Misir a Farkon Karni na Sha Tara
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Nau'ikan
ولما كانت هذه الإجراءات قد هددت أرزاق ليس فقط أولئك الذين يعيشون من هذه الأوقاف، بل وأصحاب الأواسي، وعامة الناس من الباعة والمتسببين، فقد ضج الناس وتزايد لغطهم، وازدحمت أحياء القاهرة بالمتذمرين والمتظاهرين الصاخبين، ومن بينهم السيدات وأطفالهن الذين صاروا مهددين بالحرمان من استحقاقاتهم في الأوقاف أو خيراتها، وقصد المتظاهرون إلى الجامع الأزهر، وتشكوا، ووعد المشايخ بالتكلم في شأن ذلك بعد التثبت.
وحدث أثناء هذه الفورة أن قبض الشرطة على شخص من أهل العلم من أقارب السيد حسن البقلي وحبسوه، وعبثا حاول المشايخ التوسط لإطلاق سراحه، بل أصعدوه إلى القلعة، فزادت الحال سوءا بسبب هذه الواقعة.
وفي 30 يونيو 1809، احتشد الجامع الأزهر بجموع المتظاهرين، «فحضر الكثير من النساء والعامة وأهل المسجون، وهم يصرخون ويستغيثون، وأبطلوا الدروس، فاجتمع المشايخ بالقبلة، وأرسلوا إلى السيد عمر النقيب فحضر إليهم وجلس معهم، ثم قاموا وذهبوا إلى بيوتهم.»
وهكذا وجد عمر مكرم الفرصة التي كان ينشدها لمعارضة الباشا ومقاومته، فيقول المعاصرون: «إن السيد النقيب كان يعيش من مدة طويلة في عزلة عميقة؛ لأنه منذ أن تأيد سلطان محمد علي، عمل هذا على إبعاده بصورة متزايدة عن الاشتراك في أي عمل من الأعمال العامة، بيد أن هذه العزلة لم تغير شيئا من مبادئ هذا الشيخ، فكان يرى وهو بداخل صومعته اضطراد زيادة السلطة المطلقة التي استأثر بها الرجل الذي كان هو أول من ألبسه الفرو لتقليده حكومة مصر، فواتته الفرصة الآن لينزل إلى معترك السياسة متصديا الآن للدفاع عن صالح الدين، وحقوق الشعب، وقبض عليها بكلتا يديه.»
وعلى ذلك فقد اجتمع بالمشايخ في اليوم التالي (أول يوليو)، وكان اجتماعا تحمس فيه الأشياخ، فتعاهدوا وتقاسموا على الاتحاد وترك المنافرة، وذلك من أجل الدفاع عن امتيازاتهم وحقوقهم، وعظم حماس بعض الحاضرين فأعلنوا أنه إذا أصر الباشا على المضي في طريقه الذي يسلكه، وجب عليهم أن يكتبوا في شأنه إلى الباب العالي، وأن يثيروا الشعب على هذا الطاغية الجديد، وأن يخلعوه من العرش الذي أجلسوه عليه، ثم إنهم كتبوا عرضحالا إلى الباشا يذكرون فيه المحدثات من المظالم والبدع، وختم الأمتعة وطلب مال الأوسية والرزق والمقاسمة في الفائظ، وكذلك أخذ قريب البقلي وحبسه بلا ذنب، وطالبوا برفع هذه المظالم.
ونمى إلى الباشا اجتماعهم فأوفد إليهم ديوان أفندي (سكرتيره) يستفسر عن سبب اجتماعهم، ويسأل عن مطلوبهم، فعرفوه بما سطروه إجمالا، وبينوه له تفصيلا، وحاول ديوان أفندي إنهاء هذه الأزمة والوصول إلى حل سلمي بين الأشياخ والباشا، فقال: «ينبغي ذهابكم إليه، وتخاطبوه مشافهة بما تريدون، وهو لا يخالف أمركم ولا يرد شفاعتكم، وإنما القصد أن تلاطفوه في الخطاب؛ لأنه شاب مغرور جاهل وظالم غشوم، ولا تقبل نفسه التحكم، وربما حمله غروره على حصول ضرر بكم وعدم إنفاذ الغرض»، وكان واضحا أن ديوان أفندي إنما يتكلم على لسان محمد علي الذي يعد بقبول وساطة المشايخ، والتشاور معهم، ولكن هؤلاء أصروا على موقفهم، فقالوا بلسان واحد: «لا نذهب إليه أبدا ما دام يفعل هذه الفعال، فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله رجعنا إليه وترددنا عليه كما كنا في السابق، فإننا بايعناه على العدل، لا على الظلم والجور، فقال لهم ديوان أفندي: وأنا قصدي أن تخاطبوه مشافهة ويحصل الغرض، فقالوا: لا نجتمع عليه أبدا، ولا نثير فتنة، بل نلزم بيوتنا، ونقتصر على حالنا، ونصبر على تقدير الله بنا وبغيرنا.» وأخذ ديوان أفندي العرضحال ووعدهم برد الجواب.
