تمهيد
القسم الأول: البلاغة علما وعملا
تعريف البلاغة
من هو الخطيب؟
الإنشاء الخطابي
المنبر
الخطيب والممثل
الخطيب والشاعر
الخطيب والخطباء
الخطيب والجمهور
تهيئة الخطاب
الارتجال
الرتج
نظرة تاريخية
أنواع الخطابة
القسم الثاني: أمالي طبية ووصايا صحية
نظرة تشريحية
الصوت
التنفس
الرياضة التنفسية
رياضة الصوت
صحة الصوت
قبل الخطاب وبعده
القسم الثالث: أمثلة من خطب العرب والإفرنج
خطب الإفرنج
خطب العرب
بعض كبار خطباء العرب والإفرنج
الخاتمة
تمهيد
القسم الأول: البلاغة علما وعملا
تعريف البلاغة
من هو الخطيب؟
الإنشاء الخطابي
المنبر
الخطيب والممثل
الخطيب والشاعر
الخطيب والخطباء
الخطيب والجمهور
تهيئة الخطاب
الارتجال
الرتج
نظرة تاريخية
أنواع الخطابة
القسم الثاني: أمالي طبية ووصايا صحية
نظرة تشريحية
الصوت
التنفس
الرياضة التنفسية
رياضة الصوت
صحة الصوت
قبل الخطاب وبعده
القسم الثالث: أمثلة من خطب العرب والإفرنج
خطب الإفرنج
خطب العرب
بعض كبار خطباء العرب والإفرنج
الخاتمة
الخطابة
الخطابة
تأليف
نقولا فياض
تمهيد
الخطابة ضرب من الكلام يراد به التأثير في الجمهور من طريق السمع والبصر معا، وهي فطرية في الإنسان كالغناء والنطق؛ ولهذا تجد آثارها عند الأقدمين في كتب الهند المقدسة وكتب مصر وفارس والصين. ولا ريب أن الأعمال العظيمة التي خطت على جبين الدهر من بطولة وكرم ومجد، كان الدافع إليها خطب الأفراد الذين امتازوا بسرعة الخاطر وقوة العارضة وجرأة الفكرة وذلاقة اللسان، فمن أبطال أوميروس إلى الإسكندر وقيصر، إلى بطرس الناسك وتوما الأكويني، إلى لوثر وكلفن إلى ميرابو ودانتون وروبسبير، إلى دزرئيلي وغلادستون وتيارس وغامبتا، إلى جوريس بالأمس وموسوليني اليوم. لا تزال البلاغة أداة الإقناع والعامل الأكبر في إنهاض الهمم وتنبيه العزائم وإذكاء الشعور، بها أثار سولون حماسة الأثينيين فخاضوا غمرات الموت لاسترجاع «سلامين»، وبها كان شيشرون يقود الشعب الروماني المعلق بشفتيه من دار القضاء إلى السوق ومن السوق إلى دار القضاء.
وبها أسكت أبو بكر أهل المدينة وأخمد هياجهم بعد موت النبي، وبها اندلعت نيران الثورة الفرنسية فغيرت شكل الاجتماع، ولولاها لما سحرت الأديان عقول البشر، ولا كان لها أبطال وشهداء في بدو ولا حضر.
والذي يتبادر إلى الذهن أن قوة كهذه لا بد أن تكون قد أشغلت القرائح والعقول، وكانت موضوع الدرس العميق والبحث المستطيل، على أن الواقع بخلاف ذلك، ومن بواعث العجب والأسف قلة الكتب التي خصت بها، وندرة المحفوظ منها بين أيدينا ولا سيما عند العرب وهم كما نعلم من أخطب الأمم.
ولم تبلغ حاجة الإنسان إلى التكلم في الأندية والجماهير مبلغها اليوم؛ فإن الرقي يسير بالإنسان نحو التوسع في الاشتراك بالحكم، وقد أصبحت المعاملات الاجتماعية أكثر تشعبا وتداخلا بعضها في بعض، تداخلا لم يسبق به عهد، واتسع نطاق التعليم وانتشرت أنوار الثقافة، مما جعل كل طبقة من الناس على كثب دائم من المؤثرات الخطابية.
وكثير من الناس لم تؤهلهم المدارس إلى تعلم الخطابة أو التمرن عليها، وهم مع ذلك في افتقار شديد إلى هذا السلاح لتعدد الفرص الداعية إلى حمله من حفلات سياسية أو عمرانية أو غير ذلك.
فضلا عن هذا فإن المحاماة التي هي من أعظم المهن وأوسعها خدمة للمجتمع تتطلب البلاغة قبل كل شيء، وليس في برنامج الدروس التي يتلقاها طلبة الحقوق ما يختص بتعليم الخطابة، فإذا لم يتسن للطالب أن يستوفي حظه من هذا القبيل فإنه يختم دروسه ويحمل شهادته وهو لا يزال فقير المادة في الكلام قصير الحجة في الجدل، لا يستطيع مع كل ما درس ووعى أن يجاري زملاءه القادرين في الدفاع عن الأرملة واليتيم والمظلوم، ولا أن يسمع في ندوة القضاء - كما يقول هنري روبير: «صوت الرحمة البشرية والعدل الإنساني.»
ثم إن الحكم الدستوري الذي تتمشى نحوه كل الأمم يحتاج إلى سلاح البلاغة، والناخب يؤثر المتكلم الفصيح على سواه؛ ولهذا تجد كثيرا من المحامين على مقاعد النيابة في كل البلدان. وليس الوزير إن حققت سوى محام يدافع أمام المجلس عن واجباته، وعن معاونيه وشركائه في المسئولية. ما الفائدة من انتخاب مزارع مثلا لوزارة الزراعة أو جندي للحربية أو تاجر للأشغال؟ حسب الوزير أن يأخذ من كل علم بطرف على شرط أن يكون فصيح اللسان عذب البيان.
ليست الحاجة إلى البلاغة مقصورة في الحياة السياسية على الحكم الدستوري، بل تمتد إلى الدكتاتورية، وربما كانت الواسطة الأولى التي تمهد لصاحبها طريق الرآسة، فإن موسوليني أو مصطفى كمال أو لينين لم يستطيعوا الانتصار على الحكم السابق إلا بالكلام أولا.
وعلى الجملة فإن فوائد الخطابة أكثر من أن تحصى، وهي تعم الكاتب والتاجر والسياسي والقائد والعالم والمربي وكل من كتب له أن ينزل إلى ميدان الحياة ويدخل معترك الاجتماع.
ذلك ما حدا بي إلى تأليف هذا الكتاب واضعا فيه كل ما وقفت عليه في كتب القوم على ندرتها أو عرفته بالاختبار، ولا أدعي به القدرة على أن أخلق ديموستينا أو شيشرونا غير أني واثق أنه يساعد القارئ على تحقيق رغبته في أن يكون يوما من أبطال المنابر.
وقد أردت به على الخصوص خدمة المدارس على أنه لا يخلو من اللذة والفائدة للمحامي والخطيب، والله من وراء كل علم.
القسم الأول
البلاغة علما وعملا
تعريف البلاغة
1
إن تعريف البلاغة صعب ككل تعريف، جرب مثلا أن تعرف الذكاء أو الجمال أو الحكمة، فقد تظن للوهلة الأولى أن ذلك سهل المنال ولا تلبث بعد الإمعان أن تتبين خطأ ظنك فترى أنه أسهل عليك أن تدرك الأشخاص أو الأشياء المطبوعة بطابع الجمال أو الذكاء أو غيرها من أن تحلل جوهر هذه الصفات عينها. كذلك البلاغة فإننا نفهم بلا تعب أن هذا الرجل أو هذا الخطاب بليغ، ولكن الفهم شيء والتحليل شيء آخر.
جاء في البيان والتبيين للجاحظ: قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الوصل من الفصل.
وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام.
وفي العمدة لابن رشيق: سئل بعضهم: ما البلاغة؟ قال: قليل يفهم وكثير لا يسأم.
وقال آخر: هي إجاعة اللفظ وإشباع المعنى.
وقال آخر: معان كثيرة في ألفاظ قليلة.
وسئل بعض الأعراب: من أبلغ الناس؟ قال: أسهلهم لفظا وأحسنهم بديهة.
وقال غيره: البلاغة هي الإيجاز في غير عجز والإطناب في غير خطل.
وقال عبد الحميد بن يحي: هي تقرير المعنى في الأفهام من أقرب وجوه الكلام.
وقال ابن المعتز: هي البلوغ إلى المعنى ولما يطل سفر الكلام.
وقال الخليل: هي ما قرب طرفاه وبعد منتهاه.
وأنشد المبرد في صفة خطيب:
طبيب بداء فنون الكلام
لم يعي يوما ولم يهذر
فإن هو أطنب في خطبة
قضى للمطيل على المنزر
وإن هو أوجز في خطبة
قضى للمقل على المكثر
قال أبو الحسن الرماني: أصل البلاغة الطبع. وقال غيره: هي تقصير الطويل وتطويل القصير. يعني بذلك القدرة على الكلام.
وقال أبو العيناء البليغ: من أجزأ بالقليل عن الكثير وقرب البعيد إذا شاء، وبعد القريب، وأخفى الظاهر، وأظهر الخفي.
قال البحتري في وصف بلاغة عبد الملك الزيات:
ومعان لو فصلتها القوافي
هجنت شعر جرول ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختيارا
وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدرك
ن به غاية المراد البعيد
وقال بعض المحدثين: البلاغة هي إصدار المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.
ومن أقوال الثعالبي: أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقل مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه، وأيضا البليغ من يحول الكلام على حسب الأماني، ويخيط الألفاظ على قدر المعاني.
وسئل الكندي عن البلاغة قال: ركنها اللفظ وهو على ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع تعرفه وتتكلم به، ونوع تعرفه ولا تتكلم به وهو أحمدها.
قال معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عياش العبدي: ما هذه البلاغة التي فيكم؟ قال: شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا. فقال له رجل من عرض القوم: يا أمير المؤمنين، هؤلاء بالبسر والرطب أبصر منهم بالخطب. فقال له صحار: أجل والله إنا لنعلم أن الريح لتلقحه، وإن البرد ليعقده، وإن القمر ليصبغه، وإن الحر لينضجه.
وقال رجل للقباني: ما البلاغة؟ قال: كل من بلغك حاجته وأفهمك معناه بلا إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ. قالوا: قد فهمنا الإعادة والحبسة، فما معنى الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع كلامه: اسمع مني، وافهم عني، أو يمسح عثنونه أو يفتل أصابعه، أو يكثر التفاته من غير موجب، أو يتساعل من غير سعلة، أو ينبهر في كلامه، قال الشاعر:
مليء ببهر والتفات وسعلة
ومسحة عثنون وفتل الأصابع
وهذا كله من العي.
وفي كتب الإفرنج تعريفات شتى للبلاغة، نقتصر على بعضها.
قال لاهارب: البلاغة هي التعبير الصحيح عن عاطفة حقيقية.
وقال تين: هي فن الإقناع.
وقال سورن: هي الفكرة الصائبة أولا، والكلمة الملائمة بعد ذلك.
وقال بسكال: هي تصوير الفكر.
وقال لابرويار: هي نعمة روحانية تولينا السيطرة على قلوب الناس وعقولهم.
وقال دلامبر: هي فن إظهار الشعور.
وقال فيري: هي حدة التصور وقوة التصوير.
وقال لاكوردير: هي الروح التي تفلت من قيود المادة وتترك الصدر الذي يقلتها لترتمي في صدور الآخرين.
وقد سمى شيشرون البلاغة حركة الأنفس الدائمة، وأقام منها سنيك إلها مجهولا في صدر الإنسان، وجعلها كانتيليان الواسطة للحصول على الحقيقة، ووضعها كنار في القلب والتصور، وعرفها مارمونتل بأنها فطرة قبل أن تكون فنا، ومثلها الأقدمون بهيئة إله يخرج من فيه عند الكلام سلاسل ذهبية ترتمي على السامعين فتربطهم بها.
ولابن المقفع وصف طويل للبلاغة قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الإسماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل. فعامة هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة. فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين فالإكثار في غير خطل، والإطالة في غير إملال، وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته.
كل هذه التعريفات تنطبق على البلاغة إلا أنها لا تؤدي منفردة كل ما في البلاغة من معان، ولو أردنا أن نجمع بين هذه الأقوال ونؤلف منها حدا يفي بتفسير البلاغة ويعرفها حسبما يراد منها في هذا العصر ، وكما يجب أن يتصف بها خطيب اليوم لاضطررنا إلى التمييز بين البلاغة الكتابية والخطابية؛ لأنه متى كان الفكر صادقا والتعبير موافقا فقد بلغ الكاتب ما يريد، وأما الخطيب فيحتاج إلى شروط أخر؛ لأن من يتكلم ليس كمن يكتب، وقد قلنا في صدر هذا المقال إن المراد من الخطابة التأثير في الجمهور من طريق السمع والبصر، فكان من الواجب إرضاء هاتين الحاستين، والدخول عليهما بما يقتضيه العطف والإيناس، وهذا ما يحملنا على إضافة معنى آخر عند تعريف البلاغة ليس هو الإقناع كما يقول تن، بل كما يريد لاكوردير من إدخال عاطفة القائل في نفس السامع، وإذن يمكننا تعريف البلاغة هكذا: صدق التفكير وحسن التعبير وقوة التأثير.
وسيرى القارئ فيما يلي من فصول هذا الكتاب قرب هذا التعريف من الحقيقة.
2
يقول المثل: لا تعدم الحسناء ذاما. وكذا البلاغة فقد وجد من عاب بيانها وأنكر إحسانها، فقال بعضهم: إن ضرر البلاغة أكثر من نفعها؛ لأنها تسدل على الحقيقة ستارا من الألفاظ البراقة، والمعاني الخلابة فتظهر الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق.
وقال آخر: البلاغة تفعل بالتأثير لا الإقناع؛ لأنها تخدر حاسة النقد وتقيم أمرها بالإكراه بما تسوق إليه من تهييج الأعصاب، وكلما زاد عدد السامعين زاد تهييجها، فكان سلطانها أعظم تأثيرا وأبعد مدى.
وقالوا: هي الأصل في كل عداء، والسبب لكل بغضاء، ومن قديم الزمان إلى الآن لا تزال حرب اللسان سابقة لحرب السنان.
وقالوا أيضا: هي أداة نفاق لرجال السياسة يحملونها في كل ناد، ويهيمون منها في كل واد.
وهذا بعض ما قيل في ذم البلاغة، ولكنه على حد ما يقال في ذم الماء لأنه يغرق، والنار لأنها تحرق، أو ذم الدواء لأنه من جوهر سام ولو كان من ورائه الشفاء.
وقد قيل عن الحضارة والرقي مثلما قيل في البلاغة، فأشهروا إفلاس العلم وعجز الارتقاء؛ لأنه لا يزال على الأرض شقاء.
وإذا كانت البلاغة تستعمل أحيانا سلاحا للباطل، فمن العدل أن يتخذها الحق ليحارب بها الباطل؛ ولهذا جعل الأقدمون اللسان في أعلى مقام من الشرف وأدنى مكان من الامتهان.
والحقيقة التي يجب أن تعلم وتقال هي أن البلاغة ليست تجارة كلام بل فنا خطير الشأن عزيز المذهب، غايته تهذيب النفوس، وإصلاح الأخلاق، وتنوير الأذهان، وكبح جماح الشهوات، ودعم النظم والقوانين، ورد الناس إلى الصلاح، وهديهم سواء السبيل.
من هو الخطيب؟
1
هل يولد الإنسان خطيبا كما يولد شاعرا؟ أو بعبارة أصح: هل يحتاج الخطيب إلى ذلك الوحي الآتي من أعماق النفس كأنه انفجار باطني، أم يكفيه العلم والممارسة ليجد سبيلا إلى عقول الناس وقلوبهم؟
من المعلوم أن النطق عمل منعكس من أعمال النفس البشرية كالصمت أو غيره، فكما تجد من الناس من تخرسه مشاهد الوجود الرائعة فيقف منها موقف الدهشة والذهول لا يطيق حركة ولا يحتمل صوتا، تجد بعكس ذلك من لا يستطيع السكوت عما يجيش به صدره من مختلف التأثيرات كأنما هو يريد أن يشرك بها كل من حوله من حي وجماد. قال الأستاذ كركوس في كتابه فن التكلم في الجمهور ما معناه: تصور راعيا يسوق أنعامه في الخلاء وقد حيته ابتسامة الفجر، وهو يفتح للشمس قصره الذهبي، أو ناجاه الشفق الوردي وهو يخلع على الكون رداء السكون، وانظر أي أثر يكون لهذا المشهد في نفسه فقد يقف صامتا جامدا مأخوذا بروعته وجلاله أو يتناول مزماره وينفخ فيه طربا وزهوا، أو إذا كان خطيبا يرفع رأسه وعينيه ويدعو إليه قوى الوجود الخفية باحثا عنها في الريح العاصفة، أو الموجة الثائرة أو الغصن المائل مع الهواء أو الصخرة الصماء.
فالخطيب إذن هو الذي تهزه المؤثرات الطبيعية فيتردد صداها فيه بالوحي ينزل على لسانه والبلاغة تتدفق في بيانه.
2
هذا التعريف يختص بالبلاغة الفطرية، وهي اليوم لا تكفي وحدها لبلوغ الغاية من التأثير والجلوس على عرش الأسماع والقلوب؛ ذلك لأن اتساع دائرة المعارف الإنسانية وتعدد وسائل البحث والاختبار قد جعلا موقف الخطيب صعبا، فهو يحتاج إلى ذخيرة من العلم كان الأقدمون في غنى عنها لافتقاره غالبا إلى إقامة برهان وتأييد حجة ودفع اعتراض ، وإقناع فئة من الناس قد نضجت عقولها فهي لا تقبل بالكلام يرسل على عواهنه، سواء أكان هذا منها عنادا ودعوى، أم رغبة بالعلم واستزادة من الفائدة.
فالخطيب الذي يجمع إلى استعداده الذاتي وذكائه الفطري اضطلاعا واسعا، ويكون موفور الحظ من العلم واللغة ليستطيع التكلم في كل موضوع بسهولة ورشاقة وإقناع، كما يقول شيشرون، فهو المصقع البليغ الضارب على أوتار كل فؤاد.
لا بد إذن للخطيب من الدرس والمطالعة؛ لأن الحياة كما يشهدها ويقرؤها هي ميدان عمله، وليس فيها شيء لا يحتاج أن يسمعه أو يبحثه أو يعالجه؛ ولأن الروح - كما قال فولتر - نار إذا أنت لم تطعمها لتزيد وتقوى تناقصت وخبت.
لقد أتى على الإنسان مئات من السنين وهو يكتب ويخطب فما غادر الشعراء من متردم، ولم يبق فكرة لم تمر بخاطر ولم تجر على لسان، كما قال زهير:
ما أرانا نقول إلا معارا
أو معادا من قولنا مكرورا
فلا يجب أن يكون هذا مدعاة إلى شعور القارئ بقصوره عن أن يأتي بأحسن أو بأكثر مما أتاه السلف، بل ليذكر أن كل جيل من الناس ينظر إلى الحياة نظرة خاصة به مستقلة عن نظرات غيره.
وهكذا تتجدد الحياة ومع الحياة يتجدد العمل، فإذا جاز لنا أن نقول ما ترك الأول للآخر شيئا فقد جاز لنا أن نقول أيضا: لقد ترك الأول للآخر كل شيء.
وللمطالعة شرائط لا بد من اتباعها إذا أردت أن تثمر وتنتج نتاجا مفيدا، وهي: أن تكون بتأن وترو لا إفراط ولا تفريط؛ فالذين يفترسون الكتب افتراسا - إن صح هذا التعبير - لا تلبث قوة الاختراع فيهم أن تضعف والبداهة أن تضيع، ولهذا لا تجد أدنى نسبة بين عدد الكتب التي يقرؤها الرجل ودرجة ثقافته، أما من يتخذ القراءة ضربا من التسلية ووسيلة لقتل الوقت فيقرأ كما يدخن متنقلا من كتاب إلى آخر دون ترتيب ولا نظام ولا غاية معينة فهو يستفيد القليل دون الكثير، ولا يحفظ مما يقرأ إلا بقدر ما تحفظ العين من الصور المتحركة التي تتعاقب أمامها.
كانت المطبوعات في القديم نادرة فكانوا يقرءون الكتاب الواحد مرارا ولا يملون الرجوع إليه كلما اقتضت الضرورة، وقد توالت أعصر والكتب المقدسة وحدها مرجع الخطباء المصاقع، يجدون فيها ما أرادوا من وحي وإلهام، ولا ريب أن الاكتفاء بمطالعة كتاب مفيد ومراجعته خير من تقليب كتب عديدة لم تتضح فائدتها بعد.
وعلى الجملة فالدرس والمطالعة أمران لا بد منهما لفارع المنبر، وقد قال الجاحظ: لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك العلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التبحر.
3
تكلمنا عما يجب أن يكتسبه الخطيب ليساعد الفطرة ويزيد رأس ماله، وينمي فيه قوة الاختراع، ونأتي الآن على صفات أخرى لا تكتسب بالدرس، وإنما هي تتعلق بالمزاج والأخلاق والتربية الأدبية.
على الخطيب أن يكون:
أولا:
رابط الجأش، ساكن الجوارح، لا يأخذ منه الغضب ولا يفرغ عنده الصبر، فإن الذي لا يكون سيدا على أهواء نفسه لا يستطيع أن يتحكم بأهواء سواه. وإذا احتاج إلى الغضب فليكن غضبه خطابيا، فكما أن الممثل يجتهد أن يجعل تمثيله طبيعيا مطابقا للواقع، ولا يمنعه ذلك من طلاء وجهه بالدهان، فالخطيب يقدر أن يخلع على سحنته ما يريد من الملامح دون أن يمس إخلاصه أو يخل بموقفه الطبيعي.
ثانيا:
أن يكون بسيكولوجيا؛ أي نقابا، صادق الحس، ملهما، عجيب الفراسة، بعيد مطارح النظر، يدخل إلى أعماق القلوب، ويقف على مكنونات الصدور ليخاطب كل فئة على حسب هواها، ويحمل عليها على أقدار منازلها، فلا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الشباب بكلام الشيوخ، ولا العمال بكلام أصحاب المال، ويكون له فضل التصرف في كل طبقة.
ثالثا:
أن يكون سلسا، لين العريكة متضعا، يمتزج بمن يخاطبهم، ويقرب ما بينه وبينهم، فيكون في الظاهر خادما لهم وهو السيد المطلق، ويجاريهم في أهوائهم كلما قضت الحال، لأنه لا يطاع إلا إذا عرف أن يطيع كربان السفينة يلين للريح ويسايرها ليسلم بمركبه فلا يتحطم دون الشاطئ.
رابعا:
أن يكون حاضر الذهن، فلا يتجاوز في القول ما يهم سامعيه، وكلما سمع نبوة من النفوس عنه، أو ملة للقلوب منه ألقى إليهم نغمة جديدة، وطلع عليهم بفكرة غير منتظرة، فيمنع التثاؤب والملل، ويعيد الانتباه إلى مقره، ويملك عليهم سمعهم وشعورهم؛ لأن في الخروج من معهود إلى مستجد - كما يقول الجاحظ - استراحة للفكر، ورياضة للخاطر.
خامسا:
أن يكون حي الجنان، صادق البيان؛ ليحرك من الأعماق عواطف الحرية والإنسانية والتقوى والفضيلة الراقدة في قلب كل إنسان، ويمثل أمام تلك العيون المستعرة الناظرة إليه صور المجد والوطنية، ويبعث الكهربائية في نفوس سامعيه؛ فيثيرهم بإشارة من يديه، ويهدئهم بنظرة من عينيه.
4
من الناس من تجتمع فيه هذه الصفات أو أكثرها، ولا يوفق مع ذلك إلى الإجادة في الخطابة لعيوب خلقية تمنع عليه سهولة المخرج أو جهارة المنطق، أو تكميل الحروف وإقامة الوزن، كاللجلجة (التردد في الكلام) والتمتمة (التتعتع في التاء) والفأفأة (التتعتع في الفاء) واللثغة واللفف وهو أن يدخل الرجل بعض كلامه في بعض، والحبسة وهي ثقل الكلام دون أن يبلغ به حد الفأفأة، والتمتام، والحكلة أي نقصان آلة النطق، وعجز أداة اللفظ فلا يسمع الصوت تماما.
أكثر هذه العيوب تبدأ في الصغر، وأسبابها التعجل في الكلام، وعدم التروي والتدقيق في التفكير، والخجل الذي يستولي على المتكلم، فإذا كبر زادها ظهورا عدم التمرين والعادة، والتقصير في درس الموضوع الذي يراد الكلام فيه، أو في الاستعداد له أو في استظهاره، وليست معالجتهما بعيدة المنال ولا إصلاحها مستحيلا، فقد كان ديموستين ضعيف البنية والصوت، فلما اعتزم الخطابة أخذ يقوي رئتيه وصوته بالصياح وهو يصعد الجبال الوعرة، أو أمام شاطئ البحر مغالبا صخب الأمواج مما يدلك على أنه بالتربية والتمرين وجهد النفس وأخذ اللسان قد تجيب الطبيعة، ويصلح التعهد ما أفسد الإهمال.
وأعم هذه العيوب وأكثرها شيوعا اللثغة التي يحول بها اللسان من السين إلى الثاء، ومن الراء إلى الغين أو الياء، وقد كان ديموستين يسعى إلى سترها بوضع حصى في فيه عند الكلام، وتكلف مخرج الراء على حقيقتها، وروى الجاحظ عن واصل بن عطاء أنه كان قبيح اللثغة شنيعها، فحاول إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه ويناضله ويساجله ويتأنى لستره والراحة من هجنته حتى انتظم له ما حاول واتسق له ما أمل. قال الجاحظ: وكان واصل طويل العنق جدا، وفيه قال بشار الأعمى:
مالي أشايع غزالا له عنق
كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا
عنق الزرافة ما بالي وبالكم
أتكفرون رجالا أكفروا رجلا
فلما هجا واصلا وصوب رأي إبليس في تقديم النار على الطين وقال:
الأرض مظلمة والنار مشرقة
والنار معبودة مذ كانت النار
قال واصل بن عطاء: «أما لهذا الملحد المشنف المكتنى بأبي معاذ من يقتله؟ أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالين لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه ويقتله في جوف منزله وفي يوم حفله.» فتجنب الراء في كل الجملة، وحين لم يستطع أن يقول بشار وابن برد والمرعث؛ جعل المشنف بدلا من المرعث، والملحد بدلا من الكافر، وقال: لبعثت إليه من يبعج بطنه. ولم يقل لأرسلت إليه، وقال: على مضجعه. ولم يقل على فراشه.
وقد يفسد النطق عند الكثير من الخطباء بفساد طريقة التنفس وجهلهم أصولها، وقد شرحنا هذا في القسم الثاني من الكتاب، أو لعله في اللسان أو الشفاه أو في الأسنان من نقص أو تكسر.
وخلاصة القول: أن التغلب على هذه العاهات لا يتعذر على الحكيم الصبور بالتمرين والحيلة، والانتباه الدقيق والتأني في تلفظ الحروف وما إليه.
الإنشاء الخطابي
1
للكتابة إنشاء خاص، وللكلام إنشاء آخر، ومن يجيد الواحد قد لا يجيد الثاني، بل ربما كان تناقض بين الاثنين، فإن السواد الأعظم من مشاهير الكتاب لم يكونوا خطباء، وبخلاف ذلك قلما تجد بين الخطباء من لا يعد كاتبا.
وإذا كان الكاتب غير الخطيب، فليس ذلك فقط لأنه لا يعرف أن يتكلم كما يعرف أن يكتب، بل لأن كتابته لا توافق المنبر، فإن المكتوب ينال بالنظر ويذاق بالفكر، أما المقول فهو لا يصل إلى القلب إلا إذا مر في الأذن، وللأذن إحساس يجب إرضاؤه ونعومة يحاذر من تخديشها، والشعور الذي يثيره السمع ليس كالذي تولده القراءة، فضلا عن ذلك فإن عقلية الجمهور المحتشد في مكان عمومي تختلف عن عقلية الفرد المعتزل في غرفته.
إذن يوجد إنشاء للسمع كما يوجد إنشاء للقراءة، فما هي أصول هذا الإنشاء وقواعده؟
قال ابن المعتز والشيباني: إن البلاغة بثلاثة أمور؛ أن تغوص لحظة القلب في أعماق الفكر، وتتأمل بوجوه العواقب، وتجمع بين ما غاب وما حضر، ثم يعود القلب على ما أعمل به الفكر فيحكم سياق المعاني والأدلة، ويحسن تنضيدها ثم يبديه بألفاظ رشيقة مع تزيين معارضها واستكمال محاسنها.
هذه الأركان الثلاثة التي تقوم عليها البلاغة هي ما يسميه الإفرنج في تقسيمهم بالاختراع أو الإيجاد والتنسيق والتعبير.
فالاختراع هو استنباط الوسائل
1
الخليقة بإقناع السامع وتحريك عواطفه.
والتنسيق هو تنظيم الخطبة وإحكام ربط أجزائها بعضها ببعض، وترتيبها ترتيبا جميلا بحيث تكون أبين غرضا وأحسن في النفوس وقعا.
2
والتعبير هو إفراغ المعنى في القالب الموافق، وإلباسه الحلة اللائقة به ليصل إلى قلب السامع من أقرب طريق وأسهل سبيل.
ولكن هذا التقسيم يشمل الكاتب والخطيب معا، ولا يبدأ الفرق بين الاثنين إلا عند الركن الثالث؛ فإن تعبير الخطيب يتبع الذوق وما يدعو إليه المقام من تقصير الجمل أو تطويلها والتكرار تارة والتسجيع طورا، وانتقاء الألفاظ الموسيقية الخفيفة على السمع المؤثرة فيه أثرا حسنا، والتحليق في سماء الخيال حينا، والنزوع إلى النكتة حينا آخر مع تطبيق ذلك على ما يضاف إليه مما يكمله كالإشارات والملامح والنظرات ونبرات الصوت وجاذبية الخطيب، وسائر ما يمكن الإنسان الحي أن يضيفه من الحياة إلى هذا الشيء الحي الذي يقال له خطابا.
وها نحن أولاء نبحث فيما يتعلق بهذا التعبير ويخلع على الإنشاء الخطابي مسحة خاصة جاعلين فصلا آخر لما نسميه مكملات الخطيب، فيرى القارئ بعد هذا الشرح صدق التعريف الذي وضعناه للبلاغة في أول الكتاب.
2
إن الكلمات التي تؤلف منها الجمل هي كحجارة الفسيفساء لها لونها الخاص وشكلها المحدود، ولكنها تمثل صورا مختلفة حسب تركيبها وتداخلها بعضا في بعض، فكما أنك قد تجعل من قطع الفسيفساء صورة تدل على القبح أو الحسن والألم أو اللذة وغير ذلك من الأضداد تبعا للطريق التي تؤلف بها بينها كذلك تستطيع - حسب اختيار الألفاظ وتركيبها - أن تمثل هذه العاطفة أو تلك تمثيلا كاملا أو ناقصا، ولا يتم لك الإتقان إلا إذا وقع اختيارك في موقعه وكان لك اللفظ الموافق والتعبير الصادق.
قال القلشقندي: إن الألفاظ من المعنى بمنزلة الثياب من الأبدان، فالوجه الصبيح يزداد حسنا بالحلل الفاخرة، والقبيح يزول عنه بعض القبح كما أن الحسن ينتقص حسنه برثاثة ثيابه وعدم بهجة ملبوسه، والقبيح يزداد قبحا إلى قبحه. وقد قال أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين: ليس الشأن في إيراد المعاني لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف.
من الألفاظ ما هو فخم كأنه يجر ذيول الأرجوان أنفة وتيها.
ومنها ما هو ذو قعقعة كالجنود الزاحفة في الصفيح.
ومنها ما هو كالسيف ذي الحدين.
ومنها ما هو كالنقاب الرقيق يلقيه الشعر على بعض العواطف ليستر من حدتها ويخفف من شدتها.
ومنها ما له وميض البرق.
ومنها ما له ابتسامة السماء في ليالي الشتاء.
من الكلام ما يفعل كالمقرعة وهو كلام الانتقاد والتنديد، ومنه ما يجري كالنبع الصافي وهو المعد للرضى والغفران.
ومنه ما يضيء كالشهب وهو كلام التعظيم.
كذلك من الألفاظ ما ليس له طابع خاص فيؤتى به لتقوية الجملة ودعم المعنى فهو يلائم كل حال.
تلك هي الأدوات المعدة لبناء الخطبة تتطلب مهندسا بارعا ومصورا حاذقا ليؤلف بينها تأليفا موافقا ويرصفها رصفا حسنا، ويخلع عليها بردا جميل النسج لامع الديباجة، يترجم معنى العظمة أو الجمال أو القوة كما في حجارة الفسيفساء. وإذا وقف الخطيب عند انتقاء الألفاظ ولم يعن بالتأليف والرصف فاته القصد وقصر دون الغاية من البلاغة؛ لأن الألفاظ حاصلة لكل إنسان دائرة على كل لسان، ولا يمتاز جامعها إلا بفضل تركيبها، قال الجاحظ: انظر إلى قوله تعالي:
وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين
وما اشتملت عليه هذه الآية من الحسن والطلاوة والرونق والمائية التي لا يقدر البشر على الإتيان بمثلها، ولا يستطيع أفصح الناس مضاهاتها، على أن ألفاظها المفردة كثيرة الاستعمال دائرة على الألسنة، فقوة التركيب وحسن السبك هو الذي ظهر فيه الإعجاز.
إن البلاغة لا تقتصر على إفهام السامع كلام القائل وإلا لتساوت الفصاحة واللكنة والملحون والمعرب، وإنما المقصود الإفهام على سنة كلام البلغاء بأن «يجعل لكل طبقة كلام، ولكل حال مقام» وأن يخلع الخطيب من ألفاظه على معانيه حلة نور وضياء؛ ليتسنى للسامعين أن يشاركوه في تلك الرؤيا الجميلة التي تتجلى في ذهنه وبين تصوراته، ولا يكون الخطيب فيما يقول كالرجل الذي يكثر من الإشارات في الظلمة ثم هو يتعجب كيف لا يراه الناس.
