وأما أبو بكر محمد بن زكريا الرازي فإنه قال: منافع الشراب المتخذ من العنب كثيرة، منها أنه يمد الحرارة الغريزية وينميها وينشرها ي جميع أقطار البدن بأوفق وأنفذ وأسرع وأصلح من جميع ما يعرف من الأغذية، ومنها أنه يدفع ضرر السموم التي حاصتها تجميد الدم وإطفاء الحرارة الغريزية كنَهَش الأفاعي ولدغ العقارب وأكل الأفيون وما أشبه ذلك، فهو كأنه مادة متهيئة موافقة لإنماء الحرارة الغريزية التي بها قوام الحيوان وله مع ذلك ما ليس لشيءٍ من الأغذية من طرد الفِكر الباطنة وبسط النفس وانشراحها حتى أنه من أعظم علاج للماليخوليا إذا استعمل ما ينبغي، وهو سبب لجلب النوم وجودة الهضم وتوليد الدم الغريزي وإخصابه البدن وتحسينه اللون ورفع اليبس والذبول والهرم، ومع ذلك يفتح السُّدد والمجاري وينفذ الفضول حتى يبرز من البدن بسهولة النجو والبول والعرق، ويقوي المعدة ويسخنها ويسخِّن الكبد ويمنع من عظم الطحال ويلطفه ويدفع المرار الأصفر في البول ويكسر عادية ما تبقى منه في البطن والكبد وحتى لا تكون له حدة ولا رداءة مفرطة، وذلك إذا أكثر مزاجه وأغب شربه، وأعظم منافعه في شرب القدر من غير إفراط فيه، فإن الإسراف منه يضر بالدماغ والعصب ويوقع السكتة والفالج والرعشة وربما وقع في الهذيان والوسواس، وإدمانه ربما أحمى الكبد وللد فيها الورم وأورث الحميّات الحادَّة والصُّداع والرمد والخراجات والأورام والشوصة ونحو ذلك من الأمراض التي تحدث من حِدَّة الدم أو كثرته، وذلك أن الشراب بالجملة يزيد في الدم وحِدَّته لا سيما إذا كان المزاج متهيئًا لذلك؛ ويحتاج إلى الشراب ضرورة من إذا لم يشربه أبطأ هضمه وتجشأ جُشاءً حامضًا وقلَّت شهوته للغذاء، ومن إذا شرب الماء ثقل عليه بدنه وثقل الطعام في معدته وكثر النفخ والقراقر في بطنه، فمثل هذا متى أمسك عن الشراب وقع في الأمراض الباردة. وأحوج الناس إلى استعمال الشراب الشيوخُ، وذلك أن أبدانهم تبرد وتجفّ، فالشراب يسخنها ويرطبها، ونومهم قليل، فالشراب ينعشهم ويذهب الحكة التي تعتري الشيوخ في أجسادهم بتوسيعه مسامهم وترقيقه لجلودهم ويجود هضمهم ويُمسك الهَرَم أن يسرع إليهم ويدفع عنهم النزلة والبحوحة والزكان والسعال الذي لا يزال يعتريهم، وينشطهم ويبسط من أنفسهم وهم بالجملة أحوج الناس إليه وأكثرهم سلامة عليه، ويتلوهم في الحاجة إلى الشراب الكهول. فأما الشباب فأقل حاجةً إلى الشراب لا سيما من كان منهم حار المزاج ملتهبًا فإنه يزيد في سخونة بدنه ويحمي كبده ويسقط قوته، والماء أوفق لهؤلاء من الشراب.
1 / 67