تعريف الدرس الذى نسيه المبطلون: أدب الاختلاف في الإسلام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كانت لفتة لطيفة صائبة عند ما نبّهنى بعض الأصدقاء إلى إمكان أن نصدر فى (الذخائر) كتابا ذا طابع يتمشى مع شهر رمضان المبارك، ثم كانت اللفتة اللطيفة الاخرى باقتراح كتاب الطهطاوى في سيرة النبى ﷺ. لقد كان ذلك منذ فترة قبل أن نسمع بما سمعنا من تعرّض بعضهم لشخص الرسول ﷺ ودعوته وطبيعة رسالته، وهو تعرّض يسىء إلى صاحبه ولا يسىء إلى من قصدت الإساءة إليه، وذلك لأسباب، منها: * أن هذه الصيحة التى صدرت عن أكبر رمز دينى في العالم الغربى قد ضربت في الصميم روح الحوار والتسامح التى يتداعى بها العالم كله- خاصة دول الغرب- في الاونة الأخيرة، وأظهرت جليا أن أحاديثهم في هذا الصدد هى أقرب إلى الديكور واللياقة الدبلوماسيّة منها إلى التعبير عن مواقف حقيقية لمن صدرت عنهم. * أنها كشفت عن أن هناك تناغما بين المدّ العدوانى والطموح الاستعمارى وروح الهيمنة لدى عدد من ساسة الغرب وبين تلك الصيحات التى تصدر من هنالك وهناك بين الحين والاخر تارة باسم حرّية التعبير، وأخرى باسم التاريخ والحقيقة ... ولكنها في جميع الأحوال لا تعنى سوى دقّ ناقوس العدوان والنفخ فى الجمر حتّى يتأجج نارا قد تأتى على كل شىء. * كذلك كشفت عن أن أحقاد الماضى باقية في ضمائرهم، حيّة في

المقدمة / 7

ذاكرتهم مما يصدق عليه قول الشاعر: وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا أى أن الظاهر قد يوحى بالسلام والحبّ بينما ينطوى الباطن على نيّة الخصام والحرب. ونحن لا ننكر حقيقة أنه (لكلّ وجهة هو مولّيها) وأن لكل إنسان أن يتحّمس لعقيدته بما تتفق فيه مع غيرها وما تختلف فيه أيضا، لكن المهم أن يتمسّك فى حديثه عن عقائد الاخرين ب (أدب الاختلاف)، وهو مما تفتخر به الثقافة العربية عامة والإسلامية خاصة، نعم لدينا كتب تحمل عناوين: أدب السماع، أدب المعاشرة، أدب الطلب، أدب الإخوان، أدب الجليس، أدب النديم، أدب الموائد، أدب القاضى، أدب الكاتب، أدب السلطان، أدب الحروب وفتح الحصون، أدب الناطق، أدب الجدل، وفي هذه العناوين تعنى كلمة (الأدب): المعرفة، الثقافة، الخبرة اللازمة لإحسان التصرّف بالقول أو العمل، أو حتّى الصمت، فى هذا المجال أو ذاك ... ولا شك أن أدب الجدل يعنى حسن الاستماع إلى الاخر واحترام وجهة نظره وإحسان الرّد عليه مع عدم الإساءة له حتى في موقف الخلاف معه، انطلاقا من المبدأ الأسمى الذى أرساه القران الكريم، والذى يقوم على شقين: أحدهما: قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون ٦] . والاخر: قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ١٦٤] . وانطلاقا من هذا المبدأ جاء الرصيد التطبيقى الرائع الذى حكاه القران عن بعض مواقف الأنبياء في تقرير حريّة الاختيار ومسئولية كلّ عما وقع عليه اختياره دون إجبار أو ازدراء. ففى سورة البقرة- بعد أن ذكر وصية إبراهيم