3
إن الأساس الذي يبنى عليه الإنشاء الخطابي هو العاطفة والشعور لأن الغاية الأولى من الخطاب هي أن تنقل ما في قلبك من الإحساسات إلى قلوب سامعيك، قال دلامبر: «إن الذي يكتفي بالإقناع دون التحميس فهو متكلم لا بليغ.» وقال رفالور: «إن الأهواء والعواطف هي الخطيب في الجماهير.» وقال ميرابو: «السر كل السر في البلاغة الخطابية أن يكون الإنسان ملتهبا بالعواطف.» قال الحسين - وسمع متكلما يعظ فلم تقع موعظته من قلبه بموضع: «يا هذا إن بقلبك لشرا أو بقلبي.» يريد أن الكلام الخالي من العاطفة قد يكون مفعما بالحقائق، ولا يجد مع ذلك سبيلا إلى النفس.
وبما أن الشعور هو إحساس الخطبة كانت البساطة أجمل حلة يلبسها الإنشاء الخطابي، ولا أعني بذلك أن يكون الكلام مبتذلا عاميا بل أن يوافق الزمان والمكان، فللمعاني العظيمة كلام عظيم كما بينا، ولا يستلزم كون الجمهور من العوام أن ينزل الخطيب بأساليب التعبير عن مقامها بل عليه أن يرفع العامة نحوه لأن الفن فن أينما كان.
4
وبعد العاطفة يأتي الخيال والتصور الشعري لما فيهما من حلو التنقل الذي يسوق إليه التلاعب بالمعاني، ونتيجته تجديد الانتباه عند السامع ودفع الملل عنه فضلا عما يكتسبه الخطاب من جميل الألوان وبديع الزخرفة وجديد الصور، كما سترى في غير هذا المكان.
ولكن للتصور والخيال حدودا إذا تعداها الخطيب وقع فيما حاذره، ومهما يكن من أهمية الموضوع وجمال الصور المعروضة فإن الإسهاب أو الضرب على وتيرة واحدة يتعب السامع ويفضي به إلى السأم، ألا ترى أن إطالة النظر إلى الغدير الجاري والاستمرار على سماع خريره العذب يفضيان بنا إلى النعاس؟ بل إن هدير الأمواج المتصاخبة، وزئير الرياح العاصفة، ولعلعة الرعود على ما فيها من تهييج الأعصاب تنتهي بنا إلى النتيجة عينها إذا طال أمرها وتكرر حتى تألفه الأذن ويأمن منه الخاطر. كذلك إنشاء الخطيب إذا ازدحمت فيه المعاني الشعرية وتكاثرت فيه صور الخيال، فإن العقل يتعب والانتباه يتبدد ولا يبقى من الخطاب في أذن السامع إلا سلسلة أصوات متعاقبة كأنها آتية من أعماق النوم.
5
أما الإكثار من الأدلة المنطقية والإغراق في الشرح والتفصيل والإسهاب في البيان والتعليل فذلك جائز في نثر الكاتب؛ لأن للقارئ متسعا من الوقت للتأمل والتبحر بخلاف السامع الذي يتلقى الجملة بعد الجملة ولا قبل له بالمراجعة أو التوقف، بل تراه مضطرا إلى اتباع الخطيب والتقاط أقواله المتدفقة على سمعه؛ ولهذا كان من اللازم أن تأتي هذه الأقوال واضحة صريحة مختصرة تفعل بالجزم والتأكيد أكثر مما تفعل بالبرهان والمنطق.
إن القارئ حر في مواصلة قراءته أو الوقوف للاستراحة والتأمل، وأما السامع فهو معلق بشفتي الخطيب محمول معه في كل ناحية لا قبل له بالوقوف أو الإعراض دون أن تنفصم عرى الألفة بينهما؛ فيذهب من الخطاب رونقه أو بعض رونقه، وتفوت السامع فائدته أو جزء من فائدته.
وبقدر ما يقتصد الخطيب على السامع في ألفاظه وجمله يوفر من انتباهه لإدراك معانيه والتأثر بها لأن اللغة - كما لا يخفى - هي في آن واحد آلة للنقل وعائق دونه.
فالإنشاء الخطابي يختلف كثيرا عن الرسائل لاضطرار الخطيب أن يتبع فيه أحوال نفسه والمكان الذي يتكلم فيه والجمهور الذي يصغي إليه، فتكون اللفظة في وزن الإشارة، والمعنى في طبقة اللفظة فيفصل بين الجمل ويكرر بعض الألفاظ مسهبا هنا موجزا هناك، متمهلا في بعض المواضع مكرا في غيرها، واقفا حينما يرى ضرورة الوقوف ليترك للسامع مجالا يستوعب فيه ما أراد أن يلقيه إليه أو يقصر انتباهه عليه.
على كل حال فإن آفة الخطابة التطويل، ومهما تكن العبارات متناسقة والإنشاء رشيقا والموضوع شيقا والخطيب ممتازا، فما منع ذلك أن يكون السامعون بشرا مثله لهم آذان تصم إذا أجهدتها، وبصر يكل إذا أتعبته، ولا يجب أن ينسى الخطيب أن استعداد الجمهور أو قابليته للإصغاء ليست واحدة فعليه أن يختار أوسط الطرق في شرحه وبيانه. يروى أن ابن السماك جعل يتكلم وجارية له تسمع، فلما انصرف إليها سألها كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنك تكثر ترداده. قال: أردده حتى يفهمه من لا يفهمه. قالت: إلى أن يفهمه من لا يفهمه يكون قد مله من فهمه.
إن العبرة كل العبرة هي أن يحمل الخطيب عقول سامعيه في تيار العبارات الجميلة الموسيقية، فيهز تلك العقول هز الطفل في السرير، ويملك عليها جهد التفكير ويخدر فيها حاسة النقد، ويجعلها في شبه غيبوبة من سكر الفصاحة، ثم تأتي كلمة هي الكلمة الفاصلة المنتظرة مدعومة أحيانا بنبرة في الصوت أو ضربة على المنبر فتوقظ تلك النفوس وقد عرفته بعد إنكارها ونازعت إليه بعد نفارها.
واللغة العربية قابلة للإنشاء الخطابي أكثر من سواها لوفرة غناها بالألفاظ والتشابيه والاستعارات وما فيها من جزالة لفظ وفخامة تركيب ورنة تسجيع، وما تقدر عليه من إيجاز وإطناب، فإذا ساعدها الأسلوب والخيال كانت على لسان البليغ خمرا تدب في النفوس وسحرا يسطو على الرءوس.
وربما نزل الإنشاء الخطابي أحيانا عن نثر الكاتب في دقة المعنى ومتانة المبنى إلا أن في فصاحة اللهجة وجمال اللفظ وجهارة الصوت وإجادة الأداء ما يستر هذا العيب، فيخرج السامع مأخوذا بما سمع ولو لم يحفظ منه شيئا قانعا بما أحس به من التأثير، راضيا عما حصل عليه من اللذة.
نختم هذا الفصل بذكر ما ورد على لسان بشر بن المعتم من غالي النصائح في تعليم البلاغة قال:
خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك؛ فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرا وأشرف حسبا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من ناقص الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالفكر والمطاولة والمجاهدة، وبالتكليف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا وخفيفا على اللسان سهلا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه.
وإياك والتوعر فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراد معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما؛ فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، ولا تهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما وكن في ثلاثة منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقا عذبا وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا وقريبا معروفا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من مقال.
وكذلك اللفظ العامي والخاصي فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولطف مداخلك واقتدارك على نفسك أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء ولا تجفو عن الأكفاء فأنت البليغ التام.
فإن كانت المنزلة الأولى لا تؤاتيك ولا تعتريك ولا تسنح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصر إلى قرارها وإلى حقها في أماكنها المقوية لها والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها وكانت قلقة في مكانها نافرة في موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بترك ذلك أحد، وإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقا مطبوعا ولا محكما لسانك بصيرا بما عليك أو ما لك؛ عابك من أنت أقل عيبا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك، فإن ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصيغة ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة وتعصى عليك بعد إجالة الفكر، فلا تعجل ولا تضجر ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمؤاتاة إن كان هناك طبيعة أو جريت من الصناعة على عرف.
فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض، ومن غير طول إهمال فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك وأخفها عليك، فإنك لم تعشقه ولم تنازع إليه إلا وبينكما سبب، والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات؛ لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة كما تجود به مع المحبة والشهوة، فهكذا هذا.
هوامش
المنبر
الخطيب على المنبر
يرى القارئ على هذه الصفحات صورا لمواقف خطابية مختلفة للمؤلف، وقد راعى فيها الموقف والإشارة كما كتب تحت كل صورة العبارة المناسبة لموقفها.
أنا لا أدينك يا إلهي إنما لم تنقص الدنيا شرائعها معي! يا إله السموات دعها ودعني أتول تعذيبها بيدي «رواية الخداع والحب».
لو بدا الدستور جسما قائما لرأيتم رمما فوق رمم «عيد الدستور العثماني».
تحكم أيها الألم في نفسي فقد وضعتها بين يديك وجعلتها وقفا عليك «من خطاب الألم للدكتور فياض».
فلتبارك إلى الأبد أيها الرجل العظيم «تأبين كرنيليوه فندك للدكتور فياض».
غير دين الحب لا دين لنا نحن في البؤس سواء والنعيم «من قصيدة الدستور للدكتور فياض».
حذار يا قوم حذار فقد تأتي ساعة تسقط بها كل هذه الحواجز «من خطاب للدكتور فياض».
كفى كفى شاهدته سجنا مخيفا مظلما «أديب إسحاق». أنا ابن الشمس فكونوا أبناء الظلمات.
إلا إذا كنا رجالا وليس فينا دم الرجال.
أفبعد هذا تتعجبون أن سميت هذا اليوم عيدا قوميا «من خطاب للدكتور فياض».
رأيت ومن فوق ما رأيت، رأيت غراب الطائفية الأسود باسطا جناحيه على القلوب «من خطاب أنا وأنتم للدكتور فياض».
على قدر أهل العزم تأتي العزائم (المتنبي) «إن أكبر الحسنات التي يتمتع بها العالم لم تصدر عن أهل الغنى ... ولكنها خارجة من أكواخ بلا سقوف، وبيوت سودها الدخان، وأيد لم يضرها الصوم.» «من خطاب للدكتور فياض.»
يا ليل قف فحرام أن تطير بنا من قبل أن نتملى من أمانينا «تعريب البحيرة للدكتور فياض».
تلك ساعة العجب يوم ترون أن بين عشية وضحاها قد نبتت في هذه النعاج أنياب الذئاب «من خطاب للدكتور فياض».
وإذا كنت بيننا - لا سمح الله - كعيسى عندما حرمه أبوه من ندى السماء ودسم الأرض ولم يبق له غير سيفه ليعيش فعصاك سيفك بعصا الرعاية تسود وعصا السيادة ترعى «من خطاب يوم انتخاب مطران بيروت للدكتور فياض».
هنا تجسمت التعاسة ولبثت أجمل أثوابها القبيحة «بيت المرضى للدكتور فياض».
فعلمت أن الحب وحده شرارة الوجود يلهب القرائح كما يلهب الخدود «خطاب المرأة والشعر للدكتور فياض».
وخفوق القلب داء مزعج حير الناس فقالوا: عصبي زعموا الطب عليه قادرا، وأنا أدرى فقد جربت بي. «خطاب القلب البشر للدكتور فياض». (1) الوقفة
كان الخطباء في القديم يتكلمون وقوفا إلا في الأحوال العادية البسيطة، ولم يكن لخطيب الرومان ما يعيق حركاته فكان مستقلا عن المنبر لا يجد أمامه ما يستند إليه أو يضايقه.
وكان من عادة العرب الوقوف على نشز من الأرض، أو القيام على ظهر دابة ورفع اليد ووضعها واتخاذ المخاصر بأيديهم والاعتماد على عصا، أو قناة أو قوس والإشارة بها.
وأول من عمل المنبر فيهم تميم الداري، عمله للنبي وكان قد رأى منابر الكنائس بالشام.
أما اليوم فأيان كان الخطيب فالغالب أن يضع أمامه شبه مائدة أو كرسيا أو غير ذلك، وهو لا يحتاج عند الانتبار إلا إلى اتخاذ وقفة طبيعية بعيدة عن التكلف مع اجتناب بعض العادات المستهجنة؛ كوضع اليد على الجنب أو كثرة الحركة والتخطر جيئة وذهابا.
وإذا كان في المنبر فائدة للخطيب الحديث العهد بالخطابة لأنه يجد فيه شبه فاصل يحميه من الجمهور، فالمقتدر الجسور يتضايق منه ويشعر كأنه مأسور في قفص يضع حدا لحركاته وصوته.
على كل حال يجب أن يكون الخطيب في وقفته معتدل القامة آخذا بصدره إلى الأمام، مقدما رجلا عن الأخرى لأجل التوازن وإراحة التنفس وإسعاد الصوت.
ولا بد له قبل الشروع في الكلام من التنظر حينا؛ ليتم له السكوت ويكون لديه متسع من الوقت للتعرف إلى الجمهور، ولا سيما إذا كان صعوده إلى المنبر بعد نزول خطيب آخر عنه، فإن هذا التريث يساعد على إلفات نظرهم وجمع انتباههم بعد أن يتباعد عنهم صوت الخطيب السابق، ويذهب صداه من آذانهم فيكون للكلام الجديد موقع ألطف في القلوب ومخالطة أجمل للنفوس. (2) الصورة
لا ريب في أن جمال الملامح واعتدال القامة من الأمور التي تساعد على إجادة التأثير، غير أنها ليست واجبة الوجود، وهذا هو ميرابو خطيب الثورة الفرنسية كان من البشاعة على جانب عظيم، ولم يمنعه ذلك البلوغ من تأثيره في معاصريه إلى أبعد مدى وكذلك دانتون.
ذلك لأن جمال النفس والعواطف يتجلى عند الكلام في الوجه والعينين، وهو الذي يخلع على سحنة المتكلم حلة من الرواء تأخذ بلب السامع فينسى معها قبح المنظر، وقد كان أحد أشياع سوكرات يقول لتلميذه: تكلم حتى أراك.
وحكي عن كوكلين الممثل المشهور أنه لما ظهر على ملعب التمثيل في رواية سيرانو ده برجراك، وهو يحمل أنفا دونه أنف ابن حرب كاد الضحك يستولي على النظارة، فما هو إلا أن تكلم حتى ملك الآذان برخامة صوته وبلاغة الشعر الذي كان يلقيه إلقاء ليس وراءه معلق لطاعن، ولا مأخذ لعائب فكانت النفوس تتهادى تحت نغماته الساحرة كما تتهادى مع النسيم أغصان الشجر.
ثم إن في دمامة الخلق مفاجأة تحمل الإنسان على الإعجاب بعد التعجب، والإكبار عقب الازدراء؛ لأن الناس كما قال الجاحظ: يقدرون عادة غير ما يضمر الخطيب، فإذا بحسن كلامه قد تضاعف في صدورهم ونال منهم أكثر مما لو كان جميل الطلعة.
ذكر الجاحظ أن أبا وائلة بن معاوية المزني أتى حلقة من حلق قريش في مسجد دمشق فاستولى على المجلس، ورأوه أحمر دميما باذ الهيئة قشفا فاستهانوا به، فلما عرفوه اعتذروا إليه وقالوا: الذنب مقسوم بيننا وبينك؛ أتيتنا في زي مسكين تكلمنا بكلام الملوك. (3) الصوت
من المعلوم أن جهارة الصوت وحلاوة نغمته وصفاء رنته من الأمور اللازمة لكل خطيب؛ لأن عليها المعول في إيصال كلامه إلى آذان السامعين فقلوبهم، وقد أسمى الأقدمون الصوت نورا؛ لأنه يحمل شعلة الضياء إلى الأذهان، وكم من الخطباء الذين يسحرون بصوتهم أكثر من بيانهم.
لهذا كان من الواجب على كل من فرع المنبر أن يعنى بصوته عناية خاصة، ويدرس درجة استعداده ومدى اتساعه ومقدرته على احتمال التعب فيصرفه فيما يلائم من وجوه الكلام ولا يحمله فوق طاقته، فإذا كان الخطاب طويلا والمكان واسعا وليس في صوته سعة المكان والوقت لم يرتفع به عن طبقة معلومة ولا سيما في بداية الخطبة لئلا يسرع إليه التعب فيقصر عن مدى غايته، فضلا عن ذلك فإن عليه أن يتمهل في النطق ليساعد الصوت فلا يفوت الأسماع من مقاطعة ما يضر بالنتيجة ويقف دون المراد.
كانت الخطابة قديما في الأماكن العمومية، ولما خطب أرسامنيوس الثاني داعيا إلى الصليبية كان الجمع المحتشد عظيما إلى حد أن ضاقت به المدينة فأقاموا للبابا منبرا على أكمة في خارجها، وبما أنه لا يمكن لصوت بشر أن يسمع كل هذا الحشد فقد كانت الناس تنقل كلامه من صف إلى صف.
وكذا جرى في أرلندا عندما كانت تتألب الناس لسماع أوكونل غير أن الكلام في الفضاء يتعب الصوت كثيرا، ومهما يستعمل الخطيب من الحكمة والتفنن في إسماع صوته لا يسلم من الكلل والعياء، أما في الأماكن المقفولة فمن السهل اجتناب الإجهاد، وكل ما يتعب الحنجرة على شرط أن يكون شكل البناء في هندسته موافقا لنقل الصوت فيسهل على الخطيب إيصاله إلى كل ناحية.
إن سرعة الصوت هي 341 مترا في الثانية على حرارة 16 سنتيكرادا، وكلما خفت الحرارة خفت سرعته، فالهواء الساخن هو إذن أفضل لنقل الصوت، وهذا ما يجعل الكلام أولى في الأماكن المحصورة، أما الريح فإنها تؤثر في قوة الصوت لا في سرعته.
وبعد أن يتبين الخطيب درجة صوته، واستعداده ومداه، وحالة المكان عليه أن يجتهد في تحصيل أقصى ما يمكن تحصيله من الصوت، فلا يتوجه به إلى فوق أو إلى الجانبين فيبدد أكثره سدى، وعليه أن يتلاعب به بين صعود وهبوط مغيرا في نبرته ونغمته ووقفاته حسب المعنى والصورة والعاطفة إبعادا للملل جامعا بين الصوت الطبيعي والصوت الموسيقي متحاشيا أن يضعف الصوت في آخر الجملة لئلا تنتهي هذه بين شفتيه كأنها تحتضر ولا تصل الآذان إلا مائتة.
وسنرجع فيما بعد إلى الكلام عن الصوت وطرق تقويته بالوسائل الطبية والقواعد الصحية. (4) الإشارة
لا يخفى أن للإشارة أهمية كبرى؛ لأنها تشارك النطق في نقل الفكر متخذة لها البصر سبيلا، فهي اللغة العمومية التي يفهمها كل إنسان وما تحدثه من التأثير هيهات أن تأتي بمثله لغات العالم.
والخطيب البليغ قلما يحتاج إلى الإشارة عندما تتزاحم على شفتيه خواطر القلب والفكر، ومن الخطباء من لا يستعملها أبدا، كما أن منهم من يفرط فيها؛ وهذا يرجع في الغالب إلى العادات والأخلاق، فالأنكلوسكسون مثلا خلاف الشعب اللاتيني، ولهذا عندما ذهب جوريس إلى لندن للخطابة في جماعة الاشتراكيين لم يجد من النجاح ما تعوده في بلاده، بل كان تعجب القوم منه أكثر من إعجابهم به.
على أن الإشارة كما قلنا ضرورية للخطيب بوجه الإطلاق، وبها يملك الانتباه ويصل إلى ما يبغي من التأثير. والصوت مهما تختلف تموجاته لا يكفي للإفادة والإقناع، والتعبير عن معاني اللذة والألم والغضب واليأس والاحتقار، وما إلى ذلك إن لم تساعده حركات اليد وملامح الوجه وبريق العينين وإشارة الطرف والحاجب.
فضلا عن ذلك فإن حركة الأيدي فسيولوجية؛ أي إنها لازمة طبعا؛ لأنها تساعد على إنماء الصدر وإخراج الهواء كلما احتيج إلى رفع طبقة الصوت كما في حال الغضب أو غيره، ولا يستطيع المرء أن يتكلم بصوت عال ويداه إلى جنبيه دون أن يحس ضيقا وتعبا.
وقد اتفق الفن مع الهجين ففي الكلام العادي المعتدل كالوصف مثلا يجب قلة الحركة، وأما في الحماسة وغيرها من مثيرات العواطف فالحركة الكبيرة الواسعة لازمة لتفريج الصدر الممتلئ هواء فلا ينال التعب من الخطيب أو صوته.
ولكن الإكثار من الإشارة باليد خطل وتبديد لانتباه السامع، فعلى الخطيب أن يفهم ذلك فيقتصد فيها، وأن يتخذ الذوق مرشدا ودليلا.
ويجب أن توافق حركة اليد المعنى وتسبقه فإن قلت لإنسان مثلا: اخرج من هنا. فأول ما ينتظره منك أن تمد يدك أو إصبعك نحو مكان الخروج كأنك تدله عليه.
وليست كل الإشارات لازمة في كل حال، بل منها ما لا حاجة إليه على الإطلاق ولا معنى له كمد الإصبع، أو بسط اليد أو الضرب على المنبر عند كل جملة أو حك الرأس أو ما وراء الأذن.
وتختلف الإشارة باليد حسب المكان فتكون واسعة في الهواء المطلق، وقد يستغنى عنها في المكان الضيق فيكتفي الخطيب بملامح الوجه وحركات الطرف والحاجب.
شروط الإشارة باليد (1)
أن لا تمر من أمام جسم الخطيب. (2)
أن لا تخفي وجهه. (3)
أن توافق المعنى فلا تكبر وتتسع لدى الشرح الهادئ. (4)
أن تكون سريعة في أولها كلما كان الكلام حادا ملتهبا. (5)
أن تسبق الكلام ولا تأتي بعده. (6)
كلما احتيج إلى الإشارة بيد واحدة تستعمل اليد اليمنى إذا كانت الرجل اليمنى إلى الأمام والعكس بالعكس.
عيوب الإشارة (1)
الضعف:
عندما لا تأتي مع المعنى ولا تدعمه. (2)
الإبهام:
عندما يحتد الخطيب بلا سبب ويأتي بها غير مطابقة لمعنى الجملة. (3)
المبالغة:
عندما يفرط فيها بلا حساب. (4)
الكذب:
عندما تأتي مخالفة للفكر والعواطف.
قلنا إن الإشارة لغة النطق؛ ولهذا كان لها مثله قواعد، فكما تتميز بعض الألفاظ عن سواها، ويقف المتكلم عندها لأهميتها تمتاز بعض الحركات فيقف بها عند هذا الظرف ، أو ذاك الفعل أو تلك الصفة. وإذا اجتمعت صفتان في جملة فالإشارة تكون للصفة الأخيرة، كما لو قلت: هذا رجل عاق خائن. فالإشارة يجب أن تكون للخيانة دون العقوق، وقس عليه. وكلما كان تدريج في التصورات كان مثله تدريج في الكلمات، وكان مثله تدريج في الإشارة؛ لأنها - كما قلنا وأعدنا - لغة مكملة للنطق وخادمة له، وبدونها لا يكون للخطاب أثره المطلوب.
وعلى الخطيب أن يكون طبعيا ويحمل في نفسه شرارة الإيمان بما يقول؛ ليؤثر من غير صراخ ولا تصنع. وكل المواعظ والخطب لا تجدي فتيلا إذا لم يعرف قائلها أن يترجم بإشارة أو حركة ما لا يمكن الكلام أن يعبر عنه، وكم من إشارة تغني عن جملة طويلة. (5) السحنة
يجب أن تشارك ملامح الوجه والألحاظ حركات اليد ونبرات الصوت، وإلا كان الخطيب باردا لا حياة في بيانه ولا قوة في برهانه.
إن في العيون لغة تمثل الرجاء والأمر والتعجب والسرور واليأس والسخرية والاحتقار والغضب والحب وما إلى ذلك، وفي ملامح الوجه الشباب والهرم والصحة والمرض والألم والقوة وما شاكل.
فالشباب والصحة والغبطة تجدها في ارتفاع خطوط الوجه، كما تجد المرض والضعف والألم في انخفاضها، وعليه يسهل على الخطيب أن يخلق ملامح الوجه كما يريد؛ لأن الصورة البشرية لا تمثل في حال الراحة المطلقة إلا خطوطا مستقيمة، فإن أردت أن تظهر انتباها بدون تهيج فبارتفاع خطوط الوجه قليلا، وإن أردت إظهار الرضى والسرور زادت الخطوط ارتفاعا إلى أن تبلغ الفرح الأقصى فترتفع الخطوط ارتفاعا عظيما، وإن أردت أن تظهر قلقا أو تفكيرا فيكفي أن تخفض الخطوط قليلا، أو خوفا فتزيد خفضها، وهكذا إلى أن تمثل لك الألم والعذاب بانخفاضها انخفاضا كاملا، ومتى أضفت إلى هذا الانقباض انقباضا عصبيا فقد عبرت أحسن تعبير عن الغضب والاحتقار والبغض.
كل هذه الحركات لا يحتاج إلى الدلالة بها في آن واحد، ولا يستفيد منها كل خطيب، والعبرة في أن يكون مجموع الهيئة مطابقا معنى الكلام موافقا فكرة المتكلم؛ قال لاروشفوكولد: البلاغة هي في الصوت والملامح مثلما هي في اختيار الكلام.
أما العيون فهي أصدق ترجمان عن العواطف المختلفة الكامنة في كل إنسان، فإن أردت التعبير عن الغيظ أو الدهش أو الإعجاب أو الخوف فتحتها، وإن أردت التعبير عن القلق والتواضع والمسكنة قفلتها، أو الجزع والاشمئزاز والرياء وما شاكل أدرتها يمنة وشمالا، أو الدعاء والألم الشديد رفعتها إلى السماء، أو اليأس والعار والتفكير والحيرة والخشوع والحياء خفضتها إلى الأرض، أو الشدة والإثبات والرجاء وغيره أثبتها في مكانها، والظفر والفرح وما إليهما يكسبهما تألقا وبريقا كما أن الضعف والمرض يكسوهما جمودا كالزجاج.
أما إطباق الجفون عند التكلم أو الشخوص بالنظر إلى جهة واحدة فهذا ما يجب على كل متكلم أن يتحاشاه.
وهناك حركات أخرى للرأس والكتف وغيرهما نكتفي بالإشارة إليها؛ لأنها تخص الممثل أكثر من الخطيب.
هذه الشروط التي تجعل للمنبر ذاتا معينة، وكل خطيب حافظ عليها فقد استوفى حظه من البلاغة، وكان له من التأثير أبعد مداه وأقصى مرماه. وقد وقعت على غير خطبة اشتهر قائلها بعلو الكعب في الخطابة، فلم أجد لدى قراءتها ما يبرر تلك الشهرة مما يدلك أن الصوت وحسن الأداء وهيئة الخطيب هي من العوامل القوية التي تكفي أحيانا لتزين المنابر وتعطي وثابها سلطانا على القلوب.
ولا بد قبل الختام من التنبيه إلى اللباس وضرورة الاهتمام به؛ لأن جمال الهندام يؤثر حتى في نفس اللابس، ولهذا تجد للإفرنج عناية خاصة به ولا يتسامح أحد منهم في إهماله. وقد رأينا تتميما للفائدة أن نورد في آخر هذا الفصل بعض الرسوم التي تستعمل فيها الإشارات، وتدل على المواقف التي تنقبض فيها اليد أو تبسط وتطوى الأصابع أو تنشر بالنسبة إلى الخطيب والموضوع، وما يقتضيه البرهان أو النفي أو التعجب أو الوعيد أو الاستعطاف أو النفور وما شاكل. (6) خلاصة ما تقدم
كن في وقفتك بعيدا عن التكلف، واجتنب الخروج عن المألوف في إشاراتك وإلقائك، وحافظ ما أمكن على صوتك الطبيعي ولا تقلد غيرك من الخطباء والوعاظ والممثلين.
وجنب في بداية الخطاب عن التزام نبرة واحدة وحركة واحدة؛ لئلا تشبه التلميذ في تلاوة درسه لا الخطيب في فيض بلاغته.
وأفرغ من نفسك في صوتك وحركاتك لتخلع على كلامك برد الحياة، ولا تنس أن تنوع نبرة الصوت دون أن تخرج به عن الطور الطبيعي فتتعب سامعيك.
وعلى الجملة فلتكن البساطة دليلك، والطبيعة هاديك فترسل كلامك إلى أعماق القلوب بلا صياح ولا جهد ولا تدجيل.
وإذا لم تساعدك الطبيعة فكنت محروما جمال الطلعة، أو اعتدال القامة فإن لك ما يغطي هذه العيوب ويستر تلك النقائص بالتمرن على حسن الإلقاء والعناية بالصوت وتربيته بالرياضة لتأخذ من النغمات العالية رنتها والوطيئة قوتها.
وإياك والإكثار من الإشارة أو الإتيان بحركات مستهجنة، وجانب النحنحة والسعال، وكل ما يدل على الضعف أو يسبب الملل، قال الشاعر:
أعوذ بالله من الإهمال
ومن كلال الضرب في المقال
ومن خطيب دائم السعال
الخطيب والممثل
1
إن بين الخطيب والممثل فرقا واضحا وبونا نازحا؛ ذلك لأن الأول يحتاج إلى علم وإلهام قد يمكن الثاني الاستغناء عنهما. حسب الممثل أن يدرك غرض المؤلف ليقوم بأداء الواجب عليه خير قيام دون أن يكون للوحي دخل يذكر في تمثيله. لا أعني أن الممثل يجب أن يكون خلوا من كل علم بل أريد أن لهذا العلم وهذا الإلهام عنده وجوها أخرى يصرفهما فيها، وهو على كل حال لا يرتبط بهما ارتباط الخطيب، ويرى القارئ في بعض هذا الفصل وما يليه مختصر ما وقفت عليه في كتاب الأستاذ كركو «فن الكلام في الجمهور» مما يتعلق بهذا الموضوع.
نعم من الممثلين مثل شكسبير ومولير قديما وساشا كتري لعهدنا الحاضر من جمع بين الحالتين، وكان العلم والوحي خير مرشد لهم فخلفوا أدوارهم على القرطاس والملعب معا، مثل هؤلاء يبزون سواهم ويخلعون على نهجهم في التمثيل مسحة خاصة لا تجدها في الآخرين إلا أنهم قلائل لا يتجاوزون عدد الأنامل.
والغالب أن يكون الممثل كسائر الناس ثقافة، ولكنه يستطيع أن يدخل في إهاب الذات الخيالية التي أوجدها المؤلف ويمتزج بها امتزاجا سويا، بل ترى بعض الممثلين دون سائر الناس في الإحساس والشعور وهم على الرغم من ذلك يجيدون تمثيل العواطف والأهواء الغريبة عنهم، وكم من النساء من هن في حياتهن البيتية والاجتماعية أبعد خلق الله عن التأثر وعن كل فكرة للحب والتضحية، وتراهن على الملعب يقمن بتمثيل أدوار الحب والتضحية أحسن تمثيل.
هذا التناقض لا تجده في الخطيب فإن جهد الممثل - كما بينا - هو أن يصور ما يريد المؤلف دون زيادة ولا نقصان، والبارع من وصل في التصوير إلى أبعد غاية، وأما الخطيب فهو لا ينفك عن التوليد حتى في أثناء الكلام، وله مطلق التصرف في القلب والإبدال والإيجاز والإطناب حسب الأحوال.
المجال الذي يتحرك فيه الممثل هو عالم الصور والخطوط، ومجال الخطيب عالم الأفكار والمعاني، ومهما يكن من ثقافة الممثل وإلهامه فلا شأن لهما في إضافة شيء إلى الذات الخيالية التي خلقها المؤلف ورسم حدودها، ولا حق له أن يجري على لسان هذه الذات كلمة لم يرد المؤلف أن يقولها.
قد يستطيع الممثل أن يتصور طريقة جديدة لتمثيل أبطال سوفوكل وشكسبير ومولير وهيكو غير التي عرفناها وألفناها، ولكنه لا يكون في ذلك على وفاق والرأي العام.
2
إذن مجال الممثل هو الخيال والصور والحركات ونبرات الصوت المختلفة، وهي أمور يحتاج إليها الخطيب، ولكنها ليست كل ما يحتاج إليه، فإن غاية الخطيب هي الألفاظ والمعاني التي تتزاحم في خاطره ويجيش بها صدره فيقذفها على لسانه، وهي تتطلب حركات وإشارات مختلفة غير أنه لا يضطر إلى تأديتها بأمانة الممثل ودقته، وجل ما يتحتم عليه هو أن يصور أفكاره ويعبر عنها على وجه لا يضايق السامعين ولا يزعجهم، بل يشعر كل من حضر أنه أمام خطيب لا ممثل، وهذا الشعور من جانب الناس هو الذي يشد عرى الألفة بين الخطيب وسامعيه؛ فيندفعون معه في الطريق التي يشقها لهم، فلا يكاد المعنى أو العاطفة تنحدر من شفتيه حتى يكون قد تلقفها سمعهم وجنانهم.
ربما كان هذا هو السبب في أن يتحاشى الخطيب أن يظهر سهولة عظيمة جدا في كلامه؛ لأنه إذا تكلم بدون جهد ظاهر ومن غير أن ترتسم على محياه تلك السمات الدالة على التفكير والتعب والتأمل، فكأنه منقطع عما يقول فيحمل السامع على الظن أنه لا يتكلم بإخلاص وشعور، بل يلقي درسا استظهره أو يمثل دورا من الأدوار وهو ما يضعف التأثير وينزل بالخطابة عن غايتها.
فعلى الخطيب أن يظهر لسامعيه أنه هو نفسه مولد أفكاره فيحس هؤلاء أنهم أمام رجل يقول ويفعل، ويبرهن ويحلل وأن هناك مسألة عقلية يشتبكون معه فيها، وهي ليست من خصائص الممثلين.
الخطيب والشاعر
1
إن سرعة البداهة وقوة التصور وجيشان الخاطر وكل ما يمتاز به الشعراء موجود عند الخطباء، ومن الصعب التفريق بين الاثنين، فكأن القوة العقلية الواحدة - باختلاف وجهتها وتباين أسبابها - قد أنتجت عند بعض النوابغ تارة بلاغة القلم، وطورا بلاغة اللسان.
