ويسرها أن يكون هذا مبلغ غيرته عليها، فإنها من الحب، ولكنها ينبغي أن تظل أحد العناصر التي يتألف منها هذا الحب، لتصفو الحياة وتطيب؛ أما هذه الغيرة فطوفان جارف. ثم أليس هو حلاقا للسيدات؟ ألا يلمس كل يوم - بل كل ساعة - شعورهن؟ أليس معروفا مشهورا أنهن جميعا معجبات بحذقه وأستاذيته؟ أليس بينهن واحدة جميلة تصبيه إليها؟ إنها أولى بالغيرة، وأحق بالقلق الدائم، فإنه عرضة للفتنة في كل ساعة من ساعات النهار، ويضاعف دواعي القلق أنهن نساء مترفات غنيات، والمال وحده فتنة كافية، فكيف إذا اجتمع المال والحسن؟! فماذا يمنع أن تخطفه منها واحدة من هؤلاء اللواتي آتاهن الله ما حرمته هي؟
ويثقل عليها هذا الخاطر فتبكي، والدموع غوث للمرأة، فينعصر قلب الفتى ويقبل عليها يستعطفها ويستغفرها، وتسكن العاصفة ويصفو الجو ويرق، وينقضي يومان أو ثلاثة تكون فيهما زكية أسعد بنات حواء، ويكون فيها عبد المنعم مثال الرقة والدماثة، ويبلغ من ذلك أن يرى رجلا يفسح لها لتنزل من الترام وهو يقول: «تفضلي يا هانم!» فتشكره زكية، فلا يمتعض عبد المنعم ولا يغضب، بل يبتسم للرجل وهو يمد لها يده لتعتمد عليها وهي نازلة ويقول «مرسي يا بيه!»
غير أنه لا دوام لشيء أو حال في هذه الدنيا. ***
إي نعم يا سيدي، كل شيء يتغير في دنيانا هذه، ولا يثبت على حال، لأن التغير هو سنة الحياة، والإنسان منا يعرفه الناس باسمه، ويرونه فيدركون أنه هو فلان الفلاني، ولكن فلانا هذا ليس إلا عدة أناس تعاقبت على حمل هذا الاسم. عندي إطار فيه أربع صور صغيرة لي، ما تأملتها قط إلا تعجبت، كيف يمكن أن يعد الأصل الذي أخذت عنه واحدا؟ صحيح إن الملامح والمعارف باقية ومشتركة، ولكن تعبير الوجه مختلف، وأحسب أنه لو رآها غريب لا يعرفني لكان أول ما يقع في نفسه منها أنها صورة لإخوة أشقاء لا لمخلوق واحد. ولست أعني أن الأنف في إحداها أطول منه في الأخرى، أو أن الخدين هنا أو هناك أكثر امتلاء، فليس بالي إلى هذا، وإنما أعني أن المعاني المرتسمة على الوجوه الأربعة ليست متطابقة ولا متشابهة، ولا حتى متقاربة، والمعاني مصدرها النفس، فها هنا أربع نفوس انتقلت بها الأحوال فصارت إلى هذا الاختلاف البين فيما ينبعث عنها.
وقد قضت زكية أياما وهي راضية قريرة العين بما فاء إليه صاحبها عبد المنعم من الرقة والظرف، وحسن المعاشرة وترك الغيرة الذميمة، ثم قلقت وأوجست خيفة، فقد كان شططه في غيرته عليها يمضها ويسود عيشها وينذرها بالشقوة معه في حياتهما، فكانت تجزع وتندب سوء حظها، وتتساءل عما جنته حتى يقسم لها أن تحب رجلا ظنونا لا ينفك يتخيل ثم يخال، ولكن الغيرة كانت مظهر حب، ففيها لها مرضاة وإن كانت فيما عدا ذلك كربا وبلاء. والآن لا غيرة ولا شبهها، فماذا حدث؟ هل نضب المعين؟ وفتر الحب؟ وتحول القلب؟ هل استولت على هواه إحدى الفتيات الجميلات الغنيات اللواتي يراهن كل يوم في الدكان؟! أليس المعقول إذا رأيت فتاة جميلة تأبى كل الإباء أن يلمس شعرها غيرك، أن يغرك ذلك ويطيب وقعه في نفسك فتتلقاها، حين تقبل عليك لا تقصد إلى غيرك، هاشا باشا مسرورا؟ وتحتفي بها وتلاطفها وتضحك إليها، ثم يكون ماذا؟ ما المسافة بين هذا وبين الحب؟ إنها قد لا تكون أطول مما يستغرقه التقاء نظرتين في صقال المرآة!
