أما الطرف الأول، فهو على ظاهره، ودليله لو جاز إثبات ما لا طريق إليه لا يقبح باب الجهالات، وزالت الثقة بالمدركات، وذلك يقدح في العلوم الضرورية والاستدلالية، أما قدحه في الضرورية فلأنه إذا زالت الثقة بالمشاهد جوزنا أن تكون الخردلة بمنزلة جبل عظيم، لكن منع من رؤية بعضها مانع لا طريق إليه، وأن يكون لزيد رؤوس كثيرة، كذلك وأن يكون بين أيدينا فيلة أو جبال أو مهاوي، فيكون سير أحدنا كسير الأعمى.
وأما قدحه في العلوم الاستدلالية فلأنا كنا نجوز حصول شبه قادحة لا طريق إلى العلم بها، فلا يولد النظر العلم بشيء قط، بل كنا نجوز أن يكون على نفي ذلك الشيء دليل لا طريق إليه، ويلزم تجويز أن يكون في المحل معاني لا طريق إليها، فلا نعلم إسناد معلول إلى علة معينة، ولا منافاة ضد لضد لجواز أن تكون العلة في كون أحدنا قادرا غير القدرة، فما لا طريق إليه فلا يصح قياس الغائب، وكان يلزم أن لا يقطع بإسناد فعل إلى فاعله لجواز أن يكون الفاعل غيره، فتزول أحكام الأفعال من مدح وذم وغيرهما.
وأما الطرف الثاني فينبغي التفصيل فيه.
فيقال: ما لا طريق إليه ضربان:
أحدهما: يمكن أن يكون إليه طريق، فهذا لا يجب نفيه بل يجوز ثبوته، ويجوز انتفاؤه كما نقول له في أن الباري تعالى كان قبل أن يخلق العالم لا طريق إليه، ولم يوجب ذلك نفيه لما كان يجوز أن يكون إليه طريق، وهو فعله، ومن هذا القبيل تجويزنا /43/كون جبريل عليه السلام في السماء السابعة، فإنه يجوز أن يكون إلى ذلك طريق، وهو الرؤية لمن قوى الله شعاعة أو الخبر الصادق، وكذا تجويز كون زيد في الدار، وكون الذنب صغيرا، أو كبيرا، ونحو ذلك من الغيوب التي يجوز ثبوتها، وإن لم يظهر عليها دليل.
Shafi 65