تسلية صديقه وتعزية ذاته، فتصبح " رصدًا " لحركات النفوس وطبيعة العلاقات العاطفية والاجتماعية، أي أن ابن حزم - من خلال تلك النماذج والتجارب - أحس أنه قادر على أن يقوم بدور السيكولوجي الاجتماعي، وذلك كله يتطلب إلى جانب التعمق في الدراسة جرأة على " الاعتراف " وتلك ميزة لم تكن تنقصه أبدًا.
فمن حال صديقه وحال نفسه وحال قرطبة (التي تمثل صورة مكبرة لكليهما) وجد الحوافز قوية لكتابة هذه الرسالة، ولعل ابن حزم أحس وهو يكتب رسالته، انه يريد أن يقدم تجربة أو صورة " أندلسية " خالصة، ولعل هذا هو الذي دعاه أن يقول وهو يحدد برنامجه في التأليف: " ودعني من أخبار الأعراب والمتقدمين فسبيلهم غير سبيلنا " فمما لا ريب فيه أن ابن حزم كان خير ثمرة لتلك الحركة الثقافية التي حاول بها الحكم المستنصر بلورة الشخصية الأندلسية في جميع المجالات الثقافية والحضارية، ولذلك كان للأندلس في نفسه - رغم ضياع الدولة الأموية وما حل بالبلاد من تعاسة على يد ملوك الطوائف - وجودها المحدد، وطبيعتها المشخصة، وقد أمدته ثقافته بكثير من تجارب الحب في المشرق، ولكن أين التجربة الأندلسية في ذلك أكاد أقرر أن ابن حزم ما كاد يرسم المنهاج الذي يعمل على أساسه في هذه الرسالة حتى سطعت في نفسه هذه الحقيقة، كما سطعت بعد سنوات عندما كتب رسالته في فضل الأندلس؛ ولذلك فغن هذا البيت:
ويا جوهر الصين سحقًا فقد ... غنيت بياقوتة الأندلس الذي اتخذه بعضهم شعارًا يدل على " أندلسية " ابن حزم (١)، ليس إلا نقطة صغيرة في بحر ممتلئ بتلك الحقيقة، حتى إن المؤلف ليتابع تجارب أندلسيين اغتربوا، ونادرًا ما يتوقف عند تجارب غير الأندلسيين، ولو تأملنا قوله فسبيلهم غير سبيلنا " لوجدنا أن صيغة الجمع هذه هي " سبيلنا "
_________
(١) انظر مقدمة غرسيه غومس على ترجمة الطوق (ص: ٥٢) وسانشت البرنس عند الدكتور الطاهر مكي: دراسات عن ابن حزم ص: ١٨٠.
1 / 42