لا ريب أن اللورد بيرون الشاعر الإنكليزي المشهور عندما كان يطوف بجواده فوق شواطئ الليدو، وينشد في الفضاء أشعاره الغريبة السامية، ويلقي من حوله على الكائنات نظر السيد المعتز بمحتده المباهي بشبابه المفاخر بجمال طلعته ولمعان نبوغه، وما أعطاه الله من واسع السلطان في مملكة الهوى، مخضعا لدى قدميه الفلاحة الحائرة والسيدة المتدللة، منتصرا على مطامع الرذيلة ومخاوف الفضيلة، لا ريب أن ذلك الأمير لم يكن حينئذ شاعرا فقط، بل كانت عواطفه الثائرة تتدفق من فؤاد خطيب فترتدي حلة الشعر بعد أن تفرغ في قالب خطابي بما فيها من غزارة وخيال وتصور خلاب.
وإذا نظرت فيما كتب هيكو أو نظم ظهر لك أنه لم يكن يتخذ غير لغة الخطابة، كأنما هو يتمرن على الدور السياسي الذي كان مخبأ له في طيات الزمان.
وكذلك لامارتين فقد حرك أوتار قيثارته على منبر السياسة فأفلح خطيبا مثلما أفلح شاعرا.
وكما كان بيرون الشاعر خطيبا كان جورس الخطيب شاعرا، وقد روى مؤرخوه أنه وهو في العشرين كان يتمشى كالملهم على شواطئ الكارون مرددا في الفضاء نثره الجميل، وله في كتابه «حقيقة العالم المحسوس» صفحات شعرية خالصة كأنه تحت وميض الإلهام وبين عوالم الأحلام يسائل الوجود من كل نواحيه، وينحني نحو الأرض واضعا أذنيه عليها مصغيا بروحه إليها كمن يجس أو يبحث عن نبض العالم.
ومثل جورس كليمانصو فهو في كتابته وخطابته شاعر. لما اشتدت الأزمة السياسية بين فرنسا وألمانيا وانفرجت مسافة الخلف في حادثة أغادير ذهب جورس إلى برلين؛ ليخطب في زملائه الاشتراكيين فأبت الحكومة الألمانية عليه الكلام وأرجعته من حيث أتى. وكان كليمانصو يومئذ يحرر في جريدة الفجر فكتب فيها قطعة خالدة من النثر الشعري نورد للقارئ ما يحضر للذهن من مطلعها:
إن منع الكلام عن جورس يعرض المسيو بيلو ذلك الستار الذي يقوم من ورائه غليوم الثاني إلى سهام الانتقاد المر. ما الفائدة أن يرث الإنسان أعظم سلطة عسكرية في العالم، وأن يمشي في زرد الحديد، ويستل سيف الله الذي لا يفل، ويتغنى بالنار والبارود، ويملأ الآفاق وعيدا؛ إذا كان يخاف من رجل أعزل سلاحه الكلام؟ ... يالها من شهادة ساطعة لعظمة الفكر! ...
والمطلع على حالة السياسة لذلك العهد وما كان عليه غليوم من الحدة والخيلاء؛ يدرك ما في هذه الأسطر القليلة من البلاغة.
والأمثلة كثيرة على وجود العاطفة الشعرية بقوة وغزارة عند الخطباء، غير أنها ليست واجبة الوجود، فكما أن في المصورين من لم يبلغ شأو ليونارد ده فنسي، فمن الخطباء من لا يعرف هذا الغليان، ويستطيع بكلمة أو صورة أو صوت أن يحرك العواطف ويثير الأشجان. هكذا كان والدك روسو أحد زعماء الفرنسيين في العصر الغابر القائل في إحدى خطبه هذه الكلمة المأثورة: يجب على المالك أن يعمل وعلى العامل أن يملك.
2
وفي العرب كثير من الخطباء الشعراء أو الشعراء الخطباء، وقد ذكر الجاحظ فئة غير قليلة منهم، نقتصر هنا على ذكر بعضهم مثل: قس بن ساعدة الإيادي، والطرماح والكميت وغيرهم، ومن هؤلاء بشار الأعمى، وكان شاعرا راجزا سجاعا خطيبا صاحب منثور ومزدوج، وكلثوم بن عمر وهو القائل:
إني امرؤ هدم الإقتار مأثرتي
واجتاح ما بنت الأيام من خطري
أيام عمرو بن كلثوم يسوده
حيا ربيعة والأفناء من مضر
أرومة عطلتني من مكارمها
كالقوس عطلها الرامي من الوتر
ومن الشعراء الخطباء الذين جمعوا الشعر والخطب والرسائل الطوال والقصار؛ سهل بن هارون الملقب بزرجمهر الإسلام صاحب كتاب ثعلة وعفرة في معارضة كليلة ودمنة، ومنهم أعشى بن شيبان، وهو القائل:
ولا أنا في أمري ولا في خليقتي
بمهتضم حقي ولا قارع سني
ولا مسلم مولاي من شر ما جنى
ولا خائف مولاي من شر ما أجني
وفضلني في الشعر والقول أنني
أقول بما أهوى وأعرف ما أعني
ومن بواعث الأسف أن لا أجد سبيلا إلى إيراد أمثلة من خطب هؤلاء القوم، ولعلي أوفق إلى شيء من هذا في آخر الكتاب.
ومن أبلغ الشعر الخطابي قصيدة عفيرة بنت عفان، وكان بنو طسم قد انتهكوا حرمتها فقالت:
أيجمل أن يؤتى إلى فتياتكم
وأنتم رجال فيكم عدد النمل
أيجمل تمشي في الدماء فتاتكم
عشية زفت في النساء إلى بعل
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه
فكونوا نساء لا تعاب من الكحل
ودونكم ثوب العروس فإنما
خلقتم لأثواب العروس وللغسل
فلو أننا كنا رجالا وكنتم
نساء لكنا لا نقر على الذل
فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم
وكونوا كنار شب بالحطب الجزل
وإلا فخلوا الدار ثم تحملوا
إلى بلد قفر وموتوا من الهزل
فللموت خير من مقام على أذى
وللهزل خير من مقام على ثكل
فدبوا إليهم بالصوارم والقنا
وكل حسام محدث العهد بالصقل
ولا تجزعوا للحرب قومي فإنها
تقوم بأقوام كرام على رجل
فيهلك فيها كل وغل مواكل
ويسلم فيها ذو الجلادة والفضل
الخطيب والخطباء
1
قلنا فيما مر إن المطالعة لازمة للخطيب لتوسيع دائرة ثقافته، ونزيد الآن أن هذه المطالعة يجب أن يكون أكثرها في كتب الخطباء السابقين والمعاصرين، وعلى الخطيب أن يسمع ويرى كيف يخطب سواه سواء أكان من أشياعه أم أضداده، ثم يشرح لنفسه ويحلل ما سمع محاولا أن يدرك السبب الذي من أجله نال هذا الخطاب استحسانا أو استهجانا، وما لذلك من صلة بالبيئة أو الرجل أو الخطاب عينه من حيث المعنى أو التركيب أو الأسلوب أو الأداء، وما فيه من إسهاب أو اقتضاب وهزل أو جد، وغير ذلك مما يدخل تحت هذه المعاني أو يشترك فيها.
إن للخطيب ولا سيما النائب والمحامي أضدادا ومنافسين، والأضداد هم بين الجمهور وليس من الصعب أن يتغلب عليهم بالإقناع، أما المنافسون فمن العبث أن يحلم بإقناعهم وقد قال أحد نواب الفرنسيس: «أتى علي أربعون عاما وأنا أسمع الخطباء فوجدت منهم من غير وجهة تصويتي، ولكن لم أجد من غير رأيي.» ويمكننا قلب الجملة وعكس الآية دون أن نسيء إلى الحقيقة، فإن من الخطب أيضا ما يغير الرأي ولا يغير التصويت.
وليس بعجيب أن يصعب على الخطيب إقناع منافسيه، فكل يريد أن يكون لواء النصر معقودا له، لأن الخطيب السياسي رجل عمومي وهو في أكثر الأحيان يعبر عن رأي حزبه فتراه مضطرا إلى الثبات في موقفه حتى النهاية لا يزعزعه كلام الخصم مهما يكن لئلا يرمى بالخيانة والخروج على الحزب.
وقد يحدث أن أحدهم يرى الحق في جانب خصمه فيبقى متشبثا برأيه؛ لأن هناك مفاجآت غريبة، فكم من برهان يبدو ناصعا! ثم بعد تقليبه على وجوهه يتحقق بطلانه، وهذه المفاجآت هي التي تقضي على الخطيب بعدم الاستسلام لبلاغة خصمه، بل تجعله ثابتا في موقفه ولا سيما لأنه ليس حرا بل عبد الموضوع الذي يدافع عنه، فيجب أن يمضي فيه إلى النهاية.
وبعد أن يقوم الخطيب بالواجب عليه من الدفاع يستطيع أن يخلو إلى نفسه ويراجع آراءه ويقابل بين مركزه ومركز حزبه، ويعتمد ما يوحيه إليه الضمير الذي هو أسمى قاض وأشرف حكم.
على أنه لا يتعذر على الخطيب ولا سيما المحامي بما تهيئه البلاغة من وسائل التعبير؛ أن يتخذ لغة لا يرتهن بها إلا بقدر، ولا تنال من شرفه وحسن أحدوثته، فإن لم يستطع مثلا أن يقول الحق الحق أقول لكم فهو قادر على تحريف العبارة كأن يقول مثلا موكلي يقول لكم كيت وكيت، ولا يعزب على القاضي ما وراء هذا التركيب من تنصل خفي أو محاذرة تدفع إليها الذمة الطاهرة دون أن تضعف من أثر مقاله.
فكاهة:
كان اثنان من عظماء المحامين في فرنسا يسمعان مرافعة زميل لهم، فكان يأتي في عرض كلامه بأدلة قاطعة وحجج دامغة، وكان أحد الاثنين خصما في القضية، وعليه أن يرد على هذه المرافعة ويدفع هذه الأدلة والحجج، فكان رفيقه كلما سمع شيئا أعجب به في المرافعة يميل نحوه قائلا: هذا صحيح ولا إخالك قادرا أن ترد عليه. فيكتفي هذا بهز الرأس كأنه يؤيد كلام صاحبه إلى أن قال له هذا الصاحب: أراك تشاركني في كل ما أظهره من صواب هذه المرافعة، فما عساك أن تقول بعد هذا وقد اقتنعت منذ الآن؟ فأجابه: كلا يا صاح، لم أقتنع أبدا ولكني أعلم ما لك من النفوذ الأدبي عند القضاة وأعرف مبلغ احترامهم لآرائك، وأراهم الآن ينظرون إلينا، فإذا عارضتك ظنوا بيننا خلافا تكون نتيجته خدمة لخصمي، فأنا أظهر الموافقة على كل ما تقول ليطمئنوا بعدها إلى كلامي ومعارضتي، فلا أخسر من قوة دفاعي شيئا.
2
هنا تظهر بوجه خاص مزية الخطيب من حيث الهدوء والصبر والحلم فيكون كالملاكم يتلقى ضربات خصمه، وهو ثابت الجنان لا يتزعزع عن موقفه مهما يطلق عليه منافسه من قنابل الغضب، أو يكشر له عن نواجذ الشر وسوء النية.
لا أقول إنه لا يحتاج أحيانا أن يظهر الغضب ويخرج عن طور السكينة؛ لأن التظاهر بالغضب والحدة نوع من الحجاج المقنع، ولكن فليكن غضبه خطابيا كما ذكرنا قبلا.
ومهما يكن الخطيب عظيما مشهورا فإن آداب المهنة تقضي عليه أن يكون واسع الصدر كثير الدعة واللطف والتودد نحو زملائه ومنافسيه، فلا يتعذر عليه أن يجعل كلامه شديدا وانتقاده قارصا دون أن يمس كرامة أحد، وهذا أيضا من دلائل المقدرة التي يتصف بها الخطيب البليغ.
والمنافسة الحقيقية التي تدفع الخطيب إلى الإجهاز على خصمه وتفنيد مزاعمه بكل ما أوتي من شدة عارضة وفصاحة بيان؛ لا تكون إلا في المسائل السياسية والقضائية، وأما في غير ذلك كالحفلات الأدبية والمناظرات العلمية وسواها، فالواجب يقضي بالتضامن بين الخطباء حتى إذا عرض للواحد ما يفسد عليه موقفه، أو لا يترك لكلامه وقعا حسنا كان للآتي بعده مجال لإصلاح هذا الفساد بالثناء على الخطيب السابق والإشارة بمزاياه؛ مما يساعد على إزالة سيئ الأثر دون أن يحس الحضور بهذه المناورة الولائية؛ لأن للجمع عقلية تختلف عن عقلية الفرد، وحكم الجماعة في مثل هذه الحفلات مقيد بحوادث الساعة، والجمهور مستعد أبدا للحلم والمعذرة والرضى.
الخطيب والجمهور
1
إن بين الخطيب والجمهور صلة نسب وقرابة، ولكنها ليست متينة الأسباب في كل حين، وهذا ما يجعل موقف الخطيب حرجا، فإن الجمهور مؤلف من طبقات مختلفة، وفيه العالم والأمي، والقنوع اللين العريكة، والعنيد الصلب الشكيمة، فإذا كان الخطيب ممن ألفوا المنابر، واعتادوا على تلك الوجوه الشاخصة إليهم والعيون المحدقة بهم، فقد وجد السبيل ممهدا أمامه وكان فوزه أكيدا، وإذا كان على خلاف ذلك أو هو يخطب للمرة الأولى، فقد عز مطلبه ووعرت طريقه، وكان من الواجب قبل كل أمر أن يستميل الحضور إليه، وأن يهيئ نفسه لقبول ما قد يصدر عنهم من ضجة أو ضحك أو مقاطعة أو غير ذلك، ولا سيما إذا كان في الحفل كثير من العامة كما يحدث في الاجتماعات السياسية أيام الانتخابات، وهذا أمر قليل الوقوع عندنا لعدم توافر الأسباب الداعية إليه.
وربما ساء الخطيب قلة الإقبال عليه وعدم امتلاء النادي بالسامعين، فعليه أن يدافع هذا الأثر ويتغلب على غيظه ويلقي خطبته بكل ما أوتي من حماسة، حتى إذا خرج الناس معجبين بما قال كان لخطابه صدى جميل في المحافل والأندية لا يلبث معه أن يتغير اعتقاد الناس فيه فيأسف من قصر عن الحضور، ويعاهد النفس ألا يدع فرصة تفوته فيما بعد لسماع هذا الخطيب.
ومثل ذلك إذا كان السواد الأعظم من عامة الناس الذين لم تسمح لهم أعمال الحياة ومطالب الجهاد أن يتوسعوا في الثقافة فلا يكونن هذا مثبطا له؛ لأنه لا يشق عليه أن يستميلهم ويملك عليهم نفوسهم ولو لم يعوا كل ما يقول؛ فإن السامع الأمي كالفقير الذي يعرف أنه لا يستطيع أن يلبس الخز والديباج، ويروقه مع ذلك مرأى هذا الزهو وربما حصل عليه بالتصور، فهو أي السامع يدرك أن في كلام الخطيب ما يسمو عن مداركه أحيانا، ولكن يسره أن يسمع ويرى، وقد ترضيه من الخطيب بعض الظواهر أو الحركات فتلقي ستارا على جهله، ويمحو من ذهنه أثر العجز الذي هو فيه، فيخرج مسرورا مسحورا لأن حكم الجماعات يكون عادة حسب الأهواء والشهوات والتأثيرات النفسانية.
وقد يقف خطيبان أو أكثر في ناد فيأتي الواحد بأبلغ ما يمكن، ويلم بموضوعه من كل أطرافه، ولا يترك شاردة إلا قيدها، ويقول الآخر كلاما سطحيا لا يدل على تعمق في الدرس ولا اجتهاد في البحث، ولكنه يأتي ببعض النكات المستظرفة فينال من الاستحسان والتصفيق أضعاف ما نال الأول، إلا أن هذا الفوز عارض لا يلبث أن يزول عندما تنقشع غيمة التأثير الخطابي، وينشر قول هذا وذاك، ويطلع القراء على فحواهما، ويسهل لكل في خلوته أن يبدي حكما صحيحا بعيدا عن التأثيرات الخارجية.
ولا يجوز للخطيب أن يحتقر العامة؛ لأن غايته في الغالب هي التهذيب والإرشاد والإصلاح، ولا يصل إليها بالازدراء بسامعيه بل هو بهذا الاحتقار يخولهم الحق أن يحتقروه. وأول ما يجب عليه في هذه الأحوال أن يتعرف إلى أهوائهم ويجاريهم في مشاربهم أحيانا، فقد لا تكون بعيدة عن الصواب وأن يصغي إلى كلامهم، فالحكمة قد تأتي من فم الجاهل، وأن يتبع المثل الأعلى الذي يريد أن يرسمه للناس، فلا يأنف من عرضه عليهم ولا ييأس من تقريبهم منه.
2
من العقبات التي تعترض الخطيب وهو على المنبر أن لا يفهمه كل إنسان، فتقوم المعارضة من كل ناحية لأن هذا الجمهور المختلف الطبقات والأمزجة والتربية والغاية يسري فيه ألف مذهب وألف عقيدة وألف وهم، وعلى الخطيب أن يؤلف بين هذه القوى المتباينة ليقودها في طريقه، ولا يتم له ذلك إلا بالصبر والحلم وطول الأناة والتسامح. وهو يسعى إلى إرضاء الجمهور ولكن لا من طريق الإكراه الذي يفضي إلى الفشل، فإذا دافع عن رأيه فلا يكون دفاعه بمحاولة هدم مذهب سواه، فإن لكل رأي مظهرا من مظاهر الحقيقة، ولم نسمع أبدا أن كل الناس خرجوا من حفلة خطابية راضين مقتنعين، وقد كان والدك روسو يقول عن نفسه: «أنا أطلب من كلامي نجاحا لا انتصارا.» وهذا ما يجب على كل خطيب أو مناظر أن يضعه نصب عينيه، وخطاب أنطونيوس في مقتل قيصر أبلغ مثال يقدم على ذلك.
وقد تكون المعارضة عن إخلاص أو سوء فهم أو حب بالظهور، فإذا أدرك الخطيب ذلك عرف أن يعطي لكل مقام مقالا ولكل جواب حالا.
3
أما المقاطعة فلا يجب أن تخرجه عن جادة الموضوع؛ لأنه لا يخطب لواحد بل لجماعة وليمض في كلامه حتى النهاية، إلا إذا كان حاد الذهن حاضر البديهة فيرد على من قاطعه بكلمة ثم يعود إلى موضوعه، وإذا لم يوفق إلى سرعة الرد فليمر بالاعتراض مر الكرام ذلك خير من أن يقول قولا لا معنى له أو فيه شتيمة وسباب.
لما اعتصب عمال السكة الحديدية في فرنسا، وعددهم يربو على 150 ألفا، لجأ الوزير بريان إلى إصدار أمر بالتعبئة العامة فكانت الواسطة الوحيدة للتغلب على الثورة والضرب على أيدي المعتصبين بدون أن تسفك قطرة دم، وكان ذلك في أثناء عطلة البرلمان، فلما حان انعقاد الجلسة الأولى للدورة الجديدة كانت الأفكار في غليان والخواطر في هيجان، والنواب تتحفز للوثوب معترضة على هذا العمل الاستبدادي في الظاهر، وجاء بريان لتقديم الحساب فعلت الأصوات من كل جانب: «ليسقط الدكتاتور ليسقط الكابورال، فوقف في مكانه جامدا إلى أن أتيح له فرصة ليرفع صوته فصاح بهم: «دكتاتور؟ مسكين أنا. ما لكم أيها السادة إلا أن تقولوا كلمة أو تبدوا إشارة فأترك هذا المنبر بلا أسف وأعود إلى مكاني في صفوفكم خادما بسيطا لهذا الوطن.» كلمات وجيزة ولكنها قوية بمعناها ومطابقتها الحال، فجاءت كالماء على الجمر فهمدت حدة الثائرين، وخمدت ثورة الصائحين وأمكن بريان أن ينطلق في حديثه مبررا عمله، فإذا بالغضب يتحول رضى والجلبة تنقلب سكوتا، والنفور يعود اطمئنانا ، وبعد أن كان هدفا لسهام الناقدين نزل عن المنبر بين الهتاف والتصفيق ومصافحة المهنئين.
ولكن ليس كل الخطباء مثل بريان، ولم يؤت سرعة البداهة كل إنسان، وكم من أصحاب العقول الراجحة من يفتقر إليها؛ فقد كان جاك روسو يقول عن نفسه: «لم أستطع عمري أن أوتي جوابا موفقا إلا ربع ساعة بعد الوقت الملائم.»
والمقاطعة في حادثة بريان وقعت قبل أن يتكلم، ولا أدري هل تكون أشد وقعا لو جاءت في عرض الخطاب فكانت كالصخر الذي يلقى في مصب السيل فتنحرف به حينا عن قصد السبيل. على كل حال ليس على الخطيب من جناح إذا لم يحضره الرد فورا، ولا يلام إلا إذا حاول الجواب؛ فقال ما لا معنى له ولا فائدة منه، مثلا قد يسمع الخطيب مقاطعا يقول: هذا كذب. فيجيبه: أنت الكاذب لا أنا. مثل هذا الجواب أفضل السكوت عليه ألف مرة.
ومن أجمل ما يذكر من المقاطعة عن خطباء العرب ما حكاه صاحب العقد الفريد عن زياد عن مالك بن أنس قال: «خطب أبو جعفر المنصور فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس اتقوا الله. فقام إليه رجل من عرض الناس فقال: أذكرك الذي ذكرتنا به. فأجابه أبو جعفر بلا فكر ولا روية: سمعا سمعا لمن ذكر بالله، وأعوذ بالله أن أذكرك به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، وأما أنت فوالله ما الله أردت بهذا، ولكن ليقال قام فقال فعوقب فصبر وأهون بها لو كانت، وأنا أنذركم أيها الناس أختها! فإن الموعظة علينا نزلت وفينا انبثت.» ثم رجع إلى مكانه في الخطابة.
إن السكوت والتوقف عن الكلام حينا خير من الجواب على المقاطعة؛ إذا لم تأت بمثل هذه البلاغة، ولا سيما إذا كان المقصود منها الإضرار بالخطيب والتشفي. وهذا السكوت الدال على عدم الاكتراث بالمقاطع يعد مقدرة وترفعا محمودا.
وأما إذا كانت المقاطعة للاستفادة والتعمق في البحث، فقد يستطيع الخطيب مواصلة حديثه اكتسابا للوقت مع التفكير في الرد في آن واحد إلى أن يحضره الجواب اللائق الموافق، وهذا من وراء الغاية.
ويستحسن بالخطيب حينما يخلو إلى نفسه أن يعيد في ذهنه ما جرى في الحفلة، وليتذكر موقف الجمهور والمقاطعين، وينظر فيما إذا كان قد أحسن التصرف إزاء هؤلاء وأولئك ففي هذا التفكير درس وعبرة.
والخلاصة على الخطيب لدى المقاطعة إما أن يرسل جوابه كالسهم إذا ساعده المزاج والخاطر، وإما أن لا يعبأ بها خير من أن يتمتم كلاما لا هو جواب ولا تتمة خطاب.
4
بقي أن نقول كلمة عن التصفيق فلا يجب أن يغتر به الخطيب؛ لأنه لا يدل دائما على الاستحسان، بل كثيرا ما يأتي تأدبا أو عادة أو دفعا للملل، وقد يكون لأن الكلام مما يضحك، أو إشفاقا على الخطيب من التعب فكأنه فرصة للراحة، وقد يكون أيضا لأجل إسكات الخطيب بعد أن أتعبهم بالكلام الذي لا طائل تحته.
وكما يصفق النظارة أحيانا للممثل إكراما للمؤلف لا له، كذلك يصفق للخطيب، لا لأجل الخطاب بل لنكتة جاءت موافقة لروح السامع، أو لاسم عظيم ذكره أو غير ذلك، بل لو لم يكن في التصفيق غير الاستحسان لما كفى ذلك للدلالة على جمال الخطبة، ولو أعطي الخطيب أن يتغلغل في القوم ويصغي إلى همسهم لعاد دهشا من كثرة ما يسمع من الطعن أو الانتقاد، حتى من أقرب أصدقائه وأخلص المعجبين به.
وعندي أن مقدرة الخطيب ليست في إثارة التصفيق بقدر ما هي في استجلاب السكوت، السكوت التام الدال على الإصغاء والخشوع وأن عيون الجمهور شاخصة إلى شفتيه، وعقولهم متصلة بفكره، وقلوبهم خافقة على صوته، وأنفاسهم محبوسة على كلماته؛ ذلك لأن الخطيب يستولي على النفوس أكثر مما يستولي عليها المغني المطرب، ولأنه ساعة القول يخلق ما في نفسه ويقويه أو يضعفه حسبما يشاء فيسرع ويتمهل ويعلو ويهبط على وزن دقات القلوب. تلك هي مقدرة الخطيب التي تتجلى فيه ساعة من الوحي مباركة.
وبعد الختام فليصفق الناس ما شاءوا للتعبير عن إعجابهم واستسلامهم، أما الخطيب فقد سبقهم إلى إدراك هذا الإعجاب منهم وشعر به قبلهم.
أما المكاء أي الصفير فهو علامة الاستهجان عادة، ولكن الكثير من العامة في الشرق يجهلون معناه فيستعملونه في مكان تصدية الأيدي، فيختلط الحابل بالنابل ولا تعرف المراد منه تماما.
تهيئة الخطاب
1
من الخطباء من يفكر في موضوعه والقلم بين أنامله، فيخط على القرطاس كل ما يمر بالخاطر على أمل العود إليه عند التبييض لتنقيح ألفاظه وتهذيب عباراته.
ومنهم من يستعد وهو يتكلم بصوت عال كأنه يملي على الذاكرة ما تجود به القريحة، حتى إذا جاء وقت الكتابة أعادت الذاكرة كلامه، وتمثلت لديه الألفاظ والجمل التي فاه بها فيتخير منها ما يشاء للصياغة والتعبير.
ومنهم من يستعد وهو صامت كأنه يسمع صوته الباطن بدون أن تحمله تموجات الهواء إلى أذنيه.
ومنهم من يجمد في مجلسه أو يروح ويجيء حينا ناطقا وحينا صامتا.
كل ذلك حسب مزاج الخطيب وحالة نفسه والغاية واحدة، وهي إعانة الذاكرة وتموينها بالفكر والتبحر، حتى إذا تجلى الموضوع في صورته الكاملة عمد الخطيب إلى اختيار القالب الذي يريد أن يفرغه فيه.
فإذا كان الخطيب ممن يستعدون وهم يكتبون فليس من الضروري أن يهتم كثيرا بالألفاظ إذا لم تقع موقعها ولم تصر إلى قرارها؛ لأن الاستعداد يكون في أول الأمر للمعاني دون الصورة، والأحسن أن يمضي في كتابته بلا توقف وإن خانته كلمة أو جملة جاوزها إلى غيرها دون أن يضيع الوقت في البحث عنها.
كذلك إذا كان استعداده بالتكلم لا الكتابة فإن التوقف لدى كل كلمة لا تحضر في حينها أو تركيب لا يصيب مقره يقطع عليه مجرى أفكاره، والأفضل أن يعتبر نفسه كأنه يتكلم أمام جمهور؛ فلا يتلجلج بل يواصل كلامه كما يجري على لسانه صوابا أو خطأ، ومتى انتهى من هذا التمرين وقعد إلى الكتابة أعادت عليه الذاكرة ما سمعت، وكان له متسع من الوقت للتفكير فيما فاته وإحضار ما غاب عنه وتهذيب ما وقع عليه.
وليس هذا مما يستهان به إذا أخذ على نفسه أن يتنبه إلى مواضع الضعف في المعنى أو التعبير في سياق كلامه، فإن الذاكرة تحفظ ذلك وتعيده عليه لدى تبييض الخطاب؛ فكما يمكن للمرء أن يقول في نفسه قبل أن ينام: أريد أن أستيقظ ساعة كذا. وتلبيه الذاكرة فتوقظه في الأجل المضروب، يمكن الخطيب في عرض كلامه عند الاستعداد أن يذكر ويقول: هنا يجب التطويل أو الاختصار أو إبدال هذا اللفظ أو تلك الجملة، فيبقى هذا الطلب كامنا في العقل الباطن إلى أجله المسمى، فلا يفوت الخطيب عند تبييض الخطاب أن يتنبه إليه.
2
قد لا يحتاج الخطيب إلى كتابة خطبته بعد الاستعداد، بل يكتفي بما يسمونه رءوس أقلام إن كان ممن رزقوا ذهنا صافيا وذاكرة قوية، ولكن الأفضل أن يكتبها ليتعود على تهذيب عباراته وتنميقها وتنسيقها، فلا يقع في التكرار الممل أو الضعف الشائن أو السهو المفسد.
على كل حال لا ندحة له مهما تكن طريقته في تهيئة الخطاب من أن يتمرن على انتقاء الألفاظ الجميلة؛ حتى تأتيه عفوا بلا جهد وتنساق إليه بلا تعب، وهذا التمرين يجهله الكثيرون، ومداره أن يجرد الرجل من عقله قوة يضعها شبه حاجز بين الدماغ واللسان، فتكون رقيبا على ألفاظه كرقيب الجمارك، تفحص كل كلمة قبل أن تختلج بها شفتاه لتسمح لها بالمرور أو لا تسمح، وهكذا يتعود أن لا يلفظ الكلمة التي لا توافقه، وهذا الضرب من التمرين يفيد كل إنسان، فقد تعودنا في حياتنا البيتية والاجتماعية أن نقول في كثير من الأحايين جملا مجهزة لا تتبدل مما ضيق دائرة التعبير؛ ألا ترى أننا إذا أردنا مثلا أن نثني على خطاب نكتفي بالقول إنه بليغ فكأننا في الواقع لم نقل ما يلزم؛ لأن هذه الصفة تنطبق على شتى الخطب، وكان الأصح أن نذكر كل ما يمتاز به الخطاب، ونوضح السبب الذي من أجله يستحق أن يوصف بالبلاغة. وكم من الناس رجالا ونساء يكتفون للحكم على الأشياء بمثل هذه الجمل العمومية، فيقولون: هذا عظيم، وهذا هائل، وهذا عجيب، وما شاكل كل ذلك اجتنابا للتعب وتخفيفا للجهد في البحث عن الكلمات الموافقة التي لا تلبينا عادة، وهي لو حققت قريبة المنال بقليل من هذا التمرين.
جاء في العمدة لابن رشيق: العمل هو على جودة الألفاظ وحسن السبك وصحة التأليف، ألا ترى لو أن رجلا أراد في المدح تشبيه رجل لما أخطأ أن يشبهه في الجود بالغيث والبحر، وفي الإقدام بالأسد، وفي المضاء بالسيف، وفي العزم بالسيل، وفي الحسن بالشمس، فإن لم يحسن تركيب هذه المعاني في أحسن حلاها من اللفظ الجيد الجامع للرقة والجزالة والعذوبة والطلاوة والسهولة والحلاوة، لم يكن للمعنى فائدة؛ يعني أنك إذا اكتفيت بالقول هذا الرجل كالأسد أو كالبحر أو ما شاكل فكأنك لم تقل شيئا.
ومثل هذا ما ينظمه الشعراء من قصائد المدح والرثاء، فإن فيها من الأوصاف ما ينطبق على كل إنسان، وبالأحرى لا ينطبق على أحد، وقلما تجد بينها ما عليه طابع خاص فلا يستطاع نقله من موضعه، بل هي تقريبا كالنقود المستعملة بين أيدي الناس ربيبة العادة والتقليد.
هذا داء يجب معالجته وإلا أفضى إلى فقر اللغة ونزول اللسان عن ملكة الفصاحة، وحسب الكاتب أو الخطيب أن يتنبه إليه ليمرن نفسه تمرينا خاصا يجعله في مأمن من الوقوع فيه، ويفتح أمامه أبوابا جديدة يدخل منها إلى ميدان واسع يجول فيه القلم واللسان جولات لا تمر بحلم.
3
وبعد انتهاء الخطيب من ترتيب خطابه واستيفاء معانيه واختيار ألفاظه وتقسيمه حسب القواعد والأصول - كما ذكرنا في الإنشاء الخطابي - يبقى عليه الرجوع إلى المطلع ليتقنه بوجه خاص، ويتفنن في مقدمته تفننا مستحبا يأخذ بألباب السامعين، ويعدها إعدادا حسنا للإصغاء إليه والتقاط ما ينثره على مسامعهم مما وقف على تحضيره وقته وعقله وقلبه.
ثم إلى الختام فيمر عليه نظر المنتقد الصارم، ولا يدع فيه أثرا للضعف أو اللبس بل يوفيه حقه من القوة والجلاء والبلاغة، حتى يترك في الآذان صدى جميلا مستطيلا.
والأفضل له بعد ذلك أن يستظهر خطبته ليكون فعلها أوقع في النفوس، ولا بد هنا من إلفات القارئ إلى أمر من الأهمية بمكان، فإن استظهار الخطبة لا يقصد به إلقاؤها غيبا كما يلقي الطالب أمثولته المدرسية، فإن هذه الطريقة فضلا عن أنها لا تجلب الإقناع، ولا تجيد التأثير تقف حاجزا دون تقدم الخطيب في فنه؛ لأنها لا تعوده على الاستفادة من موقفه ومن حالة السامعين وتأثرهم ليزيد أو ينقص من كلامه ويسهب أو يختصر في شرحه، بل تجعله كالتلميذ أو الممثل لا كالخطيب، وكم من فرصة تعرض للمتكلم في القوم فتوحي إليه معاني جديدة هي بنت الساعة من تصفيق الناس أو هتافهم أو تململهم أو ضحكهم أو مقاطعتهم أو غير ذلك، فإذا كان يلقي خطابه عن ظهر قلبه أي مقيدا نفسه بجمله المرصوفة لا يغير كلاما ولا يبدل نظاما فقد فاته الاستفادة من تلك الفرص التي قد تقال فيها جملة واحدة مرتجلة فتفعل فعل الخطاب بأسره.
الارتجال
1
الارتجال في اللغة هو الكلام من غير تهيئة، أو الابتداء به من غير فكر، وقد كان أمرا طبيعيا ميسورا للعرب، قال الجاحظ: وكل شيء للعرب فهو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين أن يمنح على رأس بئر أو يحدو ببعير أو عند المقارعة أو المناقلة، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد فتأتيه المعاني إرسالا وتنثال عليه الألفاظ انثيالا، ثم لا يقيده على نفسه ولا يدرسه أحدا من ولده.
وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ أو يحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره واحتذى على كلام من كان قبله؛ فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم واتصل بعقولهم من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب.
