وأحسن سابقة معهم على عكس أهل البصرة، اجتهد المقربون في التمسك بدنياهم التي نالوها، ووقفوا بالمرصاد للبصريين الذين يفوقونهم علما، فحالوا بينهم وبين النجاح المادي أو المعنوي بكل ما يستطيعون من قوة؛ وإذا كان لبصري كالأصمعي مثلا حظوة عند خليفة ولم يقدروا على إبعاده ماديا، اجتهدوا في الغض من علمه.
وأنا أعرض أنماطا من خلافهم في المجالس الرسمية تفصح عن العصبية والحدة وحب النيل من المنافس، أعرض ذلك ليكون مدخلا للكلام على المذهبين بعد أن عرفنا رجالهما الأولين. ولا تستغربن أن تكون الحدة والعصبية أظهر على الكوفيين، وحب الغلبة عندهم أشد، فهم عن دنياهم وجاههم يدافعون، إذ علموا علم اليقين أن علمهم إزاء علم البصريين قليل١؛ ولذا كان الخطر من هؤلاء ماثلا أمام الكوفيين، ولعين الكسائي منهم خاصة، ولم يرو عن كوفي عنف مثل عنف الكسائي هذا، ولا حرص على الإجهاز على الخصم المنافس كما روي عنه، وإليك الشواهد:
_________
١ قال أبو حاتم: "لم يكن لجميع الكوفيين علم بالقرآن ولا كلام العرب، ولولا أن الكسائي دنا من الخلفاء فرفعوا ذكره لم يكن شيئا، وعلمه مختلط بلا حجج ولا علل إلا حكايات عن الأعراب مطروحة؛ لأنه كان يلقنهم ما يريد، وهو على ذلك أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن، وهو قدوتهم وإليه يرجعون" مراتب النحويين ص٨٤.
هذا، وقد علمت آنفا أن الرؤاسي شيخ الكسائي أقام بالبصرة فلم يرتفع له فيها ذكر، ولا عد علمه شيئا إزاء علم البصريين. ومهما جعلت للمبالغة نصيبا في قول أبي حاتم، فأنت مطمئن إلى ستر الكوفيين قصورهم عن منافسيهم بالشعب، والسلطان الذي كان لهم.
1 / 46