التاريخ ووظائفه. واللافت أن تناول الطهطاوى لمسائل الأدب يركز فيه- على عادة غيره من الإحيائيين- على الشعر، بينما يغلب أن يتصل تناوله للنثر عامة أو السرد خاصة بتناوله للتاريخ. ولعل تقديم الطهطاوى لتناول الشعر في مقابل التغييب النسبى لتناول النثر أو السرد بوصفه الطرف الثانى من أطراف ثنائية الشعر والنشر أن يشير إلى انتماء الطهطاوى إلى اللحظة التاريخية التى كان الأديب والناقد الإحيائى يسعى فيها، حثيثا، لصياغة موقف من الأشكال النثرية بتأثير اتصاله بالثقافة الأوروبية. وبالمثل يبدو تناول الطهطاوى لبعض الأشكال السردية العربية الوسيطة في إطار تناوله للتاريخ دالا على منحى إحيائى يتصل باستعادة تناول المؤرخ العربى الوسيط- فى مرحلة نضج الكتابة التاريخية- لأوجه التشابه والتلاقى بين بعض الأشكال السردية والكتابة التاريخية، وأوجه الاختلاف والتمايز بينهما (٢٨) .
إن التاريخ عند الطهطاوى ينقسم إلى أثرى وبشرى (فالأوّل ما كان من طريق الشرع
كالقصص الواردة في الكتب السماوية والثانى ما وقف عليه الناس من الوقائع والحوادث الحاصلة في الأعصر القديمة والحديثة فأرخوه) (٢٩) .
وإذا كان التاريخ أحداثا ووقائع تنتمى إلى الماضى دائما أو إلى الحاضر أحيانا، فإن الكتابة التاريخية عند الطهطاوى تستهدف تحقيق مهمة مزدوجة، وتعود هذه الازدواجية إلى المتلقى الذى كان الطهطاوى يتوجه إليه؛ إذ كان بحكم موقعه الثقافى والطبقى وطبيعة المرحلة يتوجه بكثير من كتاباته إلى الحاكم من ناحية، وإلى عامة القراء- ولا سيما طلاب المدارس من أبناء النظام التعليمى الذى أنشأه محمد على ودعمه إسماعيل- من ناحية أخرى، فالطهطاوى يقرر أن (تعلم التاريخ أليق بأبناء الأمراء والسلاطين، إذ هو معرفة أحوال الأمم والدول والملوك الماضين، فتقف الملوك به على أحوال من مضى من الأنبياء والأصفياء وغيرهم من أرباب الرياسات والسياسات، ممن مرّ زمانهم وانقضى، فيعتبر القارئ لسيرتهم من تلك الأحوال، ويتحصل على ملكة التجارب من تعرفه تقلبات الزمان والانتقال، فيحترز عن تجرع غصص ما نقل عن المضار، وينتهز التمتاع بفرص ما قيل
المقدمة / 32