ومن البين أن الواحدات الأربع الأولى- بالإضافة إلى نقطة الوفاة في بداية الواحدة الخامسة- قد رتبت على أساس زمنى قائم على التوالى التاريخى. وتشكل العلاقة بين هذه الواحدات نمطا من أنماط البنية المركبة التى تقوم على منطق النظم أو التنضيد- عند شلوفسكى- حيث تتتابع مجموعة من القصص القصيرة يغلب أن تكون واحدات سردية (مستقلة كل واحدة عن الاخرى، لكن تصل فيما بينها شخصية مشتركة) (٤٥)، ويؤدى تعاقبها في نص واحد إلى إنشاء (واحدة جديدة لها بنية مخصوصة، ولعل أظهر ما تتجلى فيه هذه البنية القصص التاريخية أو قصص السيرة) (٤٦) . وتشكل تلك الواحدات الهيكل الأساسى لمتن السيرة النبوية، ومن اللافت تأمل العلاقات التى ينشئوها نص الطهطاوى مع الكتابات السابقة عليه؛ فهو من ناحية يتابع كتّاب نمط السيرة المختصرة- كابن عبد البر وابن حزم- الذين قصروا متن السيرة على متابعة حياة النبى (ص) من ميلاده إلى وفاته. بينما يبدو- من ناحية ثانية- معدّلا في بعض التقاليد السائدة لدى كتاب النمط المطول والنمط المشروح؛ فإذا كانت سيرة ابن هشام تنتهى بوفاة النبى (ص) فإنها قد توقفت عند القصائد التى قيلت في رثائه، بينما وضع ابن سيد الناس- قبل تقديمه واحدة الوفاة- أخبارا مختلفة عن الجوانب الاجتماعية والأسرية للنبى كأولاده وأعمامه وأزواجه وأسرته ومواليه وكتابه وحراسه وجمل من صفاته وغيرها (٤٧)، وهذه هى نفسها الواحدات الصغرى التى ساقها الطهطاوى بعد ذكره الوفاة. ومن اللافت أن المنطق الكامن خلف ذلك التنظيم الذى قدمه الطهطاوى يبدو متصلا- بقوة- ببعض السير الغيرية التراثية، كما يرتبط أيضا بنظام الترجمة في بعض كتب التراجم العربية ككتاب الأغانى؛ فسيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزى (ت ٥٩٧ هـ) تقوم على سرده وقائع حياته من مولده إلى توليه الخلافة عبر تتابع زمنى محكم، ثم تلجأ إلى السرد القائم على الموازاة بين عرض سلوكه وتصرفاته من ناحية وصفاته وسماته من ناحية أخرى، مما يخرق الترتيب الزمنى لسرد الوقائع الذى تجلى في الواحدات الأولى. ولا تمثل حادثة مقتل عمر نهاية السيرة إذ تتلوها مجموعة من الواحدات التى يقدم فيها المؤلف عددا من الواحدات أو الموضوعات المتصلة بعمر كبعض صفاته، وبكاء الناس عليه، والمنامات التى راها أو التى رؤى فيها، وذكر ثناء الناس عليه (٤٨) .
المقدمة / 37