فهناك صديق كلفه ان يؤلف " رسالة في صفة الحب ومعانيه وأعراضه وأسبابه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة " ن ولكن من السذاجة أن نظن بان الحافز لذلك كان حافزًا واحدًا بسيطًا، وأن امرءًا (فقيهًا) يكتب رسالة في الحب وهو يستشعر " نبو الديار، والجلاء عن الأوطان، وتغير الزمان، ونكبات السلطات، وتغير الاخوان، وفساد الأحوال، وتبدل الايام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع كاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد، واليأس عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر وانتظار الأقدار " - أن امرءًا على هذه الحال إنما اندفع إلى ذلك بتوجيه حافز بسيط بل أقدر انه قد وجد ولابد حوافز أخرى لكتابة هذه الرسالة، وما كانت تسلية الصديق إلا انقداح الشرارة الأولى، التي بعثت الماضي كله حيًا في نفسه.
وفجأة انتقل الأمر من تسلية الصديق إلى تعزية النفس: فابن حزم الذي كان في حاضره حينئذ يفكر " في صيانة الأهل والولد " وفي الحصول على الرزق له ولهم، كان يريحه أن يعود إلى الماضي، لأنه لا يمثل الحب وحسب، بل يمثل المجد والجاه والغنى والراحة والحياة الرغيدة ولهو أيام الطلب، ولذة المحادثة مع الأخوان " قبل أن يغيرهم الزمان "؛ لقد تركته تجاربه الكثيرة بين علو وانحدار يحس بوطأة العمر رغم أنه لم يقطع من حبل العمر إلا نصفه، أصبح " شيخا " في إحساسه، فهو يريد أن يصرف عنه هذا الإحساس؛ وكان شاعرًا وجدانيًا، وهوذا يتحول متكلمًا عقلانيا، فهو يريد أن يخلد شعر فترة الشباب والصبا في كتاب، وهو قد عرف الناس وخبر نفسياتهم، وأدرك مدى سيطرة الحب على نفوسهم، فليس هو وصديقه اثنين من أولئك الناس وحسب، يرضيهما أن يكونا في انسجام مع نماذج عديدة تعرضت لما تعرضا له، بل إن ابن حزم ينفرد عن صديقه ثم عن سائر الناس بأنه يستطيع أن يستوعب تلك التجارب، وأن يخضعها للدراسة والتحليل، ليتجاوز بها
1 / 41