Kiran Gaskiya
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Nau'ikan
بهذين البيتين الشهيرين للشاعر «جوته» نبدأ محاولتنا لتقديم هيدجر والتعريف بالملامح الأساسية لفكره، ويجدر بنا قبل ذلك أن نستجيب لدعوة الشاعر الحكيم، ونزور البيئة التي نشأ على أرضها وحرص على العيش فيها طوال حياته، أي أن نعبر إليه من فوق العتبة الفلسفية الخلفية
2
فنلقاه وجها لوجه، ونتحدث إليه ونجلس معه، ونرى بأعيننا المكان الذي تعودت أن تراه عيناه، والفلاحين البسطاء الذين أحبهم وتعاطف معهم، ووجد متعته الحقيقية في الكلام معهم، وتدبر مشاغلهم ومشاكل حياتهم (إلى الحد الذي زعم فيه بعض خصومه الساخرين أن فلسفته هي فلسفة الأرض الريفية التي أحبها، وأن ميتافيزيقاه ليست سوى ميتافيزيقا بلدته الصغيرة الراقدة في حضن الغابة السوداء).
ولد مارتن هيدجر سنة 1889م في بلدة مسكيرش التي تقع بالمنطقة «الألمانية» من ولاية بادن-فيرتمبرج بجنوب ألمانيا، وتقع البلدة والمدينة والمنطقة في ظلال الغابة السوداء التي تنبسط في واديها المدينة الجامعية الهادئة «فرايبورج» وضواحيها وقراها الصغيرة المتناثرة، كما تزهو بجبالها الشامخة إلى ذرى عالية، من أهمها وأشهرها «الشاونزلاند» و«الفلدبرج» الذي بنى الفيلسوف على منحدره كوخه الشهير الذي أصبح خلوته ومزار المهتمين بفكره من كل أنحاء العالم، في هذا الكوخ في «توتناوبرج» دون كتابه الأكبر «الوجود والزمان» (1927م) في أسابيع معدودة، كما عكف بعد ذلك على معظم بحوثه ومحاضراته ورسائله؛ كوخ فقير متواضع ربما يذكرنا بصوامع الصوفية وأكواخ حكماء الصين القدماء، أثاثه أبسط أثاث ممكن، كراسي وأرائك من خشب الغابة، وأسرة «أسبرطية» البساطة والخشونة، وماء لا يجري في المواسير بل يحتاج لمن يجلبه من نبع مجاور، ما أكثر ما قضى الرجل في كوخه أسابيع طويلة في وحدة مطلقة، يعكف على عمله، ثم يجلس على أريكة موضوعة أمام الكوخ لنتأمل الجبال والوديان والسحب الخفيفة العابرة والثلوج البيضاء التي تنشر عليها أجنحتها في فصل الشتاء وتجذب إليها هواة التزحلق من كل أنحاء العالم الغربي (وقد كان هو نفسه في شبابه وكهولته من هواة هذه الرياضة الخطرة الممتعة).
وتتجمع الأفكار وتنضج، فيدخل كوخه ليستأنف عمله أو يذهب إلى المطعم الصغير القريب منه ليسترسل في حديث لا ينتهي مع الفلاحين الذين يحبونه ويجلونه ويتبسطون معه، وإن لم يخطر في الغالب على بال واحد منهم أن يحاول قراءة سطر واحد من لغته الغربية المعقدة، الصادرة عن فكر جاد وعسير، لا يفتأ يجتر نفسه ويمتح من نبعه الخاص العميق، مكتفيا بوحدته، ومنكفئا على نفسه المفطورة على الاكتئاب الذي يشع الأسى والكمد على قسمات وجهه وأخاديده الغائرة ونظراته المتشككة المتكبرة.
