Kiran Gaskiya
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Nau'ikan
مقدمة الطبعة الثانية
تمهيد
طريق الفكر
السؤال عن الوجود
النصوص
ماهية الحقيقة
نظرية أفلاطون عن الحقيقة
أليثيا
أهم المصادر
مقدمة الطبعة الثانية
Shafi da ba'a sani ba
تمهيد
طريق الفكر
السؤال عن الوجود
النصوص
ماهية الحقيقة
نظرية أفلاطون عن الحقيقة
أليثيا
أهم المصادر
نداء الحقيقة
نداء الحقيقة
Shafi da ba'a sani ba
مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
إلى فؤاد زكريا،
الصديق الكبير، والفيلسوف الحق.
مقدمة الطبعة الثانية
عندما يصل هذا الكتاب إلى يديك، تكون قد مرت خمس وعشرون سنة على صدور طبعته الأولى، وعلى رحيل الفيلسوف مارتن هيدجر عن دنيانا (في يوم الأربعاء الموافق للسادس والعشرين من شهر مايو سنة 1976م)، ولقد طوى القرن العشرون صفحاته ودفاتره، وأسلم ليد الذكرى أوراقه السوداء - التي امتلأت بثوراته وحروبه، وصراعاته وأيديولوجياته، ونكباته وأزماته ومواجعه - كما أودعها أوراقه المذهبة بأسماء عدد كبير من المفكرين والعلماء والأدباء والمصلحين والمبدعين الذين تزهو البشرية بإنجازاتهم في شتى الميادين. من يدري ماذا سيبقى في ذاكرة الأجيال القادمة من أعياد هذا القرن ومآتمه؟ ومن يدري إن كانت ثوراته التاريخية وأحداثه السياسية الكبرى لن تسقط في ليل الخواء والعدم، فلا يبقى لمن يعبر نفقه بأجنحة الخيال والتذكر بعد عشرات السنين أو مئاتها، سوى نقاط خافتة الضوء، أشبه بالأنوار المرتعشة للمنارات البعيدة على شواطئ بحر لا متناه، ترسلها عيون بعض الشخصيات التي عاشت في هذا القرن، وأضافت إلى رصيده كنوزا ورموزا باقية، من هذه الشخصيات ذات العيون المضيئة تطل علينا النظرات الجادة الحزينة لهيدجر الذي عاش محنة القرن، وكان - بعد أفلاطون وأرسطو - واحدا من أعمق من سأل السؤال الفلسفي عن الوجود.
لم تزل الحياة الفلسفية والثقافية منذ وفاة هيدجر وحتى يومنا الحاضر مشغولة بفكره، ولم تزل تقلب النظر في جوانبه المختلفة وإشكالاته التي تركها وراءه، وقد انتشرت أصداء هذا الفكر في آسيا - لا سيما اليابان - وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأخذ الناطقون بالإنجليزية يحتفون به، وينقلون نصوصه عن آخرها إلى لغتهم بعد أن أداروا له ظهورهم زمنا طويلا، ورفضوه بحجة غموضه الصوفي وصعوبة لغته، وتزايد الاهتمام الهائل به في فرنسا
1
لدى أنصاره وخصومه على السواء، وعند الوجوديين والبنيويين والتفكيكيين والفلاسفة الجدد، بالإضافة إلى عدد كبير من الكتاب والشعراء، على رأسهم صديقه رينيه شار، وتطرق الدارسون إلى العديد من الموضوعات المتشعبة التي تتعلق بمدى أصالة فلسفته وتأثيرها (كعلاقتها بالماركسية عموما وتأثيرها على الماركسية الجديدة، أو الماركسية الهيجلية والوجودية كما تسمى أحيانا عند أصحابها من رواد مدرسة فرانكفورت النقدية الاجتماعية، على الرغم من الهجوم الشرس الذي شنه عليه واحد منهم - وهو أدورنو - في كتيبه اللاذع عن «لغو الأصالة»)، كما تتعلق بقدرتها على الحياة في الحاضر والمستقبل بعد أن زادت محنة العصر التقني التي طالما حذر الفيلسوف منها في أواخر حياته، وأصبحت قضية بقاء الأرض والجنس البشري أو اندثارهما - لا بقاء الحضارة الغربية العلمية والتقنية وحدها - هما كبيرا ومشكلة مطروحة على ساحة البحث والمناقشة، وازدادت عزلة الناس عن بعضهم البعض وصدامهم العنيف أيضا مع بعضهم، وعمت الشكوى من أخطار التلوث وأسلحة الدمار الشامل، وتخريب خضرة الأرض، والتعصب والإرهاب والإحساس العام بالاقتلاع من الجذور، والاغتراب عن النفس والمجتمع والعالم والوطن والسكن ... بحيث تفاقمت المحنة التي تحدث عنها فيلسوف زمن المحنة واتخذت أبعادا مهلكة، وارتدت أردية مدمرة تذكرنا بالرداء المسموم الذي نسجته إليكترا المهجورة للزوج الغادر الذي خانها وتخلى عن أطفاله فانتقمت منه بقتلهم أيضا.
من أراد أن يفهم الشاعر، فليذهب إلى بلد الشاعر.
من أراد أن يفهم الشعر، فليذهب إلى بلد الشعر.
Shafi da ba'a sani ba
بهذين البيتين الشهيرين للشاعر «جوته» نبدأ محاولتنا لتقديم هيدجر والتعريف بالملامح الأساسية لفكره، ويجدر بنا قبل ذلك أن نستجيب لدعوة الشاعر الحكيم، ونزور البيئة التي نشأ على أرضها وحرص على العيش فيها طوال حياته، أي أن نعبر إليه من فوق العتبة الفلسفية الخلفية
2
فنلقاه وجها لوجه، ونتحدث إليه ونجلس معه، ونرى بأعيننا المكان الذي تعودت أن تراه عيناه، والفلاحين البسطاء الذين أحبهم وتعاطف معهم، ووجد متعته الحقيقية في الكلام معهم، وتدبر مشاغلهم ومشاكل حياتهم (إلى الحد الذي زعم فيه بعض خصومه الساخرين أن فلسفته هي فلسفة الأرض الريفية التي أحبها، وأن ميتافيزيقاه ليست سوى ميتافيزيقا بلدته الصغيرة الراقدة في حضن الغابة السوداء).
ولد مارتن هيدجر سنة 1889م في بلدة مسكيرش التي تقع بالمنطقة «الألمانية» من ولاية بادن-فيرتمبرج بجنوب ألمانيا، وتقع البلدة والمدينة والمنطقة في ظلال الغابة السوداء التي تنبسط في واديها المدينة الجامعية الهادئة «فرايبورج» وضواحيها وقراها الصغيرة المتناثرة، كما تزهو بجبالها الشامخة إلى ذرى عالية، من أهمها وأشهرها «الشاونزلاند» و«الفلدبرج» الذي بنى الفيلسوف على منحدره كوخه الشهير الذي أصبح خلوته ومزار المهتمين بفكره من كل أنحاء العالم، في هذا الكوخ في «توتناوبرج» دون كتابه الأكبر «الوجود والزمان» (1927م) في أسابيع معدودة، كما عكف بعد ذلك على معظم بحوثه ومحاضراته ورسائله؛ كوخ فقير متواضع ربما يذكرنا بصوامع الصوفية وأكواخ حكماء الصين القدماء، أثاثه أبسط أثاث ممكن، كراسي وأرائك من خشب الغابة، وأسرة «أسبرطية» البساطة والخشونة، وماء لا يجري في المواسير بل يحتاج لمن يجلبه من نبع مجاور، ما أكثر ما قضى الرجل في كوخه أسابيع طويلة في وحدة مطلقة، يعكف على عمله، ثم يجلس على أريكة موضوعة أمام الكوخ لنتأمل الجبال والوديان والسحب الخفيفة العابرة والثلوج البيضاء التي تنشر عليها أجنحتها في فصل الشتاء وتجذب إليها هواة التزحلق من كل أنحاء العالم الغربي (وقد كان هو نفسه في شبابه وكهولته من هواة هذه الرياضة الخطرة الممتعة).
وتتجمع الأفكار وتنضج، فيدخل كوخه ليستأنف عمله أو يذهب إلى المطعم الصغير القريب منه ليسترسل في حديث لا ينتهي مع الفلاحين الذين يحبونه ويجلونه ويتبسطون معه، وإن لم يخطر في الغالب على بال واحد منهم أن يحاول قراءة سطر واحد من لغته الغربية المعقدة، الصادرة عن فكر جاد وعسير، لا يفتأ يجتر نفسه ويمتح من نبعه الخاص العميق، مكتفيا بوحدته، ومنكفئا على نفسه المفطورة على الاكتئاب الذي يشع الأسى والكمد على قسمات وجهه وأخاديده الغائرة ونظراته المتشككة المتكبرة.
ولعل معرفته المبكرة والصادقة بطبيعة معدنه وغرابة النواة الكامنة في أعماق كيانه هي التي جعلته ينأى بنفسه عن الحياة العامة، ويمتنع عن بذل أدنى جهد للوصول لما يسمى بالرأي العام أو الاتصال به، فلم يكد يشارك - إلا فيما ندر - في المؤتمرات الفلسفية التي تعقد في بلده أو خارجها، ولم يفكر أبدا في شغل منصب مرموق في جامعة أخرى أشهر أو أعرق من جامعته (وقد رفض الدعوة التي وجهت إليه مرتين لشغل منصب أستاذ الفلسفة في جامعة برلين الحرة)، ولم يسع لحظة واحدة من حياته للدخول في زحام السوق الثقافية ليبحث كغيره عن الرواج والشهرة والسلطة ... لقد آمن طوال حياته بأن خطاب الفكر غير سلطوي بطبعه، وأن الفكر هو محنة المفكر الوحيد الذي هو أبعد الناس - أو ينبغي أن يكون أبعدهم! - عن التاجر النشط والواعظ اللبق والغوغائي الفظ، كما أنه تشكك على الدوام في إمكان تأثير الفلسفة بوجه خاص على تغيير الواقع بطريقة مباشرة؛ لأن أقصى ما يملكانه هو أن يحولا القارئ والمتلقي من جذوره نحو الوجود والحقيقة.
3
والمرة الوحيدة التي توهم فيها أنه يمكن - بسلطة العقل والفكر وحدهما - أن يتزعم غيره أو يقوده قيادة روحية نحو انطلاقة جديدة أو بعث جديد، هذه المرة الوحيدة التي استسلم فيها لوهم النازية الزائف لعدة شهور لم تزد على العشرة - كما سوف نرى فيما بعد - كانت غلطة بشعة دفع ثمنها الغالي بقية حياته؛ فلزم الصمت المطلق وابتعد بنفسه كل الابتعاد عن شرور السياسة وزلاتها المدمرة؛ ولهذا قضى الشطر الأكبر من حياته مخلصا لعمله الجامعي وتلاميذه ومريديه ووحدته النادرة في كوخه الشهير على منحدر الجبل الشاهق وسط الغابة السوداء.
يرى هيدجر أن الفكرة لا ينبغي أن تبقى مجردة ومكتفية بنفسها، بل ينبغي أن تتغلغل في نسيج كيان الإنسان وتدخل في صميم وجوده؛ بحيث تحوله بكليته وفي حياته الخاصة والعامة، لا شك أن هذه النظرة إلى الفكر قد أشعلت في أفكاره نيران اليقظة والعمق والجدية والحيوية إلى الحد الذي أوقعه - كما سبق القول وكما سيأتي بالتفصيل - في الوعي الزائف الذي صور له أن فكرته - التي عرضها في الوجود والزمان - عن الصمود والتصميم البطولي في مواجهة الموت على تحقيق الوجود الذاتي الأصيل - يمكن أن تتحقق أو أن تكون قد تحققت بالفعل في الحركة القومية الاشتراكية التي عرفت باسم النازية، وقد كفر عن هذا الوهم الكاذب والوعي الزائف - كما سبق القول أيضا - بالعزل من منصبه وإيقافه - من قبل السلطات الفرنسية التي احتلت الجنوب الألماني بعد الحرب - عن التدريس بالجامعة، فضلا عن ملازمته للصمت المطبق عن حقيقة موقفه في دولة الرايخ الثالث، فلم ينطق بكلمة واحدة إلا بعد مرور أكثر من عشرين سنة على انتهاء الحرب، وذلك في حديث لمجلة معروفة أوصى بعدم نشره إلا بعد موته، وسوف تقرأ ملخصا له في نهاية هذا التقديم.
بلغت فاعلية أفكار هيدجر وتأثيرها الجارف ذروتين عاليتين، ارتفعت الأولى في العشرينيات من القرن الماضي، والأخرى خلال السنوات الممتدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى رحيله في شهر مايو سنة 1976م في بيته بمدينة فرايبورج.
Shafi da ba'a sani ba
أما المرحلة الأولى - التي تجد ملخصا وافيا لأهم أفكارها في النصف الأول من هذا الكتاب - فقد بلغت تلك الذروة مع صدور كتابه الأكبر «الوجود والزمان» - ومع أن الكتاب لم يظهر منه سوى جزئه الأول، وبقي الجزء المنتظر عن الزمان والوجود مجرد شذرات تمثلت في بحوث ورسائل عديدة متتالية؛ فقد وقع الكتاب على أرض الحياة الفلسفية وقوع الصاعقة الخاطفة، وبوأه مكانة مرموقة في الحياة الفلسفية.
وقد كان أهم ما اهتم به هيدجر في هذا الكتاب - كما سيرى القارئ بنفسه - هو إعادة الحياة إلى السؤال الأساسي عن الوجود، وهو السؤال الذي سبق أن قال عنه أفلاطون إنه خاض من أجله صراعا يشبه الصراع مع العمالقة، لكن إحياء السؤال لم يكن معناه - كما حدث منذ أرسطو وحتى هيدجر نفسه - هو معالجته كمشكلة مجردة، ولا هو التحليل التقليدي للمقولات التي ينضوي تحتها الشيء أو الموجود، بل كان هو النظر في معنى الوجود من خلال علاقته بالإنسان وعلاقة الإنسان به وفهمه المسبق والمباشر له؛ لهذا تحتم على الفيلسوف أن يبدأ بالكلام عن أهمية طرح السؤال المنسي، وعن فهم الإنسان له ووجود هذا الإنسان ومقولاته (أو لنقل وجوداته!) الأولية فيما سماه بالأنطولوجيا الأساسية ، وكان عليه أن يتحدث عن الموجود الإنساني الملقى به في العالم
4 (أو الدازاين) في حياته اليومية وتعامله مع الأشياء والأدوات، وسقوطه في اللغو والثرثرة والفضول التي تطغى على الحياة البشرية العادية.
وقد قابل الفيلسوف ذلك السقوط بإمكانية توصل الإنسان إلى ذاتيته الحميمة ووجوده الأصيل وحريته في الاختيار من خلال تجربة القلق الذي يستشعره ويعانيه في كل لحظة في مواجهة الموت والعدم المحتوم الذي لا يعرفه موعده؛ بذلك قدم تفسيره الوجودي للواقع والحاضر المتردي في حضيض بغير قرار، كما قدم تحليلا عميقا لزمانية الموجود الإنساني الذي «يشرع» نفسه أو يتجه على الدوام صوب المستقبل.
واصل هيدجر بعد «الوجود والزمان» معالجة فكرة الوجود في كتابات مختلفة، ومن زوايا متعددة، وانشغل بمشكلات منهجية طرحها في أعماله الثلاثة «ما الميتافيزيقا» و«رسالة عن النزعة الإنسانية» و«الهوية والاختلاف» (الذي يدور حول الفارق الأساسي بين الوجود ذاته، وبين الموجودات المتنوعة) وتفرغ لدراسات عديدة في تاريخ الفلسفة (عن أنكسمندر، وبارمنيدز، وهيراقليطس، وأفلاطون، وأرسطو، وديكارت، وكانط، وهيجل، ونيتشه) كما شرح وأول بعض القصائد لعدد من الشعراء الألمان (ومن أهمهم على الترتيب: هلدرلين، ورلكه، وستيفان، جئورجه، وتراكل، وجوتفريد بن) بجانب مشكلات أخرى عن اللغة والفن والتقنية (راجع الفصول الأخيرة من هذا الكتاب)، وأدرك هيدجر من كل هذه المحاولات أن التفكير الحقيقي في الوجود لن يتم عن طريق التفكير في الإنسان، وأن العكس من ذلك هو الأصح؛ أي عدم التفكير في الوجود من جهة الإنسان، بل التفكير في الإنسان وفي الواقع المتناهي بأكمله من جهة الوجود، وتوصل في هذه الأثناء إلى الصيغة التي سنقف عندها على الصفحات التالية، وهي «رجعة» الفكر أو عودته للوجود نفسه. وقد راح يكافح طوال العقود الأخيرة من حياته لتوضيح هذه الفكرة دون أن تخرج في تعبيره عنها من ضباب الغموض الذي يقترب - في تقديري على الأقل - من غموض الغنوص أو نزعة الإشراق الصوفية، والمهم أن الأمر بعد التحول إلى «الرجعة» لم يعد يتعلق بالإنسان، الذي زعزعه هيدجر عن موقعه الذي كان يحتله في الفلسفات الذاتية العقلانية والإرادية منذ ديكارت وحتى نيتشه والفلسفة الوجودية المعاصرة (عند سارتر وغيره) بل أصبح كل شيء يتعلق بالوجود.
فإذا سألناه أن يقول لنا شيئا محددا واضحا عن هذا الوجود، وجدناه يعزف أنغاما متنوعة على أوتار الحيرة والالتباس، وربما اقتربنا قليلا مما يقصده بالوجود لو سلكنا سبيل السلب والنفي - على طريقة ما يسمى باللاهوت السلبي - فقلنا إنه ليس هو «الله» ولا هو «أساس العالم» وإنه - أي الوجود - مختلف عن أي موجود، وإنه حدث متحقق وجامع لكل ما يتصف بأنه موجود، في هذا الحدث، أو هذا القدر التاريخي كما يصفه أحيانا، يتكشف الوجود والإنسان؛ إذ هو «اللاتحجب» الذي يحدث أو يتحقق أو يتجلى في العالم بأشكال مختلفة، ومن ثم يكون الوجود هو «الإنارة»، ويكون الشعر والفلسفة من أساليب إنارة الوجود-في- العالم أو على حد تعبيره من «الأقدار» التي يقدرها تاريخ الوجود على لسان شاعر أو مفكر معين، وفي مجتمع أو عصر بعينه، وعلينا ألا ننسى في كل الأحوال أن هذه الإنارة أو ذلك التكشف للعالم من طوايا التحجب والكمون لا يحدث من جهة الإنسان، وإنما يتحقق بفضل من نعمة الوجود ذاته.
5
ويتحدث هيدجر عن «تاريخ» للوجود الذي يتكشف من خلاله العالم والإنسان بصور مختلفة في عصور وحضارات ومجتمعات مختلفة عند الصينيين والإغريق، وفي العصر الوسيط، بيد أن تحقق إنارته لهؤلاء قد اختلف عن أسلوب تحققه بالنسبة للإنسان الغربي المعاصر؛ فهو يتجلى لهذا الأخير في صورة شديدة العدمية والسلبية، وذلك بقدر نسيانه للوجود واغترابه عنه، ونسيانه حتى لنسيانه السؤال عنه، وتشبثه - لا سيما تحت طغيان النزعة التقنية الحديثة - بالموجودات والعلوم الجزئية، فلا عجب أن يظهر له الوجود نتيجة لذلك في صورة الاضطراب والزعزعة لكل ما هو موجود، وفي غربة الإنسان عن البيت والوطن والأرض، ولا عجب أيضا أن يسمي هيدجر عصره بعصر النسيان للوجود والتخلي عن التفكير فيه، ومثل هذا العصر الذي يفتقر إلى الوجود لا بد بالضرورة أن يكون هو عصر الضلال والمحنة، وأن يكون التاريخ المقدر من الوجود نفسه على الإنسان الغربي هو تاريخ العدمية، أي فقدان كل القيم قيمتها كما عرفها نيتشه، وخاض معركتها اليائسة إلى حد الجنون.