أما اليوم فالارتجال نادر بل إذا حققت لم تجد لحقيقته أثرا ؛ لأن الخطيب العصري لا يستطيع التكلم بما لا يعرف، فإذا كان عارفا موضوعه فالتهيئة حاصلة فعلا بما وعاه ذهنه بالدرس والمطالعة والاختبار.
قد يراد بالارتجال تركيب الألفاظ وتنسيق الجمل وإفراغ المعاني في قالب من التعبير يوافق مقتضى الحال، وهذا أيضا صعب على خطيب اليوم؛ لأننا نتكلم عادة غير اللغة الفصحى التي نكتبها فنضطر بحكم الأمر إلى إعمال الفكرة عند الخطابة وإجهاد الذاكرة ولو قليلا، وتوزيع قوة العقل بين النظر في الموضوع والعناية بالألفاظ في وقت واحد، وهذا كاف لإضاعة رونق الخطاب والتقصير في إجادة الإلقاء؛ قال الدكتور تولوز وهو من علماء النفس والأخلاق: إن الارتجال آفة الخطابة؛ لأنه يلقي المعنى على عواهنه دون أن ينضج بالتفكير، فكيف إذا أضفت إلى ذلك الركاكة التي مني بها أكثر الناطقين بالضاد للسبب الذي ذكرناه.
ومن قرأ مشاهير الخطب التي قيلت ارتجالا وحفظت بالاختزال، دهش لما فيها من الضعف والتناقض، ولم تخف عليه عيوب الإنشاء عند قراءتها على الرغم من وميض البلاغة الظاهر من خلال السطور.
أما إذا كان المقصود بالارتجال جملة قوية تأتي عرضا في الخطاب ردا على اعتراض، أو إسهابا في البيان أو شرحا لسؤال ففي وسع كل خطيب، ولكن أن تقال خطبة كاملة من غير استعداد فلا يقصر الخطيب في مادته أو بيانه فهذا ما لا أظنه يتاح لكثيرين.
انظر إلى خطباء الأقدمين فإنهم كانوا يهيئون خطبهم قبل إلقائها، وهذا ما حفظها لنا؛ لأن الاختزال لم يكن معروفا لذلك العهد، وقد كان شيشرون يهذب خطبه ويتمرن عليها قبل أن يلقيها، وكان كانتليان من أساتذة الخطابة عند قدماء اللاتين يرى أن الارتجال لا يتهيأ للمرء إلا في أواخر عمره بعد أن يكون قد ذاق الأمرين في تعلم صناعة الخطابة، وهذا بوسويه كان يكتب خطبه ومسوداتها لا تزال محفوظة، ولما ظهرت الثورة الفرنسية اضطر القوم إلى الارتجال في كل ناد وموقف، ولكن ذلك لم يمنع ميرابو أن يكتب أكثر خطبه قبل إلقائها وكذلك روبسبير.
وانظر إلى خطباء اليوم فلا تجد فيهم من لا يعترف بالاستعداد قبل التكلم كالمحامي لابوري وهنري روبير وفيفياني وجورس وغيرهم، ومما قاله هنري روبير: «أنا لا أعمل والقلم في يدي، ولكني لا أنقطع عن التفكير أينما وجدت، ولا يزال دماغي في عمل مستديم، فتتوارد الجمل على خاطري وأرددها في باطني.» ولله در ابن المعتز حيث قال:
والفكر قبل القول يؤمن زيغه
شتان بين روية وبديه
وإذا اضطر أحد هؤلاء إلى الكلام عن غير استعداد كما كان يحدث في ندوة القضاء أو النيابة فللاعتراض أو دفع حجة أو إقامة برهان أو شرح حادث، وهذا سهل لأنه لا يخرج عن موضوع ألفه ودرسه وعالجه غير مرة بالقلم واللسان.
2
ولا أدري وايم الحق ما الفائدة من التكلم بدون سابق استعداد في حين أن الخطيب قادر أن يأخذ للأمر أهبته، وأن يفرغ الطوق في إلباس موضوعه حلة أنيقة، فإن كانت غايته المباهاة فقد أخطأ المرمى؛ لأن ما يعرفه من الموضوع هو - كما بينا - ضرب من الاستعداد فضلا عن ذلك فإنه من المستحيل أن تأتي عباراته برشاقة وانسجام وتنساق إليه بمثل النظام الذي يكون من وراء الاستعداد.
ثم إن ظهور الخطيب بمظهر المرتجل الذي لم يستعد فيه ازدراء الحاضرين، واعتداد بالنفس يقرب من الدعوى الفارغة المذمومة، فإن هذا الجمع الذي أزعج نفسه وجاء لسماعه، وربما كان فيه من أقبل من مكان سحيق غير مبال بالمشقة، وبعد الشقة يستحق شيئا من العناية والإكرام فلا يليق بالخطيب أن يقدم له إلا أحسن ما عنده.
وهناك فئة تدعي الخطابة وقد يكون بينها من يحسنها، ولكن عيبها التبجح أبدا بعدم الاستعداد كأنه مزية كبرى تشهد لهم بسرعة الخاطر وذلاقة اللسان، ولا يفهمون ما في هذه الدعوى الباطلة من جلب الملام أحيانا والهزء دائما.
وقد ذكرنا رأي الدكتور تولوز في أن الارتجال آفة الخطابة لاستحالة التدقيق والتنميق، ونضيف إليه أن فيه مجازفة كبيرة لأن الدخول في الموضوع قد يكون يسيرا، ولكن الخروج منه عسير والمتكل على قدرته ليفرع المنبر مرتجلا هو كالمحارب الذي ينزل إلى الميدان أعزل على أمل أن يستعمل سلاح عدوه، أو كالقائد يهاجم خصمه وهو لم يرسم من قبل خطة الهجوم، وكم من المرتجلين الذين يصدق فيهم قول الشاعر:
ويرتجل الكلام وليس فيه
سوى الهذيان من حشد
1
الخطيب
3
لا أريد أن أدخل اليأس إلى قلب القارئ الراغب بهذه الصناعة، فالارتجال ممكن لقوي الإرادة بعد أن تتوافر لديه الوسائل من سعة اضطلاع ومطاوعة قريحة وتصرف روية وحضور ذهن وامتلاك لناصية اللغة، والذي يأمن العثار فيه هو المطبوع الحاذق الواثق بغزارة مادته ورباطة جأشه؛ لأن الثقة بالنفس وحدها كافية لأن تنفي عنه كل خاطر يورث اللجلجة والنحنحة والانقطاع والبهر وما إلى ذلك.
وهو وإن يكن أبعد منالا على المتكلمين بالعربية للأسباب التي أشرنا إليها من انفراج مسافة الخلف بين العامية والفصحى، فلا يعد مستحيلا ولا سيما في مصر حيث الفطرة كفيلة به بما للمصريين من ألسنة ذلقة وألفاظ حسنة، وعبارة جيدة تجعل العامية قريبة من الفصحى فلا تجفل الأسماع منها.
وفي الارتجال تظهر مزية المطالعة التي ذكرناها في فصل سابق، فإذا كان الخطيب ممن لم يتكلموا على بلاغتهم الفطرية بل اجتهد بتوفير رأس ماله والإكثار من محفوظه «فقد سهلت عليه مستوعرات النثر، وذللت له صعاب المعاني، وفاض على لسانه وقت الحاجة ما كمن من ذلك بين ضلوعه».
والحاجة في الارتجال تدعو إليها مفاجآت كثيرة ولا سيما إذا كان الخطيب ممن أحرزوا قسطا وافرا من الشهرة فتتطاول الأعناق إليه أيان وجد، ولا يجد مناصا من تلبية الدعوة فبفضل الدرس الطويل وسابق الاجتهاد يستطيع الخروج من هذا المأزق سليم الشهرة محفوظ الكرامة.
بل إن الاستعداد الكامل وتهيئة الخطبة بألفاظها ومعانيها قد لا يقي الخطيب من الذهول والنسيان فيقف على المنبر وقد غاب عنه كل ما أراد أن يقول، فإذا كان قادرا على الارتجال فلا يعدم مخرجا لطيفا بل تأتيه النجدة من حيث لا يدري، ويفيض لسانه بالفصاحة جائلا جولات طويلة دون أن يشعر السامع بأنه يقول غير ما أعده كتابة.
وأفضل الوسائل للتمرين على الخطابة والارتجال هو أن ينشأ في المدارس شبه مجامع علمية لعدد محدود من الطلبة فيطرح عليهم موضوع المناظرة في الجلسة، ويجرب كل واحد أن يقول ما يحضره شارحا أو معترضا، فإن الألفة تمنع الكلفة وتشجع التلميذ على القول بين قوم هم أصدقاؤه وزملاؤه، ومن رتبته سنا وعلما فلا يعاب على خطأ ولا يؤاخذ بتقصير.
وبعد المدرسة على طالب هذه الصناعة أن يتعود الكلام كل صباح ولو بضع دقائق، وأن لا يكتب مراسلة قبل أن يتكلم بمضمونها بصوت جهوري.
هوامش
الرتج
1
يقال رتج الإنسان يرتج رتجا إذا استغلق عليه الكلام فلم يقدر عليه، وهي آفة تصيب الخطيب والممثل على السواء، والسبب استعداد خاص مرجعه في الغالب علم الخطيب بصعوبة الموقف وخوفه من الفشل وتهيبه الجمهور المصغي إليه. ولا علاقة للرتج بمنزلة الخطيب من البراعة والشهرة، بل كلما عظم قدره وذاع ذكره وكان له نباهة في قومه كان أعلم من سواه بمصاعب الكلام ومبلغ ما ينتظره الناس منه، وقد كان والدك روسو لا يفارقه الخوف عند التكلم على الرغم من العادة والخبرة، فكانت يداه لا تفارقان المنبر حتى آخر كلمة يلفظها لئلا يشعر بارتجافها.
أعراض الرتج
يصيب العقل ضرب من الشلل تجمد به القريحة وتظلم الذاكرة؛ فتتناول الإنسان رعدة يرافقها شبه انحلال في العضل وتراخ في المفاصل ووهن في العزيمة، ويتصبب العرق من جسمه، ويأخذه دوار في الرأس وطنين في الأذن، وقد يبلغ هذا الطنين عند بعض الممثلين أنه لا يسمع ما يقول هو نفسه، وتسرع دقات القلب كأنه يحاول الخروج من الصدر، وتعلو الوجه صفرة شديدة وتضطرب وظائف المعدة والأمعاء اضطرابا مزعجا مؤلما.
وقد يأتي الرتج في منتصف الطريق أي بعد أن يكون الخطيب ابتدأ ابتداء حسنا، وأخذ ينطلق في خطابه بسهولة وتلاعب وانشراح؛ كالصاعد جبال الألب يقطع مسافات شاسعة ويجتاز عقبات كأداء دون جهد كبير، وإذا به لحادث تافه لا يذكر يحس دوارا قويا فيضطر إلى الوقوف أو القعود، وأحيانا لا يجد الراحة والطمأنينة إلا بالاضطجاع على الثرى. هكذا تكون بداية الخطاب حسنة وإصغاء الجمهور تاما ، ثم تعرض حركة أو إشارة من أحد السامعين سواء أكانت استحسانا أم استهجانا فتفسد الموقف على الخطيب فيجد نفسه قد تغير كل التغير وأسدل على بصره وبصيرته ستار من الظلام تضيع فيه كل حيلة.
معالجته
تكون بتربية الإرادة وأن يذكر الخطيب أن الرتج ليس عارا، وإذا عد من لم يعرف الرتج عظيما فأعظم منه من عرفه وتغلب عليه. متى يضع الخطيب نصب عينيه هذه الحقيقة، ويذكر أن السواد الأعظم ممن جاء ليسمعه إنما جاء لاعتقاده أنه يسمع شيئا لا يعرفه؛ أي إنه يعتبر الخطيب أوسع منه علما ولو في هذا الموضوع وحده، وأنه يحترم مقامه متى يذكر ذلك تهن الأمور عليه فيجتهد أن يكون عند ظنهم فيه، وهكذا يستطيع محاربة هذه الأعمال المنعكسة بالارتداد عليها بقوة الإرادة.
ومن الأمثلة الجميلة على الجهد الذي وسع الخطيب إنفاقه لمكافحة هذه الآفة والانتصار عليها ما ذكره غامبتا عن نفسه قبل اعتلائه المنبر للمرة الأولى، قال في إحدى رسائله إلى أبيه: «يوم الخميس سأقف خطيبا لأول مرة وإني لمنتظر هذه الساعة بفارغ الصبر وقلبي يخفق لها، ولكن لا عن خوف أو اضطراب، ولن يكون لي في الحياة يوم أسعد من هذا اليوم.» إن للخطوات الأولى في طريق المهنة بهجة خفية فيخال لك أن الأرض تهتز تحت قدميك، ويلم برأسك دوار يشبه السعادة ثم يأتي العقل فيثبت من حولك كل شيء لتمشي نحو شواطئ المستقبل المجهول.
لقد رأيت وسمعت في شهور ثلاثة كل ما اطلع فن المحاماة من كبير وصغير، فالحق أقول لك بلا تيه أو خيلاء إن آمالي قد تضاعفت وثقتي تزايدت، كنت منذ ستة أشهر أرجف فرقا لدى فكرة النضال مع هؤلاء، أما الآن فقد غلبت الجسارة علي وما فاز باللذة غير الجسور.
وبما أنه لا علاقة بين الرتج ومنزلة الخطيب - كما قلنا - فلا خطر منه، بل ربما أفاد في بعض الأحوال بما يبعث في المرء من العزيمة لمضاعفة الجهد والبلوغ إلى الغاية.
2
جاء في العقد الفريد أن أول خطبة خطبها عثمان بن عفان أرتج عليه فقال: «أيها الناس إن أول مركب صعب وإن أعش تأتكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد العسر يسرا إن شاء الله.»
ولما قدم يزيد بن أبي سفيان الشام واليا عليها لأبي بكر خطب الناس فأرتج عليه؛ فعاد إلى الحمد لله، ثم أرتج عليه فعاد إلى الحمد لله ثم أرتج عليه، فقال: «يا أهل الشام على الله أن يجعل بعد العسر يسرا وبعد عي بيانا، وأنتم إلى إمام فاعل أحوج منكم إلى إمام قائل.»
وصعد ثابت بن قطنة منبر سجستان فقال: الحمد لله ثم أرتج عليه فنزل وهو يقول:
فإن لا أكن فيكم خطيبا فإنني
بسيفي إذا جد الوغى لخطيب
فقيل له لو قلتها فوق المنبر لكنت أخطب الناس.
وخطب معاوية بن أبي سفيان لما ولي فحصر: «فقال أيها الناس إني كنت أعددت مقالا أقوم به فيكم فحجبت عنه، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، كما قال في كتابه، وأنتم إلى إمام عدل أحوج منكم إلى إمام خطيب، وإني آمركم بما أمر الله به ورسوله وأنهاكم عما نهاكم الله عنه ورسوله، وأستغفر الله لي ولكم.»
وصعد خالد بن عبد الله القسري المنبر فأرتج عليه فمكث مليا لا يتكلم، ثم تهيأ له الكلام فقال: «أما بعد، فإن هذا الكلام يجيء أحيانا ويعزب أحيانا، فيسبح عند مجيئه سيبه ويعز عند عزوبه طلبه، ولربما كوبر فأبى، وعولج فنأى، فالتأني لمجيئه خير من التعاطي لآبيه (أي لممتنعه) وتركه عند تنكره أفضل من طلبه عند تعذره، وقد يرتج على البليغ لسانه ويختلج من الجريء جنانه، وسأعود فأقول إن شاء الله.»
وصعد أبو العنبس منبرا من منابر الطائف فحمد الله وأثنى عليه قال: أما بعد. فأرتج عليه، فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: لا. قال: فما ينفعني ما أريد أن أقول لكم. ثم نزل، فلما كان في الجمعة الثانية وصعد المنبر وقال: أما بعد. أرتج عليه، فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: نعم. قال: فما حاجتكم إلى أن أقول لكم ما علمتم. فلما كانت الجمعة الثالثة قال: أما بعد. فأرتج عليه، قال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: بعضنا يدري وبعضنا لا يدري. قال: فليخبر الذي يدري منكم من لا يدري ثم نزل.
وأتى رجل من بني هاشم اليمامة فلما صعد المنبر أرتج عليه فقال: حيا الله هذه الوجوه وجعلني فداها، قد أمرت طائفي بالليل أن لا يرى أحدا إلا أتاني به وإن كنت أنا هو، ثم نزل.
وخطب عبد الله بن عامر بالبصرة في يوم أضحى فأرتج عليه فمكث ساعة ثم قال: والله لا أجمع عليكم عيا ولؤما، من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي.
نظرة تاريخية
1
قلنا في صدر هذا الكتاب إن الخطابة فطرية في الإنسان، ولهذا لم تخل منها أمة حفظ التاريخ آثارها، ففي الماضي البعيد كان بوذا يخضع الجماعات لكلامه المنزل، وكانت نبوات إسرائيل تهز الملوك والأمم، وكانت اليونان حافلة بالبلغاء؛ أي برجال قادرين على تحريك الشعب وإثارته لعهد أوميروس وقبل ذلك العهد، ولكن فرقا عظيما بين هذه البلاغة الغريزية التي يولدها وحي الساعة ثم تزول غير تاركة أثرا والبلاغة العلمية التي امتازت بها العصور الراقية؛ حيث كان الخطيب على حظ موفور من الفلسفة والتاريخ، فكان يلقي خطابه بعد التفكير ويمكنه أن يكتبه فلا تزيل تلاوته من حسنه شيئا.
هذه البلاغة الناتجة عن درس واف وثقافة عالية وتمرين متصل أوجدتها أثينا في القرن الخامس قبل المسيح، ولا بدع فقد كانت أثينا حينئذ في مكان سام من الحضارة وشرف باذخ.
وكانت فرص القول متعددة؛ لأن الأعمال الاجتماعية كافة كانت تقضى جهارا ويجادل فيها أمام الجميع، وكانت المسائل العمومية تدرس في مجتمع الأمة حيث يحق لكل وطني أن يبدي رأيه، وكانت الدعاوى تعرض أمام المحاكم الشعبية فيباح الكلام لمن أراد حتى المتهم، أضف إلى ذلك اجتماعات الأدب والعلم التي لم يكن للسياسة ضلع فيها فكانوا يجتمعون للذة الحديث والاستمتاع بخطيب بارع يتحدث إليهم في موضوع ما كالثناء على الأبطال الذين يموتون في سبيل الوطن أو غير ذلك.
وأشهر خطباء هذا العهد برقليس وأزدكرات وأشين وديموستين، وقد كان كل من الآخرين زعيما لحزب سياسي فقضيا العمر في عراك محتدم الوطيس، والغاية واحدة هي استقلال الوطن.
كان فيليب ملك مكدونيا ينتهز فرصة الخلف القائم بين اليونان للوصول إلى إخضاعهم بالقوة أو الحيلة، وكانت أثينا منقسمة على نفسها، فقسم محافظ على ماضيه المجيد غير راض عن فيليب، ولكنه ضعيف الهمم لما ساور الأخلاق من التخنث فلا قبل له بالإقدام على أمر ذي خطر، وقسم يريد التحالف مع فيليب. وكان ديموستين حاملا لواء الحزب الوطني وأشين الحزب المكدوني، وهذا الاختلاف في موقف الخطيبين خلع مسحة خاصة من البلاغة على كل منهما؛ فلم يخل كلام أشين من الزخرفة، بينما كان ديموستين كله روحا وعصبا، وكانت بلاغة ديموستين مرآة صادقة لخلقه القوي الشديد ونفسه الملتهبة، فكانت تنم عن عزيمة أدبية لا تقهر يصرفها ذهن صاف ومنطق محكم وإباء عظيم ولسان هجام، فكان تارة جادا وطورا هازلا، يستخدم العقل حينا والعاطفة حينا آخر، هادئا غضوبا ساميا بسيطا، وحتى اليوم لا تزال خطبه حافظة أثرها، فنشعر به عند قراءتها كأنما صوته يدوي في آذاننا.
وكان صوت ديموستين آخر ما سمعته أثينا، فإن البلاغة لا تعيش بدون الحرية، وقد جاء انتصار مكدونيا ضربة قاضية عليها، فبقيت أثينا مدينة العلم والأدب وملاهي العقل، ولكن منابرها أقوت من تلك النغمات الساحرة. إن الذي جعل أثينا عاصمة اليونان هو حياتها السياسية، فلما ذهبت أغراض السياسة منها أصبحت كباقي المدن، وامتدت فتوحات الإسكندر ناشرة بذور اليونانيين في الشرق، فقامت عواصم جديدة كالإسكندرية وأنطاكية وبيزانس، وبقيت أثينا كمعرض يؤمه كل من أراد الدرس أو التذكار.
ولم يبلغ خلفاء ديموستين شأوه في الخطابة، ولكن إليهم يرجع الفضل في نقلها إلى الذرية، فإن المدارس التي أقاموها في الشرق كان يحج إليها الناس من كل صوب لتلقي هذا الفن، وعلى هذا الوجه لقنوا الرومان أسرار بلاغتهم؛ فتعشقها هؤلاء وأخذوا يدربون عليها فتيانهم كما يدربونهم على الحرب والحكم إلى أن ظهر شيشرون الذي يعده العارفون أعظم محام لذلك العهد، فأرجع للخطابة مجدها السابق وسطع نوره في سمائها كما سطع من قبل نور ديموستين، ثم هوت الخطابة ثانيا وانطوى بساط عزها باستعباد أوغسطس روما كما استعبد فيليب وإسكندر أثينا.
ولما جاءت النصرانية بعثت فيها روحا جديدة، وقام الرسل بالتبشير، فكانوا كلهم خطباء؛ إذ قيل لهم سيروا في الأرض وعلموا الأمم. وقامت الكنائس على آثارهم وكان هذا الدين الجديد في حاجة إلى إرشاد مستديم، فنبغ خطباء بين آباء الكنيسة أعادوا للخطابة بعض عزها، ولكن لم يطل ذلك بما تطرق إلى اللغة اللاتينية من فساد لغات غريبة، هي لغات الأمم المختلفة التي دخلت تباعا في المسيحية، وأخذ العي يملك ألسنة الوعاظ، فصاروا يكتفون بنسخ الخطب القديمة وإلقائها، حتى إذا طلع القرن السادس استيقظت الخطابة من ضجعتها، وارتفعت أصوات جديدة كان لها أثر عظيم في الجماعة، وكان من نتائجها الحرب الصليبية، وبلغ من تكاثر عدد الخطباء لذلك العهد والمنافسة فيهم أن الخطابة تحولت إلى واسطة للكسب وجمع المال والهدايا؛ فنزلت عن مقامها السامي وأخذت معالمها تتلاشى إلى العصر السابع عشر عصر بوردالو وفنلون وبوسيه ودعاة الإصلاح والندوة العلمية التي أنشأها الكردينال رشليو.
وأجمل أيام الخطابة بعد هذا هي أيام الثورة الفرنسية، فقد اطلعت في عشر سنوات من الخطباء عددا لم يسبق به عهد، وكان للبلاغة فيها من التأثير ما لم يعرف له نظير، والسبب في ذلك ضخامة المشروع الذي أخذت الثورة على نفسها القيام به، ثم السلطان الفجائي الذي ألقى إليها الدهر مقاليده، والسرعة الهائلة التي كانت تتعاقب بها الحوادث، ثم شدة العراك يختلط به غريزة البقاء وأعمار الخطباء وأكثرهم في شرخ الشباب، ولم تكن مشاغل النفوس وأهوالها لتمنع أولئك الخطباء من العناية بالشكل والديباجة وإلباس أفكارهم حللا براقة من الألفاظ والتعابير بما اتصل بهم من تأثير العصر السابق، فكانوا يكتبون خطبهم قبل إلقائها، على أن ذلك لم يكن مانعا لهم من الارتجال عند الضرورة، فتجيء أقوالهم ملتهبة كنفوسهم، وفيها على بساطتها من إخلاص الشعور وتأثيرات النفس ما يبعث القوة والحرارة.
ثم خفتت الأصوات بمن طاحت بهم الثورة من أمراء الكلام وأقوت المنابر، وجاء نابليون، وكان لا يحب الخطباء، فلم يعد يسمع إلا ضجيج المواقع الحربية، ومن فوقها صوت واحد يملأ الكون هو صوت ذلك القائد العظيم.
أما اليوم فقد عادت الخطابة إلى الظهور بنور أسطع ومجد أكمل، وامتدت أعراقها إلى كل فؤاد، ونشرت ألويتها في كل ناد من قصور الأغنياء إلى أكواخ الفقراء، ومن معاهد العلم إلى ملاعب التمثيل إلى مجالس الأدب والطرب إلى الأسواق.
2
كان للعرب في الخطابة نصيب وافر أتاحه جوهم وأحوال معاشهم وأخلاقهم وآدابهم، فإن الحرية التي وجدوا فيها واستنشقوا هواءها، والحماسة التي طبعوا عليها والإحساس الشديد الذي اشتملت عليه نفوسهم جعل للبلاغة أثرا عظيما فيهم، فكانت الجملة البليغة تقيمهم وتقعدهم بما تثيره في خواطرهم من النخوة لحماية جار أو أخذ ثأر أو غير ذلك.
وكانوا متفرقين قبائل ونحل متعودين على الغارات والحروب، فوجدوا في الخطابة عونا لهم على الحض أو التحذير والترغيب أو التنفير والمفاخرة أو المناظرة، بل صارت عندهم مظهرا من مظاهر الفروسة، يتباهى بها شجعانهم، ويدرب عليها فتيانهم كما في الرومان.
قال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجماهير يقدم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم، ويفخم شأنهم ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم، ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعراء واتخذوا الشعر مكسبة، ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا في أعراض الناس؛ صار الخطيب عندهم فوق الشاعر.
ولم تكن الخطابة عندهم كما أشرنا إليه في الكلام عن الارتجال عن طول فكرة واجتهاد رأي ودراسة كتب، بل بديهة وارتجالا، وكان لهم بها غاية الاعتناء حتى قال صاحب الريحان والريعان: «إن ما تكلمت به العرب من أهل المدر والوبر من جيد المنثور ومزدوج الكلام؛ أكثر مما تكلمت به من الموزون إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره، لأن الخطيب إنما كان يخطب في المقام الذي يقوم فيه في مشافهة الملوك أو الحالات أو الإصلاح بين العشائر أو خطبة النكاح، فإذا انقضى المقام حفظه من حفظه ونسيه من نسيه بخلاف الشعر، فإنه لا يضيع منه بيت واحد.» قال: «ولولا أن خطبة قس بن ساعدة كان سندها مما يتنافسه الأنام، وهو أن النبي
صلى الله عليه وسلم
هو الذي رواها عنه فأطار ذكرها؛ ما تميزت عن سواها.»
قال القلقشندي: «وليس ما أشار إليه لرفض النثر عندهم وقلة اعتنائهم به بل لسهولة حفظ الشعر وشيوعه في حاضرهم وباديهم وخاصهم وعامهم بخلاف الخطابة، فإنه لم يتعاطاها منهم إلا القليل النادر من الفصحاء المصاقع؛ فلذلك عز حفظها وقل عنهم نقلها، وقد كانت تقوم بها في الجاهلية سادات العرب ورؤساؤهم ممن فاز بقدح الفضل وسبق إلى ذرى المجد، ويخصون ذلك بالمواقف الكرام والمشاهد العظام والمجالس الكريمة والمجامع الحفيلة، فيقوم الخطيب في قومه فيحمد الله ويثني عليه، ثم يذكر ما سنح له من مطابق قصده وموافق طلبه من وعظ يذكر أو فخر أو صلاح أو نظام أو غير ذلك مما يقتضيه المقام.»
قال الحافظ: «ونحن - أبقاك الله - إذا ادعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز ومن المنثور والأسجاع ومن المزدوج وما لا يزدوج فمنعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة والرونق العجيب والسبك والنمط الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول في مثل ذاك إلا في اليسير والنزر القليل، ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفرس أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولدة إذا كان مثل ابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عبيد الله وعبد الحميد وغيلان وفلان وفلان لا يستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل ويضعوا مثل تلك السير، وأخرى أنك متى أخذت بيد الشعوبي فأدخلته في بلاد الأعراب الخلص ومعدن الفصاحة التامة، ووقفته على شاعر مفلق أو خطيب مصقع، علم أن الذي قلت هو الحق وأبصرت الشاهد عيانا، فهذا فرق ما بيننا وبينهم، فتفهم عني - فهمك الله - ما أنا قائل.» انتهى.
وكان يسمى خطيب القوم الزعيم أو المدره، وأشهر خطباء الجاهلية: قس بن ساعدة، وعمرو بن كلثوم، وأكثم بن صيفي التميمي، والحارث بن عباد، وقس بن زهير، وغيرهم.
ولما جاء الإسلام ساعد على انتشار الخطابة تأييدا للدعوة الكبرى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان لها من آي القرآن معين لا ينضب، وأخذ الخطباء يرصعون خطبهم بالآيات تمثلا أو إشارة أو تهديدا، حتى لقد يجعلون الخطبة برمتها مجموع آيات كما فعل مصعب بن الزبير لما قدم العراق وأراد أن يحرض أهله على الطاعة لأخيه عبد الله (انظر القسم الثالث في خطب العرب).
واتخذت الخطابة حينئذ صبغة غير التي كانت عليها في الجاهلية، فكانت لغتها أرقى وأعلى وأصفى، وعلا شأنها إلى درجة لم يسبق بها عهد لانصراف العرب عن الشعر إليها، واعتمادهم في الدين والسياسة عليها.
وأعظم خطباء هذا العصر هم بعد النبي دعاته وقواده وخلفاؤه.
ولما ثارت الفتن بعد مقتل عثمان وافترق المسلمون أحزابا، اشتدت الحاجة إليها عند كل فريق للدفاع عن مبادئه والطعن في خصومه، فكان في الجانب الواحد العراقيون وعلى رأسهم علي بن أبي طالب، وفي الجانب الثاني الشاميون وفي طليعتهم معاوية.
ثم أخذت تضعف ملكة الخطابة بعد الفروغ من الفتوح والاستسلام إلى الترف والرضاء، حتى صدر الدولة العباسية، فإذا بالخلفاء ودعاتهم ينعشونها بعد الذبول، وينهضون بها بعد الخمول، كالمنصور والمهدي والرشيد والمأمون وداود بن علي، وخالد بن صفوان، وشبيب بن شيبة.
ولما استوثق الأمر لبني العباس وقام الأجناب والموالي بسياسة الدولة وقيادة الجيش وقل النضال باللسان والسنان ذهبت البلاغة من الألسنة وحل محلها الرسائل والنشرات، وقصرت الخطابة على الجمع والعيدين والأملاك، على أن الخلفاء أنفسهم ما برحوا يخطبون الناس ويؤمونهم إلى عهد الخليفة الراضي، فلما غل الديلم أيديهم وحصروهم في دورهم عهد بالخطابة والإمامة إلى الأكفاء من العلماء، فنبغ في آخر هذا العصر طائفة من الأدباء شهروا بهذا النوع من الخطابة كالبغدادي والتبريزي، ولما استعجم المسلمون وملك العي ألسنة الوعاظ فلم يستطيعوا إنشاء الخطب في الموضوعات المختلفة، عمدوا إلى استظهار خطب أسلافهم كابن نباتة المصري، وأخذوا يرددونها فوق المنابر من غير فهم لمعناها ولا علم بمغزاها، ودرجوا على هذه الحال المخزية تلك القرون الطويلة حتى اليوم (راجع تاريخ الآداب العربية لزيدان، والأدب العربي للزيات، والوسيط للشيخ أحمد الإسكندري والشيخ مصطفى العناني).
واليوم بعد أن تنوعت أسباب الحياة وتعددت مظاهر الاجتماع، وتبدل شكل الحكومات وتغيرت سلطة الحكام، عادت الخطابة إلى الظهور لابسة ثوبا آخر غير ثوبها الديني، فظهر في الشام لعهد غير بعيد: أديب إسحاق والشيخ العازار وغيرهما، وفي مصر عبد الله النديم والشيخ محمد عبده، ثم مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول أعظم خطباء هذا العصر الحاضر، وأقواهم حجة، وأبعدهم تأثيرا وأكثرهم بيانا.
أنواع الخطابة
قسم اليونان قديما الخطابة ثلاثة أقسام تبعا لأحوال الزمان من ماض وحاضر ومستقبل، وسموها البيانية أو التثبيتية والشوروية والقضائية؛ فالأولى تختص بالزمن الحاضر لمدح فترغيب أو ذم فتنفير، والثانية تتعلق بالمستقبل لتحمل السامع على جلب النفع للجمهورية أو دفع الضرر عنها، أو للحض على الحرب أو السلم وسن هذه الشرعة أو تلك واستمالة رأي الجمهور أو التغلب عليه، وكانت تجرى في الهواء المطلق أمام جماعات متهيجة بين الصخب والضجيج والمقاطعة والمعارضة والتكذيب، وكان على الخطيب أن يقاوم أمواج هذا العداء المتلاطمة من حوله، وكثيرا ما خطب غير واحد في آن واحد كأنما هم في ميدان قتال لا مجال كلام. ولما بطل الاجتماع في «الفورم» أي المحل العمومي أو السوق بطل هذا النوع من الكلام.
والقسم الثالث أي القضائي يختص بالماضي، والغاية منه الدفاع عن متهم أو الحكم عليه، وهو من خصائص المحامين.
هذا التقسيم وضعه أرسطو الذي جعل الخطابة أحد أقسام المنطق، وألف فيه كتابه الذي عربه بشر بن متى في القرن العاشر ولخصه ابن رشد. وقد مشى على هذا التقسيم أرباب الخطابة عشرين قرنا، أما اليوم فقد تبدلت أحوال المعيشة المدنية والسياسية والدينية مما دعا إلى تبديله. دعك من أنه تقسيم بعيد عن الدقة والإحكام لتداخل الواحد في الآخر من هذه الأقسام، فإن الخطيب الذي يتكلم عن الماضي لا بد له من الإلمام بالحاضر والمستقبل على سبيل الاستشهاد وغيره وكذا العكس.
والمعول عليه اليوم هو تقسيم الخطابة إلى خمسة أنواع: سياسية، وقضائية، وعسكرية، ودينية، وعلمية.
