المجال الذي يتحرك فيه الممثل هو عالم الصور والخطوط، ومجال الخطيب عالم الأفكار والمعاني، ومهما يكن من ثقافة الممثل وإلهامه فلا شأن لهما في إضافة شيء إلى الذات الخيالية التي خلقها المؤلف ورسم حدودها، ولا حق له أن يجري على لسان هذه الذات كلمة لم يرد المؤلف أن يقولها.
قد يستطيع الممثل أن يتصور طريقة جديدة لتمثيل أبطال سوفوكل وشكسبير ومولير وهيكو غير التي عرفناها وألفناها، ولكنه لا يكون في ذلك على وفاق والرأي العام.
2
إذن مجال الممثل هو الخيال والصور والحركات ونبرات الصوت المختلفة، وهي أمور يحتاج إليها الخطيب، ولكنها ليست كل ما يحتاج إليه، فإن غاية الخطيب هي الألفاظ والمعاني التي تتزاحم في خاطره ويجيش بها صدره فيقذفها على لسانه، وهي تتطلب حركات وإشارات مختلفة غير أنه لا يضطر إلى تأديتها بأمانة الممثل ودقته، وجل ما يتحتم عليه هو أن يصور أفكاره ويعبر عنها على وجه لا يضايق السامعين ولا يزعجهم، بل يشعر كل من حضر أنه أمام خطيب لا ممثل، وهذا الشعور من جانب الناس هو الذي يشد عرى الألفة بين الخطيب وسامعيه؛ فيندفعون معه في الطريق التي يشقها لهم، فلا يكاد المعنى أو العاطفة تنحدر من شفتيه حتى يكون قد تلقفها سمعهم وجنانهم.
ربما كان هذا هو السبب في أن يتحاشى الخطيب أن يظهر سهولة عظيمة جدا في كلامه؛ لأنه إذا تكلم بدون جهد ظاهر ومن غير أن ترتسم على محياه تلك السمات الدالة على التفكير والتعب والتأمل، فكأنه منقطع عما يقول فيحمل السامع على الظن أنه لا يتكلم بإخلاص وشعور، بل يلقي درسا استظهره أو يمثل دورا من الأدوار وهو ما يضعف التأثير وينزل بالخطابة عن غايتها.
فعلى الخطيب أن يظهر لسامعيه أنه هو نفسه مولد أفكاره فيحس هؤلاء أنهم أمام رجل يقول ويفعل، ويبرهن ويحلل وأن هناك مسألة عقلية يشتبكون معه فيها، وهي ليست من خصائص الممثلين.
الخطيب والشاعر
1
إن سرعة البداهة وقوة التصور وجيشان الخاطر وكل ما يمتاز به الشعراء موجود عند الخطباء، ومن الصعب التفريق بين الاثنين، فكأن القوة العقلية الواحدة - باختلاف وجهتها وتباين أسبابها - قد أنتجت عند بعض النوابغ تارة بلاغة القلم، وطورا بلاغة اللسان.
لا ريب أن اللورد بيرون الشاعر الإنكليزي المشهور عندما كان يطوف بجواده فوق شواطئ الليدو، وينشد في الفضاء أشعاره الغريبة السامية، ويلقي من حوله على الكائنات نظر السيد المعتز بمحتده المباهي بشبابه المفاخر بجمال طلعته ولمعان نبوغه، وما أعطاه الله من واسع السلطان في مملكة الهوى، مخضعا لدى قدميه الفلاحة الحائرة والسيدة المتدللة، منتصرا على مطامع الرذيلة ومخاوف الفضيلة، لا ريب أن ذلك الأمير لم يكن حينئذ شاعرا فقط، بل كانت عواطفه الثائرة تتدفق من فؤاد خطيب فترتدي حلة الشعر بعد أن تفرغ في قالب خطابي بما فيها من غزارة وخيال وتصور خلاب.
Shafi da ba'a sani ba