أليس ثمة خلاص من هذا القدر؟ نعم، ولكن ليس عن طريق الإنسان ولا من خلال فعله، فمن الضروري أن يتوجه الوجود نفسه ومن تلقاء نفسه من جديد صوب الإنسان السادر في ليل الضلال، وأن تصبح تجربة الوجود مرة أخرى أمرا ممكنا، ذلك هو أمل هيدجر في المستقبل، أما في الحاضر فلا يملك الإنسان في تقديره إلا أن «يرعى» الوجود وينصت لندائه ويساعده على أن «يقول»، وفي هذا تكمن - في رأيه - مهمة الإنسان وقيمته وكرامته ... ويبقى أن الحديث عن هذا كله يفوق طاقة الفلسفة بمعناها التقليدي، وأن فكر المستقبل لن يكون فلسفة وإنما سيكون - على حد تعبير الفيلسوف وبلغته المنحوتة بأزاميل ثقيلة! - فكرا في حالة الهبوط «في فقر ماهيته المؤقتة، وسوف يكون عليه أن يجمع اللغة في القول البسيط»، أما الإنسان فلن يكون أمامه إلا أن يتعلم الصبر على الحياة «فيما لا اسم له»، وأن يعبر محنة نسيان الوجود بتعلم الإنصات للغته وانتظار تفتحه وتجليه وإنارته لكل من العالم والإنسان اللذين لا ينفصلان.
6
Shafi da ba'a sani ba
يختلف هيدجر من غيره من الفلاسفة، وقراءتنا له تحتم علينا أن تكون مختلفة عن قراءتنا لهم، إنه ينتمي لذلك الجيل الطليعي والثوري الذي رأى النور في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وصمم على أن يشق لنفسه طريقا جديدا ويبدأ بنفسه ولنفسه بداية جديدة تحطم الأشكال التقليدية السائدة وتدعو لمراجعة ما مضى وإعادة النظر في كل ما وصل إليها، وإذا أردنا أن نبحث له عن شبيه من جيله في ميادين أخرى للحياة العقلية والروحية، ألح علينا تشبيهه بكافكا وجويس في الأدب القصصي والروائي، وبيكاسو في الرسم والتصوير، ورلكة وفاليري في الشعر، لقد أكدت جهود هيدجر كلها - ربما أكثر مما فعلته الفلسفة في مسارها الطويل - أن الفكر في جوهره «حدث يتحقق»، ولا بد للقارئ أن يحققه في نفسه وبعيد تحقيقه معه أو ضده إذا شاء؛ فالفكر طريق - كما علمنا أفلاطون من قبل - وهو بهذا المفهوم لا يريد التوصل إلى نتائج أو إجابات نهائية ولا حتى مؤقتة، وإنما هو - كما قلت - طريق يقطعه المفكر والقارئ الذي يفكر معه ويصر مثله على جدية السؤال، حتى لو كان سؤالا واحدا وكلفهما طرحه ومحاولة الإجابة عليه عمرهما كله.
من هنا يصبح أول ما يطالبنا به الفكر والمفكر هو أن «نتحول» لا أن نفكر وحسب، وأن تتحول كذلك علاقتنا بالوجود والحقيقة، لا أن نكتفي بترديد كلمات الفيلسوف واجترار لغته وعباراته ومصطلحاته المنحوتة الشائكة كما فعل أكثر الذين فسروه «من خارجه» ولم يكلفوا أنفسهم مشقة تحقيق فكره وتجربة أسئلته ومعايشة قضاياه قبل الاتفاق أو الاختلاف معه، ولعل مقالة هيدجر الرائعة التي تجدها في هذا الكتاب، وهي نظرية أفلاطون عن الحقيقة، أن تكون أوضح تعبير عن هذا التحول الذي ينبغي أن يصيب الإنسان بكليته عندما يسير على طريق الفكر ويتحقق به (راجع الهامش السابق عن التحول).
ربما أمكننا القول بأن طريق هيدجر قد توغل به في ثلاث مناطق أساسية بذل كل جهده في استيعابها قبل أن يبذل بعد ذلك غاية جهده في استبعادها أو الابتعاد عنها، فقد بدأ حياته بدراسة اللاهوت قبل أن يقطع دراسته له «وهو موجع للقلب» - كما سيعبر عن ذلك في مرحلة متأخرة من حياته! - ومع ذلك يبقى فكره في صميمه وفي أعمق أعماقه فكرا دينيا، لا سيما في مرحلة «الرجعة» إلى الوجود نفسه الذي سنقف عندها بعد قليل.
وهو قد استوعب فلسفة الظاهريات «الفينومينولوجيا» لأستاذه هسرل بعد أن جذبته إلى حد السحر بها، وتعلم منها المران على «رؤية الماهيات»، وقدرها قبل ذلك كفلسفة منطقية ومعرفية تريد أن تكون علما دقيقا محكما، وقدم في كتابه الأكبر «الوجود والزمان» تحليلات ظاهراتية قيمة وباقية لأنطولوجيا الوجود الإنساني التي سماها بالأنطولوجيا (أي علم الوجود) الأساسية، الأمر الذي أساء أستاذه فهمه - كما هو معروف - بل أثار استياءه إلى حد القول بأن تلميذه قد حول الفينومينوجيا إلى أنثروبولوجيا، وأن الأنطولوجيا عنده منصبة على منطقة التاريخ أو التاريخي وحدها، ولم يقدر الأستاذ أن تلك الأنطولوجيا الأساسية كانت مجرد معبر لتأسيس أنطولوجيا الوجود ذاته.
ومع أن هيدجر قد تخلى عن الظاهريات عندما أصبحت في مرحلته المتأخرة مثالية ذاتية متعالية، وأعلن ابتعاده القاطع عنها، إلا أنه ظل في الحقيقة ظاهراتيا في منهج بحثه وأسلوب طرحه «الفينومينولوجي» للسؤال بغير افتراضات مسبقة من أي نوع، وبغير اكتراث بسلطة التراث الفلسفي الذي سيطالب بعد ذلك بتحطيمه، أو بالأحرى تجاوزه (راجع اعترافه عن علاقته بالظاهريات في مقاله طريقي إلى الفينومينولوجيا 1963م بالإضافة إلى الهامش السابق عن نهاية الفلسفة).
أما عن المنطقة الثالثة والأخيرة التي استوعبها على أكمل وجه وأندره فهي منطقة تاريخ الفلسفة الغربية (ولم يبلغ إلى علمي أنه شغل في أي وقت من حياته بالفلسفة الشرقية، ربما باستثناء واحد هو اطلاعه على الفلسفة البوذية لطائفة الزن تحت تأثير الأستاذ الياباني الذي دخل في حوار معه نشر في كتابه على الطريق إلى اللغة - وهكذا ظل هيدجر أوروبيا مركزيا في دراسته للفلسفة، وألمانيا خالصا في اختياره للشعراء الذين قام بتفسيرهم أو تأويلهم لصالح فكره!) لقد أتاح له طريق حياته - كما يتبين من اللوحة المنشورة في نهاية هذا الكتاب - أن يتغلغل في دراسة هذا التاريخ قديمه ووسيطه وحديثه، وأن يقدم تفسيرات ربما يؤخذ عليها أنها «هيدجرية» محضة، وأنها لوت في معظم الأحيان أعناق النصوص وفتشت فيها وتحتها ووراءها - بعيون هيرمينوطيقية نافذة! - لكي تنطق بفلسفة هيدجر نفسه عن الوجود والحقيقة! ولكن لا شك في أن ظل مقيدا بتاريخ الفلسفة وتاريخ الميتافيزيقا على الرغم من دعوته المتأخرة - كما رأينا - إلى تحطيم هذا التاريخ أو تجاوزه نحو التفكير في الوجود نفسه، وعلى الرغم من تأكيده المستمر بأن نيتشه - الذي وصفه بأنه أشد الأفلاطونيين تطرفا! - يمثل مع ماركس فصل الختام في هذا التاريخ الذي بدأ بدايته الحقيقة - التي لم يتم التنبه لها أبدا - مع الفلاسفة قبل سقراط، وربما لا نعدو الصواب إذا قلنا إنه هو نفسه - أي هيدجر - وليس ماركس ونيتشه فقط، إنما يعبر عن نهايته أو عن آخر فصوله وأشدها ثورية وعدمية .
7
لا شك في أن القارئ سيتأثر بتحليلات هيدجر للزمان والموت والقلق والهم - التي لخصناها في الفصل الأول من هذا الكتاب - تأثرا وجدانيا لا أبالغ إذا وصفته بأنه «وجودي»، وأهمية هذه التحليلات لا تأتي فحسب من أصالة البحث في «وجودات» أو «مقولات» أنطولوجياه الأساسية، وإنما تأتي من تعبيرها الصريح عن تجربة هيدجر الشخصية القاتمة بالوجود، وتعبيرها المضمر في الوقت نفسه عن روح العصر الذي وضع فيه كتاب الوجود والزمان (1927م)، ولعل هذه العلاقة التي تربط تحليلات هيدجر للزمان بروح العصر والتاريخ الواقعي الذي كتبت فيه أن تكون - كما يرى سيلفيو فييتا
8 - هي مفتاح القضية الشائكة عن هيدجر والسياسة وموقفه من دولة الرايخ الثالث النازية في الفترة الممتدة من سنة 1933م إلى سنة 1934م، وهي الفترة التي سقط فيها - كما سبق القول - ضحية الوعي الكاذب والوهم الزائف في تلك الدولة التي لم يعرف تاريخ البشرية مثيلا لها في البربرية والهمجية والوحشية.
ومع أنني أبعد ما أكون عن تبرير هذه السقطة أو الاعتذار عنها بالضعف البشري أو بالوقوع في براثن الوهم والنقص والخطأ الذي لا يبرأ منه إنسان، فإنني أرى من الضروري أن توضع القضية الشائكة (التي ازداد حولها الجدل واللغط والتجني في السنوات الأخيرة إلى حد الخلط الظالم بين الشخص والنص في وقت يعلمنا فيه النقد الجديد أن نفصل بينهما حتى لو أدى بنا الحال - كما فعل بعضهم - إلى الصراخ بإعلان موت المؤلف والتاريخ ليخلص لنا العمل نقيا من كل شائبة) أقول: أرى من الضروري أن توضع القضية في حجمها الصحيح وفي السياق التاريخي - الذي يبدو أن الفيلسوف كان في غيبوبة عن الوعي به! - والذي يلقي عليها الضوء دون أن يسوغ الخطأ الجسيم أو يهون من فداحته.
Shafi da ba'a sani ba
لنقلب قليلا في صفحات التاريخ حتى نصل إلى عام 1928م الذي خلف فيه هيدجر أستاذه هسرل في شغل كرسي الفلسفة بجامعة فرايبورج، ففي الرابع والعشرين من شهر يوليو سنة 1929م ألقى هيدجر محاضرته الافتتاحية في التدريس بالجامعة تحت عنوان «ما الميتافيزيقا؟»، وتزامنت هذه البداية لحياته العلمية مع بداية الأزمة الاقتصادية والسياسية الطاحنة التي بلغت ذروتها بعد انهيار البورصة في أكتوبر سنة 1929م والتفاف حبل المشنقة على رقبة الاقتصاد الألماني: البطالة الشاملة، الانهيارات اليومية للبنوك والمؤسسات، التضخم النقدي الرهيب ... وكان من الطبيعي أن يشعر هيدجر بالقلق والهم اللذين يطوقان وجوده، وهو الفقير الذي عاش على المنح الكنسية ليتمكن من إكمال دراسته، ومن الطبيعي أيضا أن تصطبغ تحليلاته الفلسفية قبل ذلك بسنتين اثنتين بالسواد الذي ليس بعده سواد.
واتفق أن تولى هيدجر منصب مدير الجامعة في نفس الوقت الذي استولى فيه هتلر على السلطة؛ إذ انتخب مديرا للجامعة في الثاني والعشرين من شهر أبريل سنة 1933م، وألقى في السابع والعشرين من شهر مايو خطبته الشهيرة عن تأكيد الجامعة الألمانية لذاتها، ويبدو أن الظروف المحيطة قد نفثت فيه سموم الوهم الشيطاني بأنه هو «الفوهرر» (أي القائد) الروحي الأوحد للجامعة؛ فقد صدر في الواحد والعشرين من شهر أغسطس عن ولاية بادن التي تتبعها الجامعة قانون يجعل مدير الجامعة هو قائدها، كما يقلص من دور مجلسها بحيث يصبح مجرد دور استشاري، وتصور هيدجر في تلك الخطبة أن مجتمع الأساتذة والطلبة لا ينهض ولا يتقوى إلا بتجذرهما معا في ماهية الجامعة الألمانية، لكن هذه الماهية لا تتضح ولا تبلغ مكانتها وقوتها إلا عندما يصبح القادة أنفسهم مقودين، والذي يقودهم هي «ضراوة تلك المهمة الروحية التي تطبع قدر الشعب الألماني بطابع تاريخه الملزم».
لغة غريبة لا تصدر عن فيلسوف عميق النظرة أو بعيدها، ولا نعدم فيها أصداء من لغة هتلر التحريضية الخشنة المتشنجة، أضف إليها بعض تصرفات هيدجر أثناء إدارته للجامعة بما يوحي بوقوعه في وهم القيادة الروحية للجامعات الألمانية بأسرها، بيد أن غرقه في هذا الوهم الفاسد لم يستغرق العام بأكمله؛ إذ سرعان ما أفاق من سحر مخدره المسموم بتقديم استقالته في الثالث والعشرين من شهر أبريل سنة 1934م، وبذلك انتهت فترة النشاط السياسي الأسود والوحيد في حياته، وبعدها أسقطه النظام الإرهابي كذلك من حسابه، وإن واصل مضايقته ومراقبته له - كما سنرى بعد قليل في الحديث الذي أجرته معه مجلة شبيجل ونشرته بعد وفاته بخمسة أيام - كما لزم هو الصمت المطلق فلم تنبس شفتاه بحرف واحد عن حقيقة موقفه طوال ما يربو على الأربعين عاما، إلا عندما أفضى في شهر سبتمبر من عام 1966م بالحديث الذي أشرت الآن إليه.
وقبل أن نصل إلى هذا الحديث علينا أن نقف قليلا عند تحليلاته التي سبقت الإشارة إليها في «الوجود والزمان»، والعجيب في هذه التحليلات أنها كشفت كشفا أصيلا عن زمانية الموجود الإنساني المتناهية باعتبار أنها هي أساس تاريخيته، والأعجب من ذلك أن طريقته المنهجية الصارمة في هذا التحليل - التي تأثرت بغير شك بمنهجية فلسفة الظاهرات غير التاريخية بطبيعتها، بجانب تأثرها أيضا بمنهجية اللاهوت والعلوم الطبيعية والرياضية التي سبق له دراستها - لم تكشف له عن روح عصره التاريخي الذي عاش فيه، ومن ثم تولد عند قارئه انطباع بأنه يتحرك في عالم شبيه كل الشبه بعالم كافكا المزدحم بالكوابيس الثقيلة المعتمة؛ ولهذا تجثم على قلبه فظاعة ذلك القلق الذي يصفه الفيلسوف بأنه «الأسلوب اليومي الخفي لحياة الإنسان في العالم»، وأنه يلح على الموجود الإنساني الملقى به فيه ويهدد ضياعه المنسي من جانبه، ويلقي به في الشعور بالذنب، بل يصل به الأمر إلى حد القول بأن «الموجود الإنساني» - الدازاين - هو من حيث هو كذلك كائن مذنب.
هل كان التحليل الأطولوجي الأساسي مبررا لكل هذه الفظاعة والقتامة؟ وهل يكفي هو وحده لتفسيرها؟ وما الذي جعل هذه اللغة المزدحمة بالمفاهيم اللاهوتية لا تذكر «الله» مرة واحدة، بل تعطي الإحساس - الخاطئ - بالإنكار والتجديف والإلقاء بالإنسان في عالم منسي ومحكوم عليه بالضياع؟ ولماذا يكثر الفيلسوف من الكلام عن القلق والهم والذنب بوصفها «وجودات» أو مقولات أو مقومات وجودية أساسية ويحرمنا تماما من «وجودات» أخرى لا تقل عنها تعبيرا عن البناءات الأساسية في وجود الإنسان كالحب والأمل والفرح والثقة والمسئولية والانتماء «للآخر» المحبوب ... إلخ بل ربما فاقتها في أهميتها وقدرتها على الكشف عن ماهية الإنسان الموجود في العالم ومع الناس والمتجاوز له أو المتعالي عليه في آن واحد؟
لعل التفسير الوحيد لذلك كله - وهو تفسير غير قاطع وغير ملزم - أن يكون كامنا في روح العصر نفسه، فقد كان عصر القلق الشامل والهم المطبق الذي اتفق لصاحبنا أن يدون فيه كتابه الأساسي، هل نخلص في النهاية إلى أن «الوجود والزمان» ربما كان - عن غير وعي واضح من صاحبه! - مرآة عكست موقفا تاريخيا ووجوديا عصيبا حكمته محنة قاسية حاصرت ألمانيا وشعبها في الثلث الأول من القرن العشرين بأسوارها الاجتماعية والاقتصادية والميتافيزيقية المخيفة؟
لننظر مرة أخرى إلى هذا الكتاب في سياق الأدب المعاصر له؛ بغية إلقاء المزيد من الضوء عليه، فمنذ عهد الرومانسية المبكرة حتى تفجر الحركة التعبيرية في الفن التشكيلي وفي الأدب مع بدايات القرن العشرين، أخذت أصوات «الحداثة» الأدبية والفنية في ذلك الحين تردد الكلام عن وحدة الإنسان في العالم وغياب المعنى، وعن القلق واليأس والاقتلاع من الجذور والاغتراب عن البيت والوطن ... وراح التعبيريون يطلقون تهويماتهم وصيحاتهم ونداءاتهم «للإنسان الجديد» الذي أخذوا يترنمون في شعرهم ونثرهم باقتراب بعثه إلى الحياة وزحفه في مقدمة الصفوف: «أيها الإنسان الإنسان الإنسان، قف، وانهض على قدميك!» (الشاعر يوهانيس بيشر)، «أيها الإنسان حقق ماهيتك وكن إنسانا» (الشاعر أرنست شتادلر)، «أين هو القائد الذي يمكن أن يقود خطانا؟ إننا نبحث عنه في النور!» (الكاتب المسرحي جورج كايزر).
9
في هذا المناخ الذي يترقب فيه الناس البعث ويتغنون بالتجدد ويتنادون باليقظة والنهوض؛ قدم هيدجر تحليلاته لبناء الوجود الإنساني، وألقى خطبته السابقة التي دعا فيها إلى التصميم الهادف لتحقيق جوهر الوجود، وحث قراءه على الإصرار على تحقيق الوجود الذاتي الأصيل، وحذرهم من السقوط في حضيض «الناس المجهولين» وأسلوب حياتهم المطبوع باللغو والفضول والمفتقد للحرية والاختيار، صحيح أن تحليلاته بقيت تحليلات أنطولوجية خالصة، وأن دعوته لتحقيق الوجود الأصيل لم تقترن بأي تعليمات أو نصائح عملية، بل بقيت بعيدة كل البعد عن التهويمات المسيحانية (أو الخلاصية) التي أطلقها التعبيريون؛ غير أن بعد المستقبل الذي ركز عليه الفيلسوف في تحليلاته للبنية الزمانية والتاريخية للموجود الإنساني ربما يكون قد أغراه بالوقوع في الوعي الزائف بأن استيلاء النازيين على السلطة يمكن أن يقترن بالبعث والتجدد الحيوي والتصميم البطولي على تحقيق الحياة الأصيلة في مواجهة الموت والخطر، وربما يكون قد أغراه كذلك - في فترة زمنية محددة - بأن يكون هو نفسه القائد الروحي والفلسفي لهذا «الفوهرر» المبشر بالبعث الجديد أو أحد قادته على أقل تقدير!
