326

Misir a Farkon Karni na Sha Tara

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Nau'ikan

ثم إن عمر مكرم لم يقنع بإطلاق العنان لخياله وأمانيه وأحلامه فحسب، بل راح يتحين الفرص لمناوأة حكومة الباشا إذا وجد سبيلا إلى ذلك، ويشجع على إشاعة الفوضى، ولا يتحرج من انتقاد تصرفات الباشا في مجالسه، ودل مسلكه في حادث معين على أنه لا ينوي خيرا لحكومة محمد علي، وأنه ينقم منه ويحقد عليه في مكنون صدره.

حادث سليمان (شيخ بنها العسل)

أما ذلك الحادث، فهو حادث الشيخ سليمان الذي ظهر في بنها العسل واعتقد الناس فيه الولاية والسلوك والجذب: بدأ بداية متواضعة ونصبوا له خيمة وتوالت عليه النذور والهدايا وارتفع شأنه، فصار يطلب من القرى مقادير من الحبوب برسم طعام الفقراء، ويعين المريدين لتحصيلها وجعل لهم كراء طريق معين، على نحو ما تفعل الحكومة ذاتها عند إرسال الجباة ومحصلي المال إلى جهة من الجهات، ثم راح الشيخ ومعاونوه يحضون الأهلين على عدم دفع الضريبة أو الفرض والإتاوات التي تطلبها الحكومة، «وصار الذين حوله ينادون في تلك النواحي بقولهم: لا ظلم اليوم ولا تعطوا الظلمة شيئا من المظالم التي يطلبونها منكم، ومن أتاكم فاقتلوه ، فكان كل من ورد من العسكر المعينين إلى تلك النواحي يطلب الكلف أو الفرض التي يفرضونها، فزعوا عليه وطردوه، وإن عاند قتلوه، فثقل أمره على الكشاف والعسكر.

واستفحل شر الشيخ وخطره، فصار له عدة خيام وأخصاص، واجتمع لديه من المردان نحو المائة وستين أمرد، وغالبهم أولاد مشايخ البلاد، وكان إذا بلغه أن بالبلد الفلانية غلاما وسيم الصورة، أرسل يطلبه ، فيحضروه إليه في الحال ولو كان ابن عظيم البلدة، حتى صاروا يأتون إليه من غير طلب»، ويستطرد الشيخ الجبرتي الذي ننقل عنه هذه الرواية فيقول: «ولا يخفى حال الإقليم المصري في التقليد في كل شيء»، ثم يستأنف روايته فيذكر أن هذا العدد الكبير كان من جنس المردان، وذلك زيادة على ما اجتمع عند الشيخ من ذوي اللحى وهم كثيرون أيضا، وأما المردان فقد عمل لهم عقودا من الخرز الملون في أعناقهم، ولبعضهم أقراطا في آذانهم.

ثم إنه حدث أن أحد فقهاء الأزهر ويدعى الشيخ عبد الله البنهاوي، «ادعى دعوى بطين مستأجرة من أراضي بنها كان لأسلافه، وأن الملتزمين بالقرية استولوا على ذلك الطين من غير حق لهم فيه، بل بإغراء بعض مشايخ القرية، والشيخ زقزوق به رعونة، ولم يحسن سبك دعواه، وخصوصا كونه مفلسا وخليا من الدراهم التي لا بد منها الآن في الجعالات والبراطيل للوسايط وأرباب الأحكام وأتباعهم، ويظن في نفسه أنه يقضي قضيته بقال المصنف إكراما لعلمه ودرسه، فتخاصم مع الملتزمين ومشايخ بلده، وانعقدت بسببه مجالس، ولم يحصل منها شيء سوى التشنيع عليه من المشايخ الأزهرية والسيد عمر النقيب، ثم كتب له عرضحال ورفع أمره إلى كتخدا بك والباشا، فأمر الباشا بعقد مجلس بسببه، بحضرة السيد عمر مكرم والمشايخ، وقالوا للباشا: إنه غير محق وطردوه، فسافر إلى بلده، وسافر الباشا أيضا إلى جهة البحيرة والإسكندرية»، وكان ذلك في أوائل أغسطس 1807، ولا يزال النضال قائما ضد الإنجليز.

