واتفق ذات مساء أن قابلت في الترام جارا لها حقيقيا، يعرفها وتعرفه، فحدثت نفسها أن الله أرسله إليها، وأقبلت عليه وتوددت إليه، وشجعته بالابتسام والحديث على الطمع في صحبتها، كما لا تحسن إلا المرأة أن تفعل، وأدى عنها الفتى أجرة الترام فشكرته شكر المستزيد، ودخلا في حديث استدرجته فيه حتى دعاها إلى التنزه معه يوما في بعض الحدائق، فاتفقا على يوم الأحد لأنه يوم راحتها، وكان عبد المنعم ينتظرها على عادته في المحطة المعهودة، فعرفته بهذا الصديق الجديد، وأبلغته نبأ الدعوة في موعدها، وزادت فسألته: «ما قولك في أن تكون معنا؟» فابتسم عبد المنعم وقال إنه يخشى أن ينغص عليهما متعتهما بوجوده، واعتذر، ومشى معهما خطوات ثم استأذن، وانصرف خفيفا مرحا، كأنما هو يرقص من طرب. ولم يبق في نفس زكية شك في أن عبد المنعم قد ملها وسلاها، واعتاض منها سواها، وحز في نفسها هذا، وعدته ظلما لها، وغمطا لحقها، وغاظها واستثار نقمتها أيضا، وكانت لا تنوي أن تنجز وعدها للفتى فآلت لتفعل، وليكن بعد ذلك ما يكون! أليس قد مضى عنها وكأنه يتشهد لإعفائه من مسايرتها بضع خطوات إلى منزلها؟ وهل بقي شيء يدل على أنه يعبأ بها أو يكترث مما تفعل أو تترك؟ إنه لم يعد له عليها حق بعد ذلك، وأكبر الظن أنه كان يتلهى بها، ولم يكن يحبها، وعسى أن يكون قد فتنته عنها إحدى هاتيك النسوة الغزلات المتحببات إلى الرجال، بارك الله له فيها أو فيهن جميعا، فما عادت هي تبالي ما يكون من أمره، وإنها لحرة الآن بعد أن نفض يده منها هذا النفض، وما هي بالتريكة التي يلقاها الرجال ويصدفون عنها، وستريه أنها قادرة مثله على السلوان، وواجدة عوضا عنه كما وجد. ***
اعتزمت زكية بعد الذي رأته من عبد المنعم من قلة المبالاة أن تركب رأسها، وتلج، فما بقي لها فيما ترى حيلة، وقد خمدت نار الغيرة التي كانت تتلظى كنار الجحيم ذات الوقود، وخمودها هو الشاهد على أن شعلة الحب قد انطفأت، وأن قلب صاحبها خلا، والأرجح أن تكون سواها قد حلت محلها، وتربعت مستقرة مطمئنة، ولا تعليل غير هذا لفتور عبد المنعم.
ولم يعد يرضيها، بل يسخطها ويستثير حنقها وحردها أن عبد المنعم لم يغير عادته معها، فلا هو يكف عن مرافقتها في الصباح إلى الترام، ولا هو يفوته أن ينتظرها عند إيابها في المساء، فإذا كان قد سلاها واعتاض منها غيرها فلماذا يفعل ذلك؟ وما له لا يريحها باليأس، وأمرها إلى الله؟ ألا بد أن ينكأ لها الجرح كل يوم مرتين؟ هل كتب عليها أن لا يزال لها منه مذكر لا يغفل ولا يتركها تتغافل وتتشاغل وتتنافس وتتلهى؟ ولا يسعها كلما وقعت عليها عينه ورأت هدوءه وسكينة نفسه ورضاه عن الدنيا إلا أن تقيس هذا إلى ما كانت تعهد منه، وإنها لقسوة أن يلح عليها بمجاملة السالي بعد غيرة المحب الثائر!
أم تراه يتعمد ذلك ليحنقها فتنفر وينتهي أمرها هي أيضا معه إلى السلوان، أو حتى إلى البغضاء؟ هو عذاب على الحالين كائنا ما كان مراده. ولأولى به وأرفق بها أن يدعها وشأنها، فإن هذا كتبديل جلود الكفار في جهنم، وتجديدها كلما اشتوت واحترقت ليظلوا في عذاب أليم دائم لا ينتهي. وصارت تتأخر عن موعدها عامدة حتى لا تراه كعادته واقفا في محطة الترام مسندا ظهره إلى مصباح النور ويداه في جيبيه، فما بقيت لها قدرة على الاحتمال. وتلكأت مرة أمام دار السينما ونازعتها نفسها أن تدخل وتغيب في جوفها ساعتين، وإن كانت رواية غير عربية، واحتمال فهمها لموضوعها وسرورها به بعيد، واستهولت أن تنفق في ساعتين أجرة يومين، وتمنت أن يرزقها الله برجل طيب واسع الرزق، فيقول لها: تعالي يا بنتي، فقد أجاب الله سؤلك، وبعثني إليك لتستمتعي بما تشائين. واستهجنت أن يخطر لها مثل هذا الخاطر، وأنكرت فيما بينها وبين نفسها، أنها يمكن أن تقبل دعوة من غريب إلى السينما أو غيرها، وطاف برأسها أن: «وماله! وما ضير ذلك؟! وماذا أخشى؟ أتراه يأكلني؟» وألفت نفسها ترد وتقول: «عيب يا زكية، اختشي! أنت بنت ناس، وما هكذا يفعل بنات الناس! وماذا أبقيت للخليعات الفاجرات؟» واستحت كأنما كان الذي يزجرها إنسان حقيقي، وهزت رأسها، وسمعت نفسها تقول بصوت خافت: «هو صحيح؟ إنما هو كلام!»
وتنهدت وحولت وجهها عن السينما، فلو رآها أحد لظن أنها كانت تتأمل الصورة المنشورة على الجدران على سبيل الإعلان والتشويق، وخطت خطوات وهي مطرقة، وإذا بجارها يدركها وهو يلهث من العدو ويقول لها: «أين كنت؟» فأدارت إليه وجهها وقالت بجفوة: «وأنت مالك!» وتعجبت لنفسها، وأحست أنه كان ينبغي أن تفرح به، فإنه رفيق على كل حال، وهو جار لها وبينهما معرفة، فلا غرابة إذا كلمها في الطريق، ثم إنه هو الذي أرادت أن تكايد به عبد المنعم وتستثير غيرته، فما لها تمتعض الآن إذ تراه؟ وحدثت نفسها أنها تستطيع أن تدعه يرافقها إلى بيتها، وعسى أن يراه معها عبد المنعم فيعرف أنها وجدت منه بديلا، وأنها ليست بالفتاة التي يزهد فيها الرجال إذا كان هو قد زهد! ولكنها نحت هذا الخاطر وطردته طردا، كأنه عمل لا يليق، وكأنها لم تفعله من قبل.
وفوجئ الفتى ودهش وجعل يكرر: «أنا مالي؟! أنا مالي؟!»
قالت: «نعم، مالك أنت! ألا يمكن أن أمشي في طريق إلا وتشق الأرض وتطلع لي كالعفريت؟ شيء بارد!»
فزادت دهشة الفتى ومد يده وتناول يدها وسألها: «ماذا جرى؟ ماذا فعلت؟»
فانتزعت يدها منه وهي مقطبة مشمئزة وقالت: «من فضلك اتركني بالتي هي أحسن.»
فضرب كفا بكف وقال: «بالتي هي أحسن أو بالتي هي أقبح، لماذا؟ ماذا جرى؟»
Shafi da ba'a sani ba