بيد أن الوهم والوعي الزائف لم يستمرا طويلا كما قلت، فسرعان ما أفاق منهما الفيلسوف في ربيع سنة 1934م، وأدرك عمق الهاوية التي سقط فيها عندما تصور أنه يمكن أن يكون سندا لنظام فاشي مرعب تجلت له بشاعة عدميته بأشكال مختلفة خلال العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين، ما الذي فتح عينيه على هذه العدمية المتحكمة في النظام وفي روح العصر ومحنته؟ وما الذي رد إليه الوعي التاريخي المفقود الذي طال غيابه عنه؟ إنها دراسته المتعمقة في تلك السنوات لعدمية نيتشه «آخر العدميين الأوروبيين» كما سمى نفسه بحق؛ فقد فسر نيتشه الميتافيزيقا والفلسفة الحديثة بأنها هي تاريخ الدوافع الخفية التي تهيمن عليها «إرادة القوة»، وتتمثل حقيقتها الأخيرة في «تجريد كل القيم من قيمتها»، أي في العدمية، وقد عكف هيدجر على دراسة نيتشه في الفترة الزمنية الممتدة من 1936م إلى 1940م عندما كتب مقاله الشهير عن كلمة نيتشه عن موت الإله (ونشر المقال في كتابه دروب مسدودة عام 1950م) وانصرف إلى محاضراته عن نيتشه (التي جمعها في كتاب من جزأين صدر في عام 1961م)، ولكنه - بالمنطق الكامن في فلسفته! - سحب العدمية على تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا الغربية بأسره، وأخذ يكشف في رسائل وبحوث متوالية عن العدمية الكامنة فيه منذ أفلاطون حتى فلسفة نيتشه نفسه الذي عده - بجانب ماركس كما سبق القول - خاتمة هذا التاريخ وآخر فصوله؛ إذ رأى أن نظرية نيتشه عن إرادة القوة بوصفها «جوهر كل ما هو واقع» وإرادة المزيد من الحياة، فقد بلغت بالميتافيزيقا الحديثة للذاتية غاية نهايتها وتمامها، بل لقد توسع في ذلك حتى ذهب إلى أن تاريخ الميتافيزيقا الغربية - أو العقلانية الغربية كما وصفها ماكس فيبر - هو في حقيقته تاريخ نسيان الوجود الذي يتمثل في عصرنا في سيطرة الفكر العقلاني والتقني والحسابي الحديث (وكلها أفكار شديدة التأثر بفلسفة الحياة عند دلتاي وبرجسون وزيميل وكيزيرلنج ولودفيج كلاجيس بوجه خاص). من هنا توصل هيدجر إلى فهم مغاير للفاشية التي حاولت أن تستر عدميتها أو تعوض عنها بالتنظيم المطلق لكل شيء؛ ففي بحث كتبه في أواخر الثلاثينيات ولم ينشر إلا في سنة 1950م تحت عنوان «التخلي عن الوجود والضلال» نراه يحلل مبدأ القيادة مع تحليله للحرب والأيديولوجية التي تقسم البشرية إلى بشرية فوقية وأخرى تحتية، وهو يرجع هذا كله للفراغ الناجم عن التخلي عن الوجود وللعدمية المترتبة عليه، إن ظهور «الفوهرر» (بالجمع)، أي: القواد، هو النتيجة الضرورية لتحول الوجود إلى شكل من أشكال الضياع الذي ينتشر فيه الفراغ والخواء. القواد في هذه الرؤية هم العمال المسلحون بكل الوسائل الكفيلة بصيانة الموجود في كل مظاهره ومناطقه، وكانوا هم الذين يلمون به ويحسبونه؛ ومن ثم يسلمونه للفراغ والضياع والضلال، أما الحرب فهي فرع لاستغلال الموجود واستهلاكه، وهي حرب مستمرة حتى في الأوقات التي تسمى بأوقات السلام، وهكذا تكون الحرب المتمثلة في استغلال الموجود مع كل الطبائع القيادية التي تشرف عليها عملية يحركها ويحددها من داخلها ذلك الفراغ الكامل أو العدمية المطلقة الكامنة فيها، وهكذا أيضا تصبح الأرض هي بيئة الضلال، كما تصير من جهة تاريخ الوجود هي: «كوكب الضلال».
Shafi da ba'a sani ba
ذلك هو الخط الفكري الذي تابعه هيدجر بعد ذلك عندما اتجه لتفسير ماهية التقنية الحديثة في محاضرتيه عن التقنية وعن الرجعة (1962م)؛ فالتقنية هي الشكل الشامل لاستغلال العالم واستهلاكه، وهي لا تجهل ما تفعله وحسب، وإنما تنحرف بغير تدبر نحو تحقيق الطموح الذي يتحداها لتحويل العالم في مجموعه إلى موضوع للاستهلاك والاستغلال.
بيد أن ماهية التقنية شيء غير تقني على الإطلاق، كما أنها ليست مجرد فعل بشري، إنها تنبع من علاقة محددة وأساسية للإنسان مع الوجود في مجموعه، وهذه العلاقة قد تم الإعداد لها وبلغت أوج تمامها في الميتافيزيقا الغربية، وهذا الشكل المحدد لاقتحام الموجود والتعامل معه بصورة استهلاكية واستغلالية يسميه هيدجر بكلمة يصعب ترجمته وهي كلمة «الوضع» التي تعبر عن قهر الإنسان للواقع وشده إلى التعسف معه والتصرف فيه.
10
وهذا الوضع - منظورا إليه من جهة تاريخ الوجود - هو شكل من أشكال تكشف الموجود، بل هو أخطر هذه الأشكال جميعا إن لم يكن هو الخطر الأكبر الذي يواجه تاريخ البشرية، لقد أصبح الإنسان على شفا السقوط في الهوة التي تجعله مجرد كائن أو عنصر بين كائنات وعناصر عديدة، ولكنه لا يفطن لهذا الخطر، وإنما يزهو بنفسه ويتصور أنه قد صار سيد الأرض (والغريب أن هيدجر الذي انطلق من هذا الفهم غير المألوف للتقنية قد استبصر في ذلك الوقت المبكر بالمشكلات الناجمة عن تقنيات الهندسة الوراثية والاستهلاك الزائد للطاقة والمواد الخام في المجتمع التقني الحديث وفقدان العلاقة الحميمة بالأرض إلى حد الاغتراب والإحساس باقتلاع الجذور).
كيف يجد الإنسان الإمكانية الوحيدة للتحرر من أسر العلم والتقنية؟ وهل تنطوي التقنية على «الإنقاذ» الذي سينمو من داخلها (مصداقا للبيت الشهير لشاعره المفضل هلدرلين: حيثما يكن الخطر، ينم المنقذ ويظهر) وكيف سيكون وجود الإنسان وتفكيره تحت وطأة هذا العالم، وهل سيكون له مستقبل؟ هذه الأسئلة كلها ترجع بنا إلى السؤال الأساسي الذي طرحه هيدجر في «الوجود والزمان» عن معنى الوجود ومدى قدرته على أن يشغل التفكير الفلسفي في حاضر الإنسان ومستقبله، وهو ينصب في الواقع على ماهية الإنسان أو حقيقته في غمار هذا العالم الذي يعيش فيه الإنسان الغربي (والإنسان غير الغربي الدائر في فلك الحضارة الصناعية)، هذا العالم الذي هيمنت عليه السيطرة العلمية والتقنية - كيف سيعيش الإنسان كإنسان في هذا العالم؟ أنقول إنه سيظل ينتج نفسه من خلال إنتاجه لشروط حياته عن طريق العقل العلمي والتقني الذي يحسب ويقنن؟
يبدو أن أسلوب وجود الإنسان في هذا العصر قد تحدد من خلال التفسير العلمي والتقني للعالم، واعتبار الأرض مصدر الطاقة والمواد الخام، ومن خلال تنظيم العمل وتقسيمه وتنظيم الجماهير العاملة لتكون في خدمته، ثم من خلال البيروقراطية والتشابك المعقد بين السياسة والاقتصاد والعلم والتقنية فيما نسميه بالحضارة أو المدنية الحديثة، أم ترانا نقول إن الإنسان كإنسان هو الكائن الذي يخضع لقدر معين يفرض عليه أن يتحمل مسئوليته ويضع عبئه على كاهله؟
يبدو أن السؤال في صيغته الأخيرة قديم قدم الفكر الغربي نفسه، وذلك منذ أن عرف هذا الفكر عند الإغريق أن الإنسان كائن فان، وأنه منفتح على الموت؛ ومن ثم فهو - على حد تعبير هيراقليطس - مشارك بالضرورة وبسبب طبيعته الفانية في اللعبة الكونية الكبرى، ولعل تفكير هيدجر في ماهية الإنسان في عصرنا التقني الحديث ألا يكون بعيدا عن هذا الأصل الفكري، وأن يكون نوعا من التلقي ثم التحويل لتلك التجربة اليونانية المبكرة، فهو - أي الإنسان - ككائن منفتح على الموت يحيا حياة مختلفة عن سائر الكائنات والموجودات؛ لأنه ينتمي «لآخر» مختلف عنها جميعا، ولا يمكن أن يكون مجرد موجود مثلها، أعني أنه ينتمي للوجود ذاته، ثم إن هذا الإنسان الفاني يملك ما يسميه هيدجر ب «الفارق الأنطولوجي»، ويقيم فيه أيضا، وهذا الفارق - الذي ذكرناه من قبل - ليس مجرد تمييز للوجود نفسه عن الموجودات، وإنما هو في صميمه «حدث» ينكشف من خلاله أن كل موجود على هذا النحو أو ذاك إنما يوجد «بفضل» الوجود، أضف إلى هذا أن أسلوب «حدوث» الوجود أسلوب فريد؛ فهو يهب نفسه للموجود في الوقت الذي فيه يمتنع عليه أو يحتجب عنه، ووجود الإنسان - المنفتح دائما على الوجود أو المتعالي والمتجاوز نحوه باستمرار - هو «الموضع» الذي تحدث فيه «إنارة» الوجود وتحجبه، أو هو «موضع السر» لكل ما هو موجود أو يمكن أن يوجد؛ لهذا فإن وجود الإنسان يتحدد بهذا «الحدث» أو هذا «القدر»، وهو قدر لا يملك الإنسان التصرف فيه، وكل ما عليه هو أن يخضع له، وينضوي تحته ويستجيب ويتسق معه.
11
ونرجع مرة أخرى إلى عصرنا العلمي والتقني وماهية الإنسان الذي يعيش فيه، فالقدر الذي وصفناه ليس حاضرا فيه، وإنما هو ممتنع على الإنسان أو محتجب عنه، والمشكلة أن الإنسان الذي نسي الوجود أو ضل عنه أو أضاعه - كما رأينا من قبل - لا يحس بهذا الامتناع والتحجب؛ إذ لو أحس به لبقي على علاقة به مهما تكن علاقة سلبية، ما السبب في هذا؟ الجواب أن الإنسان والعالم الذي يعيشه فيه منبتان عن هذا القدر؛ لأن الإنسان يوجد - كما سبق القول - ككائن ينتج نفسه وشروط حياته بسبب تحكم العقل العلمي والتقني في أسلوب وجوده، وبالتالي بسبب تشويهه لوجوده وقدره جميعا.
ماذا تكون مهمة الفكر في هذه الحالة؟ مهمته هي الاستجابة للقدر الممتنع الذي لا ينفك مع ذلك حاضرا على الدوام، وتهيئة نفسه بالاستعداد المستمر للحدوث الممكن لذلك القدر، وكأن هذا الفكر المؤقت - كما يسميه الفيلسوف - يمثل معالم الظل الذي يلقيه الحضور أو الحدث الممكن في المستقبل لذلك القدر، بأي معنى إذا يكون هذا الفكر حاضرا ومستقبلا؟ بمعنى التفكير المتواصل في العالم العلمي والتقني وأصوله الميتافيزيقية الأولى، وبمعنى الاستعداد والإعداد الفكري للقدر في حدوثه الممكن، وعندما تتم هذه الرجعة للأصل والأساس الأول، ويتم التهيؤ والتنبه والاستعداد والإعداد، فربما يحدث شيء حاسم يغير الفكر نفسه ويعيد العالم العلمي التقني إلى أساسه المنسي.
Shafi da ba'a sani ba
قد يقول قائل في النهاية: إن هيدجر يقف من العلم والتقنية الحديثين موقفا يسهل وصفه بالرجعية أو التزمت إذا قيس بالحلم الذي ساد الحياة العقلية ابتداء من فلسفة التنوير وحتى ماركس ودعاة التنمية التقنية والعلمية المعاصرين، وأقصد به الحلم بتحرير الإنسان من «الضرورة» عن طريق العلم وتطبيقاته الصناعية. والرد على هذا القول بسيط؛ فهيدجر لم يؤمن قط بهذا الحلم، وإنما آمن بضرورة الرجوع إلى التفكير في قدر الوجود نفسه، وسط عالم يتزايد اغترابه على الدوام، وذلك لكي يجد الإنسان الإمكانية الوحيدة للتحرر من أسر العلم والتقنية، ويهتدي للإنقاذ الذي سيأتي من داخلهما عندما يتم رجوعهما إلى أصلهما وأساسهما الأول الذي طال نسيانه والتخلي عنه والتنكر له.
من خلال هذه الآفاق التأويلية الرحبة استطاع هيدجر أثناء سنوات الحرب أن يفهم ما يعنيه العلم والتقنية واستهلاك العالم وأشكال القيادة والتنظيم والإدارة ل «عجلة العدمية» في الصناعة والحرب والعالم الذي تم «وضعه» والهيمنة عليه، ثم أمكنه أن يتوسع في فهمه لتاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية، وأن يستقر عليه بوصفه تاريخا لنسيان الوجود، وأن يحقق بذلك تلك المرحلة المتأخرة على طريقه الفكري، وهي مرحلة «الرجعة» إلى الوجود ذاته، ولقد مهدت كذلك لهذه الرجعة تفسيراته لشعر هلدولين، وتأملاته العديدة في مشكلة الحقيقة التي سبق أن بدأها - في الفقرة الثانية والأربعين من «الوجود والزمان» - عندما أرجع المفهوم التقليدي للحقيقة أو للصدق - وهو تطابق العبارة مع الشيء والفكر مع الموضوع - إلى الظاهرة الأصلية للحقيقة (راجع ماهية الحقيقة وأليثيا في هذا الكتاب)، وقد تبين له من خلال هذه البحوث والرسائل ضرورة انتقال الموجود من التحجب إلى اللاتحجب والظهور حتى يمكن الحديث عن مسألة الحقيقة، ومنذ ذلك الحين أصبح «اللاتحجب» (أي التكشف والظهور من طوايا الحجب والخفاء) هو الترجمة التي صكها هيدجر لمصطلح الحقيقة في منطوقه اليوناني (وهو أليثيا)، بل أصبح هو الافتراض الأساسي الذي لم تتدبره الميتافيزيقا الغربية في تاريخها الطويل، ولم تفكر في أنه الشرط الأولي الذي تقوم عليه كل التفسيرات الممكنة لحقيقة الوجود، بما يترتب على ذلك من تحول من التركيز على الإنسان - كما حلل «أنطولوجياه» في الوجود والزمان - إلى فهم الإنسان والعالم من جهة الوجود والحقيقة، كما أشرنا لذلك أكثر من مرة.
لقد كان الشرط الأساسي لهذا التحول أو لهذه الرجعة هو «التغلب» على تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية أو تجاوزهما «بالرجعة» إلى أساسهما الأول، وهو التفكير في الوجود نفسه لا في مجموع الموجودات أو في موجود منها بعينه مهما يكن أسمى الموجودات، هل انتهت الفلسفة لكي تفتح الطريق لفكر الوجود؟ لقد تحدثنا من قبل عن نهاية الفلسفة وبداية فكر آخر يتجه صوب الوجود نفسه، وسوف تظل هذه البداية، وتلك النهاية من الأسئلة المطروحة على بساط البحث في تفكير هذا الفيلسوف، وهو تفكير يريد في نهاية المطاف أن يرعى ويصون، وأن يفهم من جهة الحقيقة والوجود لا أن تفهم الحقيقة والوجود من جهته.
هل مهد لهذه الرجعة تاريخ سابق داخل تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا الغربية ذاتها التي أعلن هيدجر عن نهايتها أو موتها؟ لا شك عندي أن «التنوير الآخر» (الذي يوصف به تفكير عدد من الفلاسفة والكتاب مثل: باسكال، وشافتسبري، وفيكو، وهيردر، وهامان، وياكوبي، وفلاسفة وشعراء الرومانسية المبكرة الذين انتقدوا مفهوم العقل والفلسفة المذهبية في عصر التنوير) أقول: لا شك في أن هذا «التنوير الآخر»، بالإضافة إلى عناصر من فلسفة الحياة وأفكار من الشعراء الذين اهتم هيدجر بشرح قصائد من شعرهم وسبق ذكر أسمائهم، قد مهدت كلها لهذه الرجعة إلى «الأصل» و«الباطن» والتحقق المباشر بالحقيقة والوجود وانتظار حضورهما أو حدوثهما، وتجاوز تراث فلسفة الوعي الذاتية والإرادية والعقلانية التي طبعت العصر الحديث منذ ديكارت حتى هيجل وهسرل، ولا بد أن ينظر إلى «رجعة» هيدجر في سياق تراث ذلك التنوير الآخر، وإن كان من واجبنا القول بأن الفيلسوف قد تجاوز هذا التراث بدوره وتوسع فيه من خلال نقد العقل والوعي والذاتية في تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية منذ أفلاطون حتى ماركس ونيتشه، وذلك بالصورة الحاسمة التي عرفناها وبلغت عند بعض الشراح حد القول بموت الفلسفة وبداية فكر الوجود، هل نفسر هذه الرجعة أيضا بدخول عناصر صوفية ورومانسية في تفكير هيدجر المتأخر كما فعلنا من قبل؟ ألم تكن هذه العناصر كامنة في تفكيره ولم تظهر ظلالها الغامضة إلا مع التقدم في العمر؟ وهل يكون الحنين القديم إلى الدين و«الإشراق» الباطني قد فرض نفسه - بعد أن طال أسره وكبته بالعناد المنهجي الصارم! - في هذه المرحلة؟ إنها كما ترى أسئلة تدور في أفق الظن والاحتمال والاختبار، ولعلها ستبقى إلى أمد طويل موضع الجدل والأخذ والرد والحوار بين المؤيدين والمعارضين.