الخطابة السياسية
كان لهذا النوع من الخطابة فيما مضى المكان الأول لصلته المكينة بحياة الأمة في هبوطها وصعودها، فإن الأمة كانت كل شيء وكان عليها مدار العمل في الحرب والسلم، فكان تأثير البلاغة أقرب واسطة إلى تحريكها ودفعها في طريق معينة، ولا يخفى أن المقصود بهذا القول الأمم الحرة كاليونان والرومان، وأما المستعبدة المغلوب على أمرها فلم تكن تعرف هذا الفن ولا تحلم به لضعفها وخنوعها وامتناع الكلام عليها.
وكان الخطيب السياسي مضطرا إلى الإلمام بأسرار الدولة الداخلية والخارجية، والتعمق في درس أحوالها المادية والعسكرية فضلا عما يحتاج إليه من حدة خاطر وشدة عارضة وحماسة في القول. ونحن مهما نحاول اليوم أن ندرك بالتصور مقدار الأثر الذي كان لرجل مثل ديموستين، أو شيشرون في أمته لا نصل إلى الظفر بالحقيقة، نقرؤهم بعد هذا العهد العهيد فنعجب بهم أيما إعجاب، فكيف لو سمعناهم واتصلت بنا نظراتهم، وشهدنا عن كثب حركاتهم وما يتجلى فيها من روحهم الثائرة!
وقد أتى على الخطابة السياسية زمن تقلص فيه ظلها من بعد العصر الروماني، إلى أن عادت إلى الظهور في بلاد الإنكليز لعهد اللورد شاتام، ثم دزرائيلي وغلادستون، وفي فرنسا إبان الثورة وبعدها - وكانت أيام الثورة كما مر بنا - أجمل عهد للخطابة بمن لمع فيها من أشباه برناف، ودانتون، ودمولن، وميرابو وغيرهم ولم يقصر في ميدانها من أتى بعدهم من نابليون إلى بنجمان كونستان والجنرال فوي وغامبتا وتيارس إلى كليمانصو، وجيورس، وفيفياني، وبريان، وبوانكارة لعهدنا هذا.
على أن خطباء العصور الأخيرة لم يبلغوا شأو الأقدمين، ولم يكن لهم تلك الجولات الواسعة التي عرف بها الأولون، فقد صار من النادر أن يقف الرجل في مكان عمومي ويخطب في قوم لا معرفة له بهم، وأغلب ما تكون الخطابة السياسية اليوم في محفل يضم إخوانا وزملاء كندوة النواب مثلا، ثم ينقل البرق الخطاب مختزلا إلى أطراف المعمور فلا يكون له في المطالع أثره في السامع، ولهذا قصرت غاية الخطيب على التدقيق في موضوعه وفي أرقامه الإحصائية متجافيا ما أمكن وجوه الاستعارات وضروب المجاز وما إلى ذلك وقد كفى، مثل هذا ميرابو وتيارس وغامبتا ليدركوا ما وراء الغاية من التأثير في معاصريهم.
ومن نواب الفرنجة اليوم من لا يعتمد على العاطفة في خطبه، بل ينهج سبيل المنطق البحت كأنه يتكلم في جمع من مديري البنوك ورجال المال والتجارة، كما أن منهم من لا يزال يلجأ إليها كلويد جورج وبريان طلبا للإجادة في التأثير على أنه تأثير وقتي لا ندري ما يبقى منه بعد ربع قرن. وإننا نقرأ خطب كليمانصو التي كانت تثير الزوبعة في مجالس فرنسا فيعترينا الدهش، ولا نعرف من أين كان لها هذا الوقع.
وإذا راجعت خطب مصطفى كامل وسعد زغلول لم يخف عليك ما فيها من سلاح العاطفة، وتبين لك أن هذه الطريقة لا تزال أقرب الطرق إلى قلوب الجماعات.
والخطابة السياسية من أصعب فنون الخطابة؛ لأن حركات الأمة هي نتيجة مد وجزر يولده سيطرة الأفراد على الجمهور، أو الجمهور على الأفراد، فيتبع الخطيب هذه الأمواج آمرا في القوم أو خاضعا لرغائبهم، فلا هو واثق بالنجاح كل الثقة، ولا يائس منه كل اليأس.
وقلما نجد من خطباء السياسة من لم يذق في احتكاكه بالجمهور لذة الانتصار أو لوعة الانكسار، وهذا يدلك على حرج الموقف وما يقتضيه من درس عقلية النواب والتعرف إلى أميالهم وأخلاقهم كما يتعرف الطبيب إلى جسم الإنسان جزءا جزءا. والذي يعرض عن هذا الدرس مكتفيا بما رزق من صنع اللسان وبلاغة البيان، أو عرف به من نزاهة القصد وإخلاص النية لم يسلم من الخيبة والفشل أحيانا، بل لو طرح قلبه على المنبر لما أقنع السامعين إذا هم أبوا الاقتناع.
على كل حال من أهم واجبات الخطيب النائب أن لا يقرب خلتين؛ الأولى الغضب لأنه آفة العقل والرزانة، والثانية استعمال ألفاظ سافلة تدعو إلى الأسف والندم.
الخطابة العسكرية
تختلف هذه عن الأولى كل الاختلاف؛ لأن الحرب لا تدع مجالا واسعا لتزويق الجمل، ومهما يكن الخطيب جهير الصوت فهو لا يستطيع أن يسمع الألوف؛ ولذلك جرت العادة أن تكتب الخطبة وتوزع على الجند. والغاية من الخطابة العسكرية هي إنهاض همم الجنود وإذكاء نار الحماسة فيهم، وإثارة النخوة والحمية والإقدام، وتهوين الموت، وتجميل التضحية، وإعطاء الثقة بالنفس والأمل بالنجاح.
ومن أجمل الخطب العسكرية خطبة طارق بن زياد قبل فتح الأندلس، وخطبة نابليون في حملة إيطاليا، وبين الخطبتين كثير من الشبه كأن روحا واحدة أوحت إلى البطل العربي والقائد الكورسيكي تلك الكلمات النارية الساحرة.
قال طارق: «أيها الناس أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر.» «وقد استتعبكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات إلا ما تستخلصون من أيدي عدوكم.»
وقال نابليون: «أيها الجنود لا قوت لكم ولا كساء، الحكومة مدينة لكم بالكثير ولا تستطيع أن تعطيكم شيئا، وإن في صبركم وشجاعتكم لشرفا لكم، ولكن ليس من ورائهما ربح ولا مجد، سأقودكم إلى أخصب سهول العالم، ستجدون مدنا كبيرة وضياعا غنية، ستجدون الشرف والمال والمجد. أي جنود إيطاليا، أتعوزكم الشجاعة؟»
ومثل هذا قول روش جامكلين في حرب الفانداي: «أيها الجنود إن أنا تقدمت فاتبعوني، وإن أحجمت فاقتلوني، وإن مت فاثأروني.»
وفي كتب العرب كثير من أمثال هذه البلاغة سنعود إليه في مكان آخر.
الخطابة الدينية
لم يعرف هذا النوع من الخطابة عند الإفرنج إلا بعد ظهور النصرانية، وكان حامل لوائه آباء الكنيسة من اليونان، وهو يمتاز بصراحة القول والتهديد والاستشهاد بآي الكتب المقدسة، وبالتحليل الفلسفي مع البساطة في التعبير، وأساسه قائم على العلوم الدينية المبنية على الوحي، والعلوم البشرية التي تساعد الخطيب على الاستشهاد والتفسير ودعم الحجة، وكلما كان الواعظ متعمقا في الفلسفة والأدب والطبيعيات أمكنه أن ينال من قلوب السامعين وعقولهم بما يكتسب قوله من الجاذبية والرواء، وتلبس معانيه الصارمة من حلل اللفظ الرشيق، وتكسى من بهجة الشواهد المتنوعة والأمثال التي توقظ الخاطر وتقصي الملل وتساعد على الإقناع.
وسواء أكان الموضوع دينيا محضا أو تأويلا وشرحا للآيات المنزلة، أو ردا على أقوال الملحدين ودفاعا عن الدين فالغاية من الموعظة واحدة، وهي تثبيت الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهي من حيث الفائدة الدنيوية جزيلة النفع بما تجلب من التعزية للحزين، والشجاعة للجبان والقوة للضعيف، والأمل للبائس والصبر لمن خانه الصبر على شرط أن يكون الواعظ ممن خبروا النفس البشرية وامتلكوا ناصية البلاغة، وكان في كلامه مخلصا تقيا وفي تبشيره صادقا وفيا.
أما عند العرب فالخطابة الدينية عزيزة المذهب أيضا، جليلة الغاية، بعيدة المرمى، وقد أوجبها الشارع وسنها للمسلمين في مساجدهم كل جمعة وعيد، وفي الحج أي في عرفة، وأوجب على الحضور التزام الأدب مع الخطيب، بل علمهم حسن الإصغاء، وفي الحديث: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت.» ولم يعين الشارع موضوعا خاصا للخطب الدينية، أو خطب الجوامع والمواسم بل جعلها مطلقة يتناول الخطيب الكلام من المناسبات الزمنية، ويورد للحضور من هدي الشارع ما يهذب به أرواحهم، ويهيب بهم إلى بارئهم، ويغرس فيهم مكارم الأخلاق وليطبعهم بطابع الفضائل، ويحذرهم البغي والظلم ويستل بلطيف أسلوبه سخائمهم وأحقادهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويزين لهم العمل الصالح، ويربأ بهم عن مهلكات الشهوات (عن القديم والجديد لكرد علي).
الخطابة القضائية
فيها من كل فن خبر؛ لأن المحامي يدعى إلى الخوض في كل موضوع، وعليه أن يلم بأطراف العلوم، ويكون واسع الاضطلاع موفور الحظ، ولا سيما في هذا العصر، فإن اتساع ميدان العمل أخرج المعيشة عن حالتها البسيطة، وولد في المعاملات الاجتماعية وعلائق الناس بعضهم مع بعض حقوقا جديدة، كما قال هنري روبير، وخلق مشاكل لم تكن موجودة أو معروفة، وجعل موقف القضاء أشد حرجا وأكثر غموضا.
لا يكفي المحامي أن يكون بارعا في علم الحقوق، بل هو في حاجة إلى بصيرة نقادة وذهن قادر على هضم أنواع العلوم ؛ لأن المسائل التي يوكل إليه البحث فيها هي علمية وطبية ومالية وزراعية وفنية، وعليه أن لا يجهل شيئا مما يمكن أن يعبد له طريق الفوز، فهو في آن واحد عالم وطبيب وتاجر ومهندس ومؤلف وغير ذلك.
ثم عليه بعد أن يجعل دماغه موسوعة علوم أن يعرف كيف يحرك العواصف ويثير شجون النفس؛ لأن من المحلفين من لا يعرف القانون ولا يأبه به، وإنما هو يحكم بما يمليه عليه الشعور والضمير.
قال كركوى: «يا لتعس المحامي الذي لا يحس لأول عبارة يتلفظ بها ارتياحا من جانب القاضي، وتشوقا لمعرفة ما سيقول، ولذلك كانت العناية بالمطلع وبراعة الاستهلال أول ما يجب الأخذ به.» ويروى عن محام في إحدى القضايا الكبرى أنه بدأ مرافعته بهذه الجملة الجذابة: «موكلي يطلب من عدلكم مليونين ومائة وخمسة وعشرين ألفا وثلاثمائة واثني عشر فرنكا وخمسة وعشرين سنتيما، ولا أنس السنتيم لأن حقي جلي واضح، فأنا أطلب الكل أو لا شيء.»
ومن بدائع الاستهلال ما فاه به الوزير كاليو في مرافعته عن نفسه بعدما قتلت زوجته الثانية المسيو كالمث منشيء الفيغارو، الذي كان ينشر في جريدته وثائق ضد كاليو، فإن زوجة كاليو الأولى المطلقة منه هي التي قدمت هذه الوثائق، وكانت السبب البعيد في هذه الجريمة، فجاءت إلى المحكمة كشاهد ضد كاليو وزوجته القاتلة، وبعد أن تكلمت كما شاءت وقف كاليو وقال ما معناه:
أريد اليوم أن أجرب أصعب شيء في حياتي، ولكن ثقي يا سيدتي أنه لا كلمة جارحة تخرج من فمي، ولكن الذين سمعوك على هذا المنبر أصدقاء وأعداء قد أدركوا أنه بين رجل لا ينكر أحد عليه العزم والمقدرة والإرادة وبينك يا سيدتي أنت التي تحوي على بعض هذه الصفات إلى حد المبالغة، قد أدركوا أنه من المحال أن تدوم الحال ...
وأحسن وصف ينطبق على المحامي خصوصا والخطيب عموما ما كتبه غامبتا في وصف المحامي لاشو، وقد آثرنا تعريبه هنا إتماما للفائدة.
كان لاشو من أشهر خطباء العصر التاسع عشر، وقد دافع في أكثر قضايا الإجرام كقضية مدام لافارج في مقتل زوجها، والطبيب لابومره المتهم بقتل اثنين تسميما، وتروبمان قاتل أسرة كاملة من أب وأم وستة أولاد، ودافع أيضا عن المرشال بازين أمام المجلس الحربي في تريانون، وقد وصفه غامبتا وصفا دقيقا يحق أن يتصف به كل خطيب وكل محام، كأن هذا الرجل الذي كان يقيم فرنسا ويقعدها ببلاغة أقواله أراد أن يجسم في الكلام ويرسم بنفثة من يراعه ما كان يختلج بين جنبيه من تلك القوة الساحرة التي امتاز بها خلقه العجيب، قال:
إن ما يغريني في لاشو هو سهولته وارتجاله وقوته واستقلاله، وما قبضت على القلم إلا لأظهر إعجابي بهذه الصفات.
إن بلاغة الخطباء المرتجلين هي كالنار التي يشبههم بها «تايسيت» إذا خبا أوارها عفت آثارها. أجل إن الارتجال قوة لها على القلوب سلطان الساعة، وقد بلغ فيه لاشو من السهولة والاقتدار مبلغا لم يعرفه إلا من كان في طبعه ومزاجه. يقوم وقد هزه كلام الخصم فيندفع اندفاع السيل؛ فإذ بالعقل مأسور والجنان مسحور ثم يزول كل شيء. أين هو هذا الخطاب الجميل؟ قيد البرق إن استطعت، احبس الريح التي تهب، أوقف المحامي لاشو. لكلامه وميض البرق الخاطف، وهو كالريح؛ فتارة نسيم، وطورا إعصار، ولا سبيل إلى حفظ هذه الأقوال المجنحة إلا إذا جمعنا بين تصوير الصوت وتصوير الموسيقى.
جبين واسع وضاح، شفة عريضة عليها ابتسامة ناعمة، عين كبيرة متحركة الأجفان، هذه العين التي تجدها مسترخية عند الراحة، تسطع بأنوار هائلة فجائية، أو تبسم بأشعة لطيفة تنتشر على القزحية وتنير من كل جانب أعماق تلك الكرة، رأس ملء حركاته عظمة وجلال، جسم معتدل وفيه خفة الفتوة. أضف إلى هذا صوتا جميلا طبيعيا واسع المدى كأن فيه شيئا من البوق وشيئا من القيثارة.
إذا غضب يتحول صوته إلى زئير؛ فيخرج من صدره طبقات كثيفة صافية رنانة، ويرتفع إلى أعلى درجة من النبرات، ثم يهبط بلا تعب إلى عذوبة الاستعطاف أو الشكوى.
وإذا رضي أصبح الصوت نغمة أو حفيفا كأن هناك آلة موسيقية تبعث ألحانا شجية يحسدها عليهما أطرب المنشدين.
إن للاشو كل ما يلزم ليكون محامي العواطف، وقد صار كذلك بفضل شعور منبعه النفس لا الفن، لقد أتمت الطبيعة على لاشو نعمتها من ضمير يبعث الضياء إلى فكر ينفث السحر إلى لحظ باهر وإحساس قاهر، وبساطة تقرب منال الألفاظ والمعاني، وعاطفة تحمل معها السامع، وأداء يأخذ بالأبصار، وإلقاء يستولي على مجامع القلوب. لله دره! ما أعرفه بأسرار النفس البشرية وما فيها من عثرات وألم وشقاء وخيانة! لقد دخل في ذلك النفق المظلم نفق الحياة العصرية، ونزل إليه درجة درجة؛ فأبصر كل ما فيها من بؤس وفظائع، ووقف على محركاتها وأدرك أسبابها، ولمس بيده جراحاتها، ورأى عن كثب ما في أعماقها من أصناف الذل وألوان العار، ولما انتهى إلى هذا الحد أخذته الشفقة على هؤلاء الساقطين شهداء الأقدار، فصعد من الأعماق حاملا معه الرحمة، ومنذ ذلك الحين اتخذ موقفه إلى جانبهم يدافع عنهم بقلمه ولسانه، وينصرهم بحكمته وبيانه، ويفتح لهم أبواب النجاة بقوة برهانه. •••
وسر المقدرة أنه يتعمق في درس الدعوى ويلج إلى قلب القضية، فينظر بعين المتهم، ويحس بأعصابه، فيغضب غضبه، ويصرخ صراخه كأنه يطلب الرحمة لنفسه، ويترجم عن يأس المسكين بيأسه. يأخذ شبكة الاتهام ويلقيها على ذاته بافتخار، ثم يقطعها تقطيعا كأنه من مصارعي الرومان.
يكفيه دقائق معدودة ليرى كل شيء ويقبض عليه ويسبر غوره ويدرك كنهه؛ انظر إليه جالسا مصغيا إلى أقوال المدعي العام واستنتاجاته وتهمه وإهاناته، وهو مطمئن النفس ساكن الجأش لا يتحرك فيه غير يده المحمومة تقطع بالمدية قلما وقع إليه. يستقبل بصدره ضربات الخصم ويعدها ليردها إليه بعد قليل بالربا الفاحش. ينظر إلى خصمه وجها لوجه لأن قوته ستظهر عن قريب، تلك القوة هي كلماته العظيمة التي يوحيها إليه احتدام الجدل والمناظرة؛ فيخترع ويبدع وينفخ كالخالق روح الحياة في خطابه.
يتقدم إلى المنبر حر الفكر، لا يعيقه تذكار، ولا تقيده لفظة هيأها أو جملة ركبها. لقد أعمل فكره وكفى، وما أحقه بما قيل عن فوسينون: «ليست ذاكرته للألفاظ والجمل ، بل هي صفحة حساسة تلتقط كل التأثيرات وتقع على كل المعاني، فهو يتنبه تنبها ولا يتذكر تذكارا.
وإذا كان المتهم واحدا من أولئك العاثري الجد الذين يخشى منهم ويشفق عليهم، فإنه يعرف أن يمشي إليه بجرأة، ويرفعه ويحمله بذاته فوق حافة الهاوية كأنه يريد أن يزجه فيها، ثم يريك بإشارة أعماقها المظلمة فتتراجع مذعورا، وإذ ذاك يرفع الخطيب رأسه، ويرفع المتهم معه شارحا حاله خالعا عليه حلة جديدة باكيا مستعطفا، وإذا بالرجل قد نجا لأنه من فوق الهوة البعيدة الغور تنتصب الرحمة التي هي عدل القلب والتي يقدر الصوت العظيم أن يوحيها أبدا إلى النفوس العظيمة.
إي وايم الحق عندما نسمع لاشو يتكلم لا نتمالك أن نقول مع أفلاطون: «الكلمة هي الله».
أرأيتم صدق كلامي؟ هذا الرجل يمثل الفطرة الصادقة بكل معانيها، ولا سبيل للتقليد إليه فهو لا يعنى بمطلع خطابه، ولا يعتبر الختام القسم الثالث من الخطبة، بل القبضة الأخيرة التي تخنق الخصم، والعادة أن لا يكرر الخطيب ختامه الواحد في كل خطبة أعدها، أما لاشو فهو في كل قضية يستطيع أن يكرر هذه القبضة الهائلة.
وعلى الجملة أقول إن من لوازم الخطيب أن يستقل بنفسه، ويتبع فطرته ولا يعتد بما مشى عليه غيره أو ألفه سواه، أو جرت العادة أن يقال ويسمع. قد يصل بالتقليد إلى نيل الاستحسان، ولكنه لا يصل إلى السيطرة على الضمائر، وقد صدق تايسيت حيث قال: «خير للخطيب أن يتزمل بردا خشنا من أن يصقل وجهه بطلاء الخطايا.
الخطابة العلمية
هي إن شئت أقل الخطب بلاغة لا تستنزل الدموع، ولا تثير العواطف، ولا توقد نار الغضب والحماسة، ولا تحرك عوامل البغض أو الرحمة. كلام علمي صناعة وبحثا، وتركيب بسيط يقرب منال الحقائق العلمية من الأذهان، على أن البلاغة الحقة لا تعرف لها حدا، فهي تتدفق من القلب والفكر أيا كان الموضوع، والخطيب البليغ يعرف أن يخلع حتى على الموضوع الجاف لمحة من الجمال والرونق والجاذبية فتزداد بساطته تأثيرا.
وأول ما ظهرت الخطابة العلمية في فرنسا لعهد الكردينال رشليو مؤسس المجمع الشهير المؤلف من أربعين عضوا يسمونهم الخالدين، وينتخبونهم من بين أرباب السيف والقلم ورجال الدنيا والدين.
وهي تتناول المحاضرة والمدح والتأبين وما شاكل.
المحاضرة - ويسميها الإنكليز قراءة أخذا عن الروائي الشهير دكسون الذي كان يتلو مؤلفاته في حفل من الناس - هي ضرب من الدرس يلقى على الجمهور كما يلقي المعلم درسه على تلامذته ومريديه، وقد لا تخلو من مسحة خطابية حسب الموضوع والكاتب، وغايتها الإقناع بمعالجة الموضوع الفلسفي أو التاريخي على نمط واضح الأسلوب سهل المأخذ، وكثير من الذين لا قبل لهم بالخطابة يستطيعون أن يفلحوا في المحاضرة ولا سيما المرأة التي قلما يساعدها الصوت وتركيب بنيتها على الخطابة بدون تعب.
ويدخل في المحاضرات السمر وأحاديث الأسر والأندية الأدبية، وقد كان للسمر مقام في العصور الغابرة، وبلغ أوجه في القرن السابع عشر في فرنسا، فكانت أوتل رمبوليه مجتمع السادة الأدباء والنساء الشهيرات بالحسن والظرف والذكاء والصبابة، وقد كان لاجتماعاتهم وما يدور فيها من حلو الحديث أثر عميق في أخلاق ذلك الجيل وآدابه، ثم أنشأت نينون ده لانكلو ناديا للسمر في منزلها، كان كالمعبد يحج إليه خيرة القوم، وكان فن الخطابة محترما، يعتبرونه مدرسة الأدب والحياء وحسن الذوق وطيب الشمائل ورقة الشعور.
أما اليوم فقد عصفت حمى الحياة بكل هذا، غير أنك تجد حينا بعد حين بعض الحفلات الخصوصية يقيمها نفر من العلماء أو المتأدبين في دورهم فيتجاذبون أطراف الحديث فيما يعرفون من علم أو فن، كما كانت تفعل فلاسفة اليونان حينما كانوا يجتمعون تحت ظلال الأشجار في حدائق غناء، تعبق أزهارها وتشدو أطيارها.
وربما كان للعرب شيء مما ذكرنا غير ما يروى عنهم من اللهو والعبث والمجون، وفيما حفظ عنهم من الأجوبة التي كان يحملهم عليها المقارعة في الحديث والجدل ما يجعلنا نعتقد ذلك.
المدح والتأبين؛ التأبين هو مدح الميت خاصة، يلقى يوم المأتم أو يتلى في حفلة التذكار التي تقام له، ويراعى فيه عمر الميت وقدره وخدماته، ثم يستطرق منه إلى التعزية وذكر الحكم الخالدة التي تخفف أحيانا من لوعة المصاب، ويختم باستمطار الرحمة والسلام على الفقيد، وحث الناس على الاقتداء به. ومجال الكلام في هذا الباب واسع للخطيب القدير الذي يتلاعب بالألفاظ والمعاني دون أن يهوي في المبالغة أو الإطالة والتكرار.
وأما خطب المدح وما يتصل بها من الشكر والتهنئة والتكريم فهي تتشابه موضوعا، وتختلف حسب الأقدار والأعمار وقيمة العمل أو الخدمة التي أداها المحتفى به لقومه وبلاده. وقد أفرط القوم فيها في كل مكان حتى صار من الصعب طرق هذا الباب على من أراد أن يكون مجددا لا مقلدا. على أن التكريم الصحيح - أي الذي يكون لأعمال جليلة القدر حقيقة النفع - يعطي الخطيب من الموضوع نفسه مصدرا للوحي فيجمع الإخلاص في البيان إلى فصاحة اللسان.
القسم الثاني
أمالي طبية ووصايا صحية
نظرة تشريحية
كما يحتاج سائق السيارة إلى معرفة تركيب أدواتها المختلفة حتى إذ طرأ طارئ لم يكن بالحسبان استطاع أن يتبين مواضع الخلل وأسبابه؛ ليسهل عليه إصلاحه، يحتاج الخطيب والمغني والممثل إلى معرفة تركيب الآلة الصوتية؛ ليتسنى لهم مداراتها ومعالجتها واجتناب كل ما من شأنه إفساد عملها، أو الإضرار به ولا سيما لأن هذه الآلة جزء عامل في الهيكل الإنساني، ولا يمكن فصلها عنه بوجه من الوجوه.
تتألف الآلة الصوتية من: (1)
الصندوق الذي يتكون فيه الصوت: وهو الحنجرة. (2)
منفاخ لدفع الهواء: وهو الرئتان والقصبة. (3)
مجرى صوتي: وهو الحلق والفم والأنف.
الحنجرة
هي شبه علبة أو صندوق مفتوحة من الأعلى والأسفل، فتصل فتحتها العليا بالحلقوم تحت قاعدة اللسان، وفتحتها السفلى بأول القصبة. غضاريفها
1
مبطنة بغشاء ينطوي على نفسه من الأمام إلى الوراء بشكل شفتين تاركتين بينهما فتحة صغيرة يقال لها المزمار، وهاتان الشفتان يقال لهما الأوتار الصوتية.
وتسميتها بالأوتار الصوتية لا تطابق الواقع، فإن هذه التسمية تحمل الإنسان على التصور أن في حلقه أوتارا كأوتار العود، ولكنهم جروا عليها؛ لأن الصوت يحدث من هذا النتوء الغشائي عندما يتمدد فيبدو كالشريط الأبيض على الحنجرة الوردية.
وطول هذه الأوتار يتراوح بين 20 و25 مليمترا عند الرجل و16-20 مليمترا عند المرأة.
المنفاخ
يشبهون الحنجرة بقبعة على عمود، وهذا العمود هو القصبة الهوائية مؤلفة من نحو عشرين حلقة غضروفية تتفرع في آخرها إلى أنبوبتين أضيق قطرا هما الشعب، وهذه الشعب تتفرع إلى فروع كثيرة من أصغر إلى أصغر، حتى تبدو لك شبه شجرة غارقة في الرئتين.
الرئتان: هما مركبتان من مادة رخوة إسفنجية مخروطية الشكل، تجد فيها تفرعات الشعب التي ذكرناها مع حويصلات الأعصاب والأوردة والشرايين.
المجرى الصوتي
موضوع خلف الحنجرة والقصبة من قاعدة الرأس إلى المريء - أي رأس المعدة - يطل عليه فتحات الأنف والفم والفتحة العليا للحنجرة بواسطة صمامة هي لسان المزمار.
وهو يختلف عن الحنجرة في شكله؛ لأنه لا يشبه العلبة بل القناة، فيخرج منه الصوت بعد أن يتكون في الحنجرة، ولا يجب الخلط بينهما، فالحنجرة آلة صفير، وأما الحلقوم فحفرة ينحدر منها الأكل والشراب إلى المعدة.
هوامش
الصوت
ما هو الصوت؟ هو مجموع أصوات تخرج من الرئتين والفم وقوامه التنفس، فإذا انقطع التنفس انقطع الصوت.
هذا التنفس قسمان: الأول عندما يدخل الهواء إلى الرئتين ويقال له في الفرنسية
Inspiration
ومعناه استيعاب الهواء
1
والثاني عند إخراجه منها، وهو ما يسمونه الزفير
Expiration .
فالصوت يتكون في الحنجرة أثناء الزفير؛ لأن الهواء الذي تستوعبه الرئتان لا يمكن أن يلبث فيها طويلا فتنقبضان وتطردانه من الشعب إلى القصبة، فإذا بقي الحلق مفتوحا خرج الهواء بسهولة دون أن يحدث صوتا، أما إذا تدانت الأوتار القائمة على جوانب الحلق وقفل هذا أو ضاق حصل الصوت؛ لأن هذه الأوتار أو الأغشية البارزة تهتز ويهتز معها الهواء العابر عليها والخارج بقوة من الصدر.
وقد تتشنج بعض عضلات التنفس لسبب ما فيحول الصوت إلى تنهد أو ضحك أو شهيق أو سعال أو فواق أو غير ذلك.
صفات الصوت: القوة والنبرة والرنة، فالقوة هي سعة اهتزازات الآلة الصوتية، وهي تتعلق بالقوة التي يطرد فيها الهواء من الرئتين، كما أن قوة الصوت الخارج من أوتار العود مرجعها قوة ضرب الأنامل، والنبرة هي في درجة شد الأوتار وما ينجم عنها من تغير في مدى الاهتزاز. وهذا الشد يقوم به عضلات الحنجرة التي تشد أو ترخى، والتي قد يصيبها شلل كما في بعض الأمراض العصبية؛ فيبح الصوت أو ينطفي. أما الرنة فهي التي تميز الأصوات بعضها عن بعض؛ لأنها تتعلق بتجويف الفم وتختلف في كل واحد باختلاف هذا التجويف. إذن لا علاقة للرنة في قوة الصوت ونبرته، وقد يصل الإنسان بالتمرين إلى تبديل رنة صوته كما يفعل المقلدون في محاكاة غيرهم من الناس، أو محاكاة أصوات الحيوان.
تأثير الأعضاء التناسلية في الصوت: أول أثر للأعضاء التناسلية في الصوت يظهر عند المراهقة؛ لنمو الحنجرة نموا هائلا، فإنه في بضعة شهور تكتسب الحنجرة من الكبر قدر ما اكتسبته من الولادة إلى زمن المراهقة؛ فيتبدل الصوت تبدلا سريعا، ولهذا ترى صوت الخصيان لا يفرق من صوت الأولاد؛ لأن الخصاء يمنع هذا النمو أن يحصل، ولما كان للأعضاء التناسلية هذا الأثر العظيم في آلة الصوت، كان من المحقق أن الإفراط في الشهوات يفضي إلى إفساد الصوت.
هوامش
التنفس
بما أن الصوت ناتج عن التنفس فهو متعلق به من حيث الحسن أو عدمه، فإن كان التنفس سيئا أخل ذلك بالصوت والنطق، والتنفس الحسن هو ما جلب الهواء إلى الرئتين بمقدار كاف وبدون تعب.
للتنفس ثلاث طرق؛ فهو علوي وجانبي وبطني. فالعلوي - ويقال له الترقوي نسبة إلى الترقوة - يرفع الرئتين نحو العنق فتجران معهما الحجاب الحاجز والأحشاء ويتجوف البطن. والجانبي يبعد الأضلاع فتتسع ويزيد قطر الرئة أفقيا. والبطني يخفض الحجاب الحاجز فيرفع جوانب البطن، ويزيد قطر الرئة عموديا.
وقد سبق فقلنا إن شكل الرئة مخروطي، وقواعد الهندسة تدلنا أن امتداد القطر العمودي للمخروط تزيد حجمه أكثر من الأفقي، فالتنفس البطني إذن هو أفضل أنواع التنفس؛ لأنه يزيد حجم الصدر أكثر من الجانبي ولا يتعب مثل العلوي الذي يحتقن به الوجه.
وهبوط الحجاب الحاجز يتعب المعدة، ولهذا كان في الخطابة أو الغناء قبل تمام الهضم ضرر كبير.
وأكثر ما يكون التنفس الجانبي عند المرأة وربما كان ذلك لتركيب بنيتها.
ويجب أن يكون استيعاب الهواء عن طريق الأنف دون الفم، فيدخل الصدر بعد أن يكتسب حرارة الجسم، ويمشي في طريقه خلال الشعر والأهداب المتموجة والسائل المخاطي مما ينظفه بعض التنظيف ويصفيه من ذرات الغبار والأوساخ العالقة به، والمتعود على الركض يشهد أن التنفس من الأنف لا يتعب كالتنفس من الفم، فضلا عن ذلك فالتنفس الدائم من الفم يجلب أمراض الحلق واللوزتين وما شاكل.
الرياضة التنفسية
قلنا إن حسن الصوت يتعلق بحسن التنفس، فكلما كان استيعاب الهواء قويا كان الصوت عظيما ثابتا، ولهذا كان من اللازم رياضة التنفس والتمرين عليه لحفظ الصوت وإنمائه.
هذا التمرين على أربعة وجوه:
التمرين الأول
اضطجع على ظهرك وجسمك عار أو مغطى برداء بسيط حر من كل رباط يضايق حركاته.
ثم تنفس من أنفك تنفسا بطيئا عميقا غير منقطع؛ فتحس أضلاعك تتمدد، وبطنك ينتفخ والصدر ينفتح إلى الأمام، أما الترقوتان فتظلان ثابتتين لا تتحركان من موضعهما، وبعد أن تستوعب الهواء توقف ثلاث ثوان، ثم اطرد الهواء بسرعة فاتحا فمك.
هذا التمرين يوسع الصدر، ومتى تعود عليه المرء أمكنه القيام به وهو جالس على كرسي، ثم فيما بعد وهو قائم.
التمرين الثاني
يؤخذ به بعد إتقان الأول وهو على عكسه تماما، أي أن تستوعب الهواء بسرعة وتطرده ببطء ونظام فاتحا فمك، وهو أصعب مطلبا؛ لأن إخراج الهواء ببطء يقتضي عناية وجهدا، ولكي يقف المتمرن على درجة تقدمه في هذه الرياضة يمكنه أن يضع إزاء فمه ريشة خفيفة معلقة بخيط أو شمعة مضيئة، فيعرف مقدرته على إيقاف زفيره من تحرك الريشة أو لهيب الشمعة.
ولا يجوز التكلم حين الزفير أي عندما يكون المزمار مفتوحا، كي لا يشترك في العمل غير أعضاء التنفس.
التمرين الثالث
هو في عمل الاثنين مشتركين، وكذلك التمرين الرابع.
الخلاصة: أربع طرق للرياضة التنفسية: (1)
استيعاب سريع، وزفير بطيء. (2)
استيعاب بطيء، وزفير سريع. (3)
استيعاب سريع، وزفير سريع. (4)
استيعاب بطيء، وزفير بطيء.
