ولكن صديقي اليوم في منصب رفيع، لقد سما به جده وعمله إلى ما لم يبلغ أحد من نظرائه، أتراه يوازن اليوم بين ماضيه وحاضره؟
لقد مضى خمس عشرة سنة منذ تلك الليلة التي زارني فيها صديقي يشكو إلي ما يشكو ويبثني نجواه.
ياه ...! ما أسرع ما تمر السنون ... أين أنا اليوم مما كنت يومئذ؟
لقد كنت يومئذ فتى في باكر الشباب لم يجر حد الموسى على عارضه بعد، وإنني اليوم لزوج وأب، وإن في رأسي لشعرات بيضا ما إن يخفيها ميل الطربوش ولا صنعة الحلاق ...!
وصديقي لم يزل عزبا ... صديقي الذي كان يخشى أن تفوته سن الزواج منذ خمس عشرة سنة!
أين هو اليوم؟ وأين حاضره من ماضيه؟
لقد ضربت بيني وبينه ضربات الدهر فلم ألقه منذ أعوام، وددت لو أعرف من خبره!
وخرجت ذات يوم من داري على ميعاد، فإني لفي طريقي إذ لقيته ... وأقبلت عليه وأقبل علي، وهممت أن أسأله حين بادرني بقوله: «إنني أدعوك بعد غد إلى داري ...» - تدعوني ...؟ - نعم، لقد اتفقنا أن يكون الزفاف بعد غد! - بمن؟ - وهل حسبتني أرضى يوما أن لي بها كل متاع الدنيا؟ إنها هي ... لقد ضرب القدر بيننا موعدا فلم يخلفه. إن لكل شيء أوانه! ... وكما جلس صديقي مني مجلسه ذات مساء منذ خمس عشرة سنة ليحدثني بخبره كان مجلسه الليلة مني ...
وكان في عينيه بريق غير البريق، ولصوته لحن ورنين، وفي عينيه دموع، وكانت الكلمات ترتعش على شفتيه؛ لأن فيها نبضات قلب حي. وصعدت نظري إليه فرأيت في فوديه شعرات سوداء في شعر أبيض، كأنما بقيت لتشير إلى أنه ما زال هنا بقية من شباب ... ومضى صديقي في حديثه: «... ولم يعد إليها رسولي منذ كان ما كان، وما عرفت اسمي ولا جاءها خبر من خبري بعد، وكأنما كان يدخرها لي القدر، فلم تتزوج، وارتد الخطاب جميعا عن بابها مخذولين، وآن الأوان ...
هل جاءك يا صديقي أن مرتبي في الشهر قد بلغ اليوم خمسين جنيها غير ما أكسب من أعمالي الخاصة ...؟ وبعثت إليها رسولا آخر يؤامرها للمرة الثانية ...»
Shafi da ba'a sani ba