اختلفت الرؤى والآراء حول شخصية هيدجر وفلسفته وما تزال مختلفة، فهناك من يرفع من شأنه ويبالغ في ذلك إلى حد القول بأنه هو أعظم فلاسفة القرن العشرين، وأعمق من سأل السؤال الفلسفي عن الوجود بعد أفلاطون وأرسطو، وأنه قد عكف على تراثه الفلسفي قديمه ووسيطه وحديثه وتمكن منه إلى الحد الذي يندر أن نجد له نظيرا (وتشهد على هذا مجموعة أعماله التي زادت على الستين مجلدا!) وأنه هو «فيلسوف المحنة» الذي ظل يلح على سببها الرئيسي - وهو نسيان الوجود وتنكب الطريق الوحيد المنقذ وهو الرجوع للأصل الأول - كما تجسدت له محنة العالم والحضارة الحديثة في هيمنته التقنية على الأرض والإنسان، وهناك من «خسف به الأرض» وأنكر أن يكون أعظم فلاسفة القرن الذي عرف عددا كبيرا من الفلاسفة العظام (مثل: راسل ووايتهيد وتوينبي وفتجنشتين وبوبر وبرجسون وسارتر وغيرهم)، وجرده من العمق تماما بحجة أن هذا العمق المزعوم ليس سوى وهم ملتف في ضباب الغموض الفكري واللغوي، كما اتهمه - فوق اتهامه بالاستسلام للوعي النازي الزائف ولو لفترة محدودة - بأنه ظل يقوم بدور القائد الروحي والدليل العابس المتجهم في متاهات القلق والهم والموت، وأنه سحر شباب بلاده بمشكلات عقيمة وعبارات ملتوية وشائكة أشبه بأقوال العرافين والمتنبئين، وأن ما يسميه فكر الوجود شيء غير واقعي ولا علمي ولا مثمر ولا مؤثر، فضلا عن فقره وافتقاره لأي وعي تاريخي بالحاضر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وخلوه من أي إشارة للدور الذي يمكن أن يقوم به العلماء والهيئات والمؤسسات العالمية والعلمية والجهات المعنية «بإنقاذ» الأرض (كأحزاب الخضر مثلا)، بل إنه ليؤكد أن هذا الفكر كله لا يخرج عن كونه مناجاة أو مونولوجا «أنا وحديا» أخذ يجتره شخص عصابي ومنطو على نفسه طوال ما يربو على الستين عاما دون أن يتمخض عن شبكته العنكبوتية خيط واحد موجه ولا أي نتيجة واضحة أو ملزمة للإنسان الفرد أو للجماعة المحلية أو الإنسانية، هذا فضلا عن أن الفكر الجديد الذي أهاب به في سنواته الأخيرة لا هو بالجديد ولا هو بالفكر الواضح المعالم.
ومع ذلك فهناك فريق ثالث حاول وما يزال يحاول أن ينقده نقدا علميا وموضوعيا «من داخله» بعيدا عن مزالق الاتهام والإدانة والتشهير الغوغائي سيئ النية، فمنهم من يوجه أسئلة لا تخلو من بعض الشكوك والانتقادات، ومنهم من يدرس علاقة التأثير أو التأثر بين فلسفته والفلسفات الأخرى، كالماركسية التقليدية والجديدة (وبالأخص مدرسة فرانكفورت)، وفلسفة الحياة من نيتشه إلى دلتاي التي رأينا كيف دخلت عناصر منها في تفكيره المبكر والمتأخر، والكانطية الجديدة التي نبهته - تحت تأثير أستاذه ركرت - إلى الاهتمام الملحوظ بكانط، والظاهراتية التي بين هو نفسه - في مقال مشهور - كيف كافح في شبابه لفهمها - لا سيما من خلال كتاب البحوث المنطقية لأستاذه هسرل، وألف رسالتيه الأولى والثانية للدكتوراه - عن نظرية الحكم في النزعة النفسانية ونظرية المقولات والمعنى عند دنس سكوتوس - بوحي منها وتحت تأثيرها قبل أن يبتعد بنفسه عن مرحلتها الذاتية المتعالية والشديدة المثالية - ثم تأثيره الذي لا ينكر على مسيرة فلسفة التأويل «الهيرمينوطيقا» التي أعطاها - بعد شلاير ماخر - أقوى دفعة ممكنة، بحيث تعلم التفكيكيون المعاصرون والنقاد الجدد على وجه العموم من قراءاته للنصوص الفلسفية والشعرية كيف يقرءون النصوص من داخلها ومن حولها ومن تحتها.
12
وكيف يكشفون عن قصد المفكر أو الشاعر «من خلال ذلك الذي لم يقله في ثنايا قوله»، ومن الأسئلة المثارة على فكر هيدجر - وما أكثرها! - أسئلة من هذا النوع:
عرف عن هيدجر شغفه الشديد بالرجوع إلى الفلاسفة قبل سقراط، ولا سيما أنكسمندر وبارمنيدز وهيراقليطس، ليلتمس عندهم العلاقة الأصلية المباشرة بين الفكر والوجود (لا سيما في عبارة بارمنيدز) والإنارة من طوايا التحجب (في مقالته عن الأليثيا)، ولكن هل ساعدته هذه الرجعة لآباء الفلسفة الغربية والنزعة الإنسانية المبكرة على العثور على الأساس و«الأصل» الذي بحث عنه؟ وهل تتسق تلك العودة للآباء مع مطالبته «بالتغلب» على تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة أو تحطيمه وتجاوزه؟ ألم يكن من الأوفق الرجوع لأفكار وأساطير وحكايات عصور أسبق، في الحضارة الكريتية والمينوية أو في حضارات الشرقين الأدنى والأقصى القديمة؟
دعا هيدجر - كما سمعنا حتى الآن أكثر من مرة - إلى تجاوز تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا «الغربية»، بل أكد نهايتهما على الرغم من أنه بقي بطبيعة الحال مقيدا بهما ولا يمكن فهم تفكيره المبكر ولا المتأخر إلا في سياقها، ولكن ألم يكن فهمه لهذا التاريخ فهما ضيقا محدودا؟ وهجومه المتواصل على فلسفة الوعي والذاتية الحديثة - من ديكارت إلى نيتشه - ألم يكن هجوما أحاديا متسرعا؟ ثم ألم تكن أرض هذا التاريخ المترامي هي التي نمت منها أشجار المعرفة النظرية والعلمية، ومروج الفلسفة والتصوف المسيحي، وبدائع فلسفة النهضة والتنوير، وروائع الفن والأدب والتقدم والاستنارة والإنسانية المتنوعة الأزهار والثمار والأوراق؟ وحتى إذا صح أن هذا التاريخ هو في صميمه تاريخ العدمية المتنامية، وبخاصة في القرن العشرين الذي أوصلت كوارثه وآلامه وفظائعه الإنسان الأوروبي الحديث - والإنسان الدائر في فلك مدنيته الصناعية - إلى مهاوي القلق والهم واليأس والاغتراب، فهل يصح أن ننسى أن هذه العدمية نفسها قد تولدت عنها ثروة هائلة من الإبداعات والرؤى والأفكار والاجتهادات التي لا يمكن أن نصفها بأنها عدم؟ وهل خلت الساحة المضطربة بالضحايا والأشلاء والأطلال من أصوات تدعو إلى الحب والشجاعة والكبرياء والمسئولية والأمل وتمجيد الحياة؟ وحتى ذلك الحديث القاتم عن القلق والهم وبقية العائلة المشئومة، ألم يقدم لنا حصادا وافرا من الأعمال والإنجازات الفكرية الخصبة التي تستحق الحرص عليها، ومنها فلسفة هيدجر نفسه؟!
Shafi da ba'a sani ba
مع ذلك كله، فهل كان هيدجر هو أول من قال بنهاية الفلسفة ودعا أو بشر بفكر جديد بديل عنها؟! ألم يفعل ذلك قبله كل من هيجل وفويرياخ وماركس الذين «رفعوا» (بالمعنى الهيجلي) تاريخ الفلسفة كل على طريقته - سواء بأن تصبح الفلسفة علما وتخلع عنها التسمية القديمة وهي محبة الحقيقة، كما قال هيجل في مقدمة ظاهريات الروح، أو بأن تتحول عن فوير بلخ من تاريخ للاهوت إلى تاريخ لفلسفة إنسانية شاملة، وعند ماركس من تفسير للوجود والعالم إلى تغيير جذري يبتدئ به عصر جديد وإنسانية جديدة بريئة من الاغتراب والاستغلال والظلم الرأسمالي؟ وإذا كان يحمد لهيدجر أنه دعا إلى فكر جديد يرجع إلى الوجود نفسه، وأصداء الدعوة لفكر إنساني جديد لا تفتأ تتردد بقوة في السنوات الأخيرة، أفلا يمكن القول أيضا بأن هذا الفكر يحف به الغموض من كل ناحية، وأنه إذا كان قد نجح إلى حد كبير في نقد التاريخ السابق فقد جانبه التوفيق في تقديم صورة واضحة المعالم للمستقبل؟ ثم ماذا يمكن أن يطوف بأذهان قرائه من العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؟ ألا نعذرهم إذا اتهموه بأنه أكثر المركزيين الأوروبيين غلوا في المركزية ، وأنه يسقط من حسابه كل ما ليس أوروبيا إلا إذا خضع للسيطرة العلمية والتقنية الأوروبية-الأمريكية؟ وهل يلام أحد منهم إذا افتقد لديه الوعي بالتاريخ والقوى الواقعية المحركة له، وتجاهل الواقع «الكوكبي» الملموس الذي هو حصيلة تراث ممتد لحضارات عريقة وعديدة عبر آلاف السنين، والذي لا يمكن أن نفهم يومه ولحظته الحاضرة بغير الأمس وما قبل الأمس إلى آلاف أخرى من السنين؟ هل يقبل هذا من فيلسوف «الرجعة» الذي لم يرجع إلا إلى أصله الإغريقي وتجاهل أصول هذا الأصل وجذوره التي يستحيل فهمه بدونها؟!
وإذا كان هيدجر يأخذ على التراث الفلسفي - الغربي - أنه تصور الوجود كما لو كان «موجودا» من الموجودات ولم يتركه أبدا ليعبر عن نفسه كوجود - ألا يمكن أن نأخذ عليه هو نفسه أنه قد ثبت نظره على «الوجود» بحيث طبع هذا فكره بطابع أحادي، وربما سكوني وقدري أيضا! وملأ كأسه - حتى فاض على الحافة - بسأم التكرار الفظيع لتلك الكلمة التي كادت أن تصبح تعويذة سحرية مملة؟ لقد تشكك الكثيرون في صلاحية هذه الكلمة المتعددة والملتبسة المعاني لخدمة قضيته، كما تشككوا في إمكان أو جدوى الفصل بين الوجود والموجود في أي حديث عن الوجود، حتى لقد تساءل البعض عما إذا كان التثبت عند الكلمة قد جعله دائم التأرجح بين «التعزيم» السحري والكتمان الصوفي إلى حد التلعثم أو الخرس، ثم من قال إن التراث الفلسفي لم ينشغل إلا بمشكلة الوجود والسؤال عنه؟ ومن قال إن نقد الذاتية الحديثة يمكن أن يتم على أساس المعايير المستمدة من الفكر اليوناني السابق على سقراط؟ ألا يقدم هذا كله دليلا آخر على بعده عن حاضره، وافتقاده للوعي التاريخي، وهروبه لأعماق الماضي الإغريقي في محاولة مشكوك فيها لتفسير التاريخ العلمي والتقني الحاضر بالإضافة للتمهيد لفكر الوجود المنتظر أن يرفرف بأجنحته في سماء مستقبل غامض؟
تلك كانت بعض الأسئلة القليلة التي لا تنفك توجه بصيغ مختلفة لفكر هيدجر ويستحق كل منها بحثا مستقلا لا تتسع له هذه المقدمة، لا شك أن القراء سيمكنهم توجيه أسئلة أخرى أو طرح نفس الأسئلة بأساليب وأشكال متنوعة، والمهم أن آية هذا الفكر «الهيدجري» وفضيلته الكبرى تكمن في إثارة السؤال والإصرار عليه، لا في محاكاته وتقليده واجتراره كما فعل أكثر ضحاياه، ولقد كان هدفي من هذه المقدمة الجديدة، ومن الكتاب كله في واقع الأمر؛ هو أن نتعاطف مع هيدجر أو مع غيره ونتحرر منهم بنفس القدر وبنفس الصدق، أي أن نفكر مع هيدجر - على نحو ما عبر هابرماس - ونفكر ضده أيضا كلما اقتضى الأمر.
13
وأهم شيء في تقديري المتواضع، بعد أن نمر بمرحلة فهمه والتعلم من دقته وإحكام منهجه وإخلاصه وزهده وتفانيه، ومعرفة أسرار قوله وصمته معا؛ أهم شيء هو أن نتعلم منه أيضا جدية التفكير فيما يستحق التفكير من وجهة نظرنا ومن داخل فكرنا واعتمادا على منابعنا نحن وعلى لغتنا وتاريخنا وتراثنا نحن، ولست أشك لحظة واحدة في أن القلة المخلصة من شبابنا المتفلسف - لا الذين يتاجرون بالفلسفة ويدوسون بقولهم وفعلهم على قيمها! - سوف تتعلم الكثير من قراءتها المتأنية لنصوص هيدجر، وسوف تفكر ضده أيضا وتوجه له أسئلة جديدة من زوايا جديدة. (1) ملحق أخير: حوار مع هيدجر
لم يكد يجف قبر هيدجر حتى انهال عليه بعض الناس بحجارة أسئلة من هذا النوع: هل كان معاديا للسامية؟ هل كان يلقي محاضراته وهو يرتدي البزة العسكرية النازية ويضع على كتفه علامة الصليب المعقوف؟ وهل بلغ به الأمر حد اضطهاد أستاذه هسرل ومنعه من أن يطأ بقدمه أرض الجامعة؟ ومع أنها أسئلة كذبها الواقع وأجاب عليها الفيلسوف بالنفي القاطع، فقد نجحت في إيذاء شخصه وتشويه سمعته وبلبلة الرأي العام والرأي الفلسفي وإلقاء ستار من التجاهل والنسيان على أسئلته الفلسفية الحقيقية، ومن بينها السؤال نفسه عن موقفه من السياسة، وقد لزم هيدجر الصمت عن حقيقة علاقته بالنازية على مدى اثنين وثلاثين عاما، إلى أن أجرت معه مجلة دير شبيجل (أي المرأة) المشهورة حوارا شاملا في الثالث والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1966م، وأوصى الفيلسوف مندوبي المجلة ألا ينشر الحوار إلا بعد وفاته، وقد برت المجلة بوعدها ونشر الحديث في اليوم الواحد والثلاثين من شهر مايو سنة 1976م، أي بعد رحيله بخمسة أعوام.
طلب منه المحرران في البداية أن يوضح للرأي العام مواقفه قبل استيلاء النازي على الحكم وبعده، وسألاه عن مدى إمكان تأثير الفلسفة على الواقع وغير ذلك من القضايا التي تحتاج لإلقاء الضوء عليها وعلى التهم التي طالما وجهت إليه وألقت ظلالها السوداء، لا على شخصه فقط، بل وكذلك على فكره.
وبدأ الفيلسوف بتقرير بعده التام عن العمل السياسي قبل توليه منصب مدير جامعة فرايبورج، ثم أخذ يروي الظروف التي تم فيها اختيار جاره مولندورف أستاذ علم التشريح في شهر ديسمبر سنة 1932م لمنصب مدير الجامعة الذي كان من المفروض أن يبدأ تقلده الرسمي له في شهر أبريل، كان بطبيعة الحال يتابع مجريات الأمور، وكان من رأيه أن التطور المنشود في الجامعة والمجتمع يمكن أن يتحقق على أيدي القوى القادرة على البناء.
ولكنه كان مشغولا في ذلك الوقت بالتفسير الشامل للفكر اليوناني قبل سقراط، وفوجئ مع غيره من الزملاء بأن وزارة الثقافة في ولاية بادن-فيرتمبرج التي تتبعها الجامعة قد أقالت المدير الجديد الذي لم يمض على شغل منصبه (بعد السادس عشر من أبريل) أكثر من أسبوعين اثنين، وفسر الفيلسوف ذلك بأن المدير المنتخب حال بين الطلاب النازيين وبين تعليق لوحة تشنم اليهود وتؤلب عليهم بقية الطلاب في مدخل الجامعة، وتوسل إليه المدير المعزول أن يقبل المنصب حتى لا يشغله أحد عملاء السلطة، وبقي هيدجر مترددا عن اتخاذ هذه الخطوة على الرغم من إلحاح زملائه وتلامذته عليه، وظل على تردده بحجة افتقاره إلى الخبرة بالعمل الإداري حتى صباح يوم الانتخاب في مجلس الجامعة، أي حتى اضطراره لقبول المنصب مراعاة لمصلحة الجامعة قبل كل شيء.
وفي اليوم التالي لتوليه المنصب حضر إليه زعيم الطلاب النازيين مع زميلين آخرين وطلبوا منه الموافقة على تعليق اللوحة المشبوهة، رفض هيدجر طلبهما وأصر على رفضه حتى بعد اتصال مسئول الطلاب في الحزب وتهديده له بالعزل، بل إغلاق الجامعة نفسها، ثم بقي مصرا على رفضه حتى بعد أن تبين له عجز وزير الثقافة في ولاية بادن عن الوقوف بجانبه.
Shafi da ba'a sani ba
واستطرد الفيلسوف قائلا إن الدافع الذي جعله يقبل تولي إدارة الجامعة قد عبر عنه في محاضرته التي بدأ بها أستاذيته بالجامعة - خلفا لهسرل - في سنة 1929م، وهي محاضرته الشهيرة «ما الميتافيزيقا؟» ولم يكن هذا الدافع سوى توحيد المجالات والأنظمة العلمية التي تناثرت وتفرعت وابتعدت - إلى حد الضمور المميت - عن التجذر في أساسها الجوهري.
أخذ المحاور الصحفي الكلمة وأصر على أن الفيلسوف قد عزف نغمة أخرى في الخطبة التي ألقاها بمناسبة توليه إدارة الجامعة وبعد اغتصاب هتلر للسلطة، وتعيينه مستشارا لدولة الرايخ الثالث بأربعة شهور، وقال الصحفي إنه قد وردت في تلك الخطبة عبارة عن عظمة وروعة البعث الجديد.
لم ينكر الفيلسوف أنه كان مقتنعا بضرورة تلك الانطلاقة وبحتمية ذلك البعث الذي لم يكن ثمة بديل عنه مع اضطراب الآراء وحيرة الاتجاهات السياسية لاثنين وعشرين حزبا سياسيا، وأن البلبلة العامة كانت تقتضي توحيد المواقف الوطنية والاجتماعية، ولم يكن ذلك رأيه هو وحده، بل اتفق عليه عدد كبير من ساسة العصر ومفكريه وأدبائه (مثل فريدريش ناومان وإدوارد شبرانجر وإرنست يونجر وغيرهم)، فضلا عن أنه كان في ذلك الوقت مشغولا بقضايا فسلفية عبرت عنها كتاباته ومحاضراته التي أعقبت ظهور «الوجود والزمان» (سنة 1927م) كما انشغل بحكم عمله في التدريس برسالة الجامعة ومعنى العلم والبحث العلمي وغيرها من المسائل التي تتصل بصورة غير مباشرة بقضايا الوطن والمجتمع، الأمر الذي انعكس على العنوان الذي أعطاه للخطبة السابقة الذكر مع توليه إدارة الجامعة، وهو التأكيد الذاتي للجامعة الألمانية: ولكن من من الذين يتجادلون حول هذه الخطبة قد كلف نفسه مشقة قراءتها والتفكير المتعمق فيها، وتفسير كلماتها من خلال الظروف السائدة في ذلك الحين؟ إن تلك الخطبة كانت أبعد ما تكون عن «تسييس» العلم أو قصر قيمته ومعناه على فائدته للمجتمع كما تصور الطلاب والدعاة النازيون، لقد وقف توجهها الأساسي ضد استفحال التنظيم التقني للجامعة وفي صف إعادة النظر في مهمة الجامعة بمعنى جديد مرتبط بالتدبر في علاقتها بالتراث الثقافي الغربي في مجموعه، وبتجديد نفسها بنفسها في مواجهة التيار السائد لتسييس العلم.
ولكن المحاور الصحفي ذكره بعبارة قالها في خريف سنة 1933م ورددها معظم الذين شجبوا علاقته بالنازي: «ليست المبادئ والأفكار هي القواعد التي يرتكز عليها وجودكم، وإنما الفوهرر نفسه (أي القائد، والمقصود به هو هتلر)، وهو وحده، هو الواقع الألماني وقانونه في الحاضر والمستقبل».