يجب أن تعلم أيها القارئ أن الغاية من هذه الرياضة ليست الوصول إلى إدخال أعظم مقدار من الهواء إلى الرئتين، بل تربية جهاز التنفس وإخضاعه لنظام محدود، ولا يجب عند الزفير إخراج كل الهواء الموجود في الرئتين بل يترك قسم منه، والقاعدة المتبعة عند المتكلمين في الجماهير هي أن يستوعبوا الهواء كلما سنحت الفرصة في عرض كلامهم، وإن يكن الباقي منه في الرئتين كافيا للتنفس العادي؛ ذلك لأن إخراج الهواء كله يتعب الصوت كثيرا، ولأن ادخار كمية زائدة عن الحاجة قد يأتي بالنجدة المنتظرة كما في الجمل الطويلة مثلا.
رياضة الصوت
تبين لك مما مر أن للرياضة التنفسية تأثيرا كبيرا في الصوت لحفظ جمال نغمته، وقوة نبرته، وسعة مرماه، وقد كان قدماء اليونان يعنون بها ويجعلون تربية الصوت فنا قائما بنفسه له أساتذة يتوفرون على درسه، كما روى تيوفراست، حتى إن ديموستين تلقى دروسا فيه، وتخرج على الممثل ساتيروس.
وبعد أن يملك الخطيب عنان تنفسه ينصرف إلى الاهتمام بصوته، وتصريفه في الوجوه التي تلائمه دون أن يفقد من تأثيره أو يقصر دون غايته، بل يستطيع حينئذ أن يصلح ما فيه من عيوب بالصبر والتربية، فإن لبعض الأصوات رنة غير مستحسنة ولا خفيفة على الأذن، فبالعادة والمثابرة يستطيع أن يتغلب عليها، ويبدل منها رنة ألطف وقعا وألذ سمعا.
ولا تنحصر تربية الصوت في الرنة بل تتناول النبرة والقوة؛ ولهذا يجدر بالخطيب أن يتخذ درجة موافقة في بداية خطابه، فلا يرتفع كثيرا لئلا يضطر إلى الهبوط عياء قبل الختام. وقد ذكرنا ذلك في فصل المنبر فليراجع.
صحة الصوت
بعد أن شرحنا لك ماهية الصوت وتركيب آلاته، وأظهرنا أن تجاويف الفم والأنف والحلق والحنجرة والصدر تهتز معا بالصوت الخارج من المزمار، لم يبق صعوبة لندلك على الطرق التي يجب انتهاجها لحفظ هذا الصوت وتقويته، فإن كل ما من شأنه أن يهيج الأغشية ويذهب بمرونة غضاريف الحنجرة، ويؤذي الأوتار الصوتية ويبدل من نعومة الغشاء سطحا خشنا ذا نتوء وحبيبات يؤثر في الصوت نغمة وصفاء وقوة وجلاء.
فالتدخين والخمرة والأشربة الساخنة أو المثلجة، والإفراط في الأكل ، وخصوصا اللحوم ، كل هذا يضر بالصوت ضررا بليغا لتهييجها الأغشية إما بالحرارة وإما بالطعم.
والعناية الصحية تكون بغسل الفم والأسنان بعد الأكل وقبل التكلم، فإن غدارة الأكل الباقية خلال الأسنان تجلب الريق بكثرة وتفسد الصوت.
وأحسن ما يغسل به الفم هو الماء القراح البارد مدة عشر دقائق.
ولا تقتصر المداواة على هذه الوسائل الموضعية، بل تمتد إلى الصحة العمومية من كساء وسكن وما شاكل، فالسكن يكون في مكان مطلق الهواء نظيفه، بعيد عن تقلبات الجو وكثرة حرارته. ويشترط في اللباس أن يكون واسعا لا يضايق الصدر، ولا يضغط على العنق؛ فيجلب بضغطه تضخم الغدد واللوزتين واحتقان الأغشية الحلقية، ويستحسن لبس الصوف أو الحرير على مدار السنة لأنهما يحفظان حرارة الجسم، ويقيان من البرد المفاجئ في حالة العرق، ما لم يكن الخطيب متعودا على البرد فيلبس ما شاء. على كل حال تقتضي الحكمة أن لا يخرج الإنسان من غرفة ساخنة إلى أخرى باردة دون اتخاذ الحيطة لذلك.
أما الاستحمام فهو ضروري على شرط أن يكون قصير المدة؛ لأن رطوبة هواء الحمام تؤذي الصوت، ومن كان مستعدا للزكام فالأولى استحمامه بالماء الفاتر صيفا وشتاء، وبعد الفاتر يصب باردا على بدنه، ثم ينشفه ويبقى تحت الغطاء عشر دقائق.
وليست فائدة الماء النظافة فقط، فإن الخطيب في الغالب رجل عصبي ملتهب الشعور، فالاستحمام يفيده كالرياضة، وكما تفيده بساطة المعيشة والاعتدال في كل شيء.
قبل الخطاب وبعده
قبل الكلام لا يجب أن تكون المعدة فارغة ولا ملآنة، ففي حالة الفراغ يتعب القلب والرئة فيخف الصوت وتنحل العزيمة، وفي حالة الامتلاء يهبط الحجاب الحاجز كما بينا فتتعب المعدة أيضا وتؤثر في سائر الجسم، وخير الأمور أن تكون المسافة بين الطعام والكلام ساعتين على الأقل.
ومن الضروري مضغ الأكل مضغا جيدا، أما كمية الطعام فمن الصعب تحديدها لاختلاف المعد والبطون.
وبعد الانتهاء من الكلام يعمد الخطيب إلى الراحة والسكون والسكوت، ويبدل من ثيابه المبللة بالعرق ثيابا جديدة.
هذا ما رأيت بيانه عن الخطابة، وطرقها، وشروطها، وأجناسها، وما يتعلق بها من القواعد الصحية ورياضة الصدر وغير ذلك، وستجد في القسم الثالث بعض الأمثلة من الخطب المشهورة في العصور السالفة والعصر الحاضر.
القسم الثالث
أمثلة من خطب العرب والإفرنج
خطب الإفرنج
(1) رأيي في الترجمة
1
لا بد لي في مطلع هذا الباب من كلمة في الترجمة، كما يجب أن تكون وكما أفهمها، وكما تعودت أن أسير عليه فيما عانيته منها، فإني أعتقد أن الغاية من الترجمة ليست في إظهار مناهج الإنشاء بقدر ما هي في التعبير عن فكرة المؤلف ومقصده ونقل معانيه وتمثيل تصوراته، ولو كان المقصود ترجمة الألفاظ والتراكيب قبل غيرها لفسدت الترجمة على الإطلاق، وربما كان هذا ما حمل اللورد بيرون أن يقول: «إن من أكبر المصائب على المؤلف أن يترجم إلى لغة غريبة.» فإنه من المستحيل أن تتفق تراكيب الجمل في مختلف اللغات، والقالب الذي يختاره الكاتب أو الشاعر ليفرغ فيه معانيه لا يمكن أن يكون واحدا فيها كلها، فإذا حاولنا أن نترجم ما نريد ترجمة حرفية للمحافظة على هذا القالب ما أمكن؛ أسأنا إلى المؤلف من حيث لا ندري، وأسأنا إلى أنفسنا بما نقع فيه من غرابة التعبير وركاكة الإنشاء، وهذا ما نراه كل يوم في أكثر ما نقرؤه في الجرائد والمجلات من المقالات الطبية والأدبية وغيرها التي تبدو أعجمية بألفاظ عربية، فتتعبنا قراءتها وتقصينا عن فهم ما فيها أو التلذذ به.
فالترجمة الحرفية - كما يقصد من هذه الكلمة - ليست بالطريقة المثلى لحفظ جمال الأصل، أو للوصول إلى الغاية من أثرها في ذهن القارئ العربي. حسب المترجم أن يتفهم معاني الكاتب ويدرك مقاصده ويدخل في إهابه - إن سمح لي بهذا التعبير - ثم يجتهد أن يقدم للقارئ قالبا عربيا لا ينفر منه ذوقه، ولا يأباه سمعه، فيختلف التركيب عن الأصل بعض الاختلاف، ويبقى المعنى والأسلوب على حالهما.
إن في الفرنسية أو الإنكليزية مثلا جملة تفيد معنى، ولكن هذا المعنى لا يمثل في لغتنا إلا بجملتين وبالعكس، فقد تجد المعنى الذي يقتضي التعبير عنه جملتين في إحدى اللغات الغربية يكفيه في العربية جملة أو كلمة، فلا يجب أن يمنعنا عن استعمال هذه الجملة أو الكلمة بعدها عن الترجمة الحرفية ما دامت موصلة إلى التأثير المطلوب.
وإني أورد هنا مثلا من هذه الترجمة التي لا يسعنا أن نسميها حرفية، وهي مع ذلك أمينة لا تذهب شيئا من جمال الأصل، ولا تضعف من الأثر الذي أراده المؤلف فضلا عن أنها تتجرد عن العجمة ما أمكن، وتظهر للقارئ في برد عربي فيكاد لا يشعر أنها مترجمة:
يقول لامارتين في مطلع قصيدته «البحيرة» ما معناه بالحرف الواحد: «أهكذا ونحن مدفوعون أبدا نحو شواطئ جديدة ومحمولون في الليل الأبدي بلا رجوع لا نستطيع أن نلتقي على شواطئ الأعمار مرساتنا يوما؟» مهما نحاول تنميق هذه العبارة فنقدم ونؤخر فيها مع المحافظة على «حرفيتها» فهي لا تسلم من الركاكة والعجمة، ولكنا إذا اكتفينا بالمعنى واجتهدنا أن نشعر شعور الناظم عند ما قاله، ثم حاولنا نظمه كأنه صادر عنا قلنا مثلا:
أهكذا أبدا تمضي أمانينا
نطوي الحياة وليل الموت يطوينا
تجري بنا سفن الأعمار ماخرة
بحر الوجود ولا نلقي مراسينا؟
أنا أعلم أن جملة «تمضي أمانينا» ليست في الأصل، ولكنها تتحصل من كلام الشاعر، وهي لا تضعف قوله بل بالعكس تفسره تفسيرا موافقا، وفي النظم قد يضطر المترجم إلى مثل هذه الزيادة، وكذلك الشطر الثاني من البيت الأول «نطوي الحياة وليل الموت يطوينا» لا يمكن أن يكون ترجمة حرفية لقوله «محمولون في الليل الأبدي بلا رجوع» ولكنه يؤدي المعنى تمام التأدية، ولو فرضنا أن لامارتين بعث من قبره وسألنا أن نترجم له ما ترجمناه عنه لما وجدنا ما يؤدي معنى هذا الشطر العربي أحسن من الرجوع إلى عبارته الأصلية، ولو ترجمنا له نطوي الحياة إلى آخره ترجمة حرفية لجاءت ركيكة في لغته ولم يفهمها، فالمعنى هنا واحد ولكن حلته تختلف في اللغتين، ومما يقرب من معنى البيت الثاني قول أبي العلاء يخاطب الدنيا:
يموج بحرك والأهواء غالبة
لراكبيه فهل للسفن إرساء
فالمعاني متساوية عند الناس، ولكن القالب الذي تفرغ فيه يختلف حسب اللغات كما يختلف اللباس حسب الأقاليم والسلائل، فعلى المترجم أن يحافظ على معاني المؤلف ومراميه وأسلوبه في الكتابة من خطابي أو شعري أو غير ذلك، وأما حلة الإنشاء من ألفاظ وتركيب جمل فهو حر أن يختار منها ما يناسب المقام، فكما أن الحسناء لا تفقد من حسنها إن بدلت من هذا الثوب الجميل ثوبا جميلا آخر، فالمعنى الحسن يبقى أثره كاملا سليما ما دام اللباس الذي يخلع عليه من الألفاظ والتراكيب جميلا مطابقا لقواعد الفصاحة أيا كان هذا اللباس.
افرض أن رجلا غريبا عن لغتك كلفك أن تحدث قومك في موضوع عن له، فماذا تقول؟ هو يدلي إليك بآرائه وأفكاره وتصوراته، ويفهمك الغاية التي يرمي إليها وعليك الباقي؛ أي أن تبرز هذه الأفكار والآراء والتصورات في قالب عربي يقبله ذووك. أو ليست الترجمة ضربا من هذا؟
هكذا أفهم الترجمة، وعليه جريت في كتابة الرسائل العلمية والطبية وغيرها مما كنت أنشره في الصحف والمجلات، فإذا وجد القارئ فيما يلي بعض اختلاف عن الأصل فلأني حاولت أن أجلو هذه المعاني الغريبة في ثوب عربي دون أن أضعف من تأثيرها، بل لأخفف ما أمكن الإساءة التي تلحق بالكاتب من جراء ترجمة مكتوباته معتقدا أن هذه الطريقة هي أفضل من الترجمة الحرفية التي يمجها الذوق العربي فضلا عن أنها تضيع جمال الأصل.
ولا حاجة للقول إن ما ذكرت ينطبق على ترجمة الأدب والشعر بوجه خاص، وأما الأشياء العلمية والفلسفية فلا تدعو إليه في كل حين؛ لأن العالم لا يخلو في كتابته من الغموض أحيانا بالنظر إلى المباحث العويصة التي يلم بها فيضطر المترجم أن ينقل عبارته بالحرف الواحد ليترك للقارئ الحرية في فهم ما أراد المؤلف، ولا سيما لأن المترجم نفسه قد يغلق عليه إدراك بعض عبارات الكتاب، فهو ينقلها بأمانة ودقة بالحرف الواحد يلقي عنه مسئولية التبيين، ويدع لكل قارئ سبيلا إلى حل هذه المعميات كما يرتئي.
2
ثم هناك أمر آخر أريد أن أنبه إليه القارئ، فإن هذه الخطب التي ستمر أمام عينيه لا تنال من قلبه ما تستحق إذا لم يقف منها موقفا خاصا. فإن ما ينظمه الشاعر أو يخطه الكاتب يكفي بذاته ليتصل بالقارئ وبخلاف ذلك الخطابة؛ لأن الخطب لم تعمل لتقرأ بل لتسمع، وقد مر بك أن حسن الأداء من أهم شروطها، ومشاركة الجمهور للخطيب بالمصادفة والتشجيع يرفع الخطيب إلى أن يصير صوته وقلبه صوت الجمهور المصغي إليه وقلبه الخافق معه، ومن الصعب أن نجد مثل هذه المشاركة عند القارئ.
فلو عربنا الخطبة أبدع تعريب، ثم قرأناها فمن المستحيل أن نلمس فيها ذلك الوحي الغابر، فنحن كمن يحاول الإمساك بالحياة بعد إفلاتها نبحث عن كائن حي ولا نجد إلا جثة هامدة، وأي شيء ننتظر من أجمل الأجسام وأبدعها مثالا وأكملها تقويما بعدما يستولي عليها جمود الموت؟ وماذا يبقى من الوجه الصبوح الجميل إذا انطفأ نوره وزالت ابتسامته؟
أجل إن فن الخطابة لجميل، ولكنه أقرب إلى الزوال من سواه. انظر إلى الأنصاب التي خلد فيها الإنسان الحياة بألوانها وصورها، فإنها باقية على الزمان الفاني ولا تزال على قدمها توحي الإعجاب إلى الناظرين، وتأمل بأنغام الموسيقى الساحرة فقد تفجرت آياتها من قلب الموسيقي النائم اليوم بعيدا عنها ولا تزال ترافق السامع إلى آخر الدهر، وما الذي لا يقال عن الشاعر أيضا وكلامه يتردد على كل لسان وينشد في كل مكان؟ أما الخطيب فهو يحمل معه ما عمل ويطويه في أكفانه؛ الصوت، والإشارة، والجاذبية، وهالة النور التي تحيط بالمنبر. كل هذا يختفي ولا يبقى غير صورة الخطاب.
عندما يتكلم الخطيب يصبح ملكا للجمهور، وهو لا يصل إلى قلوبهم إلا بعد صراع عنيف بين نفسه ونفسهم، فالخطابة فن ولكنها حرب إذا خبت نارها عفت آثارها؛ ولهذا لا نستطيع أن ندرك فعل أجمل خطاب بعد مرور السنين عليه.
فإذا أحببت أيها القارئ أن تجد في هذه الخطب المترجمة بعضا من جمالها القديم فعليك أن يكون لك فيها دور مستقل، وهو أن تحاول الشعور أكثر من الفهم، فتذكر الماضي وتضع نفسك وسط الحوادث التي ولدته، وتتمثله تمثلا أكثر مما تقرؤه قراءة، فتصدق فيك كلمة لاكوردير: «إن نفس الفرد تستطيع لدى السمع أن تكون جمهورا كبيرا.»
هذا العمل من تمثل الماضي والأحوال التي قيلت فيها الخطب؛ يطلب البساطة قبل المعرفة، والشعور قبل الاضطلاع، ويحتاج إلى حسن إرادة أكثر مما يحتاج إلى علم. (2) سوكرات
من خطبة له عندما حكم عليه بالموت
أي قضاتي، كونوا إذن مثلي على رجاء من الموت، ولا تفكروا إلا بهذه الحقيقة، وهي أنه لا خوف على رجل البر حيا أو ميتا، وأن الآلهة لن تتخلى عنه أبدا.
لم يكن ما أصابني اتفاقا، وإني لواثق أن موتي في هذه الساعة خير لي من تحمل هموم الحياة. أنا لا أحفظ حقدا على الذين حاكموني أو اتهموني، ولكني ألومهم لأنهم قصدوا في حكمهم واتهامهم إلى الإساءة إلي فساء فألهم وما كانوا صادقين.
والآن في نفسي حاجة أسألكم قضاءها: أيها الأثينيون، إذا اشتد أولادي ورأيتم فيهم جورا عن الحق، وزيغا عن قصد السبيل، وإيثارا للمال على الفضيلة فعذبوهم مثلما عذبتكم، وإذا ذهب بهم الغرور فظنوا أنفسهم شيئا وهم لا شيء؛ فعنفوهم بمثل ما عنفتكم. إن فعلتم فقد أصبت من عدلكم أنا وولدي.
والآن دنت ساعة الفراق، فليسر كل في طريقه، أنا نحو الموت وأنتم نحو الحياة. من هو السعيد منا بهذه القسمة؟ إن الله وحده لعليم. (3) ديموستين
من خطبته الفيليبية الأولى
يا رجال أثينا
ربما كان فيكم من تهوله عظمة فيليب، ويرى ما هو عليه من ضخامة الملك وقوة الجيش وكثرة البطش؛ فيظنه لا يقهر، فاذكروا أثينا وأنه أتى عليها عهد كانت فيه أيضا عزيزة الجانب، وكان لها من سعة السلطان ورفعة الشأن مثل ما له الآن. وهذه الأمم المنضمة اليوم تحت لواء فيليب كانت حرة تؤثر التحالف معنا عليه، فلو أن فيليب فكر يومئذ كما نفكر نحن اليوم، وقال في نفسه: لا طاقة لي على محاربة الأثينيين وقد ملئوا البسيطة عدة وعديدا؛ لما أقدم على عمل، ولكنه لم يدع لهذا الفكر ممرا بباله ولا معلقا بخاطره، بل عرف أن الفوز للجسور دون سواه.
فإذا كنتم أيها الأثينيون تريدون أن تقوموا اليوم بما قصرتم عنه أمس، إذا كنتم قد عزمتم العزم الأكيد أن تستقلوا غير متواكلين ولا متخاذلين؛ فقد فزتم بإذن الله وأصلحتم حالكم واسترجعتم مالكم، لا تحسبوا فيليب إلها لا ينال، إن هو إلا هدف دائم للبغض والحسد والخوف، لا يأمن حتى أقرب المخلصين له، فإن من حوله بشر مثلكم، لهم أهواؤهم وشهواتهم وعواطفهم المتباينة، ولكنهم في حاجة إلى نصير، تلك الأهواء والشهوات قد ضغط عليها الخمول كما ضغط عليكم، وهذا ما أسألكم أن تنفضوه عنكم. •••
إلام يا رجال أثينا تظلون «غرضا يرمى وفيئا ينهب؟» ما الذي تنتظرون؟ الساعة الموافقة؟ وحق جوبتر لا أعرف ساعة أنسب لتحريك الهمم في النفوس الحرة من ساعة الذل والهوان، أتريدون أن تطوى أعماركم وأنتم تتساءلون ماذا من جديد؟ ترحا لكم! وهل من جديد مثل هذا المكدوني قاهر أثينا ومخضع الإغريق، تعللون النفس بالآمال، ترقبون موت فيليب أو اعتلاله، وتنسون أن ذلك لا يبدل من حالكم شيئا؛ لأن ما يساوركم من الخمول والعجز والضعة لا ينفع لديكم إلا أن يسلط فيليبا آخر عليكم.
وله من خطبة أخرى
أيها الأثينيون
رب معترض فيكم يظن إفحامي إذا سأل: ماذا نفعل إذن؟ أما أنا فأجيب: لا تفعلوا شيئا مما تفعلون الآن، وافعلوا كل ما لم تفعلوه، على أني سأزيدكم بيانا عسى الذين سارعوا إلى السؤال أن يسارعوا إلى العمل؛ فاذكروا أيها الأثينيون أن فيليب نكث عهده معكم، وكان البادئ بالعدوان، ثم اذكروا أن فيليب هو عدو أثينا الألد، عدوها الذي يكره أرضها وسماءها، بل يكره منكم حتى أولئك الذين يغتبطون بأنهم نالوا حظوة عنده.
إن أبغض ما يبغضه فيليب وأخوف ما يتخوفه هو حريتنا، هو نظامنا الديمقراطي، وفي سبيل القضاء على هذه الحرية وهذا النظام ما فتئ ينصب الشراك ويدبر المكائد. هو يعرف حق المعرفة أنه لو أخضع بلاد الإغريق بأسرها، وبسط عليها سلطانه من أقصاها إلى أقصاها لما جعله ذلك منها في جناح آمن ما دامت ديمقراطيتكم سالمة، وهو يعرف أيضا أنه إذا خانته الأقدار يوما، وقلب الدهر له ظهر المجن فكل هذه الشعوب التي أخضعها عنوة تبادر إلى خلع نيره، والانضواء تحت لوائكم.
أفي العالم ظلم يجب دفعه؟ هاكم أثينا! أفي العالم أمة مقهورة تطلب نصيرا! هاكم أثينا! أفتعجبون بعد هذا إذا كان فيليب لا يطيق صبرا على هذه الحرية التي تقف منه موقف الرقيب على جرائمه، المحاسب على آثامه ... (4) شيشرون
كان كاتيلينا من أعضاء مجلس الشيوخ يتآمر على الجمهورية ليستولي على الحكم، وقد ألف جيشا صغيرا من غوغاء الناس ودربهم على أعمال الشر والأذى، واتفق معهم على أن يضرب الضربة القاضية في اليوم التالي، فتسرب الخبر إلى شيشرون قبل انعقاد المجلس، فلما اجتمع الشيوخ وكاتيلينا بينهم كان شيشرون أول المتكلمين:
حتام يا كاتيلينا تطمع منا بالصبر فتزيد في غرورك وتتمادى في بغيك وفجورك. طغيت فما عرفت لطغيانك حدا، ولا حفظت لأمتك عهدا، ولا راعك الحرس القائم على الأسوار في الليل والنهار، ولا أهاب بك جلال هذا المقام ومن فيه من شيوخ كرام. لقد برح الخفاء عن حالك، وظهر المستور من أعمالك، فلا تظن بعد اليوم أحدا يجهل ما فعلت بالأمس وقبل الأمس، وبمن اجتمعت وعلام عولت.
يا للدهر ويا للأخلاق! المجلس يدري، والقنصل يرى، وهذا الرجل لا يزال حيا، يأتي إلينا ويشترك معنا، ويجيل نظره فينا، ويختار منا من يقع عليه حكم الموت، أي كاتيلينا، كان عليك أن تساق إلى الموت بأمر القنصل من زمن طويل، وأن يرد إلى نحرك السهم الذي تفوقه إلينا.
قتل سيبيون فيما مضى تبريوس كراكس لخيانته ولم يكن سيبيون قنصلا، ونحن القناصل نحتمل كاتيلينا الساعي في خراب العالم بالحديد والنار، سلام على رجال هذه الجمهورية القدماء، لقد كانوا شجعانا يذبون عن الوطن ويعاقبون خائنيه، أما نحن فالخائن بيننا ولا نجد له قصاصا، ولا نستطيع منه خلاصا، هذا لعمركم الصغار بعينه! (5) القديس باسيليوس
من خطبة له في الأغنياء
تقول هو مالي أحرص عليه، فما وجه الضرر لسواي؟ ما لك وأين أخذته؟ أجب من أين جئت به في هذه الدنيا؟ مثلك مثل من يأتي دار التمثيل قبل غيره، فيريد أن يمنع الباقين من الدخول بحجة أنه أول الداخلين، أفلأن الأغنياء استولوا قبل غيرهم على مال هو ملك الجميع يريدون أن يستأثروا به دون سواهم؟ أجل يا سادة لو أعطى كل واحد منكم ما زاد عن حاجته لما كان على الأرض غني ولا فقير. ألم تخرجوا عراة من بطون أمهاتكم؟ ألا تعودون عراة إلى بطن الأرض؟ فمن أين هذا الغنى الذي تتمتعون به؟ أكان اتفاقا؟ أعوذ بالله من الكفران بنعمه إنه لم يكن اتفاقا بل من الله، وإذا كنتم تعرفون أنه من الله فقولوا لي علام أعطاكهم الله وحرم سواكم منه؟ ما كان ربك ظالما لعبيده ليقسم هذه القسمة الضئزى. تعالى الله عن ذلك إنه أعطاكم الغنى لتنفقوه في سبيل الخير، وقال:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
وهكذا أعد الثواب للغني والفقير؛ الأول لحلمه وكرمه، والثاني لصبره وألمه. وتظنون بعد هذا أن تحبسوا خيراتكم عن الناس دون الإضرار بهم؟!
من هو البخيل؟ هو الذي لا يكفيه سد حاجته. من هو اللص؟ هو الذي يسلب الآخرين أفلا تعرفون أنفسكم بهذا التعريف؟ تسمون قاطع الطريق من يجرد الناس من لباسهم، فماذا تسمون من لا يجود باللباس على من لا لباس له؟! إن في خزائنكم ثيابا كثيرة هي ملك الفقراء العراة، كل هذه النعم التي أتيح لكم أن تتمتعوا بطيبها أصبحت ذنوبا ترصد لكم عواقبها الوخيمة.
من خطبة أخرى
قولوا لي ما الفائدة من مقاعد العاج وأسرة الذهب وموائد الفضة، حتى تنفقوا في سبيلها مالا الفقراء أحق به؟ يتوافدون إلى أبوابكم باكين مسترحمين، فتردونهم بقسوة ولا تهابون نقمة الجبار، لا رحمة عندكم فلا تنتظروا رحمة منه؛ تقفلون دون المسكين أبوابكم، وهو يقفل دونكم أبواب الجنة، تمنعون الخبز عن الفقير؛ فتمنع عنكم الحياة الأبدية.
ما تكون آخرة هذا الظلم وهذه اللصوصية؟ وما تريدون من هذا الملك الواسع والمكاسب الضخمة في حين يكفي شبر من الأرض ليضم أشلاءكم الحقيرة؟ علام هذا الطمع والجشع؟ إلام تحتقرون شرائع الله والناس؟
إنكم كيفما التفتم تتمثل لكم صورة آثامكم، فهنا يتيم يبكي، وهناك أرملة تئن، فقراء اضطهدتموهم، وخدم أسأتم إليهم، وجيران أغضبتموهم، كل هؤلاء قيام ضدكم يوم الدينونة فمن يكون معكم؟
ما معنى هذا الغنى الفاحش؟ وهل في الذهب والألماس شيء غير الحجر والتراب؟ وماذا استفاد الخازن لها في مقاومة المرض والموت؟
تدعون أنكم تحافظون على هذا المال لأولادكم، يا لها من دعوى كاذبة! أليس الله أباهم؟ ألم يعطهم الحياة من قبلكم؟ وبعد هذا كله من يكفل لكم أن أبناءكم تحسن استعماله، كم مرة كان المال مجلبة الفساد والإثم للشبيبة؟ تجمعونه بالتقتير ولا تعلمون أين المصير، أليست لكم نفس هي أعز عليكم من بنيكم؟ فإن خسرتموها فماذا تربحون وما ينفعكم بعدها ما تجمعون؟ (6) يوحنا فم الذهب
هو من أشهر خطباء النصرانية، وقد نشرنا خطابه الذي دافع به عن أتروب، وهو آية في البلاغة.
كان أتروب رجلا سافل الأصل والأخلاق، بلغ باحتياله ومطامعه ومعونة الإمبراطور أركاد أعلى مقامات الشرف والثروة، وعين قنصلا، فكان أول أعماله اضطهاد الأسقف يوحنا، والحصول على سن شرعة يحظر فيها على الكنائس حماية اللاجئين إليها.
ولكن الدهر بالناس قلب، فهوى أتروب يوما من ذروة مجده، وتخلى عنه الإمبراطور، وأسلمه إلى حقد الشعب الثائر وغضبه، فلم ير مناصا إلا بالالتجاء إلى كنيسة القسطنطينية التي اضطهدها وجردها من امتيازاتها التي كانت تخولها حق الحماية.
وكانت الغوغاء تتعقبه محاولة الفتك به، فنهض يوحنا وأخمد ببلاغته هياج الشعب وأخرس صوت الانتقام، مدافعا عن عدوه الساقط.
ولم يكن أكثر روعة من مشهد ذلك الجمع يحاول اقتحام المعبد للانتقام، وأتروب مختبئ خلف المذبح يتمرغ على قدمي الأسقف، قال:
إذا صح قول الحكيم باطل الأباطيل كل شيء باطل، فلا أجد حالا يصدق فيه هذا القول وينطبق عليه كحالنا اليوم، أين عظمة القنصل ومجده؟ أين هي الجنود التي كانت تمشي في خدمة الظافر؟ ماذا جرى بالهتاف والتصفيق والولائم والأفراح؟ إلى أين انتهى ذلك الازدحام على الأبواب والترامي على الأعتاب؟ لقد تبدد كل هذا تبدد الغيوم. عصفت الريح فجردت الشجرة من أوراقها، وقطعت الصلات التي تربطها بالأرض، وها هي الآن تحاول محو آثارها. أين أنتم أيها الأصدقاء المنافقون والرفقاء المملقون؟ وما حل بتلك المآدب الفخمة تتدفق فيها سيول الخمور، ويحفها الإخلاص الكاذب، ويشرف عليها الولاء الملبس بالرياء؟ ذهبت تلك البحبوحة كأن لم تكن، وزالت كالحلم وتناثرت كزهر الربيع. سراب غرار. بخار لامع يبدو حينا ثم ينقطع. باطل الأباطيل كل شيء باطل.
هذه الآية يجب أن تطبع بأحرف من نور على الأبواب والجدران وكل مكان، يجب أن تطبع في أعماق القلوب، وتكون حديثنا الدائم لنتعلم منها إلى أي حد يمكن الاتكال على ظواهر الثروة وصداقة البشر.
ألم أقل لك غير مرة أن الغنى ظل زائل فلم تصدق. كنت أقول فتغضب. كنت أقول لك إن الذين يحرقون بخور الثناء بين يديك ليسوا بأصدقائك، وإن تعنيفي لأجدى لك من تمليقهم، وإن الجراح التي تؤتى عن يد الصديق لأفضل من قبلات الخائن فلو احتملت هذه الجراح لما كنت الآن تئن من جور الساعين إلى هلاكك.
أين هم ضيوفك الذين كانوا يمجدونك بالأمس لينجدوك اليوم؟ هيهات! لقد نفروا منك واختفوا عنك مخافة أن يقال إن لهم صلة بك، أما نحن الألى احتملوا غضبك وجورك فإننا نحميك بعد سقوطك، وهذا المعبد الذي حاربته يفتح صدره لك ويبسط جناحه عليك.
لا أريد الشماتة والاشتفاء، ومعاذ الله أن أحاول إغراق شقي غلبت عليه الزوبعة، ولكني أريد أن أظهر الخطر لمن ينام آمنا غدرات الزمان، فليعتبر كل مغرور تسكره خمرة الفوز بما أصاب هذا الرجل.
لقد رأيتموه بالأمس عندما توافدت رسل الإمبراطور للقبض عليه، وقد علت صفرة الموت جبينه، واصطكت أسنانه فرقا، ونفضت الرعدة في مفاصله، ولا تزال نافضة حتى الساعة.
أنا لا أسدد نحوه سهام اللوم، ولا أزيد شقاءه بالإهانة، فالشقاء لا يدعو إلا إلى الرحمة، وهذا ما أطلبه منكم، فلتكن رحمتنا على قدر شقائه ، ولتلن القلوب القاسية التي تلومنا لأننا لم نقفل في وجهه أبواب هذا الهيكل.
أيها الإخوان علام تغضبون؟ ألأننا حمينا في الكنيسة من حاربها؟ أو ليس الأصح أن نسر ونحمد الله؛ لأنه حبانا النصر، وأجبر هذا العدو ألا يجد عونا إلا في قوة كنيسته ورحمتها؟ أقول قوتها لأنه لم يهو إلى الحضيض إلا لأنه ناوأها، وأقول رحمتها لأنها تريد اليوم أن تحمي من اضطهدها وتفتح له كالأم صدرها. هل ثمة نصر مبين كهذا النصر؟ أو يمكن أن تفحم أعداءها بأبلغ من هذا البرهان؟ وأي برهان كالعفو عن عدوها المترامي على أقدامها ودرء غضب الناس عنه، والوقوف لحمايته بين غضب الأمير وانتقام الأمة؟ ألا تجدون أنه أجمل وسام يرصع به صدر هذا الهيكل؟
رب معترض يقول: كيف نسمي انتصارا تدنيس هذا المقام بوجود الخائن الأثيم فيه. على رسلكم يا إخواني! أنسيتم تلك الخاطئة التي ارتمت على قدمي السيد وأخذت تقبلهما. حذار أن لا يكون إيمانكم سوى حب انتقام، واذكروا ما قال المسيح: «سامحهم لأنهم لا يعرفون ما يعملون.»
