327

Misir a Farkon Karni na Sha Tara

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Nau'ikan

وقصدت العساكر بيت إسماعيل كاشف أبو مناخير، فقبضوا على الغلمان وأخذوهم إلى دورهم، ولم ينج منهم إلا من كان بعيدا وهرب وتغيب، وتفرق أتباعه ذوات اللحى، وكانت خاتمة الشيخ سليمان سريعة، فقد وشى به نفس الشيخ زقزوق البنهاوي الذي حرضه أصلا على الحضور إلى القاهرة، فتبرأ منه الآن ودل على مكانه، وكان الشيخ سليمان قد قصد إلى بهتيم ثم إلى نوب، فبعث كتخدا بك جندا قبضوا عليه وأحضروه، ثم ذهبوا إلى بولاق وأنزلوه في مركب وانحدروا به ثم غابوا حصة وانقلبوا راجعين، ثم بعد ذلك تبين أنهم قتلوه وألقوه في البحر، وهكذا انقضى أمره في أواخر أغسطس 1807.

ووقف الباشا من رجال حكومته على تفاصيل الدور الذي قام به عمر مكرم في هذه المسألة، ومحاولته إنقاذ الشيخ سليمان، بمراوغة الحكومة في أمره، والسيد النقيب هو الذي كان من أكبر عوامل إثارة هذا الحادث الذي لو أتيحت الفرصة للشيخ سليمان لتنفيذ غرضه لانقلب إلى فتنة تشيع الاضطراب والفوضى في القاهرة في وقت لا يزال الباشا مشغولا بمناجزة الإنجليز، فلجاجة عمر مكرم في معاداة الشيخ زقزوق البنهاوي والتشنيع عليه مع سائر الأشياخ، بالرغم من استناد دعواه على حق، هي التي جعلت هذا الأخير يغري الشيخ سليمان على الحضور إلى القاهرة، ومع أن الكشاف والجند والجباة المكلفين بتحصيل المال قد كثرت شكاواهم من امتناع الفلاحين وأهل القرى في إقليم بنها عن دفع الضرائب، فقد تقاعس السيد عمر مكرم عن معاونة المسئولين في القبض عليه، وأرسل إليه ينبهه إلى الخطر المحدق به ويحذره منه.

وأيا كان الأمر، فقد ظل عمر مكرم، كنقيب للأشراف، صاحب وجاهة وصدارة، ولم يشأ الباشا - وإن ظلت تتزايد الجفوة بينه وبين السيد النقيب بمرور الأيام - أن يقطع صلته به نهائيا أو أن ينبذه، وتحاشى الاصطدام به؛ لأنه لم يجهر بمعارضته له، ولأن الباشا - وكان منشغلا بمسائل أكثر أهمية - لم يجد ما يدعوه لإثارة مشاغل جديدة، فاستمر اشتراك عمر مكرم في الحياة العامة بالقدر الذي أوضحناه، وإن كانت نهاية مجده قد اقتربت.

وكانت آخر طنطنة للسيد عمر مكرم بالقاهرة، الاحتفال الذي أقامه لختان ابن بنته، فدعا الباشا والأعيان، وأرسل هؤلاء إليه الهدايا والتعابي، وفي أول مايو 1809 «عمل له زفة مشى فيها أرباب الحرف والعربات والملاعيب وجمعيات وعصب صعايدة، وخلافهم من أهالي بولاق والكفور والحسينية وغيرها من جميع الأصناف وطبول وزمور وجموع كثيرة، فكان يوما مشهودا، اكتريت فيه الأماكن للفرجة، وكان هذا الفرح - كما يقول الشيخ الجبرتي - آخر طنطنة السيد عمر بمصر، فإنه حصل له عقيب ذلك ما سيتلى عليك قريبا من النفي والخروج من مصر»؛ أي القاهرة. (5-4) التصادم بين عمر مكرم ومحمد علي