وأنكر هيدجر أن تكون هذه العبارة قد وردت في خطبة توليه إدارة الجامعة؛ لأنها ظهرت في الجريدة المحلية للطلاب، وكانت نوعا من التنازل الذي اضطر إليه رغبة منه في تسيير أمور الجامعة، وأكد أنه يتبرأ اليوم من تلك العبارة التي لم ينطق بمثلها قط منذ قدم استقالته من منصبه في فبراير سنة 1934م وإن لم تقبل إلا في شهر أبريل.
وردا على التهمة الموجهة إليه بالتعاون مع الحزب النازي وسياسته المعادية للسامية أكد بكل حزم أنه لم يسمح للطلاب بإقامة «حريق الكتب» أمام المبنى الرئيسي للجامعة، وأنه لم يستبعد كتب المؤلفين اليهود لا من المكتبة العامة للجامعة ولا من مكتبة القسم، وأن علاقته بتلاميذه اليهود بقيت على ما كانت عليه من المودة والتعاطف، كما أن الود بينه وبين ياسبرز لم يعكره شيء طوال السنوات السابقة لاندلاع الحرب على الرغم من الإشاعات المغرضة بأنه قاطعه بسبب زوجته اليهودية، وأما عن علاقته بأستاذه هسرل فقد ظلت هي علاقة الاحترام والعرفان بين التلميذ والمعلم؛ بدليل أنه حافظ على الإهداء الذي كرسه له في كتاب الوجود والزمان في طبعاته المختلفة حتى الطبعة الرابعة التي ظهرت في سنة 1935م، ثم اضطر إلى الموافقة على حذفه في الطبعة الخامسة لسنة 1941م لخوف الناشر من مصادرة الكتاب إذا أبقى عليه، ثم إنه لم يبد موافقته إلا بشرط المحافظة على الملاحظة التي يشهد فيها على الصفحة الثامنة والثلاثين من الكتاب بفضل أستاذه عليه ورعايته له، ولم ينشأ الخلاف بين الأستاذ وتلميذه إلا لأسباب موضوعية جعلت هسرل نفسه يعلن تبرؤه العلني منه ومن تلميذه الآخر ماكس شيلر (1874-1928م) متهما إياهما بأنهما حولا فلسفته الظاهراتية الخالصة إلى أنثروبولوجيا متمركزة حول الإنسان، وأما عن الشائعات التي روجت عنه أنه منع أستاذه هسرل من أن يطأ بقدمه أرض الجامعة أو أن يستعير كتابا من مكتباتها، فقد أكد بكل قوة أنها شائعات عبثية مغرضة لم يقصد من ورائها إلا التشهير به، والدليل على ذلك أنه خلال إدارته للجامعة صمم - على غير رغبة الوزارة المختصة - على الحفاظ على أستاذين من أصل يهودي (كان أولهما تانهاوزر مديرا لمستشفى الجامعة، وكان الآخر وهو فون هيفيسي أستاذا للكيمياء الطبيعية)، فكيف يعقل أن يتصرف مثل ذلك التصرف مع أستاذه وصاحب الأفضال العلمية والإنسانية عليه؟ صحيح أن أستاذه وزوجته قد بدآ بمقاطعته هو وعائلته، وأنه قصر من الناحية الإنسانية فلم يقم بزيارة أستاذه في مرضه الأخير ولم يحضر جنازته في شهر أبريل لسنة 1938م، ولكنه كتب رسالة لأرملة أستاذه معتذرا فيها عن هذا التقصير.
واستطرد هيدجر في الحديث عن توتر العلاقة بينه وبين السلطة النازية التي رفضت اقتراحاته بإصلاح الجامعة وتجديدها بالقوى الشابة المتميزة، مما اضطره، بعد عشرة شهور فقط من توليه منصبه، إلى تقديم استقالته، والغريب في رأيه أن الذين شوهوا صورته عند قبوله للمنصب لم يعلقوا بكلمة واحدة على انسحابه منه وتعيين أول مدير نازي في مكانه.
وتفرغ الرجل لدراساته ومحاضراته، وبدأ منذ سنة 1935م محاضراته عن شعر هلدرين ثم عن فلسفة نيتشه، كما بدأ الحزب النازي في مراقبته والتجسس عليه واضطهاده بأشكال مختلفة، ومن أغرب ما يرويه الفيلسوف أن الجهاز الخاص للحزب سلط عليه أحد تلاميذه الذين «تدكتروا» على يديه، ولما رأى التلميذ (وكان اسمه هانكه) بعينيه وسمع بأذنيه أوجعه ضميره فاعترف لأستاذه ذات يوم بأنه أرسل إلى الجامعة لمراقبته وتسقط أخباره، وأنه يبوح له بذلك ليزيح العبء الفادح عن كاهله.
لم يكف الحزب عن مضايقاته له، فلم يسمح بمناقشة كتبه (ومنها نظرية أفلاطون عن الحقيقة)، وهاجمت صحيفته الرسمية «الإرادة والقوة» محاضرة ألقاها عن هلدرلين في روما، ومنع مشاركته في المؤتمر الدولي للفلسفة الذي انعقد سنة 1934م في براغ، ولم يأذن له كذلك بحضور مؤتمر ديكارت الدولي سنة 1937م في باريس؛ مما جعل الأستاذ برييه - رئيس ذلك المؤتمر ومؤرخ الفلسفة المعروف - يستفسر منه عن سبب تأخيره. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل منع الحزب نشر خطبته التي ألقاها عند توليه إدارة الجامعة، وأمر بأن يوزع كتاباه عن ماهية الحقيقة وما الميتافيزيقا بعد نزع أغلفتهما، ووصل الأمر إلى حد رفض الحزب إعفاءه من الخدمة العسكرية في آخر سنوات الحرب، على الرغم من إعفائه خمسمائة غيره من العلماء والفنانين، وكان أن كلفه بالاشتراك في أعمال السخرة في إقامة التحصينات والاستحكامات على ضفاف الراين، ثم ختم ذلك كله بإعلان الاستغناء عن خدماته مع زميله المؤرخ جرهارد ريتر، وأخيرا «توج» اضطهاده له بتجنيده في فرق العاصفة مع عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس الذين كانوا جميعا يصغرونه في السن.
ويتطرق الحوار بين هيدجر ومندوبي المجلة إلى مشكلة التقنية التي لا يستطيع الإنسان - بحكم طبيعتها وماهيتها - أن يتحكم فيها، وإلى حيرته وتشككه في النظام السياسي الذي يمكن أن يكون ملائما لعصر التقنية الكوكبية الذي يواجه الإنسان بأخطر المخاطر التي تهدد حياته ومصيره أكثر بكثير من كل ما واجهه طوال تجربته التاريخية، وهو خطر اجتثاث جذوره من الأرض والسكن والوطن والبيت والتراث والوجود والحقيقة ... «ولن يجدي الإنسان أمام الموت والنهاية المتوقعة سوى الرجوع إلى الشعر والفكر، أي إلى القوى التي تستغني عن استخدام القوة».
Shafi da ba'a sani ba
ويسأله الصحفي: إزاء الدولة التقنية المطلقة التي أكدت نفسها بالفعل أو هي بسبيلها إلى تأكيد نفسها (هل كان يتنبأ بالدور الأحادي الذي تقوم به أمريكا في الوقت الحاضر؟!) ماذا يبقى للفرد أن يفعل وهو يواجه هذا القهر؟ وهل في وسع الفلسفة أن تؤيده في اختياره وفعله، هل في وسعها أن تؤثر - كما فعلت على الدوام - بطريقتها غير المباشرة؟
ويرد الفيلسوف بأن الفلسفة لن تستطيع أن تغير أوضاع العالم الراهنة تغييرا مباشرا، ولا يسري هذا على الفلسفة وحدها، وإنما يصدق على كل تفكير ومسعى بشري، هنا لن يعيننا إلا الله، وكل ما علينا هو الاستعداد وتهيئة أنفسنا لكي ينقذنا من الهاوية التي نوشك على التردي فيها، والأمر يتوقف في النهاية على الوعي بأن الوجود يحتاج للإنسان لكي يتجلى له فيرعاه ويصونه ويشكله ويشكل حياته استجابة له، ذلك هو ما يمكن أن يساعد به الفكر «الآخر» بطريقته غير المباشرة في التأثير والتغيير، أما الفلسفة التقليدية فقد بلغت في رأيه نهايتها وأصبحت عاجزة عن أي تأثير؛ لأن العلوم المختلفة - وبالأخص السيبرنيطيقا - قد تولت عنها القيام بهذا الدور.
لم يبق إذا إلا الرجعة ل «فكر الوجود» - هذا المراوغ المتعدد المعاني الذي يجب ألا نفهمه على معنى الموجود أيا كانت طبيعة هذا الموجود - مثل هذا الفكر لا يملك إلا أن يسأل وينفتح ويتحاور ويطرح الأسئلة التي لم تطرح من قبل ولا تلائمها الإجابات السابقة، وإذا استطاع هذا الفكر أن يغير شيئا فهو التغيير غير المباشر الذي يتطلب السير المتأني على دروب الصبر والخشوع والانتظار والإعداد والاستعداد ... وإذا استطاع أخيرا أن يوقظ هذه «القيم»، بعيدا عن رتابة المواعظ وحذلقة المتفيهقين وفظاظة الغوغائيين، فهذا وحده يكفيه، ويتواصل الحديث عن التقنية الكوكبية، وعن عجز النازية، فضلا عن عجز النفعية أو البرجماتية الأمريكية، عن سبر ماهيتها، وعن احتمال أن يصل الروس أو الصينيون ذات يوم - بفضل ما لديهم من فكر تراثي عريق - إلى إتاحة تكوين العلاقة الحرة والأصيلة بين الإنسان وبين عالم التقنية.
ثم يتجه الفيلسوف على عجل إلى الكلام عن هلدرلين الذي يعتقد أنه هو الشاعر الذي يدل على المستقبل، ويحيا وينظم شعره على أمل الإنقاذ الذي سيأتي - في رأيه - من السماويين والأرضيين، والذي يهيب به غيره من الشعراء الأصلاء الذين «يؤسسون ما يبقى».
ويستطرد الحديث بعد ذلك عن هلدرلين ونيتشه فيذكر له المحاور الصحفي عبارة وردت في إحدى محاضراته عن نيتشه التي ألقاها بين سنتي 1935م، 1937م عن أن الصراع المعروف بين الديونيسي (أي التوهج الانفعالي والنشوة المقدسة) والأبوللوني (أي التوجه العاقل المنظم المستنير) كما عاشه كلا المفكرين الشاعرين قد وضع أمام الألمان علامة استفهام كبرى على الطريق لمعرفة حقيقتهم القدرية والاهتداء لماهيتهم و«قدرهم» التاريخي - فما هو رأي الفيلسوف في ذلك؟
ويجيب هيدجر بأنه على اقتناع تام بأن المكان الذي نشأ فيه العالم التقني الحديث هو نفسه المكان الذي يمكن أن تنبثق منه الرجعة (أو الهداية والإنقاذ) بحيث لا يمكن أن تأتي من بوذية الزن ولا من أي تجربة شرقية أخرى بالوجود، وتحقيق هذه الرجعة أو هذا التحول في التفكير يحتاج لاستيعاب التراث الأوروبي من جديد ومراجعته، فالفكر لا يتحول إلا بالفكر الذي يعرف أصله ومصيره، أي أن العالم التقني لا يحتاج لأن يستبعد أو ينفى؛ لأن ذلك محال، وإنما هو بحاجة لأن يرفع - بالمعنى الهيجلي للكلمة - إلى مستوى آخر أعلى وأكثر خصوبة، وإن لم يكن من الممكن أن يتم هذا الرفع بواسطة الإنسان وحده. - ولكن هل تسند للألمان دورا في هذا التحول؟ - أجل، بالمعنى الذي يبينه حديثي عن هلدرلين. - وهل يملك الألمان مقومات هذا التحول أو هذه الرجعة؟ - نعم، بفضل القرابة الوثيقة بين اللغة الألمانية واللغة والفكر اليوناني. ولعل الفرنسيين هم أقدر الأوروبيين على إتمام هذا التحول، هذا إذا تنحوا عن تراثهم العقلاني العظيم وبدءوا يفكرون تفكيرا ألمانيا.
14
وينتقل الصحفي إلى الأزمة الديموقراطية والبرلمانية التي كانت تمر بها ألمانيا في ذلك الوقت (من أواخر عام 1966م) ويسأل: هل ينتظر من الفيلسوف أن يشارك بالرأي أو أن يشير على الأقل بطريقة غير مباشرة إلى سبيل الخروج من الأزمة: هل هو نظام بديل أم إصلاح للنظام القائم؟ وعلى أي نحو يمكن أن يتم الإصلاح؟ ألا يصح أن ينتظر الرجل العادي من الفيلسوف أن يمده بأفكار تعينه على الحياة وسط العالم التقني الذي قهره وضيق عليه الخناق؟ ألا يكون الفيلسوف قد تخلى عن جزء ولو قليلا من مهمته وواجبات مهنته إن لم يتواصل مع الرجل العادي؟
ويقول الفيلسوف بعد صمت مفعم: بقدر ما أرى، ليس في إمكان مفكر واحد أن يتبصر بأحوال العالم في مجموعه بحيث يقدم تعليمات عملية، وبالأخص فيما يتعلق بإيجاد أساس للفكر نفسه - إننا نطالب الفكر الذي يأخذ نفسه مأخذا جادا بالنسبة للتراث الضخم الذي يحمله، نطالب هذا الفكر بما يفوق قدرته لو طالبناه بأن يقدم هنا نصائح أو تعاليم عملية.
لا يوجد خطاب سلطوي في مجال الفكر، والمعيار الوحيد للفكر مستمد من الموضوع الذي يفكر فيه، وهذا الموضوع نفسه هو أكثر الأمور مدعاة للشك والسؤال، ولتوضيح هذا ينبغي إلقاء الضوء على العلاقة بين الفلسفة والعلوم التي أدى نجاحها العلمي والتقني إلى جعل الفكر الفلسفي أمرا سطحيا لا ضرورة له، هذا هو الوضع الحرج الذي يجد فيه الفكر نفسه وينظر فيه إلى مهمته، يقابله نوع من الاستغراب أو الإشفاق - الذي تغذيه القوة المتنامية للعلوم - من عجز الفكر عن الإشارة برأي في القضايا العملية والسياسية.
Shafi da ba'a sani ba
وينتهي الحوار باستطراد قصير عن أحوال الأدب والفن والحديث الذي سبق لهيدجر أن وصفها بأنها مدمرة، ويرد عليه محاوره مدافعا عنهما بأنهما يجربان ويقدمان محاولات يخطئ معظمها ويصيب أقلها، وأن الفنان والأديب لا يمكن أن يلتزم بما كان يلتزم به سلفه قبل ثلاثمائة عام ولا حتى قبل ثلاثين عاما.
ويعبر الفيلسوف عن رغبته في الاستفادة من محدثه فيسأله: أين يقف الفن اليوم؟
ويرد عليه الصحفي بأنه يطالب الفن بما لا يطالب به الفكر، ويؤكد الفيلسوف أنه لا يعرف في الحقيقة ما هو الهدف الذي يتوجه إليه الفن الحديث، وأن الغموض ما يزال يكتنف رؤيته لما هو فني.
ويقول محدثه: إن الفنان والشاعر والكاتب يجدون أنفسهم اليوم في نفس الموقف الذي يجد فيه المفكر نفسه، ويقول الفيلسوف في النهاية: لو نظرنا للأمر من منظور «النشاط الثقافي» لأمكننا وضع الفن والشعر والفلسفة على نفس المستوى وفي نفس الإطار، لكن مجرد الشك في هذا النشاط وفي معنى الثقافة نفسها يجعلهما من موضوعات الفكر ومن المهام التي يواجهها هذا الفكر الذي يصعب علينا تصور محنته، والمحنة الكبرى للفكر - بقدر ما تسعفني الرؤية - تكمن في أنه لا يوجد اليوم مفكر عظيم بمعنى الكلمة يمكنه أن يجعل الفكر يواجه موضوعه مواجهة مباشرة بحيث يدفعه للسير في الطريق الخاص به، إن عظمة ما ينبغي التفكير فيه اليوم لأعظم مما نتصور أو نقدر، والشيء الوحيد الذي يمكننا فعله ربما يكون هو البحث عن دروب ضيقة وصغيرة يمكن أن تساعدنا على بناء معبر مؤقت يصلح للسير عليه.
وأمام هذه الحيرة وهذا العجز - الذي يفيض بالصدق والأمانة - إزاء محنة العصر ومحنة الفيلسوف يتوقف الحوار ويقدم المندوبان الصحفيان شكرهما للفيلسوف.