ولعل معرفته المبكرة والصادقة بطبيعة معدنه وغرابة النواة الكامنة في أعماق كيانه هي التي جعلته ينأى بنفسه عن الحياة العامة، ويمتنع عن بذل أدنى جهد للوصول لما يسمى بالرأي العام أو الاتصال به، فلم يكد يشارك - إلا فيما ندر - في المؤتمرات الفلسفية التي تعقد في بلده أو خارجها، ولم يفكر أبدا في شغل منصب مرموق في جامعة أخرى أشهر أو أعرق من جامعته (وقد رفض الدعوة التي وجهت إليه مرتين لشغل منصب أستاذ الفلسفة في جامعة برلين الحرة)، ولم يسع لحظة واحدة من حياته للدخول في زحام السوق الثقافية ليبحث كغيره عن الرواج والشهرة والسلطة ... لقد آمن طوال حياته بأن خطاب الفكر غير سلطوي بطبعه، وأن الفكر هو محنة المفكر الوحيد الذي هو أبعد الناس - أو ينبغي أن يكون أبعدهم! - عن التاجر النشط والواعظ اللبق والغوغائي الفظ، كما أنه تشكك على الدوام في إمكان تأثير الفلسفة بوجه خاص على تغيير الواقع بطريقة مباشرة؛ لأن أقصى ما يملكانه هو أن يحولا القارئ والمتلقي من جذوره نحو الوجود والحقيقة.
3
والمرة الوحيدة التي توهم فيها أنه يمكن - بسلطة العقل والفكر وحدهما - أن يتزعم غيره أو يقوده قيادة روحية نحو انطلاقة جديدة أو بعث جديد، هذه المرة الوحيدة التي استسلم فيها لوهم النازية الزائف لعدة شهور لم تزد على العشرة - كما سوف نرى فيما بعد - كانت غلطة بشعة دفع ثمنها الغالي بقية حياته؛ فلزم الصمت المطلق وابتعد بنفسه كل الابتعاد عن شرور السياسة وزلاتها المدمرة؛ ولهذا قضى الشطر الأكبر من حياته مخلصا لعمله الجامعي وتلاميذه ومريديه ووحدته النادرة في كوخه الشهير على منحدر الجبل الشاهق وسط الغابة السوداء.
يرى هيدجر أن الفكرة لا ينبغي أن تبقى مجردة ومكتفية بنفسها، بل ينبغي أن تتغلغل في نسيج كيان الإنسان وتدخل في صميم وجوده؛ بحيث تحوله بكليته وفي حياته الخاصة والعامة، لا شك أن هذه النظرة إلى الفكر قد أشعلت في أفكاره نيران اليقظة والعمق والجدية والحيوية إلى الحد الذي أوقعه - كما سبق القول وكما سيأتي بالتفصيل - في الوعي الزائف الذي صور له أن فكرته - التي عرضها في الوجود والزمان - عن الصمود والتصميم البطولي في مواجهة الموت على تحقيق الوجود الذاتي الأصيل - يمكن أن تتحقق أو أن تكون قد تحققت بالفعل في الحركة القومية الاشتراكية التي عرفت باسم النازية، وقد كفر عن هذا الوهم الكاذب والوعي الزائف - كما سبق القول أيضا - بالعزل من منصبه وإيقافه - من قبل السلطات الفرنسية التي احتلت الجنوب الألماني بعد الحرب - عن التدريس بالجامعة، فضلا عن ملازمته للصمت المطبق عن حقيقة موقفه في دولة الرايخ الثالث، فلم ينطق بكلمة واحدة إلا بعد مرور أكثر من عشرين سنة على انتهاء الحرب، وذلك في حديث لمجلة معروفة أوصى بعدم نشره إلا بعد موته، وسوف تقرأ ملخصا له في نهاية هذا التقديم.
بلغت فاعلية أفكار هيدجر وتأثيرها الجارف ذروتين عاليتين، ارتفعت الأولى في العشرينيات من القرن الماضي، والأخرى خلال السنوات الممتدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى رحيله في شهر مايو سنة 1976م في بيته بمدينة فرايبورج.
Shafi da ba'a sani ba