وضحك صديقي ضحكة مرحة ثم عاد يقول: «أتذكر ليلة جلست إليك أحدثك مثل حديث الليلة، منذ ... منذ كم؟ ... وقالت للرسول وقال لها، ثم سألته: وكم دخل صاحبك في الشهر؟
فأجابها ... وكان القدر قد هيأ أسبابه، فأجابت ... وزرتها من بعد، وتم الاتفاق!»
قلت لصاحبي: «فهل عرفت هي أنك أنت أنت ... هل عرفت أنك سعيت لخطبتها مرة منذ خمس عشرة سنة فردتك؟»
فقال: «وماذا يعنيني عرفت أو لم تعرف؟ حسبي أنها اليوم لي، وأن ما أردته قد كان!»
ووجد المسكين تعبير رؤياه بعد خمس عشرة سنة من عمر الشباب، ووجدت تعبير أمانيها؛ وباعت المسكينة شبابها وشبابه بثمن بخس، حين تأبت عليه ومعه حرارة الشباب، ونضارة العمر، وسعادة الحب؛ لترضاه من بعد وهو شباب مدبر، ونجم آفل، وشعلة إلى رماد ...!
زاهية
في القرية البعيدة الجاثمة على حدود الصحراء الغربية من صعيد مصر، جلست «نعيمة» ذات مساء بين لداتها من بنات القرية، تحدثهن حديثها عن القاهرة وما فيها من وسائل النعيم والترف، والتف الفتيات حولها يستمعن إليها في شوق ولذة، وكأنما تحملهن بحديثها على أجنحة الطير إلى حيث يرين ما تقص عليهن خبره من أسباب الملذات في القاهرة العظيمة، وكأنهن في مجلسهن ذلك على المصطبة حول نعيمة لا يستمعن إلى قصة تقص وخبر يروى، ولكنهن يرين وينعمن في الخيال بما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب فتاة من سكان هذه القرية الوادعة المطمئنة!
لم ترحل واحدة من سكان تلك القرية إلى القاهرة قبل أن ترحل إليها نعيمة، فما كانت تتحدث واحدة منهن عن القاهرة وما فيها إلا كما يروي الراوي قصة من بنات أحلامه عن رحلة إلى بلاد بعيدة رحل إليها جده فيما غبر من السنين، ونعيمة نفسها لم تكن تطمع في الرحلة إلى القاهرة يوما ما لولا المصادفة السعيدة ...
يوم أرسل «الباشا» إلى أبيها يطلب إليه أن يرسلها إليه لتقوم على خدمة أولاده، حزن أبوها أشد الحزن، وحمل من الهم ما لا طاقة له به، وتداعى أفراد الأسرة جميعا إلى مؤتمر يداولون فيه الرأي ويوازنون بين النتائج، ثم لم يجدوا بدا من إجابة «الباشا» إلى ما طلب، وأنى لهم أن يخالفوه وهو سيدهم ومولاهم ومالك رقابهم؟ أليس هو مالك هذه القرية بما فيها ومن فيها ...؟ كلهم أجراء يفلحون أرضه ويجهدون جهدهم في خدمته والتماس رضاه!
وها هي ذي نعيمة تعود إلى القرية بعد غياب طويل لتزور أهلها، ولكنها غير نعيمة التي يعرفها شبان القرية وبناتها، لقد عادت فتاة أخرى. ذلك الثوب الأنيق، وهذا الوجه المشرق، وذلك الجسم الريان، وتلك الرشاقة الفاتنة ... أين كان منها كل أولئك ...؟ منذ عام، لم يكن واحد من فتيان القرية ينظر إلى نعيمة، أما اليوم ... فما أجمل وما أشهى! إنها ملتقى الآمال ومعقد المنى، تشتجر حولها النظرات وتعترك القلوب ... ليس في القرية كلها شاب واحد لا يطمح إلى نعيمة ويتمناها لنفسه! ... وجلست مجلسها ذلك بين رفيقات صباها تقص عليهن، وكلهن معجب مفتون، ولكن «زاهية» كانت أكثرهن إعجابا وفتنة ...
Shafi da ba'a sani ba