مدينة نصر، يونيو 2000م
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
ما الحقيقة؟
أين نجدها وكيف نعرفها؟
Shafi da ba'a sani ba
بأي سهم نريش طائرها الأبيض المستحيل، أي قفص لغوي يتسع لآفاقها البعيدة وأسفارها العديدة في البلاد والأجيال؟ ما معانيها المختلفة باختلاف المذاهب والمدارس، عند القدماء والمحدثين، والمثاليين والواقعيين، في المنطق ونظرية المعرفة، بمدلولها الوجودي (أو الأنطولوجي)، والعملي أو النفعي؟ أهناك حقيقة مطلقة أم حقائق نسبية؟ أهي الحقيقة الأصلية التي نتطلع إلى نورها، ونحاول أن نندمج فيها ونتحقق بها ونقف منها موقف التسليم والخشوع، أم الحقيقة الفعلية التي نغزوها وننتزعها انتزاعا كما يقول أبو البركات البغدادي في المعتبر في الحكمة وجوته في فاوست
1
وهيدجر في بعض نصوصه؟ أنشارك نحن البشر في صنعها وخلقها؟ أم ليس علينا إلا أن نطهر بيتنا ليكون أهلا لزيارتها، ونهيئ مصباحنا لكي تلمس فتيله بشرارتها؟ أنتقدم نحوها بجهدنا وجهادنا خطوة خطوة، أم ننفتح عليها ونتركها تكون وتنير؟ ألكل حقيقته، كما يقول بيراندللو في عنوان إحدى مسرحياته أو كما يفهم من عبارة بروتاجوراس: للشاعر والفنان، والعالم والفيلسوف، والعامل والفلاح، والمفكر ورجل الشارع؟ أم أن الحقيقة قيمة نظرية ومثال معرفي يسمو على التغير والتطور، ويرتفع فوق الزمان؟ أهي كيف وصفة أم علاقة بين ذات وموضوع ووعي ووجود؟ أنلتمسها في اتساق الفكر مع نفسه، أم في تطابق العقل مع الأشياء أو الأشياء مع العقل؟
أهي وسيلة أم غاية، طريق أم هدف، فكر أم فعل، خلق وكشف أم إنجاز وتحقيق عملي، انعكاس للواقع على الشعور أم فعل محض لهذا الشعور؟ ألها مقاييس موضوعية تحدد شروطها وتجنبها الزيف والخطأ، أم هي كامنة في صميم الذات الحميمة الممتنعة على العلم والموضوعية والقياس والتحديد؟ أنصل إليها حين تتحقق الفكرة العينية الكلية ويكتمل وعي المطلق بذاته، أم نغزل بساطها اللانهائي خيطا خيطا مع كل كشف علمي جديد، وكل فعل بشري يسجل صراعنا مع الطبيعة والواقع وتعبنا وكفاحنا عبر التاريخ؟ متى تكون الحقيقة حية أو ميتة، خصبة أو عقيمة؟ متى تكون نوعا من الخطأ لا يستطيع نوع معين من الأحياء أن يعيش بدونه، كما يقول نيتشه، وكيف يكون الخطأ - لا الإصرار عليه! - خطوة على الطريق إليها؟ إلى أي حد تتفق ماهيتها مع مفهوم الإغريق عن «الأليثيا» من أنها فعل الكشف الذي يخرجها من طوايا الخفاء والاحتجاب؟ أهي في النهاية قضية معرفة بما هو موجود والتعبير عنه بالحكم، مصداقا لعبارة أرسطو المشهورة من أن الحكم الصادق هو الذي يقول عن الموجود إنه موجود، وعن غير الموجود إنه غير موجود، أم تتصل إلى جانب ذلك بمجال الدين والوحي، والشعور والفن، والسلوك والأخلاق؟
أسئلة لا آخر لها، صحبت الإنسان منذ أن بدأ يعي ويعبر باللغة، وستبقى ما بقي العالم والإنسان، وضعت عنها مئات الكتب والبحوث، واختلفت حولها المذاهب والعقول والقلوب، وستظل مختلفة ما دامت تواجه الألغاز في الباطن والظاهر، والداخل والخارج. ولقد عشت معها في الفترة الأخيرة من حياتي، وحيرتني كما حيرت غيري، ثم دلتني رحلتي الطويلة مع «هيدجر» إلى اختيار درب واحد من متاهتها، والاكتفاء بخيط واحد من عقدتها المتشابكة، وعكفت على نقل النصوص الثلاثة التي تجدها بين يديك، ثم حاولت أن أقدم لها بمقدمة عن مشكلة الحقيقة، فوجدت أن الموضوع أضخم من كل المقدمات، وأن هناك من وفاه حقه في لغتنا العربية أو كاد، وأقصد به الدكتور فؤاد زكريا الذي خصص له رسالته في الدكتوراه (وإن لم يتكرم بنشرها بعد!) والذي يشرفني أن أهدي إليه هذا الكتاب، ثم فكرت في أن أمهد للكتاب بصفحات عن فلسفة هيدجر، وإذا بالتمهيد ينمو ويتسع على هذه الصورة التي أرجو أن تكون وافية بقدر الطاقة، وإذا به هو نفسه يحتاج إلى تمهيد أوجزه في هذه الملاحظات: (1)
لن تجد مثقفا في عالمنا الحديث لم يعرف شيئا قليلا أو كثيرا عن هيدجر، أو لم يقرأ له أو عنه في مجال تخصصه واهتمامه، أو لم يسمع باسمه في محاضرة تتناول شئون الفلسفة والتراث الفلسفي، أو تتطرق للحديث عن محنة العالم المعاصر ومظاهرها المخيفة من حروب وصراعات وتلوث بيئة ومشكلات تقنية وأخطار دمار شامل ... والواقع أن أهميته لا ترجع إلى كونه «فيلسوفا» بالمعنى التقليدي المفهوم عن هذه الكلمة، بل إلى أنه يمثل تحولا بارزا في الفكر المعاصر، ودعوة للإنسان إلى فكر جديد، ولهذا نلمس تأثيره على دراسة الفلسفة بمعناها الضيق، كما تتبينه على مختلف الميادين من شعر وفن ونقد أدبي، إلى علوم طبيعية ونفسية وطبية وإنسانية، كما يتجلى أيضا في موجة التحمس الشديد له أو تيار السخط البالغ عليه، وتنظر في ناحية فتبهرك حالة السحر التي تحيط به، أو يفاجئك سيل الشتائم الذي يقذفه بها خصومه، وبين الطرفين مئات البحوث والدراسات، التي تكتب عنه وتحاول أن تقيمه من هذا الجانب أو ذاك، ويتعذر عليك أن تتخذ موقفا موضوعيا منصفا لعل ساعته التاريخية لم تأت بعد، ولكنك ستعرف على كل حال أنه الحفيد الشرعي لبعض أجداده من أصحاب الطموح الرائع: كانط وهيجل ونيتشه، وأن هذا هو قدر كل فكر يريد به صاحبه أن يحدث تغييرا شاملا ويحول التيار التقليدي في اتجاه جديد، فإما أن ترفضه كله أو تقبله كله؛ لأنه ينطوي على محاولة جبارة لنسخ كل ما سبقه أو على الأقل لإعادة النظر فيه، وهو لهذا لا يمكن أن يخلو من الشطط والإسراف، وستجد نفسك - كما يقول المناطق - بين قرني الإحراج: فإما أن تتبنى وجهة النظر الجديدة فتجرفك وتستولي عليك بحيث يصبح كل ما سبقها في ذمة التاريخ، أو تحكم عليها من وجهة نظر ثابتة آمنت بها أو اعتدت عليها، فتبدو لك كل فلسفة هيدجر طلاء لفظيا ونقشا معقدا بغير جدار يستند إليه، أو مجرد محاولة للتعبير عن «اللامعقولية» بأسلوب معقول بل مضن للعقل! فإذا حاولت أن ترتفع فوق كلا الطرفين اللذين أضرا بهذه الفلسفة بدرجة متساوية، وجدت صعوبة في اكتشاف الجوانب الإيجابية التي سلمت من مبالغات الأصدقاء والأعداء، ولا يبقى لك إلا أن تدخل بنفسك عالم الفيلسوف لتحاول أن تجرب تجربته «من الداخل» قبل إصدار حكم نقدي مستقل عليها أو الانتهاء إلى حكم موضوعي أخير ربما يطول انتظارنا له، وربما يكون مستحيلا في حياة الفيلسوف نفسه! (2)
إذا كان من المعتاد أن نسأل: بمن تأثر الفيلسوف؟ فإن الجواب في حالتنا هذه عسير إلى أبعد حد؛ فالفيلسوف الأصيل، كالأديب الأصيل، يلتقط غذاءه الفكري من مختلف الموائد، فيسيغه ويحوله إلى دم يصعب أن نحلله لنقول: هذه الكرات الحمراء من فلان، وهذه البيضاء من علان! وقارئ هيدجر يراه يدخل في حوار مع أعلام التراث الفلسفي، ويذهل لعلمه الواسع بينابيعه القديمة والوسيطة والحديثة، ولكنه يلاحظ أيضا أن معظم حواره يدور مع فلاسفة وشعراء في مقدمتهم: هسرل، وماكس شيلر، ودلتاي وبرجسون وفلاسفة الحياة، الكانطيون الجدد، وكيركجور، وهلدرلين، ورلكه، وتراكل، وقبل هؤلاء ليبنتز، وكانط وهيجل ونيتشه، وأوغسطين ودونس سكوتس وتوماس الأكويني، وأرسطو وأفلاطون، ومن قبلهم جميعا المفكرون قبل سقراط، وخاصة أنكسمندروس وبارمنيدز وهيراقليطس! ومع ذلك يمكن القول بأن أكثر من أثر عليه هما: دلتاي، الذي أخذ عنه وجهة النظر «المباطنة» أو الكامنة التي لا تستعين بأي حقيقة مجاوزة للعالم، ومنهجه في تفسير الوجود الإنساني من داخله دون افتراض أي مبدأ عال، ونزعته التاريخية القائمة على التفهم والتجربة الحية، وكذلك كيركجور، الذي لا يميل كثيرا إلى الاعتراف بتأثيره عليه أو يقلل من شأنه على أقل تقدير! وقد أخذ عنه الجو الروحي والوجودي القاتم المعذب، والإحساس المفجع بالتوحد والغربة والقلق والهم والذنب.
ولا شك أيضا أنه تأثر إلى أقوى حد بتأملات أوغسطين عن الزمان وفكرته عن «اللحظة» بوجه خاص باعتبارها «توتر النفس» الذي فيه تستجمع الماضي وتتهيأ للمستقبل، كما أخذ عن أرسطو إثارة مشكلة الوجود بأسرها، وفسر كانط تفسيرا لا يرضي الكثيرين.
مهما يكن من شيء فليس من الإنصاف أن نجعل من فكر هيدجر بناء تلفيقيا نرد كل حجر فيه إلى أصحابه! ففيه إلى جانب التأثر الحتمي بالتراث مركب جديد فريد، وخاتمه الخاص يلون كل أجزائه بل كل عبارة فيه، ولا يزال هذا الفكر أشبه بجبل شامخ لم تطرق كل شعابه ومسالكه، أو كنز غني لم تفرض كل ثرواته، وفيه نقط انطلاق للبحث لم تمس خيوطها بعد، ومشكلات لم تجد الحل الأخير، ولعل السنين المقبلة أن تقدم النظرة الموضوعية الصالحة للحكم له أو عليه، بعد أن يتغير الزمان والجو الذي نعيش فيه ولا يعود هيدجر مجرد فيلسوف «أزمة» يتحدث للإنسان في «محنة الوجود»، عندئذ يمكن أن تخبو هالة السحر التي تشع من جبينه، كما تخفت أصوات لعنات السخط التي تتعالى حوله، عندئذ يوضع في ميزان العقل الصحيح! (3)
لا شك أن قارئ هيدجر يشعر بجو قاتم مفجع، ترفرف عليه أجنحة الموت والمأساة، ولكننا نخطئ لو أسأنا فهمه وتصورناه داعية اليأس والتشاؤم والعدمية واللامعقولية كما نعته الكثيرون؛ فتفكيره في محنة العصر لا يجعله نذير خراب، وحسه الجاد العميق لا يصبغه بسواد التشاؤم، صحيح أن فكرة العلو - أو الترانسندنس - تقوم عنده بدور هام، ولكنه علو مرتبط بطابع الإمكان الذي يعبر عن صميم ماهية الإنسان الذي لا يبلغ النهاية أو التمام أبدا، بل يحيا دائما حياة كائن «لم يكن بعد»؛ لأنه يسعى إلى تحقيق إمكاناته، ولا بد أن يعلو فوق وضعه الحاضر باستمرار.
Shafi da ba'a sani ba
هذا العلو قانون أساسي من قوانين وجوده المرتبط بالمستقبل على نحو ما سنرى بعد، ومع هذا فنحن نفتقد لديه العلو ذا «البعد الرأسي» إن صح هذا التعبير، الذي نجده عند أفلوطين أو عند فيلسوف معاصر مثل ياسبرز أو عند تلميذه - أقصد هيدجر - وهو فلفجانج شتروفه.
2
وأعتقد - إن لم أكن مخطئا - أن هذا «العلو الرأسي» الذي يتجه بالإنسان إلى الحقيقة العالية كان خليقا بأن يخفف من وطأة القتامة والجهامة والمأساوية التي تشيع في عالمه.
أضف إلى هذا أننا نظلمه من ناحيتين: إذا وصفناه بأنه ممثل الجناح «الملحد» من فلسفة الوجود، كما هي العادة في معظم ما يكتب عنه في العربية، وإذا دمغنا فلسفته بالإستاتيكية أو السكون والسلبية، كما يذهب أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي مثلا،
3
فهيدجر نفسه يرفض أن توصف فلسفته بالإلحاد، وينكر هذه الكلمة الفظيعة كل الإنكار، بل إنه ليصرح في بعض أحاديثه بأن فكره يهيئ «بعد القداسة» الذي يجب أن يسبق كل حديث عن الله أو عن الدين، والمتأمل لفلسفته لن يخطئ فيها تأثير الأفلاطونية الحديثة وأوغسطين والعصر الوسيط وباسكال وهامان وهيردر وكيركجور، وإذا كان قد حرص دائما على البعد عن الدين، فإنه لم يغلق باب الحوار بينه وبين رجال اللاهوت المسيحي - لا سيما البروستنتيين منهم - الذين أفادوا من كثير من جوانب فلسفته، ولو أمعنت النظر في فلسفة الوجود عنده وعند غيره للمست تأثير التصورات الدينية عليها بصورة لا يمكن أن تخطئها العين، ألا يذكرك وصفه الإنسان بأنه الموجود الذي يهتم بوجوده وكلامه عن الهم والقلق وحرصه على تحقيق الوجود الأصيل؛ بما تسعى إليه الأديان من الخلاص والنجاة؟ ألا تلمس في تحليلاته للذنب والضمير أصداء بعيدة من الخطيئة الأولى؟ صحيح أنها قد اجتثت من جذورها الدينية الأصلية ودخلت في سياق التفسير «المباطن» البعيد عن كل حقيقة عالية، ولكنها لا تزال مع ذلك تفوح برائحة العاطفة الدينية الحارة، وإن تكن عاطفة متدين عنيد! (4)
لا شك بأننا نميل بطبعنا إلى تصنيف الناس ووضعهم في «خانات»، وهذا يريحنا منهم إلى حد كبير! فإذا عرفت أن هذا الرجل «ماركسي» أو «وجودي» أو «تقدمي» أو «رجعي» أو «عدمي» أو «واقعي» أو «رومانتيكي» أمكنك بعد ذلك أن تحبسه في سجن محدد لا يخرج منه أبدا! هذا - كما تعلم - هو الاتجاه الغالب عندنا على صغار النقاد والكتاب الذين يملئون حياتنا صياحا وثرثرة وشوشرة، ويقذفون الناس بأحجار الشعارات والمصطلحات التي لم يحاولوا تمثلها والتساؤل عن أساسها ومصدرها وسياقها في تاريخ الأدب والفكر والحياة، ولن تعدم أيضا أمثال هؤلاء في الغرب، وإن كانوا بطبيعة الحال أكثر علما ووعيا وأشد بعدا عن التظاهر والضجيج والدجل، فكم من ناقد أو شارح اتهم هيدجر بالعدمية واللامعقولية، بل اتهمه بالرجعية وبتأييد الإمبريالية والرأسمالية، وحمله مسئولية أي حرب ذرية مقبلة ستحقق الموت والعدم الذي طالما تغنى به!
وقد تسأل - إن كنت من المغرمين بالتصنيفات - ألم يكن الأولى بهيدجر أن يطلق على بحثه في الوجود الإنساني اسم «الأنثروبولوجيا» بدلا من «الأنطولوجيا الأساسية»، ما دام يبدؤه في كتابه الأكبر «الوجود والزمان» من الإنسان، ولا يتجاوز دائرته «على الأقل في المرحلة الأولى من تفكيره»، وما دام يعرف الإنسان بأنه هو الموجود الذي يهتم بوجوده، أو بالأحرى بإمكان وجوده؟ ولكنك في هذه الحالة تنسى السؤال الأساسي الذي انطلق منه وهو السؤال عن معنى الوجود، وتنسى أن بحثه في الوجود الإنساني وبنيته وأحواله ومسلكه من العالم المحيط به لم يكن سوى معبر إلى ذلك السؤال، لم يكن الإنسان بما هو إنسان - كما هو الحال في الأنثروبولوجيا - هو موضوع هذا البحث، بل كان وسيلة للوصول إلى تصور واف عن الوجود؛ ولهذا كان سؤاله: هل هناك طريق يؤدي من تناهي الإنسان إلى الوجود؟ وظل موقف هيدجر من هذه المشكلة موقفا نظريا، على العكس من باسبرز الذي أكد أهمية الجانب العملي في الوصول إلى تحقيق الوجود الذاتي، بينما تركه هيدجر مسألة خاصة بالإنسان الفرد نفسه يحدده بنفسه في المواقف التي تواجهه.
وقد تسأل أيضا: إذا كانت فلسفة هيدجر قد تناولت عددا كبيرا من الظواهر والوقائع «اللامعقولة» التي لم تنتبه إليها الميتافيزيقا التقليدية، وعبر عنها كيركجور كما عبرت عنها فلسفة الحياة في صورة تتسم بالمفارقة التي ما لبثت أن رفضت بدعوى أنها غير علمية - إذا كانت قد تناولت هذه الوقائع وأضفت عليها الطابع الأنطولوجي والظاهراتي، فهل تكون فلسفته عقلانية أم لاعقلانية (صوفية)؟ والجواب على هذا أنه يشجب كلا الموقفين الأحاديين؛ فالعقلانية في رأيه «بلا قوة» والصوفية «بلا هدف»، ولهذا فمن التجني عليه أن تسمي فلسفته عقلانية أو لاعقلانية لأنها تنفذ إلى طبقات أعمق لا تعرف عنها هذه المواقف الأحادية شيئا؛ ولهذا أيضا نجد لديه هذه العبارة الجديرة بالالتفات: «إن النزعة اللاعقلانية - بوصفها الطرف المقابل للعقلانية - لا تتحدث إلا كحديث الأحول عما تعمى عنه النزعة العقلانية!».
4
Shafi da ba'a sani ba
ولن يمكنك أن تتابع تحليلاته للهم - أو للإنسان الذي يهتم بوجوده - حتى تتخلص من كثير جدا من التصنيفات المألوفة والمفاهيم التقليدية، ولعل هذا أن يكون من أسباب صعوبته وما يبدو لديه من تعسف للكلمات والنصوص ولي أعناقها! ومن لم يتعود على هذه الرؤية الجديدة فسيظل يتخبط في فلسفته كما يتخبط المكفوف بين الألوان التي تحاول عبثا أن تشرحها له! ولو قرأته بإمعان وصبر وبغير أفكار مسبقة، كما يتطلب المنهج الظاهراتي الدقيق، فلن تجد لديه عدمية ولا سلبية ولا قدرية، بل تصميما وسعيا متصلا إلى تحقيق الوجود الأصيل، إنه فيلسوف وجود قبل كل شيء، بعيد عن أي تقويم أخلاقي، وكل هدفه من تحليلاته الأنطولوجية الخالصة أن يصل إلى معنى الوجود العام أو يجد طريقا يوصل إليه، ولهذا لم يخطئ الذين سموه أرسطو العصر الحديث، ولا أخطأ الذين قالوا: إننا نتعلم منه شيئا لا نتعلمه إلا من كبار الفلاسفة منذ أفلاطون إلى كانط وهيجل؛ ذلك هو القدرة على التفلسف وطرح السؤال وإثارة الفكر. وهذا هو الذي يبقى مما يؤسسه الفلاسفة، إن جاز لنا أن نتصرف في عبارة هلدرلين عن الشعراء! والمهم بعد كل شيء أن نتعلم منه كيف نفكر، لا أن نتركه يفكر لنا، وأن نفكر معه وضده إذا اقتضى الأمر لا أن نفكر مثله، ونحن بالذات أحوج ما نكون إلى معرفة هذا. (5)
سيلاحظ القارئ أن هيدجر ينطلق في تحليلاته الأنطولوجية للوجود الإنساني من الحياة اليومية أو «الموقف الطبيعي» الذي نحياه جميعا، مبتعدا بذلك كل البعد عن المنطلق العقلاني-الديكارتي من الوعي أو الفكر أو المعرفة أو العقل، وهذه التحليلات للوجود - في العالم والوجود - بالقرب من الأشياء والمعية والأداتية ... إلخ؛ تعد من أثمن ما قدمه هيدجر للحياة الفلسفية، ولكننا سنلاحظ مع ذلك أنه يسرف في الكلام عن ألوان «السقوط » في هذه الحياة اليومية المبتذلة، و«الضياع» وسط «الناس»، إلى جانب عدم التزام الدقة في تحديد الكلمات اليومية الغامضة تحديدا منطقيا محكما.