وريعت المسكينة لما دار في نفسها إمكان ذلك، وأحست بالنار في صدرها والبرد في أطرافها، وحارت ماذا تصنع لاتقاء هذه النكبة أو كشف الغمة، ثم خطر لها وهي تتهيأ للنوم ذات ليلة أن في وسعها أن تمتحنه، فإن هذه الظنون التي تعتلج في صدرها لا تطاق، ولخير منها أن تيأس، ومن يدري؟ لعل الامتحان الذي استقر عليه عزمها يحرك النار التي قاربت أن تخمد.
ولقيته في الصباح بوجه لا يبدو عليه أثر مما كابدته في ليلها الطويل، وابتسمت إليه متكلفة، وقالت له إنه يحسن به ألا ينتظر أوبتها هذا المساء في موعدها، فقال: «طيب، كما تحبين» ولم يبد عليه أنه عبأ شيئا، وإن كان لم يتخلف قط عن انتظار عودتها، مرة واحدة في شهور طويلة، فكادت تهوي إلى الأرض، غير أنها تشددت وتحاملت على نفسها وقالت له - على سبيل الإيضاح: إن جارا ظريفا لها دعاها إلى السينما فقبلت، وسيذهبان لمشاهدة الشريط في حفلة المساء، لأنه لا يتسنى لها أن تذهب قبل ذلك، فهل تراها أخطأت؟ فقال: لا لا لا، إن الأمر على العكس، فقد أحسنت كل الإحسان، وإنه ليسره أن يراها تنعم بالحياة.
فقالت لنفسها وهي تركب الترام: «آه! كان ما خفت أن يكون! فليس هذا عهدي به، وكيف يطيق - إذا كان لا يزال يحبني - أن يتصور أن أقضي ساعتين وزيادة إلى جانب شاب مثله، وأن تلمس ركبته ساقي، أو كفه كفي، وأن نتسامر ونتضاحك حين يتاح لنا ذلك ، وقد نذهل عن الرواية بما نحن فيه، وأن يقوم هذا الشاب مقامه، وينوب عنه في إبلاغي بيتي؟!»
ولم يكن هناك شاب ولا رواية، وإنما اختلقت هذا لتثير غيرته، وتوقظ الحب الذي يخيل إليها أنه يغط في النوم، ولم يسعها - وقد كذبت - إلا أن تؤثر المشي على الركوب لتتأخر، ولم تكتف بهذا؛ بل اختارت طريقا أطول، وجعلت إلى هذا، تتلكأ وتقف أمام الدكاكين تنظر ولا ترى.
وسألها في الصباح عن الرواية كيف كانت، فأثنت عليها وأطرت رفيقها الموهوم، وزعمت أنه أكرمها وسرها وتحفى بها وفعل كيت وكيت، وأبى أن يعود بها إلا في سيارة، فقال عبد المنعم: «برافو! هذا شاب ظريف ولا شك، وإنه لأهل لما تذكرينه به من الخير وزيادة، وقد انشرح صدري الآن إذ عرفت أنك مسرورة»، وأحست وهو يقول هذا أنها لا تسمع كلاما، وإنما تتلقى طعنات خنجر في حبة قلبها، وكاد الدمع يطفر من عينيها، فلولا الإباء الحر لارتمت على صدره وراحت تبكي بأربع.
Shafi da ba'a sani ba