واجتمع إلى هذين المصدرين الفلسفي والطبي - في تصور مفهوم الحب مصدر ثالث هو المصدر التنجيمي الذي رأينا بوادره عند الموبذ قاضي المجوس، وقد خضع ابن داود أيضًا لهذا المصدر (١) وقرنه بالمصدرين الآخرين، كما فعل شيئًا شبيهًا بذلك إخوان الصفا (٢) وإن لم يكن تحديد المؤثرات النجومية متفقًا عليه بينهما.
فإذا انتهينا إلى أواخر القرن الرابع وجدنا " تصعيدًا " متعمدًا لكل هذه النظرات لدى أبن سينا الذي يرى أن من شأن العاقل " الولوع بالمنظر الحسن من الناس " ولكن إن كان هذا الولوع لذة حيوانية فهو مستحق للوم (مثل الفرقة الزانية والمتلوطة) (٣)، ولهذا تستبعد لذة المباضعة، فأما المعانقة والتقبيل فإن كان الغرض منهما الاتحاد فليس بمنكر (وهذا هو الظرف)، ولكن العشق الحقيقي هو عشق الخير المطلق عشقًا غريزيًا، أي قبول تجليه على الحقيقة، وتجليه هو حقيقة ذاته، والنفوس الملكية عاقلة له وعاشقة ومتشبهة بما تعقله منه أبدًا (٤) . وهكذا ينتهي أبن سينا إلى ما انتهى إليه إخوان الصفا، دون أن ندري يقينًا أيهما كان قبل الآخر، ويكون المتفلسفة قد وصلوا إلى فكرة " الاتحاد " في الحب، وكان وصولهم إلى ذلك قبل المتصوفة، على الأرجح.
غير أن القرن الثالث شهد مفهومًا رابعًا للحب (إلى جانب المفهوم الفلسفي والطبي والنجومي)؛ وهذا المفهوم صوفي أيضًا، لكنه لم يبلغ بعد درجة " الاتحاد " ولا ندري حقيقة من هو الذي قال به لأنه فريد في منزعه وهو يتلخص في أن الحب - على المستوى الإنساني - امتحان لكي يتلقن المحب درسًا في طاعة محبوبه ويدرك معنى المشقة في مخالفته؛ وهذا
_________
(١) الزهرة ١: ١٦.
(٢) رسائل ٣: ٢٧٣.
(٣) أبن سينا: رسالة في ماهية العشق (تحقيق وترجمة أحمد آتش، أستانبول ١٩٥٣) ص: ١٨.
(٤) رسالة العشق: ٢٥ - ٢٩.
1 / 33