وأخطأ عمر مكرم والمشايخ التقدير؛ لأن الزمن - كما أشرنا - قد تغير؛ ولأن الشعب وإن ظل يظهر احترامه للسيد النقيب وللأشياخ، فقد انقضى العهد الذي كان فيه لهؤلاء من النفوذ على العامة ما يمكنهم أو يمكن عمر مكرم من تحريكهم للثورة ضد الباشا؛ ولأن مقاسمة الباشا للملتزمين في فائظهم واسيتلاءه على إيرادات الأوقاف قد حرم فئة قليلة بالنسبة لسائر الشعب، وكان الأشياخ هم أكثر الناس امتلاكا لحصص الالتزام، وأكثر المنتظرين على الأوقاف منهم، حقيقة ضج القاهريون من توالي المظالم عليهم، ولكنهم - كما يذكر المعاصرون - لم يكونوا في قرارة أنفسهم إلا مرتاحين لهذا الإجراء الذي أزال الفوارق التي مكنت لفئة معينة من العيش في بحبوحة ورخاء، بينما عاشت الأكثرية في تقتير وحرمان وبؤس وشقاء، فهم والحالة هذه لن يتحركوا من أجل الدفاع عن مصالح هي في صميمها مصالح طائفة المشايخ الذين ما كانوا يعنون إلا برعايتها ورعاية شأنهم فحسب، فلم يكن احتشاد الأزهر بالنساء والأطفال والعامة معناه بحال من الأحوال أن القاهريين مستعدون للثورة على حكومة محمد علي.
ولقد فاتت هذه الحقيقة السيد عمر مكرم، ولكنها لم تفت محمد علي الذي كان له من العيون والأرصاد، والذي كان من دأبه - على حد تعبير الجبرتي - التجسس على الناس، ما يكفل له معرفة الموقف على حقيقته سواء من ناحية الشعب الذي لن يتحرك لمؤازرة عمر مكرم، أو من ناحية المشايخ أنفسهم الذين يستحيل عليهم الاتحاد والتكتل بسبب أحقادهم ومنافساتهم، فعول الباشا على إشاعة الخوف في نفوس المستضعفين من المشايخ من جهة، والتلويح بالمنافع أمام ناظري المتعطلين إلى الصدارة منهم أو الطامعين في منصب السيد عمر أو في الإيرادات التي تدرها عليه الأوقاف المنتظر عليها من جهة أخرى، ونجحت خطة الباشا في يسر وسهولة.
على أن هناك حقيقة لا معدى عن ذكرها، هي أن محمد علي مع تيقنه من الانتصار على هذه المعارضة المتخاذلة، ما كان يريد تجريد السيد عمر مما له، أو يبغي قطيعته أو يطلب نفيه، لما يحمله له من احترام كبير، بسبب كبر سنه؛ ولأنه كان ساعده الأيمن في الوصول إلى الولاية، بل ظل يحدوه الأمل حتى النهاية في إمكان استمالة السيد النقيب إليه، واستعادة علاقات الصفاء والمودة معه، ولم يكن بحال مبعث هذه الرغبة أن الباشا - كما يذكر الشيخ الجبرتي - «يخشى صولته، ويعلم أن الرعية والعامة تحت أمره، إن شاء جمعهم وإن شاء فرقهم، وهو الذي قام ينصره وساعده وأعانه وجمع الخاصة والعامة حتى ملكه الإقليم، ويرى أنه إن شاء فعل بنقيض ذلك»، فقد فاتت الشيخ الجبرتي، كما فاتت عمر مكرم نفسه الحقائق التي ذكرناها سابقا، ولعل مرد ذلك إلى أن الشيخ لكراهته لحكومة محمد علي، ولتمنيه زوال ملكه، كان يعقد آمالا كبارا على هذه الحركة المناوئة، فلم يسعه عند فشلها بسبب تخاذل المشايخ وانفضاضهم من حول عمر مكرم، بل وسعيهم للدسيسة في حقه، إلا أن يعزو هذا الفشل إلى تدابير محمد علي الذي أخذ على عاتقه إشاعة الفرقة بين الأشياخ وصرفهم عن مؤازرة عمر مكرم خوفا منه.
بدأ الباشا إذا بأن أغفل أمر العرضحال الذي كتبه إليه المشايخ، وتظاهر بعدم الاهتمام به، فلم تمض خمسة أيام فحسب، حتى كان هذا البرود البادي من ناحيته قد أشاع القلق في نفوس عدد من المشايخ، ثم تبع هذا القلق الخوف من ضياع مصالحهم، فبادر في اليوم الخامس (4 يوليو 1809) الشيخان: محمد المهدي ومحمد الدواخلي بالاجتماع عند محمد أفندي الودنلي (ويعرف بطبل؛ أي الأعرج)، ناظر المهمات ومن رجال الباشا، وثلاثتهم في نفسهم للسيد عمر ما فيها، فتناجوا مع بعضهم، ثم انتقلوا في عصريتها وتفرقوا، وقصد المهدي والدواخلي إلى عمر مكرم يذكران له أن محمد أفندي طبل هذا يقول إن الباشا لم يطلب مال الأوسية ولا الرزق، وقد كذب من نقل ذلك ويؤكد أنه؛ أي الباشا، يقول: «إني لا أخالف أوامر المشايخ، وعند اجتماعهم عليه ومواجهته يحصل المراد.»
Shafi da ba'a sani ba