٤ - دواعي التأليف:
أحب أن أقول - بداع من إحساس يشبه اليقين - أن رسالة " طوق الحمامة " بدأت تسلية لصديق ذي ود صحيح لابن حزم، كان يستوطن المرية - ولعله حلها بعد تفرق القرطبيين في الفتنة -. وفي موطنه الجديد، نشب القرطبي المهاجر في براثن حب آسر، على غير ما تسمح به السن (فهو على الأرجح لدة لابن حزم)، أي لم يكن مثل ذي الرمة الذي راهق الثلاثين، بل تجاوزها، وحلمته العشائر (١)، فكتب إلى صديقه وموضع سره ابن حزم، يسأله في كتاب زادت معانيه على ما في سائر كتبه من قبل، رأيه في هذا الذي نشب فيه، ويتحدث إليه بحديث الحب، ويسأله أن يطب له، فدعا الله بينه وبين نفسه ان لا يكلنا " إلى ضعف عزائمنا وخور قوانا ووهاء بنيتنا، وتلدد آرائنا (أو آرابنا) وسوء اختيارنا، وقلة تميزنا، وفساد اهوائنا "، ولكنه حرك ساكنًا وذكر أمرًا متصلًا بالصبا والشباب، والجراح لم تكد تندمل، وفيما ابن حزم يقلب وجوه الرأي، إذا بصديقه وقد استبطأ رده يسافر من المرية إلى شاطبة ليلقى صاحبه ويبث إليه ما في نفسه، وما تكاد شاطبة تستقبل ذلك الصديق حتى تقوم القيامة، وتسد في وجهه أبواب العودة إلى المرية، لاشتعال نار الحرب بين مجاهد وخيران، فلا يجد ابن حزم خيرًا من قصص من ابتلي بمثل ما ابتلي صديقه، يسليه عما ألم به، ويضرب له المثل بالأئمة الراشدين والخلفاء المهديين، ويذكره بما عرفاه من أحاديث العشاق والمحبين في قرطبة وغيرها، بل يقدم له نفسه نموذجًا عجيبًا لتصاريف الحب وشؤونه. وأنا أصدق ابن حزم فيما يقول، لأنه منزه عن تعمد الكذب، حتى وأن كان غيره يتخذ مثل هذه التعلة مدخلًا للتأليف،
_________
(١) من قول ذي الرمة:
على حين راهقت الثلاثين وارعوت ... لداتي وكاد الحلم بالجهل يرجع ويقول (على لسان أخيه مسعود يلومه):
أفي الدار تبكي أن تفرق أهلها ... وأنت امرؤ قد حلمتك العشائر
1 / 40