وكان مبعث الاصطدام المباشر بين الباشا وعمر مكرم، مضي محمد علي في أساليبه المالية؛ لاستمرار حاجته الملحة إلى المال، وازدياد تذمر الأهلين وعلى الخصوص المشايخ، الذين مست مصالحهم هذه الأساليب مباشرة، ثم توهم عمر مكرم أن الفرصة قد واتت للجهر بمعارضته علانية لحكومة الباشا، وأنه قد صار بوسعه الآن أن يحرك القاهريين على الثورة ضد الباشا، وأن يلزمه بوجوب التشاور معه ومع الأشياخ، وتنفيذ ذلك العهد الذي أخذه على نفسه باتباع نصحه ومشورته، منذ أربع سنوات مضت، لم يبد من جانب محمد علي في أثنائها ما يدل على ارتباطه بوعده، بل قام الدليل على العكس من ذلك، على أنه إنما يعمل جادا للانفراد بالسلطة، وجمع أسباب الحكم في يده هو وحده.

ثم إنه كان من ضمن البواعث على هذا الاصطدام، والتي جعلت السيد النقيب يجرؤ على معارضة الباشا معارضة سافرة، أنه لم يدخل في حسابه عدة اعتبارات هامة، لا شك في أنه لو أولاها عنايته، لتغلبت الحكمة على سوء التقدير، ولأمكن زوال أسباب النفور بينه وبين الباشا، ولكان من المحتمل أن يفضي ذلك إلى استعادة السيد النقيب لمكانته القديمة عند الباشا، ويقبل هذا مشاورته، خاصة وأن محمدا عليا بالرغم من الجفوة بينهما كان يحمل في نفسه تقديرا ظاهرا لعمر مكرم، ولا ينسى أنه آزره في بلوغ الولاية وتساند معه في اجتياز الأزمات التي مر بها، ولكن كان من سوء حظ عمر مكرم أنه لم يفطن إلى أن الأوضاع قد تغيرت تغيرا كليا الآن عما كانت عليه وقت أن كان بوسعه استثارة العامة وتحريكهم على السلطات القائمة؛ لأن الشعب الذي شهد انقسامات المشايخ وتخاذلهم، وانصرافهم عن الذود عن مصالحه، واهتمامهم بمصالحهم هم وحدهم فحسب، على نحو ما حدث في واقعة عصيان الجند في أكتوبر 1807، ولجوء المشايخ والمتصدرين إلى تحميل صغار التجار وسواد الأهلين العبء الأكبر من إتاوة المال المطلوب لدفع مرتبات الجند إخمادا للفتنة، ثم ثبت لديه بتوالي الأدلة والبراهين أن مصر صار لها سيد واحد هو محمد علي، من العبث مقاومته، لم يعد هذا الشعب يثق في زعامة المشايخ أو في زعامة السيد عمر مكرم على وجه الخصوص، أضف إلى هذا كله أن السيد النقيب لم يدخل في حسابه أن أخصامه وحاسديه والناقمين عليه من الأشياخ المتصدرين، وإن نافقوه وداهنوه، فهم سوف يكونون أول المنقلبين عليه إذا أظهر الباشا تغيره عليه، وصار غاضبا منه، وأن هذه الأحقاد الدفينة، بحيلولتها دون تكتل المشايخ والزعماء، سوف تحول كذلك دون تكتل الأهلين، وتزيد نفرة هؤلاء من المشايخ عموما، وانصرافهم عن السيد عمر مكرم خصوصا إذا حاول الثورة على محمد علي.

هذه الحقائق لا تلبث أن تتضح بتتبع الوقائع التي أفضت إلى نفي عمر مكرم.