قد يعترض أيضا أنه هو الذي قفل هذا الملجأ في وجهه بالشرعة التي سنها. ألا فانظروا عبرة ذلك فإنه اليوم أول من عصى هذه الشرعة، فيستطيع أن يتبين فسادها، وكأني به يقول لكم لا تقتفوا أثري ولا تترسموا خطاي إذا أردتم أن لا تتعذبوا عذابي، ما أبلغ هذا المصاب! وما أقوى النور المتفجر من هذا المقدس! ما أبهى العظمة التي تكتنفه منذ قبض على هذا الأسد! هكذا صورة الأمير لا يعليها في عيوننا التاج المرصع وحلة الأرجوان، بل يعليها البربر المقيدون بالسلاسل عند قدميه؛ أيديهم وراء ظهورهم ورءوسهم منحنية إلى الأرض.
لم تشهد البلاد في أعظم أعيادها حفلا كهذا. لقد أقفرت الدور والخدور والطرق، وأقبلتم جميعا رجالا ونساء لتشهدوا تقهقر الضعف البشري، وزوال المجد الدنيوي، وانصرام أسباب الفخر الكاذب، ما أعظمها عبرة للأغنياء! رجل كان بالأمس يهز العالم بحركة من حاجبيه يصبح اليوم يرجف فرقا كأحقر الحيوان! بل هي عظة للفقير أيضا يتعلم بها العزاء فلا يشكو ولا يتذمر، بل يحمد الفقر الذي جعله في مأمن من هذه التقلبات والغير. فاليوم هو درس للجميع أغنياء وفقراء، كبارا وصغارا، عبيدا وأحرارا. كل يجد لدائه دواء ولآلامه عزاء.
هل استطعت أن أحرك عواطفكم، وأهدئ ثائرتكم، وأجد سبيلا إلى قلوبكم؟ نعم، أتجرأ على الافتخار بذلك، فإن نور الرحمة يتدفق من وجوهكم، وهذه الدموع الجائلة في الآماق دليل عليها. إذن فلنجن ثمار هذا الكرم الذي أظهرتموه والرحمة التي أبديتموها بالارتماء على أعتاب الأمير، أو بالأحرى فلنجثو هنا أمام الله ليتنازل ويلين قلب الأمير.
مهما تكن جريمة الرجل فاليوم يوم الرحمة لا العدل، والشفقة لا الانتقام، واللين لا الشدة، فلننس الإساءة، ولنسأل الله للآثم غفرانا وعمرا طويلا؛ ليكون له متسع من الوقت للندم والتوبة والتكفير. (7) بوسويه
من تأبين هنريت فرنس ملكة إنجلترا
مولاي
1
إن المستوي على العرش في العلاء الذي به تقوم الممالك، والذي وحده له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير؛ هو وحده يضع الأحكام للملوك، ويسن لهم النظم، ويلقي عليهم متى شاء دروسا عظيمة هائلة، وهو الذي يرفع العروش ويثلها، ويخلع السلطة على الأمراء أو عنهم؛ ليدلهم على واجباتهم نحوه مظهرا لهم بهذا الأخذ والمنع أن كل عظمتهم مستعارة، وأنهم لا يزالون في قبضة يده وتحت إمرته، هكذا يعلم الملوك لا بالخطب وحدها بل بالنتائج والعبر.
أيها المسيحيون الذين أقبلوا من كل صوب وحدب لذكرى ملكة عظيمة هي بنت ملوك، وزوجة ملوك، ووالدة ملوك. سيريكم هذا الخطاب مثلا من تلك الأمثلة الهائلة التي تظهر بطلان العالم. سترون في حياة واحدة كل نهايات الأشياء الدنيوية؛ السعادة التي لا حد لها، والشقاء الذي لا شقاء بعده، سترون أعظم تيجان العالم، وأبهى ما عقده تالد المجد وطريفه على رأس إنسان هدفا لتقلبات الزمان وغير الحدثان. سترون بعد الانتصار عبث الثورة والاختلال والظلم. سترون ملكة هاربة من ممالكها الثلاث ولا مأوى لها ولا مجير. سلسلة أسفار في عرض البحار وسط الزوابع والأمطار. عرش يثل بلا حق ثم يعاد بأعجوبة . تلك هي الدروس التي يلقيها الله على الملوك؛ ليظهر للعالم زوال مجده وبطلان عزه، وإذا قصر اللسان عن إيفاء هذا الموضوع حقه من البيان، فالأشياء ناطقة لنفسها، وأبلغ منا جميعا قلب هذه الملكة الذي سما إلى أعلى ذروات المجد، ثم هوى إلى أسفل دركات الشقاء. (8) لاكوردير
خطيب نوتردام كان يحرر مع لامنه في جريدة المستقبل، فحوكم الاثنان بتهمة التشنيع بالحكومة والحض على العصيان وبرئا، قال في مطلع دفاعه عن نفسه يوم المحاكمة:
أيها السادة
أقف فيكم وبي ذكريات لا تحول ولا تزول، فقد كان الكاهن فيما مضى يحمل إلى الشعب شيئا مما يبعث على الحب، أما اليوم فإني أشعر أمام الاتهام أن اسمي أبكم، وكهنوتي لا يجدي في الدفاع عني فتيلا، لقد جرد الناس الكاهن من هذا الحب القديم الذي كان له في نفوسهم، وذلك عندما تجرد هو نفسه من خلقه السامي فلم يعد رجل الله ولا رجل الحرية. لقبان لا يفترقان في ذهن البشر ولا في مقادير العناية. عروتان أزليتان تربطان الهيكل بالعالم، ولا يمكن الفصل بينهما دون أن يشهد الكاهن موت الإله الذي يعبده والحرية التي أنكرها.
إلى أن قال في ختام المرافعة:
لقد قمت بالواجب علي أما واجبكم أيها السادة فهو تبرئتي ولا أطلبها لنفسي، فما كنت ممن يهاب السجن أكثر مما يهاب الله، ولكني أطلبها لتكون خطوة أولى منكم نحو اتحاد الإيمان والحرية.
أطلب البراءة كي يتعلم أولئك المأجورون المستبدون أن العدل لم يمت في فرنسا، ولا يمكن أن تضحوه لعقائد قديمة وسخائم عصر خلا، إذن أرجوكم أن تبرئوا يوحنا باتيت هنري لاكوردير؛ لأنه لم يذنب بل تصرف تصرف الوطني، ودافع عن إلهه والحرية، وما عملته يا سادة تجدونني مستعدا لعمله كل حين.
ومن خطبة له في وداعه نوتردام، وهي آخر خطبة
أودعكم وفي الصدر عاطفتان متناقضتان؛ الأولى: السرور أنني أديت الواجب علي، وخدمت الكثير منكم في عصر قلما تجدي فيه خدمة الواجب، والثانية: الأسف لدى التفكير أن عملا كهذا لا يتم دون أن يخلف العامل فيه أجل شيء من عمره وقواه.
يقول دانت في مطلع قصيدته: «في منتصف طريق الحياة استيقظت فإذا بي وحدي وسط غابة كثيفة.» يا سادة إني وصلت إلى هذا الموقف من الحياة حيث يودع المرء آخر شعاع من الشباب، وينحدر بسرعة نحو شواطئ العجز والنسيان، وإني لراض بهذا الانحدار؛ لأنه مكتوب لي غير أني أريد أن أقف قليلا وأتملى اللذة الباقية لي، وهي أن ألقي نظرة على الماضي، وأعيد معكم يا رفقاء الطريق تلك الذكريات التي حببت إلي هذا المنبر وهذا الجمهور.
هنا انفتحت نفسي لأنوار العزة الإلهية ونزل الغفران على آثامي. على أعتاب هذا الهيكل رقيت درجات الكهنوت، ومن على هذا المنبر الذي رعيتموه بالإصغاء والتهليل تجلت لي وظيفتي، هنا وجدت بعد منفاي الاختياري الثوب الذي أقصاني عنه حرماني باريس نحوا من ربع قرن. هنا في غد الثورة بين بقايا العرش ومشاهد الحرب توافدتم لتسمعوا من فمي الكلام الصاعد من هذه الأنقاض فصفقتم له. هنا نشأت الشعائر التي عززت حياتي فوجدت وأنا في وحدتي بعيدا عن العظماء وعن الأحزاب؛ نفوسا أحبتني.
يا جدران نوتردام! أيها القبة المقدسة التي تردد فيها صدى صوتي الضعيف. أيها المحراب الذي باركني. هيهات أن أنفصل عنكم. أحن إليكم وأردد مآثركم وأتذكر بركاتكم كذكرى إسرائيل لصهيون.
وأنتم ياسادتي الألى غرست فيهم على اختلاف أعمارهم الحقائق المقدسة والتقاليد السامية إني سأبقى متحدا معكم في الآتي كما في الماضي، وإذا خانتني يوما قواي إذا لم يعد يؤثر فيكم بقايا صوت، كان عزيزا عليكم فلن ترموا من أجله بالعقوق؛ إذ لا شيء بعد الذي كان يقدر أن يزيل هذا الأثر؛ وهو أنكم كنتم مجد حياتي وإكليلي للأبدية. (9) ميرابو
من خطبته سنة 1789 بعدما غادر لويس السادس عشر المجلس الوطني
أيها السادة
لا ريب أن فيما سمعتموه الآن منجاة للوطن لو كان في الإمكان أن نثق بوعود الاستبداد. ما هذا الظلم الشائن؟ يستبيحون حرم هذا الهيكل والسلاح في أيديهم ليأمروكم أن ترضوا وأن تستعدوا ومن الآمر؟ ذاك الذي يدعي الوصاية عليكم ، يسن لكم شرائع الاستبداد القاسية في حين عليه أن يستمد منكم التشريع. منكم أي منا نحن اللابسين حلة الكهنوت السامي الذي لا يمس. 25 مليونا شاخصة إلينا بأبصارها وأفكارها منتظرة أن نقدم لها سعادة أكيدة تقوم على أساس مكين ثابت، ولكن ما لي أرى حرية اجتماعكم مقيدة والقوة المسلحة تحيط بالمجلس؟ أين هو العدو؟ هل كاتيلينا على الأبواب؟ وأطلب منكم إذن أن تحافظوا على عهودكم، ولا تفترقوا قبل أن تقيموا الدستور.
وكان نائب الملك حاضرا فلما رأى النواب لم يتفرقوا قال: «سمعتم يا سادة، إرادة الملك.» فصاح به ميرابو:
نعم سمعنا ما لقنوه الملك، أما أنت الذي لا يمكن أن يكون رسوله إلى المجلس، ولا ممثله بيننا أنت الذي لا صوت له هنا ولا مقام ولا حق بالكلام، لا يجوز لك أن تذكرنا خطابه. على أنه منعا للبس واجتنابا للتأخير أقول لك إن كنت مكلفا بإخراجنا من هنا فعليك بإحضار الأمر لاستعمال القوة. اذهب وقل لمولاك إننا هنا بقوة الشعب، ولا سبيل إلى إخراجنا إلا بقوة الحراب. (10) نابليون
من خطبة له بعد موقعة أوسترلتز
أيها الجند إني راض عنكم. لقد كنتم يوم أوسترلتز عند ظني فيكم، فخلعتم على ألويتكم حللا من المجد لا تبلى. في أقل من أربع ساعات حطمتم جيشا يربو على مائة ألف مقاتل بقيادة إمبراطورين. أربعون علما ومائة وعشرون مدفعا وعشرون قائدا وثلاثون ألفا من الأسرى تلك كان نتيجة ذلك اليوم المشهود.
لقد أصبح السلم قريبا، ولكني لا أريده إلا كما وعدتكم قبل عبوري الرين؛ أي سلما أكيدا يكون فيه الضمان لنا والمكافأة لحلفائنا.
أيها الجنود عندما وضع الشعب الفرنسي هذا التاج على رأسي كان جل اعتمادي عليكم لتحفظوا له مجده اللامع الذي بدونه لا قيمة له في نظري. أيها الجنود سأعيدكم إلى فرنسا بعد أن نحقق كل ما يكفل الهناء للوطن، فتكونوا موضع الإعجاب والإكرام، وتستقبلكم الأمة بسرور وافتخار، وحسبكم يومئذ أن يقول الواحد منكم لقد شهدت أوسترلتز؛ ليسمع من حوله: إنه لبطل.
ومن خطبته في فونتيلو
وداعا يا حرسي القديم، لقد مشيتم معي عشرين عاما في سبيل المجد والشرف، وما برحتم في السراء والضراء مثالا للشجاعة والأمانة، ومن كنتم حوله لا يئوب بالفشل، ولكن الحرب قد طالت وربما استعرت حرب أهلية لا تخرج فرنسا منها إلا أسوأ حالا؛ ولذلك أضحي بنفسي في سبيل الوطن.
سأرحل وحدي، أما أنتم فثابروا على خدمة فرنسا. إن سعادتها كانت غاية مناي، وستبقى أقصى مشتهاي. لا تندبوا سوء طالعي، وما رضيت بالحياة بعد هذه النكبة إلا لأخدم مجدكم. أريد أن أكتب الأشياء العظيمة التي عملناها. وداعا يا أولادي، أود أن أضمكم جميعا إلى صدري، فأكتفي بتقبيل لوائكم. أيها النسر العزيز دعني أقبلك، ولتسر هذه القبلة في قلوب كل الشجعان. (11) لامارتين
نذكر هنا ما رواه لامارتين عن نفسه يوم احتدم الجدل بينه وبين الشعب الثائر، وقد وقف على المنبر بين الصخب والهياج، وهو لا يدري ما يكون مصيره، وكان غير واحد من الخطباء يزاحمه بالمنكب يمينا وشمالا، ويحاول أن يزيحه من مكانه، ولكنه تمكن بالساعد والكتف من إقصائهم عنه، فإذا به وحده أمام هذا الجمهور، وقد خفت ضوضاؤه وسكنت جلبته ومال إلى الإصغاء فقال: أي أبناء أمتي لماذا دعوتموني؟
أصوات :
لنعرف بأي حق تحكمون الشعب؟ وهل نحن أمام رجال الظلم والخيانة، أم أمام وطنيين هم أهل لهذه الثورة؟
لامارتين :
بأي حق نحكمه؟ بحق الدم المسفوك والنار التي تلتهم معاهدنا، والشعب الذي يعوزه الرئيس، والأمة التي لا قائد لها ولا نظام، وربما جاء الغد وليس لها قوت، بحق الإخلاص والشجاعة بحق أولئك الذين يسبقون إلى التضحية جاعلين ضمائرهم هدفا للشبهات ورءوسهم غرضا للمشانق، ودماءهم عرضة للانتقام. أتحسدوننا على هذا الحق؟! إنه لكم كما لنا ولا نجادلكم فيه. كلكم أهل للتطوع في هذا السبيل، ولا ندعي من الحقوق إلا ما يمنحه الضمير الذي يسيطر علينا، والخطر الذي يحيق بكم. إن الشعب في حاجة إلى رؤساء، وقد دعانا فلبينا أفتريدون أن لا ينتهي عهد الدم والنار.
أصوات :
لا لا. بلى بلى. لا حق لكم باستلام الحكم. لستم من الشعب. لم تخرجوا من وراء المتاريس.
أصوات :
لا لا. بل هم الذين احتجوا على الفساد، ودافعوا عن الشعب، فليخبرونا ما هو الحكم الذي يريدون أن يعطوه. لقد قلبنا الملكية، فليقل لامارتين أيريد أن يعطينا الجمهورية أم لا؟
لامارتين :
الجمهورية! ومن تلفظ بهذا الاسم؟ - كلنا، كلنا.
لامارتين :
الجمهورية! وهل تعرفون ما تطلبون؟ أتعرفون ما هو الحكم الجمهوري؟ - قل لنا، قل لنا.
لامارتين :
الجمهورية هي حكم العقل، فهل تشعرون أنكم أهل لتحكموا عقولكم؟ - نعم نعم.
لامارتين :
الجمهورية هي حكم العدل، فهل تشعرون أنكم تعدلون ولو في الحكم على أنفسكم؟ - نعم نعم.
لامارتين :
الجمهورية هي حكم الفضيلة، فهل تشعرون أنكم فضلاء، وفيكم من الرحمة والحنان ما يجعلكم أهلا لأن تقبلوا التضحية، وأن تنسوا الإساءة، وأن لا تحسدوا من هو أسعد حالا منكم، وأن تعفوا عن أعدائكم، وأن تجردوا قلوبكم من هذه الأحكام القاسية؛ النفي، والشنق، والقتل. سائلوا أنفسكم، وارجعوا إلى ضمائركم، ثم انطقوا بالحكم لكم أو عليكم. - نعم نعم. نشعر أننا أهل لهذه الفضائل.
لامارتين :
أتشعرون بذلك؟ أتقسمون عليه؟ أتشهدون عليكم الله؟ - نعم نعم.
لامارتين :
إذن أنتم قلتم. الجمهورية، إذن كنتم أهلا للمحافظة عليها كما كنتم أهلا للوصول إليها. (12) فكتور هيكو
من خطاب له في مجلس النبلاء يؤيد طلب جيروم نابليون الإذن بالعود من منفاه سنة 1847
أيها السادة
لا حاجة للقول إنني لا أريد أن أثير أحقادا أو شجونا، ولكني أشعر لدى صعودي هذا المنبر أنني أؤدي واجبا علي. إن الذي يدفع هذا العاجز إلى نصرة جيروم نابليون وهو في منفاه ليست فقط عقائد نفسي، بل كل تذكارات حياتي، فكأنما في هذا الواجب شيئا من الوراثة، ويخال لي أن أبي ذلك الجندي القديم للملكية هو الذي يأمرني بالوقوف والكلام.
أيها السادة:
هذه المادة من القانون الفرنسي التي تنفي إلى الأبد أسرة نابليون من الأرض الفرنسية تبعث في نفسي شيئا لا أعرف له نظيرا، ولا أستطيع عنه تعبيرا. ولكي أسهل عليكم فهم فكري، سأفترض فرضا مستحيلا: لا ريب أن تاريخ الخمس عشرة الأولى من هذا القرن ذلك التاريخ الذي كتبتموه أنتم أيها القواد والأبطال المحترمون الذين أنحني أمامهم، والذين يصغون إلي في هذا النادي، ذلك التاريخ لا يزال له دوي في سمع العالم قاطبة، وربما لا تجدون في أقصى المعمور رجلا لم يسمع به، فقد وقفوا في الصين بين معابد الآلهة على تمثال نابليون. أجل إني أفترض - وهذا هو الافتراض المستحيل، ولكنكم تسمحون به - أفترض أن في زاوية من هذا الكون الواسع رجلا لم يعرف شيئا من هذا التاريخ، ولم يسمع أبدا باسم الإمبراطور، وأفترض أن هذا الرجل جاء فرنسا، وقرأ هذه المادة التي تقول: «إن أسرة نابليون منفية إلى الأبد من أرض فرنسا.» أفتدرون ما يجول في خاطر هذا الغريب؟ إنه لدى هذا العقاب الهائل ليتساءل: من ترى يكون نابليون هذا؟ ويقول في نفسه إنه ولا ريب كان مجرما عظيما، وإنه من المؤكد أن عارا لا يمحى لاحق باسمه، ولعله أنكر آلهته وباع أمته، وخان وطنه إلى آخر ما هنالك، إن هذا الغريب ليتساءل بشيء من الجزع: ما هي الآثام الفظيعة التي استحق من أجلها نابليون هذا أن يعاقب مثل هذا العقاب في سلالته إلى الأبد.
أيها السادة:
هذه الآثام سأعددها لكم: هي الدين مرفوع الرايات، هي القانون المدني محكم الآيات، هي فرنسا متسعة النطاق إلى أبعد من حدودها الطبيعية، هي مارنكو، يانا، وأكرام، أوسترلتز هي أغلى وأبهى مهر من القوة والمجد يستطيع رجل عظيم أن يقدمه إلى أمة عظيمة.
أيها السادة:
إن شقيق هذا الرجل العظيم يستعطفكم في هذه الساعة. هو شيخ عاجز، هو ملك قديم يسترحمكم اليوم. أعيدوا له أرض الوطن. إن جيروم نابليون لم يكن له في الشطر الأول من حياته إلا رغبة واحدة أن يموت في سبيل فرنسا، ولم يكن له في الشطر الثاني من حياته إلا فكرة واحدة؛ أن يموت في أرض فرنسا، فلن تخيبوا له هذا الرجاء. (13) غامبتا
من خطبة له في كرنوبل، وقد تذكر مرور نابليون بها عند إفلاته من جزيرة ألبا
لا لا، إن العطف على من يريد الانضواء تحت لواء الحزب الجمهوري ليخدمه بإخلاص حق للحزب، بل واجب عليه، ولكنه لا يستطيع أن يبوئ مقاعد المجلس ألد أعدائه دون أن يستهدف للخطر، ويهدم عظمة فرنسا ومستقبلها، لا لا، إن هذا العمل لينافي حق السياسة وحق الآداب التي لا يجوز فصلها عنها.
يحضرني الآن تذكار أريد أن أشرككم فيه؛ لتروا هول الخطر الذي يكون في السياسة من وراء الاستسلام للمنافقين.
نعم في هذا البلد أقام حينا ذلك الرجل الذي أكسبنا المجد وجر علينا الويلات، وطئت قدماه هذه الأرض فرأى كم من السهل أن يضع يده على فرنسا مرة أخرى باستثماره البغض الذي أثاره عودة المهاجرين، أو ليست الحال كذلك اليوم؟ إن فرنسا بنت الثورة ترتجف خوفا من عودة الحكم القديم. ما الذي كان يردده على مسمعها هذا الممثل النابغة؟ كان يقول للفلاحين والعمال: ها قد عدت إليكم أفلا تعرفونني، أنا جندي الثورة جئت أدافع عن حقوقكم وأحمي ممتلكاتكم وأموالكم. أنا وليد الثورة، أنا الثورة بالذات الثورة المتوجة، نعم لقد أخطأت وجل من لا يخطأ، واليوم أحمل لكم كل أنواع الحرية، حرية القول والفكر والعمل، حرية الكتابة والاجتماع، حرية الأمة بدستور النواب المستقلين، نعم كل هذه الحريات يجب أن تنالوها وستنالون.
هذه الوعود قيلت كلها أين؟ هنا في هذا البلد، ولكنها كانت وعودا كاذبة، كانت سرابا خداعا، آخر خدعة قام بها هذا الكورسيكي التائه (هتاف طويل) هذه الوعود الجميلة خدعت فرنسا؛ لأن طيبة القلب تصدق أبدا ما يقال لها، فأخذت بلمعان هذا السراب، وإنكم تعرفون كيف كانت خاتمة هذه المأساة. (14) لاشو
من دفاعه في قضية تروبمان القاتل
حضرات القضاة حضرات المحلفين
لقد سألني تروبمان أن أدافع عنه، فإذا بي أمام واجب لا بد من أدائه، وربما أدهش موقفي هذا بعض الذين يجهلون وظيفة المحامي. إن الذين قالوا إن من الجرائم ما يفوق هولها كل وصف، ومن المجرمين من بلغوا غاية القسوة والفظاعة، فمن العبث أن نسعى إلى تخفيض عقابهم، أقول إن هؤلاء ليسوا على حق وهم في غضبهم المحمود يخلطون بين العدل وحب الانتقام. هؤلاء يتبعون عاطفة النفس الكريمة مشفقين على الضحايا، ولكن إشفاقهم يجرهم من حيث لا يدرون إلى ارتكاب ذنب اجتماعي هو من أشد الذنوب خطرا؛ لأن فيه تضحية القانون. أما أنا فأفهم واجبات الدفاع على خلاف ذلك؛ لأن المشترع أراد أن يكون إلى جانب المتهم أيا كان صوت شريف صادق يرتفع؛ ليوقف - إذا أمكن - تأثيرات الجمهور تلك التأثيرات الصادرة عن طيبة نفس، ولكنها قد تكون وخيمة المغبة؛ لأنها تستطيع أن تطمس الحقيقة.
القانون لا يغضب يا سادة، ولا يعرف هذا الفوران مهما يكن كريما شريفا. القانون يقول إنه لا سبيل إلى الحقيقة إلا إذا اشترك الاتهام والدفاع في البحث عنها. هو أدرك أن هناك ساعة يجب أن تتحول فيها الأبصار عن مشهد الدماء، وأن يلقي من بعد المجني عليه نظرة على الجاني، بل رأى أن من واجبات العدل والقضاء أن يسأل هذا الجاني، وتدرس حالة عقله ونفسه وسلطان الطبيعة والعادة عليه، حتى إذا تم له ذلك قال للمحامي: قف على المنبر أنت وضميرك. هذه هي أول كلمة يخاطب بها الرئيس المحامي. لقد وكل المشترع إلى شرفه حق الدفاع وحرية الدفاع؛ ليوفق بين حقوق الاجتماع الشرعية وحقوق المحاماة المقدسة هنا، ولا حاجة للقول إننا في مثولنا أمامكم اليوم أيها السادة نبحث بنزاهة وإخلاص مجتهدين في كشف النقاب عن الحقيقة كما نفهم.
أي جريمة في العالم تضاهي هذه الجريمة وتفتقر مثلها إلى الدفاع؟ لقد اهتزت البلاد من أقصاها إلى أقصاها لهذه الجناية الفظيعة، وتعالت الأصوات من كل الصدور طالبة الانتقام وإنزال العقاب الصارم بالجاني. أفتدركون أيها السادة أن كلام المحامي هو ليقيكم هذا الخطر، لقد أقسمتم أن لا تظلموا الاجتماع ولا المتهم، وأخذتم العهد على أنفسكم أن لا تخرجوا عن الحقيقة مجردين من عاطفة الهوى أو تأثيرات الجمهور، أقسمتم أن تدعوا الحكم إلى ضمائركم بعد أن تستوفوا التأمل، وبعد أن تستوفوا السماع، فأستحلفكم إذن أن تسكتوا هذه الضمائر، وأن تنتظروا فلا تستشيروها حتى النهاية ...
يا سادة سأبحث معكم عن الحقيقة كما أفهمها، ولا أدافع عنها كما يمثلها المتهم، أو تظنون أنني جئت هنا لأعيد الأقوال التي فاه بها؟ أي نظرة تنظرون إذن إلى مهنتي؟ إنها والله لأذل المهن إذا لم يكن قوامها إلا أن يعاد كل ما قاله المتهم في الدفاع عن نفسه، سواء أكان فيه موفقا أو غير موفق. فاطمئنوا فما أنا بملق إليكم غير ما يمليه علي الضمير والواجب، فقد عاشرت الرجل وخبرته، وتحدثت إليه طويلا، وجعلت نفسي حكما عليه قبل أن أصير محاميا له.
الدفاع ملكي وأنا سيده، كلا لست هنا صدى للمتهم، ولي من الشرف ما يكفي ليحمي أقوالي من الزيغ عن الحق والجور عن القصد فاسمعوا.
من هو تروبمان؟ هذا ما لم أبرح أسأل عنه دون أن أجد جوابا شافيا. أإنسان أم وحش كاسر؟ وعاقل أم مجنون؟ تلك هي العقيدة التي لا تحل. إن ما يشعر به النائب العمومي من جراء هذه القضية أشعر به أنا أيضا، ومن هو الرجل الذي لا ينتفض جزعا وغضبا لمرأى هذه الضحايا أو لتذكارها؟ لقد قال لنا الرئيس بالأمس إنه بينما الرعدة نافضة في مفاصل القوم، كان الرجل وحده هادئا لا أثر للحزن عليه. لماذا؟ من أية طينة جبل هذا الإنسان؟ من يكون؟ فلنبحث. •••
لم يكن لتروبمان طفولة ولا شباب كسائر الناس، وإنكم لتذكرون حالة عقله وتقيده بفكرة لا تحول عنها، وفي الحديث الذي أسره لأحد رفقائه معان كثيرة. لقد استولت عليه وهو في السابعة عشرة أفكار غريبة لا تتزعزع؛ والسبب أنه قرأ كتابا أهاج أعصابه وأضاع صوابه، هذا الكتاب هو اليهودي التائه يقص عليه ثروة تبلغ المائتي مليونا، يشتهيها رودين فيقتل من أجلها أسرة عن آخرها. ستة من الأبرياء يموتون موتا فظيعا. كان هذا الكتاب رفيقه الدائم وسميره ليل نهار، فتركت قراءته أثرا غريبا في دماغه حتى اعتل بدنه، ودبت إليه عقارب المرض، وأصبحت أفكاره كلها منصرفة إلى جهة واحدة محصورة في دائرة لا قبل له بالخروج منها، وأصبحت فكرة القتل قتل ستة من الناس حلما لا يتخلى عنه في قعوده وقيامه ويقظته ومنامه. سلوا أهل العلم يجيبوكم أن مثل هذا الرجل غير صحيح ولا سليم، افحصوه وادرسوه، حولوا نظركم قليلا عن الضحايا إليه، وافهموا ما انطوى عليه، انظروا إلى تركيب جسمه الغريب، إلى ذراعيه ويديه، فقد قال لي بالأمس أحدهم: تأمل إن في صورة هذا الرجل شيئا من الضواري. أجل إذا كانت قضيتنا قضية وحش لا مسئولية عليه فقصاصه الربط والتكميم لا القتل (حركة وضجة في الجمهور). إن ضميري يتكلم، وعندما أتشرف بأداء الواجب فإني أشفق على الذين لا يفهمون ما يجب عليهم من الاحترام لوظيفتي. (15) كليمانصو
من خطبة له، وهو رئيس الوزراء ردا على جورس
أما وقد دقت الساعة لأشرح لكم أعمالي إفحاما للمعارضين فإني أقول: إن أعداء الطبقة العاملة هم في نظري أولئك الذين يشجعونها على التطرف في الفكر، ويبعثون فيها اعتقاد أن عدم احترام الحق والقانون مباح لها. هم أولئك الذين يصورون لها الحكومة في صورة العدو؛ لأنها تقوم بحفظ النظام خدمة للمجتمع.
أقول إن أعداء الطبقة العاملة هم أولئك الذين يدفعونها إلى التمادي في ضلالها؛ فتتوهم أنها معصومة عن الخطأ، وأن من حقها الشرعي أن تحول إلى غيرها الضغط الذي تئن منه.
أقول إن أعداء الطبقة العاملة هم أولئك الذين يقفون في طريق تربيتها باتباعهم هذه الوسائل الباطلة؛ لأن التربية الحقة هي في العمل لا القول. إننا نعلم أن الطبقة العاملة هي أهل للحكم الديمقراطي، كما ترغبون، وكما أتمنى يوم تأتي أعمالها مطابقة للحق الذي تحاول الانتساب إليه. هذه هي التربية التي يجب أن تعطى لها ولن تكون بالكلام.
هذه التربية جربت أن أقوم بها، ولكني لم أجد جورس إلى جانبي لا في «لانس» ولا في «دونين». لست بحاقد عليك لذلك، ولكن من يدري وأنت ذو السلطة الواسعة والكلمة المسموعة فيهم، من يدري لو أنك أضفت كلامك إلى كلامي وصوتك إلى صوتي؟ من يدري كم من فائدة كنا جنيناها وفاجعة كنا أقصيناها؟
لا أرميك بالخطأ ، ولكن أقل ما يجب عليك بعد أن رأيتني في ميدان العمل والواجب؛ أن تكون أكثر عطفا على الوزير الذي تحاربه (حسن حسن).
لا ريب أنك تشرف علي من أعالي قمة أفكارك الاجتماعية، ولك مقدرة غريبة أن تخلق بعصاك السحرية جنات الفردوس، أما أنا فعامل بسيط يقدم حجره في بناء هذا الهيكل الذي لن نراه، والفرق بيني وبينك أن فراديسك تتداعى وتنهار لأدنى نسمة من الحقيقة، لكن هذا الهيكل الجمهوري سيناطح السماء يوما (تصفيق في اليسار).
الحق - أقول لك - أنه يجب التمييز في النظام الاجتماعي بين الصورة والإطار، من السهل إصلاح الإطار علما، ولكن الإصلاح العملي يقتضي النظر في الصورة، وإذا كان في الإمكان أن يتلاءم الإنسان مع النظام الذي تريد تغييره أصلحوا الإنسان أولا، وهو يعرف لنفسه أن يجد الإطار الموافق بدون أن يهتم بتعاليمكم، أو نبوءاتكم التي لن تتحقق.
أنا لا أدري إلى أية نتيجة وصلتم، ولكني أستطيع أن أقول إنه إذا تم لكم هذا الإطار الجديد بقي عليكم أن تدخلوا فيه إنسانا جديدا يقوى على الحياة في هذا الاجتماع الذي ولده دماغكم؛ لأن الإنسان الحاضر هو غير ما تريدون ليعيش فيه.
على كل حال هناك نقطة هامة يظهر فيها خطأ آرائكم وضلال مذهبكم، وهو أن الرجل الذي تحتاجون إليه لتحقيق أحلامكم وتكوين هيئتكم الآتية غير موجود، ولو فرضنا أنه وجد يوما فسيستعمل ذكاءه كما يريد هو بدون أن يهتم بالطريق التي تختطونها له.
تدعون أنكم تضعون المستقبل مباشرة، أما نحن فنضع الإنسان الذي يتوقف عليه المستقبل فأعجوبتنا أعظم وأبدع. نحن لا نخلق إنسانا خصوصيا، بل نأخذ الرجل كما هو بما عليه من آثار الخشونة الأولى خشونة الكهوف، وبما فيه من تمرد وأنانية وجودة وإشفاق للآلام التي يتحملها أو يحملها إخوانه، نأخذه غير معصوم من الخطأ ونهديه وننميه ونضعفه من جانب الشر، ونقويه من جانب الخير، ونعطيه الحرية، ونخرج به من ظلمات الحكم الغاشم إلى أنوار العدل السامي (تصفيق) فيتقرب من الكمال يوما بعد يوم ويصير أقدر على إدارة نفسه والتصرف في العالم الذي حوله (تصفيق).
ولكن حذار حذار، فإنكم إذا خدعتم الرأي العام بوعود لا يمكن تحقيقها، فإن الرأي العام ينقلب عليكم. إذا حببتم الشدة ومهدتم سبيلها فلا تنسوا أنها ستمشي إليكم آجلا أو عاجلا، إذا ثابرتم على خطتكم العدائية من تصوير الحق في صورة الباطل والافتئات على الحكومة، بينما هي لا تألو جهدا في ترقية الطبقة العاملة، فإن اليوم الذي تصلون به إلى غايتكم لنذهب ضحية أعمالكم هو يومكم الأخير أيضا (تصفيق). (16) جوريس
من خطبة جوريس في فضائح بناما سنة 1893
أتظنون أن رجلا لم يأخذه الدهش والذعر، ولم يتأثر ضميره كل التأثر عندما كانت البلاد بأسرها تسمع وترى تلك الفضائح، عندما فاجأ الأمة ذلك النبأ الغريب، وهو أن من مئات الملايين التي أنفقتها ذهب نحو الثلثين إسرافا وتبذيرا عندما أتيح لها أن تشهد الفساد جامعا بين رجال السلطة وأصحاب الأعمال، ورأت بعينيها تآخي المجلس والبنوك على حساب المساهمين.
