وأيضا فليس يجب على الحكيم أن يترك الحسن من فعله، لعلمه بقبح القبيح من فعل غيره، وليس علمه بمعصية العاصي يدخله في معصيته، ولا علمه يجبر المطيع بجبره على طاعته، وليس يثيب ويعاقب على علمه، وإنما يثيب العبد أو يعاقبه بفعله، لأن العلم هو الله عز وجل، وليس يثيب الله على نفسه، وإنما يثيب العبد على حسن فعله وطاعته.
فإن قال قائل: فلم لم يجبر عباده على الطاعة كلهم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنه لو جبرهم على الطاعة، لكانت الطاعة فعله لا فعلهم، ولما استحقوا المدح على فعل غيرهم، وحقيقة عدله في سقم عباده وإمراضهم وموتهم، أن المرض والألم يدعو إلى الخوف من العذاب، والخوف يدعو إلى النعمة والثواب، ولو أمنوا الموت والإنتقام، وشفوا من الأمراض والآلام، لعظمت ذنوبهم، ولهلك بسبب الأمان أكثرهم، ولقل خوفهم، وهاهم اليوم مع قصر أعمارهم قد عظم هلاكهم، وجل ظلمهم وضلالهم، فكيف لو أهملهم من ذلك وأنظرهم، ولكنه جاد علينا بذلك لعلمه بضعفنا، وأغاثنا به على جهاد أنفسها، لأنا وجدنا الخوف يمنع من اللذات، ويشغل عن فعل السيئات، ويدعو إلى فعل الحسنات، ويدعو إلى الأقصار عن الموبقات.
والدليل على أن للصانع رسولا أنه حكيم، والحكيم لا يهمل خلقه من الأمر بالخيرات، والنهي عن المنكرات، ولا يكون ذلك إلا كلاما مسموعا، فوجب أن يرسل إليهم رسولا مسمعا، وحقيقة عدله في ذبح البهائم وإحلالها، أن لها على ذلك ثوابا في آخرتها، وليس ألم البهائم وإتعابها إلا دون ألم الأخيار وموتها، وحقيقة عدله ونفي الجور عنه، أنه غني عن الجور غير محتاج إليه، وأنه عالم بقبحه، وإذا كان عالما بقبحه غنيا عنه لم يفعله، وحقيقة الدليل على البعث أن الصانع حكيم، والبعث والحياة خير من موت الأبد.
ودليل آخر
أنه لم يخلق الخلق إلا لينفعهم بالبقاء، إذ لا منفعة في الهلاك والفناء.
ودليل آخر أن موتهم بالكلية لا ينفعه ولا ينفعهم، وشيء لا ينتفع بفعله لا يكون من فعل حكيم.
Shafi 114