فوجد الشيخ زقزوق مخرجا له من مأزقه أن يستعين بالشيخ سليمان، شيخ بنها العسل، فقصد إليه وراح يغريه على الحضور إلى مصر (القاهرة )، وأنه متى وصل اجتمع عليه المشايخ وأهل البلدة، ويكون على يده الفتح والفتوح، وصادفت هذه الدعوة قبولا لدى الشيخ ومريديه والملتفين حوله، وكانت أطماع الشيخ سليمان قد تزايدت، حتى صار لا يكتفي بما كان له من نفوذ في بنها والجهات المجاورة لها، بل أراد الآن أن يبسط نفوذه وسلطانه على غيرها من الجهات، وشجعه على ذلك أن أهل القرى في ناحيته قد عملوا بنصحه وإرشاده، فامتنعوا عن دفع المال وطردوا المحصلين والجباة والعسكر الذين حضروا معهم، وحرضه خساف العقول المحيطون به والمجتمعون حوله على المجيء إلى مصر قائلين إنه سوف يكون له شأن؛ لأن ولايته اشتهرت بالمدينة، ولأهلها القاهريين فيه اعتقاد عظيم، وحب جسيم، فأطاع شياطينه.

وحضر الشيخ سليمان «برجاله وغلمانه، ومعه طبول وكاسات، على طريق مشايخ أهل العصر والأوان، فدخلوا إلى المدينة على حين غفلة، وبأيديهم فراقل يفرقعون بها فرقعة متتابعة، وصياح وجلبة، ومن خلفهم الغلمان والبدايات، وشيخهم في وسطهم»، وقصدوا أول ما قصدوا إلى المشهد الحسيني ويقع في أشد أحياء القاهرة ازدحاما وجلسوا بالمسجد يذكرون.

ثم انفصل عنهم جماعة من حملة الفراقل (أو الكرابيج) فقصدوا إلى بيت السيد عمر مكرم ودخلوه وهم يفرقعون بما في أيديهم من الفرقلات، وظلت جماعة منهم أمام البيت يفرقعون بهذه الفرقلات طول النهار، ثم ارتدوا إلى المسجد، وأقام الشيخ سليمان وأتباعه بالمسجد إلى العصر، ثم دعاهم إنسان من الأجناد يقال له إسماعيل كاشف أبو مناخير، له في الشيخ المذكور اعتقاد، فذهبوا معه إلى داره، وباتوا عنده إلى الصباح، ولما طلع النهار ركب الشيخ بغلة ذلك الجندي وذهب بطائفته إلى ضريح الإمام الشافعي فجلس أيضا مع أتباعه يذكرون.

وبلغ خبر الشيخ سليمان، والضجة التي أحدثها هو والحشد الذي معه كتخدا بك - ويحكم هذا القاهرة في غياب محمد علي - فخشي من وقوع اضطرابات بالمدينة، وأنفذ من فوره جماعة من الجند على رأسهم صالح آغا قوج إلى مقام الشافعي، وأراد القبض عليه، فخوفه الحاضرون، وقالوا له: لا ينبغي عليك التعرض له في ذلك المكان، فإذا خرج فدونك وإياه، فانتظره بقصر شويكار، فتبطأ الشيخ إلى قريب العصر، وأشاروا عليه بالخروج من الباب القبلي، وتفرق عنه الكثير من المجتمعين عليه، فذهب إلى مقام الليث بن سعد، ثم سار من ناحية الجبل، وذهب بداياته وغلمانه إلى دار إسماعيل كاشف التي باتوا بها.

وكان كتخدا بك عندما قرر القبض على الشيخ سليمان قد كتب تذكرة وأرسلها إلى السيد عمر النقيب يطلب الشيخ، بدعوى التبرك به، وأكد في الطلب، وقصده أن يفتك به، لقهرهم منه، وعلم السيد عمر ما يراد به، فبدلا من التعاون مع كتخدا بك في القبض على الشيخ، أو عدم التدخل في المسألة، بادر بإيفاد رسول من عنده يدعى الحاج سعودي الحناوي برسالة إلى الشيخ سليمان يقول له: إن كنت من أهل الكرامة، فأظهر سرك وكرامتك، وإلا فاذهب وتغيب، ولحق الحناوي بالشيخ بعد خروجه وأتباعه في طريق الصحراء، واقتفى أثره، وبلغه رسالة السيد عمر، ورجع إلى السيد عمر، فوجد كتخدا بك ورجب آغا حضرا إلى السيد عمر يسألانه عنه، ولم يكتفوا بالطلب الأول، فأخبرهما أنه ذهب ولم تلحقه الرسائل، فاغتاظوا، وقالوا نرسل إلى كاشف القليوبية بالقبض عليه أينما كانوا، وانصرفوا ذاهبين.

Shafi da ba'a sani ba