هل معنى هذا أنه خرج عن تحليلاته الوجودية الخالصة؟ وهل أصدر أحكاما تقويمية على «الناس» على العكس مما صرح به دائما من أن بحوثه الأنطولوجية لا علاقة لها بأي نوع من التقييم أو التقويم؟ ربما وجدت أنني تجاوزت هذه التحليلات إلى شيء من التقويم الذي أعترف أنني اندفعت إليه تحت تأثير الظروف العامة أو الخاصة التي أعيش فيها، وربما يكون هذا تعبيرا عن سعيي إلى «الوجود الأصيل» وإيماني بأن مهمة الفلسفة الكبرى والفكر بوجه عام أن تهدينا إليه، لا شك أنني تخطيت الحد الذي وضعه هيدجر، ولكن ألم يتجاوزه هو نفسه بتحليلاته لهذا السقوط؟ أيمكن أن يفصل الوجود عن القيمة، والأنطولوجيا عن الأخلاق؟ إن السؤال ما يزال مطروحا على كل حال، ويؤيد ظني ما نجده في كتابات هيدجر المتأخرة من هجوم عنيف على الحس السليم وإصرار على أن التفلسف لا يبدأ إلا بالتخلص منه وإعلان الحرب عليه! (6)
يوشك هيدجر أن يكرر كلمة «الوجود» في كل سطر يكتبه! ولهذا لا بد أن نحاول إلقاء الضوء على هذه الكلمة، ويمكن أن نلاحظ بوجه عام أنه يستخدم الكلمة بمعناها الكلي الأفلاطوني؛ أي بمعنى وجود الموجود دون معناها عند أرسطو وهو الموجود بما هو موجود، والواقع أنه يمضي في الكلام عن الوجود دون تحديد منطقي له؛ إذ إن الكلام عن الوجود بهذا الأسلوب الأفلاطوني على أنه موضوع يفترض وجودا سابقا عليه؛ هو وجود الوجود وهكذا إلى ما لا نهاية كما بين فرانز يرنتانو بحق، أضف إلى هذا أنه لا يميز بين المعاني المختلفة التي تستخدم كلمة «يوجد» أو «يكون» في عباراتنا اليومية، فهي أحيانا تكون رابطة كما في قولنا مثلا: «السماء «تكون» زرقاء»، وأحيانا تشير إلى العضوية في فئة معينة كأن نقول مثلا: «طه حسين أديب» أو «الأسد حيوان صحراوي» إلى غير ذلك من الاستخدامات التي يرمز لها المنطق الرياضي بعلاقات الهوية والتضمن والعضوية في الفئة إلى جانب استخدام الكينونة من ناحية الجهة كالإمكان والضرورة ... إلخ، وغير ذلك من الحالات التي لم يعن هيدجر بتمييزها بوضوح قبل الشروع في بحوثه الأنطولوجية.
هذا إلى استخدامه لكلمة العدم، خصوصا في محاضرته عن الميتافيزيقا ، وكأن العدم موضوع أو اسم، على الرغم مما ينطوي عليه هذا من مشكلات منطقية عديدة تنجم عن استعمال اللغة اليومية الغامضة ونحوها غير الدقيق، أو عن استخدام نفس الكلمة بمعنى واحد في المجالين العلمي والعادي معا دون تمييز، أو إضفاء شحنات عاطفية على كلمات لا تحتملها أو بمعنى مختلف تمام الاختلاف عن معناها المألوف في التراث، في الوقت الذي كان من الممكن أن ينحت لها كلمة جديدة ... إلخ.
5
ولو نظرنا من الناحية التاريخية لرأينا أن وجود الإنسان الذي يقصده هيدجر؛ بعيد عن تصور فلسفة الحياة له أو تصور الشخصانية «عند شيلر مثلا» أو المثالية الهيجلية، فليس هذا الوجود منبعا خلاقا للحياة ولا روحا مطلقا، ولا حياة شاملة أو عقلا كونيا يمكن أن يحتضن الإنسان ويطويه ويؤمنه من الخطر؛ ذلك لأن الوجود الذي يقصده هيدجر هو من ناحية «إمكان» على الإنسان أن يحققه بالتصميم والتجمع، أو يخطئه بالتراخي والنسيان والضياع وسط الناس، وهو من ناحية أخرى شيء بسيط، غير محدد وفارغ من كل مضمون، وعلى الإنسان دائما أن يقفز القفزة التي تنقله من الوجود غير الأصيل - الذي يحيا فيه معظم حياته من مولده إلى مماته - إلى الوجود الأصيل، والشيء الذي يحتاجه للقيام بهذه القفزة لا يتصل بالقيم السلوكية ولا بتصعيد القوة الحيوية، كما عند نيتشه؛ إذ هو في صميمه تحول كامل يؤدي بالذات إلى انتشال نفسها من السقوط في ابتذال الحياة اليومية والضياع بين الناس. (7)
ما هو الوجود؟ كيف نعرفه؟ ولكن السؤال خاطئ، فقد تعودنا على تصور أن الموجود هو وحده «الواقعي»، وأن ما لا نتثبت من وجوده فهو غير واقعي، غير أن الوجود ليس هو الموجود (وهذا هو الاختلاف أو الفارق الأنطولوجي الأساسي بينهما)، وهو كذلك ليس «موضوعا»، ولا يمكن تصوره كما نتصور الموضوع (لهذا استطاع هيدجر في محاضرته الشهيرة «ما الميتافيزيقا؟» أن يتكلم عن العدم دون أن يخطر بباله أن يدعو للعدمية كما تصور الكثيرون ممن أساءوا فهمه؛ لأنه أراد به ما يعد غير موجود إذا نظرنا إليه من وجهة نظر الموجودات، وإن كان هو الذي يؤدي بنا إلى «الآخر» بالقياس إلى كل موجود، ونقصد به الوجود نفسه).
ونعود فنسأل: كيف يمكننا التفكير في هذا الوجود؟ كيف يمكن تصوره؟
إن مشكلة الوجود قائمة وستظل قائمة، والمهم عند هيدجر هو التفكير فيها. وهذا هو الذي وضعه نصب عينيه منذ أن بدأ تفلسفه، وكان من الطبيعي أن تحتل مشكلة الميتافيزيقا النصيب الأوفى من اهتمامه؛ فقد كانت مشكلة الوجود هي الشغل الشاغل للميتافيزيقا؛ لأنها بحسب تعريفها تتجاوز الموجود بالفكر، أي إلى ما يجعل الموجود موجودا، وقد تحقق هذا في فلسفة أرسطو بصورة ملزمة لمن جاءوا بعده، فقد سئل عن الموجود من حيث هو موجود، وكانت إجابته هي الموجود الأسمى أو الله، ولهذا بين هيدجر الطابع الأنطولوجي-اللاهوتي لفلسفة أرسطو بكل وضوح، وهو طابع يميز أسلوب الميتافيزيقا كلها التي ظلت تبحث عن الوجود بينما هي تعني به الموجود، وهيدجر يريد لهذا السبب أن يعلو فوق الميتافيزيقا أو «يقهرها» ويتخطاها بحيث لا نعود نفكر تفكيرا ميتافيزيقيا، ولكن هل يريد أن يعلو فوقها على نحو ما أراد «فشته» مثلا أن يتجاوز الإشكال الكانطي بتجاوز ما ذهب إليه من عدم إمكان معرفة الشيء في ذاته؟ ليس هذا هو ما يريده، وهو لا يضع موجودا أسمى مكان آخر، وإنما يريد أن يحدث تحولا في التفكير، هذا التحول عسير؛ لأن من الصعب التعبير عنه بلغة الميتافيزيقا؛ ولهذا نجده يضع مشروعا لم يختره اتفاقا، وإنما وجده في بداية الفكر الغربي قبل نشأة الميتافيزيقا على يدي أفلاطون وأرسطو، ومن هنا كانت عنايته بالمفكرين قبل سقراط، هؤلاء الذين علمونا - في رأيه - كيف ننصت لصوت الوجود وننتبه إلى ندائه. وحبه لهيراقليطس، كما تعبر عنه إحدى الدراسات المنشورة مع النصوص، شاهد على هذا، أهي عودة إلى القديم وإنكار للتطور الذي تم في تاريخ الفلسفة؟ هذه هي التهمة التي لا يفتأ نقاده يوجهونها إليه، ولكنها في الواقع أبعد ما تكون عن باله، فهو لا يرجع للقديم لقدمه ولا يحاول بعث نصوصه وإحياء دراسته، وإنما يريد الوقوف على التجربة التي حركت هؤلاء المفكرين الأوائل، والعودة على نبع الاندهاش الذي جعلهم يسألون لأول مرة، كما جعل سؤالهم يشع ببريق أطفأه التفكير المنطقي اللاحق، صحيح أن بريق هذا السؤال قد خبا مع الزمن، والمدهش ما عاد يثير فينا الدهشة، ولكن هذا حدث تاريخي أو قدري كامن في تاريخ الميتافيزيقا نفسها، أي في تاريخ الفكر الغربي، وعلينا ألا نقبله أو نسلم به، بل علينا أن نحاول بعث التساؤل الأصلي عن معنى الوجود الذي يفيض نوره على الموجودات، ولولاه ما أمكن أن تظهر نفسها ولا أن تراها عيوننا، ولا يخطرن ببالنا أن تخلي هيدجر عن الإطار التقليدي يعني أنه يستخف بها أو يلغيها وينكرها، وكيف له أن يفعل هذا وهي قدره وقدر الإنسان الغربي والإنسان الشرقي والعربي الذي شارك فيها وأضاف إليها وارتبط بها؟ إنه لم ينقطع عن الحوار مع هذه الميتافيزيقا، وإن حاول دائما أن يتجاوزها و«يقهرها»، وهو مقيد بتراثها ولغتها، وإن حاول أن يغادر أرضها ويتحرر من لغتها، ويكفي أن نطلع على تفسيراته العديدة لأعلام التراث الغربي من أنكسمندر وهيراقليطس وبارمنيدز وأفلاطون وأرسطو إلى ديكارت وليبنتز وكانط وهيجل وشيلنج حتى نيتشه الذي اعتبره نهاية الميتافيزيقا وطرف قوسها الذي امتد من أفلاطون إليه! وإذا كان هناك من نقد يوجه إلى هذه التفسيرات فهو أنها تفرض على هؤلاء الأعلام جوا وجوديا وشعورا بالحياة غريبا عليهم، فتفسير كانط مثلا ابتداء من فكرة التناهي تفسير هيدجري بحت؛ لأن كانط - وهو فيلسوف التنوير بأسمى وأجمل معاني هذه الكلمة - يقصد نهائية المعرفة البشرية وضرورة التزام العقل حدا يقف عنده. أما التناهي عند هيدجر فهو هاوية يتجمع فيها القلق والذنب والسقوط وإحساس الإنسان بموته المحتوم، وما أبعد الفرق بين النهايتين! وأما عن تفسيره للحقيقة (أو الأليثيا) عند الفلاسفة قبل سقراط بأنها الإنارة أو الكشف، فلا شك أنه تفسير فرضت عليه أفكار أفلاطونية محدثة جاءت متأخرة عن هؤلاء الفلاسفة، أو بالأحرى هؤلاء المفكرين في الوجود، ربما قلت: إن كل تفسير لا يخلو بالضرورة من جانب ذاتي أو تعسفي، وهذا أمر بشري لا حيلة لنا فيه، هذا صحيح، غير أن المسألة في النهاية مسألة تقدير وميزان، فتفسيرات هيدجر ترجح فيها كفته دائما، بحيث يوشك تاريخ الفلسفة أن يصبح مرآة تنعكس عليها صورة شخص واحد هو هيدجر نفسه! أليس من الغريب أن يظلم التاريخ على يد فلسفة تشيد بالتاريخية؟ (8)
Shafi da ba'a sani ba
ونأتي إلى صعوبة هيدجر التي يئن منها الجميع في كل مكان! وهي مرتبطة إلى حد كبير بمشكلة اللغة التي يعبر بها عن فكرة الوجود، وهو متهم بأن لغته عصية على الفهم، وأن أسلوبه عجيب غير مألوف حتى لأبناء لغته، وأنه ينحت «جهازا» من المصطلحات التي لا تعرفها اللغة الفلسفية ولا تعرفها لغته نفسها، ويغوص إلى اشتقاقات منسية أو مشكوك في أمرها ليستمد منها دعائم فلسفته.
كل هذا أمر معروف يكاد أن يرتبط باسمه، بحيث أصبحت بعض تعبيراته مثار التندر والسخرية! ولن أحاول أن أعتذر عن الرجل، فلغته عسيرة ومعقدة حقا، وأسلوبه أسلوب شاعر ركيك إلى أقصى حد، وهو نفسه يعترف بغرابة لغته في مواضع كثيرة من كتاباته (وكأنه يذكرنا أيضا بتحسر كانط على أسلوبه المرهق إذا قورن بأسلوب هيوم المطبوع!) ولكن جانبا كبيرا من هذه الصعوبة اللغوية يمكن التغلب عليه إذا عرفنا مفاتيح فكره - أو بالأحرى مفتاحه الوحيد! - وتعودنا على مصطلحاته الجديدة. والواقع أن صعوبته الكبرى لن يحسها إلا من يحاولون ترجمته إلى لغة أخرى؛ فبعض كتاباته تستحيل تمام الاستحالة على المترجم، اللهم إلا إذا فسر كل جملة بحاشية أكبر منها! وكل من يقرأ ترجمة بعض أعماله الصغيرة في الإنجليزية أو الفرنسية لا بد أن يقدر مدى الجهد الذي تكبده المترجم ليفكر معه أولا قبل أن يكتشف الكلمة المناسبة أو يبتكرها في لغته! ومع ذلك فلا بد أن يصطدم حتما ببعض الكلمات والمصطلحات التي يقف أمامها حائرا؛ لأن الفكرة نفسها مرتبطة بها أو مستمدة منها، وهنا لا يجد مناصا من تركها على ما هي عليه وأمره وأمر قرائه إلى الله!
بيد أن هذه المصاعب كلها يجب ألا تثنينا عن قراءة هذا الفيلسوف والتفكير معه، فنحن لا نستطيع أن نتجاهل أثره الضخم على الفكر المعاصر في شتى مجالاته، ولا تعمقه الجاد ل «زمن المحنة»، كما يقول عنوان أحد الكتب الهامة التي صدرت عنه لكارل لوفيت:
6
ولعل صعوبته أن تكون راجعة إلى صعوبة «الموضوع» الذي يحاول الاقتراب منه، وهو كما علمنا ليس موضوعا، ولا يمكن أن يكون موضوعيا! وأحسب أننا يجب أن نصدق ما يقوله من أنه لا يملك اللغة التي تسعفه في التعبير عن الوجود، بل إنه ليفتقد «النحو» أيضا! وليس هذا مجرد اعتذار عن فقره في موهبة الكتابة، فهو يتعمق التراث الفلسفي كي يكشف عن «أساسه» الذي أهمل ونسي، ويبين قصور هذا التراث وضرورة تحديه وتجاوزه. ولا عجب إذن أن يترك لغة هذا التراث ويتحرر منها خطوة خطوة، وإن ظل بطبيعة الحال مقيدا بها، مضطرا إلى الحوار معها والهجوم عليها بأسلحتها في نفس الوقت الذي يكون فيه لغته الجديدة، يكفي دليلا على هذا أن تراجع مقدمة الكتاب لترى كيف تخلى عن مشكلة الذات والموضوع، وكيف بدأ بفكرته عن «الموجود الإنساني» أو «الدازاين» أو «الموجود-هناك» مرحلة جديدة في فهم الإنسان، وكيف أسقط مشكلة العالم الخارجي بضربة واحدة؛ إذ إن الموجود الإنساني بطبيعته موجود في العالم! وكيف أعاد النظر في مفاهيم عديدة كالأنطولوجيا والترانسندنس (العلو) والحقيقة ... إلخ؟ وكيف لم يتوقف منذ صدور كتابه الأساسي «الوجود والزمان» سنة 1927م عن البحث والسعي «على الطريق» سعيا لا يهدأ ولا تخبو ناره؟ ومثل هذا البحث والسعي المتصل لا بد أن يضايق الشارح الذي يريد أن يثبته على رأي أو موقف يريحه! (9)
ربما زال جانب كبير من صعوبة هذا الفيلسوف لو حاولنا أن نفهم تفكيره ونحققه «من الداخل» ولم نحاول أن نثبته على مسامير الشعارات الجاهزة والقضايا المحددة المريحة التي تملأ كتب تاريخ الفلسفة والأدب (حتى لتبدو لي في بعض الأحيان أشبه بمحلات العاديات والتحف التي تثبت رءوس الحيوانات وجلودها على الحائط!) عندئذ يمكن أن نجد في قراءته متعة لا تقل عن المتعة التي نحسها في صحبة كبار الفلاسفة، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنها تفوقها في كثير من الأحيان، وما أسهل النقد - أو النقض! - على من ينظر إلى مثل هذا المفكر من الخارج أو يحاول الاقتراب من عالمه بمفاهيم ثابتة تعود عليها، فلنجرب هذا التعاطف واللقاء مع هيدجر ومع غيره من المفكرين والأدباء، ثم ننتقده بعد ذلك كما نشاء على أساس صحيح. وليس معنى التعاطف واللقاء أن نسبح في بحره ونرتدي زيه ونتخذ موقفه وننظر بعينيه، فهذا تكرار شاحب لا يليق إلا بالببغاوات، بل معناه أن نتابعه على الطريق الشاق، ونحقق حركته الفكرية في تطورها وصيرورتها قبل إصدار الحكم عليها، هذا هو موقفي الذي لا أحيد عنه، أما المتعجلون والمتزمتون فهم وما يشاءون!
ولا شك أننا أحرار بعد ذلك في الحكم عليه كما نشاء، وشتان ما بين بعد وقبل! فهنا يمكن أن نكون منصفين، وأن نتكلم عن علم ووعي لا عن شهوة إلى الكلام، وأن ندخل طرفا في الحوار، بعد أن هيأنا أنفسنا له، ولهذا فإن هذا الكتاب لا يطمع إلا في أن يكون تمهيدا متواضعا لتفكير هيدجر، مجرد محاولة أرجو أن تغريك بقراءته «وتجر رجلك» إلى بحار نصوصه! (10)
أخيرا، فإن هذا «التمهيد» يتمنى أن يضيف لبنة واحدة إلى البناء الفلسفي الذي يرتفع بالجهد والإخلاص في بلادنا العربية، وهو لهذا يحب أن يسجل دينه وعرفانه للجهود الطيبة التي سبقته وعبدت له الطريق، ويود أن يشيد بالدراسات القيمة التي ظهرت عن هيدجر، وفي مقدمتها دراسات أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي «الزمان الوجودي، والإنسانية والوجودية في الفكر العربي، ودراسات وجودية»، وأستاذنا الدكتور عثمان أمين في كتابه «في الفلسفة والشعر»، والأساتذة الدكاترة: زكريا إبراهيم «الفلسفة الوجودية، ودراسات في الفلسفة المعاصرة، فلسفة الفن في الفكر المعاصر »، ويحيى هويدي «دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة»، ومحمود رجب في رسالته التي لم تظهر بعد عن «المنهج الظاهرياتي عند هرسل»، وترجمته لمحاضرة هيدجر «ما الفلسفة؟»، وفؤاد كامل في ترجمته لمحاضرتيه «ما الميتافيزيقا؟» و«هلدرلين وماهية الشعر» وترجمته القيمة لكتاب ريجيس جوليفيه عن «المذاهب الوجودية من كيركجورد إلى سارتر».
أما عن مشكلة الحقيقة فأود أن أنوه بفضل البحث الذي أصدره الدكتور نظمي لوقا عن الحقيقة، وبرسالة الدكتور فؤاد زكريا عن مشكلة الحقيقة التي أعارني ترجمته الإنجليزية لها (إذ لم يكن الأصل العربي بين يديه!) وكانت خير عون لي طوال الفترة التي شغلت فيها بإعداد هذا الكتاب.
وأود أخيرا أن أسجل عرفاني بالترجمة الفرنسية ل «ماهية الحقيقة»، وهي الترجمة التي قام بها الأستاذان فالتر بيميل وألفونس دي فيلنس، وساعدتني أكبر مساعدة على استجلاء الكثير من غوامض النص الأصلي، أما الكتاب الذي صحبني في رحلتي المضنية مع نصوص هيدجر المختلفة ابتداء من «الوجود والزمان»، ودلني على الطريق في دروبه «المسدودة»، فهو كتاب الأستاذ فالتر بيميل الذي ظهر عن هيدجر في سلسلة «روفولت» المعروفة، وتفضلت الآنسة فاطمة مسعود بإرساله إلي، والحق أن فضل هذا الكتاب علي أكبر من كل شكر ومن كل تعبير.
Shafi da ba'a sani ba
القاهرة في 1975م
طريق الفكر
«ولد أرسطو، تعب، ومات.»