المقدمة / 8

لبنيه بأن يؤمنوا بالله، ووصية يعقوب لبنيه كذلك بالإيمان بالله وتوحيده، وألايموتوا إلّا وهم مسلمون- جاء قوله تعالى تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة ١٣٤، ويتكرر في لفظ الاية ١٤١] . فإذا لجّ العصاة في الجدال والحجاج كان التوجيه من الله لرسوله قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ البقرة ١٣٩] . ويضرب نوح ﵇ المثل في احترام رأى الاخرين وعدم مجاراة قومه في ازدراء مخالفيهم في العقيدة وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [هود ٣١] . فلما أوسعوه خلافا، وتحدوه في صدق رسالته، وقالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود ٣٢] . كان جوابه الذى ألهمه الله إيّاه: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ [هود ٣٥] . ومعنى الاية ولفظها قريب مما جاء في الاية (٢٥) من سورة سبأ، بعد أن مهد له بما في الاية (٢٤) . ولكن المهم هو أن ما جاء في الايتين كان هو نهاية الاشتباك بين المتشككين والموقنين في أوائل السورة- فى الايتين ٣، ٦ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ... وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ ٣، ٦] ذلك هو محور الخلاف، أما الجواب فقد جاء- كما قلنا- فى الايتين ٢٤، ٢٥: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ.

المقدمة / 9

فيم الخلاف والتطاول إذن؟ مع أن الأمور واضحة ومقرّرة: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم إن افتريته فعلى إجرامى وأنا برىء مما تجرمون لا تسألون عمّا أجرمنا ولا نسأل عما تعملون بل إن الاية ٢٤ من سورة سبأ تحمل معنى رائعا، وذلك بعدم القطع بالمصيب والمخطئ من المتجادلين، وترك الأمر لحكم الله، وذلك في قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، أحد الفريقين بالقطع (على هدى)، والاخر (فى ضلال مبين) لكن دون تحديد، نزاهة وإنصافا للخصم المجادل، وإحقافا لأدب الخلاف. هذه الظاهرة- الإنصاف للاخر عند الاختلاف، بعدم القطع بمن على صواب، أو عدم القطع بالأفضل، أو عدم القطع بمن ينتصر- عرفها العرب.. حسّان بن ثابت يدافع عن الرسول ﷺ، ردّا على هجاء أبى سفيان بن الحارث له، يقول حسّان مخاطبا أبا سفيان: هجوت محمد فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّكما لخيركما الفداء لاحظ الشطر الأخير (فشركما لخير كما الفداء) لم يقل الشاعر إن الرسول ﷺ هو خيرهما، وإن كان مؤمنا بذلك، نزاهة وثقة بأن ممدوحه هو الأفضل وإن لم يصرّح بذلك ... الرسول ﷺ قام بتطبيق أعظم الأمثلة في الأدب الاختلاف، وذلك بالتنازل عن ذكر صفته- وهى الرسالة- عند تسجيل معاهدة الحديبية، بل والتنازل عن ذكر البسملة بصورتها المعهودة، اكتفاء بكلمة (باسمك اللهم)، وذلك نزولا

المقدمة / 10

على رغبة مفاوض أهل مكة الذى قال: لا أعرف الرحمن، ولا أقرّ بأنك رسول الله «ولو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك (محمد بن عبد الله)» فيقول النبى ﷺ: «إنى لرسول الله، وإن كذبتمونى، وأنا محمد بن عبد الله، ثم يقول للكاتب: اكتب محمد بن عبد الله. هذا على الرغم من اعتراض عليّ وأبى بكر وعمر، وغضبهم إلى قريب من الثورة، ولكنه أدب الاختلاف، فقد عرف ﷺ أنه- وهو في موقف التفاوض مع من يخالفه في عقيدته- إنه ليس من حقه أن يفرض صفته، أو لغته الخاصة، على مخالفه، لذلك ارتضى لغة مشتركة يقرها خصمه ويوافق عليها، وإن كان في قرارة نفسه لا يرضاها. وكم من مرة جاءته رجالات قريش يحاولون أن يثنوه عن دعوته بالتهديد تارة والترغيب أخرى، وكان يعلم سلفا أن عروضهم مرفوضة، ولكنه كان ينصت إلى ما يقولون ويستمع إليه ويناقشه ويرد عليه في موضوعيّة ورحابة صدر. وتحمل كتب السيرة الكثير من أخبار هذه المفاوضات، من أشهرها ما دار بينه وبين عتبة بن ربيعة الذى جاء إلى الرسول فقال: «يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم ... فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها» . ويقول الرسول: «قل يا أبا الوليد، أسمع ... فلما فرغ عتبة قال رسول الله ﷺ: أو قد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع منى. قال: أفعل ... إلى اخر الخبر. [الخبر في سيرة ابن هشام ١/ ٢٩٣، ٢٩٤] .

المقدمة / 11