهندسة واحدة بالنوع. وقد يظن بأبي نصر أنه يرى الأقاويل الموجودة في الارتماطيقا بلاغية على ما يفهمه قوله في شرح الخطابة. فإما كيف الأمر فيه فإن القول لائق بالارتماطيقى إذ كانت أول التعاليم في الرتبة وقوى الفكرة البرهانية أخرى.
والقوة التي يوجد بها البرهان إما أن تكون كالغاية لها أو تكون أشرفها. وقد يظن بقوة تأليف الحدود أنها أشرف، إلا أن ذلك بوجه آخر، وقد تبين ذلك في العلم الطبيعي.
والبرهان بالعموم على ما لخص في مواضع كثيرة ثلاثة أصناف: برهان الوجود، وبرهان السبب، والبرهان المطلق وهو الذي يعطي الوجود والسبب، وهذا أشرف أصناف البراهين كلها.
والارتياض في كل واحد من هذه إنما يكون بأن تفعل أفعالها على ما تلخص قبل. فالارتباض الذي يجعل القوة البرهانية ملكة، إنما يكون باستعمال البراهين المطلقة، وذلك بنحوين أحدهما كالغاية للآخر: أما الأول الذي هو كالتوطئة فهو إن نزاول براهين قد استنبطت على مسائل محدودة مؤلفة من أمور ذاتية ضرورية.
والثاني الذي هو كالغية أن يستنبط المرتاض براهين أكثر من واحد على أمثال هذه المسائل.
وظاهر على ما تلخص في البرهان أن الحد الأوسط يكون سببًا لوجود المحمول في الموضوع، فبالضرورة يكون الحد الأوسط إما حدًا أو جزء حد.
وهذا الارتياض ضرورة إنما يكون فيما تصور بما به قوامه، لأنه إن تصور لا بما به قوامه لم يكون فيما تصور بما به قوامه، لأنه إن تصور لا بما به قوامه لم يكن الأوسط شيئًا، وكان القياس إما دليلًا وإما قياسًا صادقًا، وهو الذي يسميه الإسكندر الأفروديسي برهانًا منطقيًا.
ولما كانت التصورات، كما قلناه في أقاويلنا في صناعة النجوم، منها أول وهي المناسبة للمقدمات الأول، ومنها ما توجد بنحو آخر على ما توجد عليه المقدمات التي ليس من شأنها أن يوقعها قياس، وكانت هذه إما أن تكون متقدمة أو متأخرة، والمتقدمة هي التي بها يكون الارتياض، وكانت الأطوال وما يعرض لها ويوجد لها مما يتصور بهذا النحو، كانت مما يمكن أن يرتاض بها. فإن المثلث قوامه بأنه سطح تحيط به ثلاثة أضلاع، والزاوية القائمة قوامها بمساواتها للزاوية التي صامها وقد يظن ببعض البراهين المكتوبة أنها دلائل، فإن لمتشكك إن يتشكك فيقول: إن المهندس قد يبين المسألة وعكسها، فإن كان برهان أحدهما برهانًا مطلقًا فالآخر ليس كذلك، فبان أن كل مثلث مستقيم الخطوط زواياه مثل قائمتين ليس ببرهان مطلق. وقد لخصنا في أقاويلنا في البرهان ن أمثال هذه ليست مباينة للقضايا المؤلفة من المحمولات على المجرى الطبيعي، بل إنما هي تتميمات للبراهين الكائنات عليها.
1 / 5