هكذا بدأ هيدجر محاضراته التي كرسها لتفسير نص من نصوص المعلم الأول في كتاب الطبيعة (ولعلها أن تكون هي المحاضرة التي نشرها فيما بعد عن ماهية «الفيزيس» وتصورها)، هي عبارة شديدة البساطة بالغة الدلالة على طريقته في التفكير والحياة، ولا شك أنها خيبت آمال القراء الذين يتوقعون عادة من أمثال هذه المحاضرات أن تبدأ بمعلومات عن حياة الفيلسوف وتجاربه مع العصر والناس، ولكن ها هو ذا الأستاذ يصدمهم ويقدم لهم الرد الحاسم: إن حياة الفيلسوف هي فكره، وتجربته على طريق الحياة هي تجربته على طريق الفكر.
ولا شك عندي أن العبارة نفسها تصدق على هيدجر؛ فالفكر والحياة عنده شيء واحد، والإشكال الذي دفعه للسؤال عن الوجود والحقيقة هو نفس الإشكال الذي ملأ عليه حياته، وصحبه خطوة خطوة على الطريق؛ ولهذا فإن دراسة هذه الخطوات التي قطعها في صبر ومشقة هي سبيلنا الأوحد إلى التعرف على تجربته مع الفكر والحياة.
أما الذين يعنون بالأمور الشخصية فلن أخيب أملهم تماما، وسيجدون في آخر الكتاب لوحة موجزة تضم معالم حياته، يكفي الآن أن أقول لمن يهمهم الأمر أنه ولد سنة 1889م في بلدة مسكيرش بجنوب ألمانيا، وأنه تزوج سنة 1917م وأنجب ولدين هما يورج وهيرمان، ودعي للتدريس بجامعة ماربورج فقضى فيها أخصب سنوات عمره بين 1923م و1928م،
1
وتوطدت أواصر الصداقة بينه وبين باول ناتورب - أحد أعلام الكانطية الجديدة - الذي كان وراء دعوته لهذه الجامعة، ثم شغل كرسي هسرل بجامعة فرايبورج في هذه السنة الأخيرة، بعد الزلة السياسية الكبرى التي وقع فيها ضحية انخداعه بالنازية، ولكنه لم يلبث أن تبين خطأه الرهيب، فتنازل عن منصبه في العام التالي مباشرة، وجاهد طوال عمره - في صمت وعن قصد أو غير قصد - للتكفير عن هذه السقطة - التي لم يغفرها له كثير من المفكرين الفرنسيين ومن المفكرين من أصل يهودي بوجه خاص - ونسيان هذه الغلطة التي شبهها بعض الباحثين بغلطة أفلاطون عندما أحسن الظن بديونيزيوس حاكم سيراقوزه وابنه، وأوشك أن يدفع حياته ثلاث مرات ثمنا لحماسته وعاطفته الملتهبة التي صورت له إمكان تحقيق دولته المثالية على أرض سيراقوزه (سراقسطة)!
وحرمته قوات الاحتلال من التدريس ست سنوات امتدت من سنة 1945م حتى 1951م، وقام بعدة أسفار إلى بلاد مختلفة لإلقاء المحاضرات أو الاشتراك في الندوات والمؤتمرات، وما يزال يعيش في بيته الهادئ بمدينة فرايبورج أو في كوخه الريفي في توتناوبرج بين أحضان الغابة السوداء التي أحبها واستلمهما كثيرا من تأملاته وخواطره.
2
Shafi da ba'a sani ba
حياة خالية من الأحداث الخارقة، وتجربة الفكر نفسه مع صراعه مع الوجود والحقيقة هي الحدث الوحيد الذي يتخللها ويحدد ملامحها ويوضح تأثيرها، بل ثورتها، التي غيرت خريطة التفكير الفلسفي في القرن العشرين، ومحاولاتها الدائبة لاستكشاف التراث الغربي والحوار المستمر معه والإنصات من جديد لنداء الوجود الذي انبعث من نصوص فلاسفة الإغريق وغيرهم من الفلاسفة والشعراء المحدثين، ولا يزال يهيب بنا - في زمن المحنة الذي نعيش فيه - أن ننتبه إليه ولا ننساه.
حياة وهبها صاحبها للعمل وحده، فكان العمل هو الحياة، ولعلها أن تكون شبيهة من بعض الوجوه بحياة مواطنه العظيم كانط؛ ملل ورتابة لا حد لهما من الخارج، وثورة لا حد لها من الداخل، وسواء تلمسنا خيوطها الأولى في أول كتاب أهدي إليه وهو طالب صغير فكان أول ما شد انتباهه لمسألة الوجود (ونقصد به كتاب الفيلسوف النمسوي فرانز برنتانو عن المعنى المتعدد للوجود عند أرسطو) أو في كتاب هسرل «البحوث المنطقية» الذي ظل يقرؤه ويقرؤه سنوات طويلة قبل أن يتعرف على صاحبه ويعمل معه ويلمح فيه بصيص النور، أو في رسالته الجامعية الثانية عن «نظرية المقولات والمعنى عند دونس سكوتس»، أو في محاولاته المبكرة لتفسير نصوص الفلاسفة اليونان، وبخاصة أفلاطون وأرسطو وهيراقليطس، واكتشافهم من خلال القراءة المتأنية لما بين السطور، والاستماع لما لم يقولوه من ثنايا أقوالهم، والاقتراب منهم بغير أفكار أو معلومات مسبقة شأن كل منهج «ظاهرياتي» أصيل، وسواء تتبعنا هذه الخيوط التي يتألف منها نسيج فكره في كتابه الأكبر «الوجود والزمان» الذي يعد من أهم الأعمال الفلسفية التي ظهرت في هذا العصر، فبدأت عصرا جديدا، أو بلغنا آخر كتاب صدر له فيما نعلم عن «موضوع الفكر 1969م»؛
3
لو فعلنا هذا لوضعنا أنفسنا في هذا النهر الذي لم تهدأ حركته ولا انقطع تدفقه ولا مال عن وجهته، ولشعرنا بالإشكال الوحيد الذي التزمه وسار بأقصى طاقته وجهده «على الطريق» إليه دون أن يعبأ بالصعاب أو يكترث بالنتائج، فكل همه أن يبقى على الطريق، ويصمد للسؤال ويشركنا فيه، وهل نحن في النهاية إلا السائل والمسئول؟
لتكن الصفحات التالية تمهيدا لهذا الفكر، مصباحا صغيرا يهدي إلى هذا الطريق، أما السير على الطريق نفسه فهي مسئولية يتحملها القارئ وحده، ولا بد أن يترك له أمر الحوار مع كل عمل من أعمال هذا المفكر على حدة.
خير ما نفعله إذن هو أن نتابع هيدجر على طريقه لكي نقدر بعد ذلك مدى أصالة فكره وتأثيره على الحياة الفلسفية والعلمية المعاصرة، ومن حسن الحظ أن الفيلسوف نفسه سيوفر علينا مشقة هذه الرحلة، فقد نشر في سنة 1963م مقالا عنوانه «طريقي إلى الظاهريات» «الفينومينولوجيا» ضمنه بعد ذلك كتابه «حول موضوع الفكر».
بدأت دراسته الجامعية في الفصل الدراسي الشتوي بين سنتي 1909م و1910م في كلية اللاهوت من جامعة فرايبورج، وأتاحت له دراسة اللاهوت من الوقت والفراغ ما يسمح له بإشباع نهمه إلى الفلسفة التي كانت تشغل حيزا محدودا من تلك الدراسة، وكان من نصيب كتاب هسرل «بحوث منطقية» أن يجد نفسه كالغريب الوحيد بين المجلدات اللاهوتية المكدسة على مكتبه في المعهد الديني الذي كان يعيش فيه! كان الطالب الشاب قد تعرف من بعض المجلات الفلسفية على أثر فرانز برنتانو على أسلوب هسرل ومنهجه في هذا التفكير؛ ولهذا بدأت محاولاته المتعثرة في فك طلاسم الفلسفة بقراءة رسالة هذا الفيلسوف النمسوي عن «المعنى المتعدد للموجود عند أرسطو» (1862م)، وأوحت إليه الرسالة بهذا السؤال الذي ظل يلح عليه منذ 1907م: إذا كانت للموجود معان عديدة، فأيها هو المعنى الأساسي؟ ما معنى الموجود؟ أهناك فارق بينه وبين الوجود؟ وشاءت له الصدفة وهو في نهاية المرحلة الثانوية أن يطلع على كتاب «عن الوجود» ألفه «كارل بريج» الذي كان أستاذا للعقائد أو علم الأصول بنفس الجامعة «فرايبورج»، كان الكتاب قد ظهر سنة 1896م، ومن حسن حظ الطالب الصغير أن وجد في نهايته نصوصا عديدة اختارها المؤلف من كتابات أرسطو وتوماس الأكويني واللاهوتي اليسوعي الإسباني سواريز (1548-1617م)، إلى جانب المصطلحات والتصورات الأساسية في الأنطولوجيا (علم الوجود بما هو موجود).
وبدأت محاولات هيدجر لاستيعاب «البحوث المنطقية» والتماس الجواب عن المسائل التي أثارتها في نفسه رسالة برنتانو السابقة، غير أن هذه المحاولات ضاعت سدى؛ إذ اكتشف بعد ذلك أنها تنكبت السبيل الصحيح، وبقي الكتاب صامتا لا يبوح بسره، وإن ظل يأسره بجماله وسحره، ثم تخلى عن دراسة اللاهوت بعد أربعة فصول دراسية، واختار أن يقف جهده ووقته على الفلسفة، وإن لم يمنعه هذا من مواصلة الاستماع إلى محاضرات «بريج» الذي أيقظ فيه الاهتمام باللاهوت التأملي وشد انتباهه بأسلوبه الحي في التعليم، وكان المعلم سمحا كريما، فأذن له أن يصحبه في نزهاته، وسمع منه لأول مرة في حياته عن تأثير شيلنج وهيجل على اللاهوت التأملي تأثيرا يفوق مذاهب المدرسيين في العصر الوسيط ، وهكذا أتيح لهيدجر - كما سيقول فيما بعد - أن يستوحي اللاهوت كثيرا من أفكاره، وبدا له في هذه المرحلة من حياته أن هيكل الميتافيزيقا يقوم على التوتر بين الأنطولوجيا واللاهوت (الذي ظل موجع القلب لتخليه عن دراسته).
غير أن مشاغله اللاهوتية سرعان ما توارت في الظل أمام المحاضرات التي كان يلقيها بالجامعة أحد أعلام المدرسة الكانطية الجديدة في منطقة بادن جنوبي ألمانيا، وهو هينريش ريكرت (1863-1936م)، كانت مهمة الفلسفة في نظر الأستاذ الجليل هي البحث عن مملكة القيم الموضوعية الخالدة، وإبراز أشكال المعنى أو النماذج المعنوية التي تنبني عليها الحضارة، وتؤلف مملكة وسطى بين عالم الواقع وعالم القيمة، وبيان الفروق الدقيقة بين علوم الحضارة وعلوم الطبيعة، وكان لهذا الأستاذ من الوفاء وطيبة القلب ما جعله يخصص بعض تمريناته العملية لدراسة فلسفة تلميذه إميل لاسك (1875-1915م) الذي سقط في الحرب العالمية الأولى، وترك وراءه كتابين هما «منطق الفلسفة ونظريات المقولات» دراسة عن «مجال سيطرة الشكل المنطقي» (1911م)، و«نظرية الحكم» (1912م)، وكلاهما يعبر عن جهوده في إعادة تأسيس الميتافيزيقا على نظريته عن «مقولات المقولات»، كما يشهد بتأثره الواضح ببحوث هسرل المنطقية التي ظلت موصدة الأبواب في وجه هيدجر! ودفعه هذا إلى معاودة النظر في البحوث المنطقية، ولبث السؤال الأساسي يؤرقه: ما هو المنهج الفكري الذي يسمي نفسه بالظاهريات (الفنومينولوجيا)؟ كان الجزء الأول من البحوث المنطقية قد ظهر في سنة 1901م، وهو - كما يعلم القارئ - يدور حول دحض النزعة النفسية في المنطق على أساس أن نظرية التفكير والمعرفة لا يمكن أن تقوم على علم النفس، وإلا انتهت إلى الشك والنسبية. أما الجزء الثاني الذي ظهر في العام التالي فهو يتناول الوصف الخالص لأفعال الوعي التي ينهض عليها بناء المعرفة، وقال هيدجر لنفسه: إنها النزعة النفسية مرة أخرى! ولو كان الأمر غير ذلك، فما الذي يدعو هسرل لوصف أفعال الوعي والحديث عن تحديد أستاذه برنتانو للفروق المختلفة بين الظواهر النفسية؟ ثم ما هذا الوصف الظاهرياتي لأفعال الوعي والشعور؟ ما الذي يميز الظاهريات، إن لم تكن منطقا ولا علم نفس ؟ أهي حقا نسق فكري جديد ومنهج يستحق التقدير والاهتمام؟ وكيف السبيل إلى تحقيق هذا المنهج؟
راحت دوامة الأسئلة تدور في فراغ لا مخرج منه، بل لم يكن في استطاعته في تلك السن المبكرة أن يصوغها بمثل هذا الوضوح، وجاءت سنة 1913م فأنقذته من التمزق؛ فقد بدأ هسرل في إصدار حولية الفلسفة والبحث الظاهرياتي، وكان أول عدد منها يضم كتابه الذي حدد ملامح فلسفته وبين طموحها وشمول منهجها، ونقصد به كتابه «أفكار (لتأسيس) ظاهريات خالصة وفلسفة ظاهرياتية».
Shafi da ba'a sani ba
أهو اتجاه جديد في الفلسفة الأوروبية؟ ما من أحد خطر على باله أن يشك في هذا، ولكن هل تنسخ الظاهريات كل ما سبقها من فلسفات، كما توحي بذلك بعض شروح صاحبها ومزاعمه؟ أم هي بداية جديدة وتتويج لمحاولات ظلت كامنة في كثير من مذاهب الفكر الحديث والقديم؟
لم يكن في مقدور أحد أن يقدم الجواب الحاسم على مثل هذه الأسئلة، ولكن الشيء الذي لا ريب فيه أن الظاهريات الخالصة أرادت لنفسها أن تكون فلسفة كلية أو بالأحرى علما كليا تتأسس عليه سائر العلوم ومناطق الوجود المادية والصورية، أضف إلى هذا أن هذه الظاهريات «الخالصة» أو المتعالية «الترنسندنتالية» لا تقوم بغير الذاتية، أي الذات الخالصة التي تصدر أحكام المعرفة والقيمة والفعل، وهذا كله يدل على أن الظاهريات قد أصلت «الذاتية الترنسندنتالية» وعممتها، ووضعت نفسها بذلك في سياق الفلسفة الحديثة من حيث هي - كما سيقول هيدجر - ميتافيزيقا الذاتية، وهل من شك في هذا ما دامت الظاهريات لا تزال محتفظة بتجارب الوعي، وإن كانت تحصر بحثها المنهجي في استخلاص بنية هذه التجارب والأفعال وبيان «موضوعية» الموضوعات التي تجرب فيها تجربة حية معاشة؟
مهما يكن الأمر، فإن «الأفكار» قد بددت كثيرا من ظلمات القلق والشك التي أحاطت «بالبحوث المنطقية» (التي ظهرت طبعتها الثانية المنقحة في نفس السنة)، كما ألقت أضواء جديدة على مقال هسرل المشهور «الفلسفة علما دقيقا»
4
الذي كان قد ظهر في مجلة «لوجوس» الجديدة بين سنتي 1910-1911م، وتوالت بعض ثمار المنهج الظاهرياتي الذي أثبت مدى خصوبته على مر الأيام، وكشف عن مدى تحرر المريدين والحواريين الذين راحوا يطبقون منهج «المعلم» ويتخلصون من بعض جوانب فلسفته (وبخاصة في مرحلتها المتأخرة التي أوغلت في الذاتية الخالصة!) واستقبل الناس بحث ماكس شيلر الذي ظهر في نفس السنة (1913م) بحفاوة بالغة، وكان عنوان هذا البحث الهام الذي أسهم في تأسيس ما يوصف «بالأخلاق المادية» التي تعد الوجه المقابل لأخلاق كانط الصورية هو: «ظاهريات مشاعر التعاطف والحب والكراهية» مع ملحق عن علة التسليم بوجود الأنا الغريبة.
غير أن شوكة «البحوث المنطقية» لم تكف عن وخزه وإيلامه! فها هو ذا يعيد قراءتها من جديد، ويكتشف أن القراءة وحدها لن تعينه على تحقيق هذا المنهج الذي يصف نفسه بالظاهرياتية، ولم يكن مفر من التعرف إلى المعلم نفسه ومقابلته «بدمه ولحمه» في «معمله» الفلسفي الخاص! وكان لحسن الحظ أيضا دور في هذا اللقاء، فقد حضر هسرل إلى جامعة فرايبورج خلفا لريكرت الذي قبل دعوة جامعة هيدلبرج لشغل الكرسي الذي خلا بوفاة فندلباند (مؤرخ الفلسفة الشهير وشريكه في تأسيس جناح المدرسة الكانطية الجديدة في الجنوب)، أخذ هيدجر يواظب على حضور تمرينات هسرل وتدريباته لتلامذته على التعود على «الرؤية» الظاهرياتية خطوة بخطوة، وكانت هذه الرؤية تتطلب منهم الانصراف عن كل المعارف الفلسفية التي حصلوها أو الحذر في استخدامها على أقل تقدير، كما كانت تمنعهم من التأثر «بسلطة» كبار المفكرين أو الدخول في حوار معهم، وأفاد هيدجر من المران على هذه الرؤية أكبر فائدة، فقد وثقت ارتباطه بالفلاسفة الإغريق، وأعانته على تفسير كثير مما غمض عليه من نصوص أرسطو، وحفزه قربه من المعلم، وقد كان في ذلك الحين يتعلم منه ويقوم في نفس الوقت بالتعليم، على تجربة محاولة جديدة لفهم أرسطو،
5
ورجع إلى المبحث السادس من «البحوث المنطقية»، فساعده تمييز هسرل بين العيان الحسي والعيان المقولاتي على رؤية مشكلته القديمة حول المعاني المتعددة للموجود في ضوء جديد، وراح يدرس هذا الكتاب ويتعمق درسه مع طلابه حتى لمع في ذهنه هذا الخاطر الملهم الذي أخذ يدعمه بعد ذلك في بحوثه ومقالاته ومحاضراته: إن هذا الذي يظهر نفسه بنفسه وتحاول الظاهريات أن تصفه وصفا خالصا من خلال أفعال الوعي والشعور قد فكر فيه أرسطو من قبل كما تناولته تجربة اليونان في الفكر والوجود على نحو أكثر أصالة ووصفوه ب «الأليثين» أو «لا تحجب» الموجود وتكشفه وتجليه بنفسه، فهذا «الظهور» الذي أعادت الفينومينولوجيا اكتشافه وجعلته الموقف الأساسي للفكر والوعي هو في حقيقة الأمر أهم ما يميز الفكر اليوناني، إن لم يكن أهم ما يميز الفلسفة نفسها، وما لبثت هذه الرؤية أن اتضحت أمام هيدجر، ولكنها ظلت مع ذلك تطوي معها السؤال المحير: ما الذي يحدد تجربة «الأشياء ذاتها» التي تدعو إليها الظاهريات؟ أهو الوعي وموضوعيته؟ أم هو وجود الموجود في لا تحجبه واحتجابه، في ظهوره وخفائه؟!
هكذا توصل هيدجر إلى الصياغة المحددة لسؤاله عن الوجود، بعد أن انطلق من المشكلات التي أثارتها في نفسه رسالة «برنتانو» السابقة، وتعمق منهج هسرل الظاهرياتي - في مراحله الأولى بوجه خاص - واتجه به وجهة جديدة، بيد أن تحديد السؤال لا ينهي القضية بل يبدؤها! فقد أخذ يسير على الطريق الذي اعترف بأنه طال أكثر مما توقع،
6
Shafi da ba'a sani ba