فقد كان مثار الاصطدام بين الباشا وبين المشايخ عموما مسألتين: مشاركة الباشا للملتزمين في فائظهم، وامتدت هذه المشاركة فشملت مقاسمة ملتزمي السلع من الباعة، فثارت خواطر الأهلين من أصحاب التزام الأرض (وفي مقدمة هؤلاء المشايخ) وملتزمي هذه السلع، وكان لتذمرهم جلبة وضجيج. وأما المسألة الثانية فكانت فرض الضريبة على الأرض والعقارات الموقوفة على الجوامع والسبل وما إلى ذلك، وكانت المسألة الثانية تفوق في أهميتها وخطورتها المسألة الأولى؛ حيث كان الغرض من هذا الإجراء التمهيد لاستيلاء الحكومة على هذه الأوقاف، وقد اتخذ الإجراءان معا وفي وقت واحد، فشرعت حكومة الباشا في 28 يونيو 1809 «في تحرير دفتر بنصف فائظ الملتزمين (لتحصيله منهم) ودفتر آخر بفرض مال؛ أي ضريبة، على الرزق الأحباسية المرصدة على المساجد والأسبلة والخيرات وجهات البر والصدقات، وكذلك أطيان الأوسية المختصة أيضا بالملتزمين»، وكانت هذه أيضا معفاة من الضريبة، ويخصص ريعها للإنفاق منه على المسافرين والجند وموظفي الحكومة الذين ينزلون ضيوفا على أهل الناحية، كما يخصص بعض هذا الريع لمواجهة النفقات المحلية.

واستتبع تقرير الضريبة على أراضي الوقف فحص حجج الأوقاف، وكانت هذه موضع احترام من زمن قديم، لم تتعرض لها الحكومات المتعاقبة على مصر، حتى أثناء الاحتلال الفرنسي بشيء، طالما كانت تحمل اسم والي مصر وممهورة بختمه الكبير وعليها علامة الدفتردار، ولكن الباشا أمر بفحص هذه الحجج وتجديدها؛ أي استبدال غيرها بها، إذا ثبت أنها صحيحة، وأما إذا عجز المتولون على هذه الأوقاف على إبراز الحجج لتجديدها في ظرف أربعين يوما، استولت حكومة الباشا على الأراضي وعهدت بإدارتها لغيرهم، وبررت الحكومة هذا الإجراء بقولها: «إذا مات السلطان أو عزل بطلت تواقيعه ومراسيمه وكذلك نوابه، ويحتاج إلى تجديد تواقيع من نواب المتولي الجديد»، ولم يكن من الميسور إبراز كثير من الحجج لبلاها بسبب تقادم العهد عليها، أضف إلى هذا أن كثيرا من هذه الحجج كذلك صار لا ينطبق على ما جاء فيها عن تجديد معالم الأرض الموقوفة أصلا على أعيان الوقف الراهنة لمضي الزمن الطويل على إنشاء الوقف ولتغير المعالم أو للنزاع في الاستحقاق، فكان معنى ذلك أن تصبح معظم هذه الحجج عند الفحص غير مقبولة لسبب أو لآخر لدى عمال الحكومة، ويحرم المتولون عليها والمستحقون في خيراتها من أرزاقهم.

فكتبت بالإجراء الذي اتخذه الباشا «مراسيم إلى القرى والبلاد، وعينت الحكومة بها معينين، وحق طرق من طرف كشاف الأقاليم بالكشف على الرزق المرصدة على المساجد والخيرات، وتقدموا إلى كل متصرف في شيء من هذه الأطيان، وواضع عليها يده بأن يأتي بسنده إلى الديوان، ويجدد سنده، ويقوى بمرسوم جديد، وإن تأخر عن الحضور (في المهلة المعطاة له وهي أربعون يوما كما ذكرنا) يرفع عنه ذلك، ويمكن منه غيره، ثم إنهم حرروا دفترا لإقليم البحيرة بمساحة الطين الري والشراقي، وأضافوا إليه طين الأوسية والرزق، وكتبوا بذلك مناشير، وأخرج المباشرون كشوفاتها بأسماء الملتزمين، وفي الوقت نفسه شرعوا في تحرير دفتر بنصف فائظ الملتزمين بأنواع الأقمشة وباعة النعالات التي هي الصرم والبلغ، وجعلوا عليها ختمية، فلا يباع منها شيء حتى يعلم بيد الملتزم ويختم، وعلى وضع الختم والعلامة قدر مقدر بحسب تلك البضاعة وثمنها.»

Shafi da ba'a sani ba