أتظنون أنه لم يكن شيئا مذكورا يوم علمت البلاد أن وزراء ستساق إلى المحاكم، وأن أشياء هائلة ستعلن وتقال؟ يوم جاءت ساعة مثل فيها البعض أمام محكمة التحقيق عالي الرأس، والبعض ملعثم اللسان ساعة تساوى فيها هذا المجلس وندوة العدل، ساعة كان فيها عظماؤنا يمرون من ساحات المجلس المضيئة إلى أروقة القضاء المظلمة؟
أتظنون أن هذا لم ينتج شيئا؟ تذكروا كلام الشاعر القديم «التراب هو شقيق الأوحال» ورددوا في أنفسكم أن كل هذا الغبار المحرق غبار التعصب الفوضوي الذي أعمى في طريقه بعض الأشقياء، هو شقيق أوحال الرأسمال والسياسة.
وله في موقف آخر
رأيت أحيانا في طريق الجبل بعض الفلاحات العجائز عائدات من الغابة حاملات فوق ظهورهن أحمالا من الأغصان الخضراء، فكانت الريح عند مرورها بتلك الأغصان المورقة توقظ من حول الفلاحة العجوز حفيف الأحراج الواسعة، ولكن العجوز لم تكن تسمع هذا الحفيف، بل كانت تمشي بخطاها المتثاقلة دون أن تعي نشيد الأحلام الذي كانت تسره في أذنيها قطعة الغاب المحمولة على ظهرها.
أجل هكذا هو العامل المسكين يمشي محاطا بنسمات الطبيعة دون أن يسمعها. كيف تريدون منه بعد جهده الطويل من طلوع الشمس إلى غيابها عندما يشعر أن عمله المنهك ليس عملا حرا، وأنه قد يجرد منه في الغد لغير ما سبب، عندما يجد نفسه مقيدا بأدواته التي تضنيه، وربما فارقها في غده مكرها؟ كيف تريدون منه وهو على هذا الوجه متعب مستعبد يساوره الوجل والإشفاق ألا يتاح له في غده ما يطعمه ويطعم ذويه؟ كيف تريدون منه أن يرتفع فكره بالحلم فوق ضجيج المصانع الذي يصم الآذان ليقول في نفسه إن هذا الضجيج الخارج من الأدوات العاملة هو جزء من الموسيقى الكونية؟
هذا الشيء سيعرفه في الغد عندما نعطيه الحرية. (17) فيفياني
من خطبة له بعد الانتخابات وهو وزير الأشغال في وزارة كليمانصو
ما الذي يخيفكم إذن؟ إن الذي ترتجفون فرقا منه ليس ما تحويه المطالب الاجتماعية، بل ما تظهره أو تتنبأ عنه. إن الذي تجزعون من أجله هو هذه المواقف الثابتة، والإرادة التي لا تتزعزع، هو الشدة والأهواء الطافحة بها، هو هذا الإشعاع الفكري الدائم، هو هذه الحمى السارية في عروق الجميع.
نعم ولكن من المذنب إن كان ثمة ذنب؟ من خلق هذا العمل الثوروي؟ أي يد أبدعت إنسان اليوم بما فيه من رغائب وجهاد وجسارة وعناد؟
إن الثورة الفرنسية أطلقت في الإنسان كل جرأة الضمير وكل أطماع الفكر. لم يكف ذلك؛ جاءت ثورة 1848 ومنحت التصويت العام، وأخذت بيد العامل الرازح تحت أثقال العمل، وساوت في السياسة بين الرفيع والوضيع، لم يكف ذلك؛ جاءت الجمهورية الثالثة فجمعت حولها أولاد الفلاحين والعمال وزرعت في هذه الأدمغة المظلمة بذور التعليم الثوروية، لم يكف ذلك؛ جئنا كلنا نعمل باسم الدين، باسم الآباء والأجداد، باسمنا أنفسنا فنزعنا الإيمان من الضمائر، ولما رأينا الشقي المنهك بعمل النهار يحني ركبتيه عند المساء، رفعناه وقلنا له لا يوجد من وراء هذه الغيوم إلا أوهام، وأطفأنا في لحظة أنوارا في السماء لن تضيء أبدا. (18) لنكولن
من مناظرة بينه وبين القاضي دوجلاس عن المساواة بين الأبيض والأسود
لا غرض لي من التدخل في نظام الرق في الولايات التي يسري فيها هذا النظام؛ لأني أعتقد أنه لا حق لي بهذا التدخل، فضلا عن ذلك فإني لا أشعر في النفس ارتياحا إلى مثل هذا العمل، كما أني لا أقصد إلى المساواة بين البيض والسود سياسة أو اجتماعا؛ إذ ثمة فوارق طبيعية تمنع فيما أظن وقوفهما جنبا إلى جنب على بساط المساواة، وبما أن هذه الفوارق تنشئ تفاوتا في الجنسين فأنا أوافق القاضي دوجلاس على أن تكون السيطرة للجنس الذي أنتمي إليه.
إني لم أصرح فيما مضى بخلاف ما ذكرت الآن على أني - على الرغم مما سبق وذكرت من الأسباب والفوارق - لا أزال مصرا على اعتقادي مجاهرا بأنه لا مانع في الدنيا يمنع الأسود من التمتع بحقوقه الطبيعية المخولة له في تصريح الاستقلال؛ أي الحق بالحياة والحرية والسعي وراء السعادة، وإني لأتمسك كل التمسك بأنه والرجل الأبيض شرع أمام هذا الحق.
أنا أوافق على ما قاله القاضي دوجلاس من أن الأسود يختلف عني من وجوه كثيرة كاللون أو العقل والأخلاق، وأما في حقه أن يأكل الخبز الذي كسبت يده دون أن يستأذن سواه فهو نظيري ونظير دوجلاس، ونظير كل إنسان على وجه الأرض. (19) أرستيد بريان
من خطبة له في قانون الكنائس
إن الصلات التي كانت لنا مع رومة وحل المجلس عراها لا تستطيع حكومة منا أن تعيدها دون أن ترمى بالخيانة.
إني أحب بلادي، وأحب الرقي، وما قبلت بوظيفتي هذه حبا بالمجد والشهرة، وإذا كان في تولي زمام الحكم فرح ولذة، فهو فرح الواجب واللذة بما يستطاع عمله من الخير، على أن هناك مسئولية عظيمة ترافق هذه اللذة، وأنا شاعر منذ اليوم وقبل اليوم بثقل وطأتها (تصفيق في اليسار والوسط).
إني أسألكم معاشر الجمهوريين الذين بوأتهم ديمقراطية فرنسا هذه المقاعد، أتريدون أن تكونوا على وفاق مع مبادئكم؟ لقد قمنا لكم بيانا طويلا فيما نقصد عمله لمجد الديمقراطية وهنائها، وهذا البيان يتطلب جهدا كبيرا، أفتظنون أن تحقيق هذه المطالب لا يحتاج إلى شيء من الهدوء والطمأنينة والسلام في هذا البلد، أتحسبون أن الوصول إلى الإصلاح ميسور إذا لم نفقأ عين الفتنة، ونسحق أفاعي البغضاء والتعصب، ونقضي على النزاع الديني القضاء الأخير؟ (تصفيق في الوسط واليسار.)
أي سادتي، لا أكتمكم فكري. لقد رسمت في الأحوال التي ذكرتها لكم خطة للزرع جعلتها بعيدة عن الاعوجاج ما استطعت، فلا تلقوا فيها بذورا فاسدة، وإذا كان لا بد للشوك من أن ينمو فيها فلست أنا بحاصدها يوما بل سواي (تصفيق). (20) موسوليني
من خطبة له في جماعة القمصان السود في فلورانسا سنة 1930
لقد طهرنا البلاد فلم يبق فيها من الأحزاب من نهاب دعوته أو نخاف فتنته، أما الذين خرجوا عنا ولا يزالون يناصبوننا العداء في خارج إيطاليا، فما أبعد المسافة بين ما يعملون وما يرموننا به من الأغلاط التي نعلم حق العلم أنها حقائق راسخة أقيم عليها بناء الفاشيست المتين.
وهناك أعداء آخرون يجهلون كل الجهل قوى الفاشيستية ويريدون مقاضاتنا. هم يعتقدون أنا قليل عديدنا قصير باعنا، وتعمى قلوبهم عن الحقيقة الناصعة أن الفاشيست هي إيطاليا جمعاء، إيطاليا البالغ عددها 43 مليونا. لقد نسبوا أعمالنا إلى حركة تجديد، ولم يفهموا أنها الثورة بعينها، وادعوا أنه حكم ظلم وإرهاب، وهو في الحقيقة مظهر من أجل مظاهر السيادة القومية لأمة تريد أن تحكم نفسها بنفسها، وقد ظن هؤلاء أيضا أننا لا نستطيع الذهاب إلى أبعد مما ذهبنا إليه في سبيل التضحية (تصفيق طويل) ولست أرى - وايم الله - ما ينال الشعب الإيطالي في كبريائه وكرامته مثل هذا الظن والتوهم أن برنامجنا البحري الجديد حلم لا قبل لنا بتحقيقه (تصفيق شديد) ولهذا أعود فأؤكد أن هذا البرنامج سينفذ بندا بندا؛ لأن إرادة الفاشيست ليست فقط من حديد، بل هي أيضا إرادة عمل تهزأ بالمقاومة، ولا تعبأ بالعقبات التي تعترض دونها، وإني على يقين من أن الشعب الإيطالي لا يرضى البقاء سجينا في بحر كان فيما مضى بحر رومة، ولهذا فهو لا يرجع عن التضحية كلما دعت إليها الحال (هتاف وأصوات نعم نعم ).
ولقد تساءل أولئك الأعداء ما نقصد بقولنا نفسية الشعب الإيطالي، وعليه أجيب أن أحزابا عديدة تعمل في خارج البلاد على اقتلاع جذور المذهب الفاشيستي، وهذا العمل وإن يكن مصيره إلى الفشل التام، فهم يقصدون به أن يزحزحوا إيطاليا عن موقفها السامي، ويميلوا بها عن طريق المجد الذي تتسلق قممه (أصوات أبدا أبدا) هؤلاء يدعون أنهم أحرار ديمقراطيون، ولا يأنفون مع ذلك من إثارة أية حرب كانت على الشعب الإيطالي، بل لا يتأخرون عن أن يزجوا أنفسهم في غمراتها ويكونوا أول المشتركين فيها، ولكنهم سيجدوننا في انتظارهم حينذاك (تصفيق حاد) وإذا حدث شيء من هذا؛ فإن رجال القمصان السود ستكون في مواقفها مستعدة لإحباط مساعيهم الدنيئة بوسائل لم تخطر على بالهم (هتاف عال) لأن إيطاليا الفاشيستية هي اليوم كاملة العدة والعدد، والويل لمن يحاول إذلالها (نعم نعم).
تذكروا أن رجال القمصان السود عقدوا في هذه المدينة مؤتمرهم الأول سنة 1919 فكانت الخطوة الأولى في محاربة للرجعيين، وها نحن اليوم نفتخر بالشوط الواسع الذي قطعناه في طريق المجد منذ ذلك الحين، ألا وإن شجاعتنا لم تهن، وسيرنا إلى الأمام في طريق التجديد لم يقف، ولا يجب أن يقف أبدا (هتاف من الجمهور أبدا أبدا).
هوامش
خطب العرب
(1) خطبة النبي
صلى الله عليه وسلم «لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا، ولا أصدق لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مزجا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه من كلام النبي
صلى الله عليه وسلم .»
أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن المؤمن بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وآجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت، فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب.
وله أيضا:
أيها الناس، كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب، وكأن الذي نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون. نبوئهم أجداثهم، ونأكل من تراثهم كأنا مخلدون بعدهم، ونسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة. طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن أنفق مالا اكتسبه من غير معصية، وجالس أهل الفقه والحكمة، وخالط أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن زكت وحسنت خليقته، وطابت سريرته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة ولم تستهوه البدعة. (2) أبو بكر الصديق
أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. (3) علي بن أبي طالب
أغار سفيان بن عدي الأزدي على الأنبار وعليها ابن حسان فقتله، وأزال تلك الخيل عن مسالحها، فخرج علي حتى جلس على باب السدة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال:
أما بعد، فإن الجهاد من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلة، وشمله البلاء، وألزمه الصغار، وسيم الخسف، ومنع النصف، ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا سرا وإعلانا، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهريا حتى شنت عليكم الغارات. هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار وقتل حسان البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها، وقتل منكم رجالا صالحين، وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع أحجالها وقلبها ورعثها، ثم انصرفوا وافرين ما كلم رجل منها كلما، فلو أن امرءا مسلما مات من بعدها أسفا ما كان عندي ملوما، بل كان عندي به جديرا، فيا عجبا من جد هؤلاء القوم في باطلهم، وفشلكم عن حقكم! فقبحا لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمى وفيئا ينهب! يغار عليكم ولا تغيرون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون! فإذا أمرتكم بالسير إليهم في الحر قلتم: حمارة القيظ، أمهلنا حتى ينسلخ عنا الحر. وإذا أمرتكم بالسير في البرد قلتم: أمهلنا حتى ينسلخ عنا القر. كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم والله من السيف أفر. يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الأطفال وعقول ربات الحجال. وددت أن الله قد أخرجني من بين ظهرانيكم وقبضني إلى رحمته من بينكم. والله لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة، والله جرت ندما وورثت صدري غيظا، وجرعتموني الموت أنفاسا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان. حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب شجاع، ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم! وهل منهم أحد أشد لها مراسا وأطول فيها تجربة مني؟! لقد مارستها وما بلغت العشرين، وقد نيفت فيها على الستين، ولكنه لا رأي لمن لا يطاع. (4) معاوية بن أبي سفيان
لما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له: من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشر ذلك بموتك، فقال: ويحك، ولم؟ قال: لا أدري. قال: فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسوءهم. وأذن للناس فدخلوا، فحمد الله وأثنى ثم قال:
أيها الناس إنا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن شديد، يعد فيه المحسن مسيئا، ويزداد فيه الظالم عتوا. لا ننتفع بما علمناه، ولا نسأل عما جهلناه، ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا، فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه من الفساد إلا مهانة نفسه وكلال حده ونضيض وفره، ومنهم المصلت بسيفه المجلب بخيله ورجله والمعلن بشره قد أشرط نفسه وأوبق دينه لحطام ينتهزه، أو مقنب يقوده أو منبر يقرعه، ولبئس المتجران تراهما لنفسك ثمنا ولمالك عند الله عوضا، ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، فقد طامن من شخصه، وقارب خطوه، وشمر من ثوبه، وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة للمعصية، ومنهم من قد أقعده عن طلب الملك ضئولة نفسه وانقطاع سببه فقصرت به الحال عن أمله؛ فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس الزهد، وليس من ذلك في مراح ولا مغدى. وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر فهم بين شريد نافر، وخائف منقمع، وسائق مكلوم، وداع مخلص، وموجع ثكلان قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة، فهم بحر أجاج، أفواههم ضامرة، وقلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلوا، فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظة وقراضة الجلمين، واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من كان بعدكم، فارفضوها ذميمة فإنها رفضت من كان أشغف بها منكم. (5) عتبة بن أبي سفيان
وهو يومئذ أمير مصر، وقد بلغه عن أهلها أمورا أن صعد المنبر، وقال:
يا حاملي ألأم أنوف ركبت بين أعين. إنما قلمت أظافري عنكم ليلين مسي إياكم وسألتكم صلاحكم لكم؛ إذ كان فسادكم راجعا إليكم، فأما إذا أبيتم إلا الطعن على الأمراء، والعتب على السلفاء والخلفاء، فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم، فإن حسمت مستثيري دائكم وإلا فالسيف من ورائكم، فكم من عظة لنا قد صمت عنها آذانكم، وزجرة قد مجتها قلوبكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم علينا بالمعصية، ولا مؤيسا لكم من المراجعة إلى الحسن إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى. (6) زياد بن أبي سفيان
قدم زياد البصرة واليا لمعاوية، وضم إليه خراسان وسجستان، والفسق بالبصرة كثير فاش ظاهر، فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها، قال:
أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول، أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله؟ ما هذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعدو غير قليل، ألم تكن فيكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار؟ قربتم القرابة، وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتغضون عن المختلس، كل امرئ منكم يذب عن سفيهه صنع من لا يخاف عاقبته، ولا يرجو معادا.
ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونه حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوسا من مكانس الريب. حرام علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا.
إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله؛ لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله لآخذ الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم قناتكم.
إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في، واعلموا أن عندي أمثالها. من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب منه، فإياي ودلج الليل فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم.
وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم إحداثا لم يكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوما غرقناه، ومن أحرق قوما أحرقناه، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه حيا فيه، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم يدي ولساني، ولا تظهر من أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عاملكم إلا ضربت عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا، ومن كان منكم مسيئا فلينزع من إساءته.
إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل ذلك لم أناظره، فاستأنفوا أمركم وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا يسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس.
أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبنا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا، واعلموا أني مهما قصرت عنه فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن إبانه ولا مجمرا لكم بعثا، فادعو الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدبون لكم وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم؛ فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا له حاجتكم مع أنه لو استجيب لكم فيه لكان شراككم. أسأل الله أن يعين كلا على كل، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على إذلاله
1
وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي. (7) عمر بن عبد العزيز
2
أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى، وإن لكم معادا يحكم الله فيه بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض. واعلموا أن الأمان غدا لمن خاف ربه وباع قليلا بكثير وفانيا بباق، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها من بعدكم الباقون كذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين، ثم أنتم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه وبلغ أجله، ثم تغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب غنيا عما ترك فقيرا إلى ما قدم، وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله لي ولكم. وما تبلغنا حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها، ولا أحد منكم إلا وددت أن يدي مع يده، ويحمي الذين يلونني حتى يستوي عيشنا وعيشكم، وايم الله إني لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة لكان اللسان مني ناطقا ذلولا عالما بأسبابه، لكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة دل فيها على طاعته ونهى فيها عن معصيته. (8) أبو حمزة الخارجي
دخل أبو حمزة مكة وهو أحد نساك الإباضية، فصعد منبرها متوكئا على قوس له عربية، فحمد الله وأثنى، ثم قال:
يا أهل الحجاز، أتعيرونني بأصحابي وتزعمون أنهم شباب؟ وهل كان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلا شبابا، أما والله إني لعالم بتتابعكم
3
فيما يضركم في معادكم، ولولا اشتغالي بغيركم عنكم ما تركت الأخذ فوق أيديكم شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة
4
وأطلاح سهر. نظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم بين أذنيه موصول، كلالهم بكلالهم، كلال الليل بكلال النهار، قد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم وأنوفهم وجباههم، واستقلوا ذلك في جنب الله حتى إذا رأوا السهام قد فوقت، والرماح قد أشرعت، والسيوف قد انتضيت، ورعدت الكتيبة بصواعق الموت وبرقت؛ استخفوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ومضى الشباب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت إليه طير السماء، فكم من عين في منقار طير طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله! وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله! (9) الأحنف بن قيس
يا معشر الأزد وربيعة، أنتم إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الصهر، وأشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار ويدنا على العدو. والله لأزد البصرة أحب إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشام، فإن استشرف شنآنكم وأبى حسد صدوركم ففي أموالنا وسعة أحلامنا لنا ولكم سعة. (10) قطري بن الفجاءة
هو من مازن بن مالك، كان من أبطال الخوارج وقادتهم وبلغائهم، خرج في زمن عبد الله بن الزبير، وكان مصعب واليا من قبل أخيه على العراقيين، فبقي قطري يقاتل جند السلطان عشرين سنة، صعد منبر الأزارقة فقال:
أما بعد، فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات وراقت بالقليل، وتحببت بالعاجلة، وحليت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها، غرارة هزارة، خوانة غدارة، وحائلة زائفة، ونافذة بائدة، أكالة غوالة، بذالة نقالة، لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى:
كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا
مع أن امرءا لم يكن معها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا، ولم تطل غيثة رخاء إلا أهطلت عليه مزنة بلاء، وحري إذا أصبحت له منتصرة أن تمسك له خاذلة متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمر منها جانب وأوبى، وإن أتت أمرا من غضارتها ورفاهتها نعما أرهقته من نوائبها نقما، ولم يمس امرؤ منها في جناح آمن إلا أصبح منها على قوادم خوف. غرور ما فيها فان ما عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى، من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه ويبكي عينيه.
كم واثق بها قد أفجعته! وذي طمأنينة إليها قد صرعته! وذي اختيال فيها قد خدعته! وكم من ذي أبهة بها قد صيرته حقيرا! وذي نخوة قد ردته ذليلا! وكم من ذي تاج قد كبته لليدين والفم! سلطانها دول، وغيثها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام، وقطافها سلع، حيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام، مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب، وجامعها محروب، مع أن وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل:
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى .
ألستم في مساكن من كان أطول منكم أعمارا، وأوضح منكم آثارا وأعد عديدا، وأكتف جنودا وأعند عنودا؟ تعبدوا للدنيا أي تعبد، وآثروها أي إيثار، وظعنوا عنها بالكره والصغار، فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب؟ بل قد أرهقتهم بالفوادح، وعقرتهم بالمصائب، وقد رأيتم تنكرها لمن دان لها وأخلد إليها حين ظعنوا عنها لفراق الأبد إلى آخر المسند، هل زودتهم إلا الشقاء، وأحلتهم إلا الضنك أو نورت لهم إلا الظلمة، أو أعقبتهم إلا الندامة، أفهذه تؤثرون، أم على هذه تحرصون، أم إليها تطمئنون؟ يقول الله:
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون .
فبئست الدار لمن أقاموا فيها! فاعلموا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بد، فإنما هي كما وصفها الله باللعب واللهو، وقد قال الله تعالى:
أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . (11) خطبة عبيد الله بن زياد
صعد المنبر بعد موت يزيد بن معاوية، وحيث بلغه أن سلمة بن ذؤيب قد جمع الجموع يريد خلعه، فقال:
يا أهل البصرة انسبوني، فوالله ما مهاجر أبي إلا إليكم، وما مولدي إلا فيكم، وما أنا إلا رجل منكم، والله لقد وليكم أبي وما مقاتلتكم إلا أربعون ألفا فبلغ بها ثمانين ألفا، وما ذريتكم إلا ثمانون ألفا فبلغ بها عشرين ومائة ألف، وأنتم أوسع الناس بلادا وأكثره جنودا وأبعد مقادا، وأغنى الناس عن الناس. انظروا رجلا تولونه أمركم يكف سفهاءكم، ويجبي لكم فيئكم، ويقسمه فيما بينكم، فإنما أنا رجل منكم.
فلما أبوا غيره قال:
إني أخاف أن يكون الذي يدعوكم إلى تأميري حداثة عهدكم بأمري. (12) خطبة يزيد بن الوليد ابن عبد الملك
قال بعدما قتل ابن عمه الوليد بن يزيد:
أيها الناس، والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفس ، وإني لظلوم لها، ولقد خسرت إن لم يرحمني ربي، ولكنني خرجت غضبا لله ودينه وداعيا إلى الله وسنة نبيه لما هدمت معالم الهدى، وأطفئ نور التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة، والراكب لكل بدعة، مع أنه والله ما كان يؤمن بيوم الحساب ولا يصدق بالثواب والعقاب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفئي في الحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، حتى أراح الله منه العباد، وطهر منه البلاد بحول الله وقوته لا بحولي وقوتي.
أيها الناس، إن لكم علي أن لا أضع حجرا على حجر ولا لبنة على لبنة، ولا أكري نهرا، ولا أكنز مالا، ولا أعطيه زوجا ولا ولدا، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد فقر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه منه، وأن لا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما أجليهم به عن بلادهم وأقطع نسلهم، ولكن عندي أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر حتى تستدر المعيشة بين المسلمين؛ فيكون أقصاهم كأدناهم، فإذا أنا وفيت لكم فعليكم بالسمع والطاعة وحسن المؤازرة والمكاتفة، وإن أنا لم أوف لكم، فلكم أن تخلعوني إلا أن تستتيبوني، فإن أنا تبت قبلتم مني، وإن عرفتم أحدا يقوم مقامي ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من بايعه ودخل في طاعته.
أيها الناس، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. (13) الحجاج بن يوسف
خرج الحجاج يريد العراق واليا عليها في اثني عشر راكبا على النجائب، حتى دخل الكوفة فجأة حين انتشر النهار، فبدأ الحجاج بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز حمراء، فقال: علي بالناس. فحسبوه وأصحابه خوارج، فهموا به حتى إذا اجتمع الناس في المسجد قام فكشف عن وجهه ثم قال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
أما والله إني لأحتمل الشر بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله، وإني أرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، وإني لأنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى قد شمرت عن ساقها فشمر، ثم قال:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
إني والله يا أهل العراق والشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق ما أغمز تغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وجريت من الغاية. إن أمير المؤمنين نثر كنانته، ثم عجم عيدانها فوجدني أمرها عودا، وأصلبها عمودا فوجهني إليكم، فإنكم طالما أوضعتم في الفتن واضطجعتم في مراقد الضلال وسننتم سنن الغي، أما والله لألحونكم لحو العصا، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل
قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
إني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أهم إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت، فإياي وهذه الجماعات، وقال وقيل وما تقول وفيه أنتم وذاك. أما والله لتستقيمن على طريق الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده، من وجدت بعد ثلاث من بعث المهلب سفكت دمه وأنهبت ماله.
خطبة الحجاج بن يوسف
خطب أهل العراق بعد دير الجماجم قال:
يا أهل العراق إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء والشغاف، ثم أفضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعشش ثم باض وفرخ؛ فحشاكم نفاقا وشقاقا، وأشعركم خلافا أخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه ومؤامرا تستشيرونه، فكيف تنفعكم تجربة أو تعظكم وقعة أو يحجركم إسلام أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر وسعيتم بالغدر واستجمعتم للكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا وتنهزمون سراعا؟ ثم يوم الزاوية وما يوم الزاوية! بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم، ونكوص وليكم عنكم إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها النوازع إلى أعطانها، لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه حتى عضكم السلاح وقعصتكم الرماح، ثم يوم دير الجماجم وما يوم دير الجماجم! بها كانت المعارك الملاحم بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله.
يا أهل العراق الكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والنزوة بعد النزوات. إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون حسنة ولا تشكرون نعمة. هل استخفكم ناكث أو استغواكم غاو أو استنصركم ظالم أو استعضدكم خالع إلا تبعتموه وأويتموه ونصرتموه ورحبتموه؟!
يا أهل العراق هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟!
يا أهل العراق ألم تنهكم المواعظ، ألم تزجركم الوقائع؟
ثم التفت إلى أهل الشام وقال:
يا أهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ينفي عنها المدر، ويباعد عنها الحجر، ويكنها من المطر، ويحميها من الضباب ويحرسها من الذئاب. يا أهل الشام أنتم الجنة والرداء، وأنتم العدة والحذاء.
خطبة الحجاج لما مات عبد الملك
أيها الناس إن الله تبارك وتعالى نعى نبيكم
صلى الله عليه وسلم
إلى نفسه فقال:
إنك ميت وإنهم ميتون
وقال:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
فمات رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ومات الخلفاء الراشدون المهتدون المهديون، منهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان الشهيد المظلوم، ثم تبعهم معاوية، ثم وليكم البازل الذكر الذي جربته الأمور، وأحكمته التجارب مع الفقه وقراءة القرآن والمروءة الظاهرة واللين لأهل الحق، والوطء لأهل الزيغ، فكان رابعا من الولاة المهديين الراشدين، فاختار الله له ما عنده وألحقه بهم، وعهد إلى شبهه في العقل والمروءة والحزم والجلد والقيام بأمر الله وخلافته، فاسمعوا له وأطيعوه أيها الناس، وإياكم والزيغ فإن الزيغ لا يحيق إلا بأهله. ورأيتم سيرتي فيكم، وعرفت خلافكم وطيبكم على معرفتي بكم، ولو علمت أن أحدا أقوى عليكم مني، أو أعرف بكم ما وليتكم، فإياي وإياكم، من تكلم قتلناه، ومن سكت مات بدائه غما. (14) مصعب بن الزبير
قدم العراق فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون * إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين
وأشار بيده نحو الشام
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين
وأشار بيده نحو الحجاز
ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون
وأشار بيده نحو العراق. (15) تأبين عائشة لأبي بكر
نضر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك، فلقد كنت للدنيا مذلا بإدبارك عنها، وللآخرة معزا بإقبالك عليها، وإن كان لأجل الأرزاء بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رزؤك، وأكبر المصائب فقدك. وإن كتاب الله ليعد بجميل العزاء حسن العوض منك، فأنتجز من الله موعده فيك بالصبر عنك، وأستخلصه بالاستغفار لك. (16) تأبين فرغانة بنت أوس للأحنف بن قيس
إنا لله وإنا إليه راجعون. رحمك الله أبا بحر من مجن في جنن، ومدرج في كفن، فوالذي ابتلاني بفقدك وبلغنا يوم موتك، لقد عشت حميدا ومت فقيدا، ولقد كنت عظيم الحلم، فاضل السلم، رفيع العماد، واري الزناد، منيع الحريم، سليم الأديم، وإن كنت في المحافل لشريفا، وعلى الأرامل لعطوفا، ومن الناس لقريبا، وفيهم لغريبا، وإن كنت لمسددا وإلى الخلفاء لموفدا، وإن كانوا لقولك لمستمعين، ولرأيك لمتبعين. (17) تأبين الشيخ إسكندر العازار لأديب بك إسحاق
ما طلعت على أديبنا شمس الخميس، ولا عرف في صباحه وجه أنيس، استحكمت منه علة الصدر فما دفع الأطباء عنه مقدورا، وما محا الأحباء ما كان مسطورا، وما راقب الموت فيه أهلا ولا عشيرا، فتلاشى نفسا في نفس، وقبضت روحه عند الغلس، فمات وعيناه البرقيتان منفتحتان ترسلان نورا كأنهما محدقتان إلى فضاء الأبدية.
قضى في سفح لبنان حيث التمس العافية من الهواء والماء، ومن أين للداء العياء دواء؟! فاتصل نعيه ببيروت الآسفة، فلا تسل القلوب عما تمزق، ولا الصدور عما توقد، ولا العيون عما جرى. إنك تكاد لا تجد إلا رأسا قلقا وصبرا مفترقا، وقلبا محترقا، فيا لله ما هذه البلية!
كان رايتنا في علم اللسان، وآيتنا في صناعة البيان، وغايتنا في حب الإنسان، كان والله فتى ولا كالفتيان، جريئا في الحق ما أخذته فيه لومة، وما رهب فيه وعيدا، بل ما كان له شعار في هذه الحال أو مثلها من الأحوال إلا قول من قال:
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تموت جبانا
فمات شهيدا حميدا فقيدا، وحق لاسمه أن يخلد إلى الذرية.
كان زهرة الأدب في الشام، وريحانة العرب في مصر، فلا عجب إذا ألفيت بنسيانه أحشاء الشام شحاحا، أو لفقدانه امتلأت نواحي أرض مصر نواحا، أي والإنسانية كان للإنسانية نصيرا، ولأعدائها نذيرا، وبالإنسانية بشيرا فلتبكه الإنسانية.
ويا إخوان أديب المنتشرين في الأرض، مات أديب وأدرج في كفنه، وأصابت الديدان مقيلا في بدنه، وأخرسه الموت في ترابه، وحيل بيننا وبين خطابه، فابكوا ما وجدتم في العيون دموعا، ولا تسألوا قبلة الوداع فقد قبلته عنكم جميعا وقد:
ودعته وبودي لو يودعني
طيب الحياة وإني لا أودعه
دفناه وتركناه ولو أقمنا ما نفعناه، وهو من قبل قد نزعت إليكم روحه شوقا، فأوصاني بإلقاء التحية.
وأنت يا شقيق الروح يا من أوحشت الدار ومن فيها، وآنست القبور وساكنيها يا مؤبن الأمراء وراثي العلماء، وباكي الأدباء والكبراء والفقراء، يا أيها الراقد بلا حراك، ولا يجدر بتأبينك سواك، يبكيك القلم يا أميره، والحق يا أسيره، يبكيك الأهل والأحباء، فقد كنت ودودا حبيبا، ويبكيك الشعراء والكتاب والخطباء، فقد كنت شاعرا وكاتبا وخطيبا، تبكيك المجالس يا خير جليس، وتبكيك محاضر الأنس يا خير أنيس، تبكيك صحف بعبراتها، وترثيك صحف بعباراتها، ولا تسل عمن استرهن الأمور بأوقاتها، فترجمة حالك ستفضح ما كان مستورا، تبكيك بكاء «أندروماك» أمك زهرة الآداب يا غصنا نضيرا ، وتسقيك الذكرى في كل عشية.
وأما الكئيب الكاسف البال رفيق صباك وأعمالك وأخوك في جهادك، فأجثو بالذلة والاكتئاب عند ذلك التراب، وأستمطر دمع العين لهفا، وأستوقد نار الصدر أسفا، وأبكيك وأرثيك ما بقي لي من الحياة بقية.
وأقسم بوحشتك آنسها الله، وبغربتك رحمها الله، إني مقيم على ولائك محب لأحبائك، عدو لأعدائك، لا عزاء لقلبي الأسوان إلا التأسي بأن تجمعني وإياك ظلمة الأبدية.
فحسبي شجوا أن أرى الدار بلقعا
خلاء وأشلاء الحبيب ترابا (18) مصطفي باشا كامل
من خطبة ألقاها في الإسكندرية سنة 1897
سادتي وأبناء وطني الأعزاء
إني بفؤاد ملؤه الفرح والسرور أقف الليلة أمامكم متكلما عن شئون الوطن المحبوب ومصالحه، وإني لأقابل انعطافكم نحو خدمة البلاد بمزيد الحمد والشكران، وأستميحكم العفو إذا قصرت في أداء هذا الواجب، فإني إنما أسر بهذا الانعطاف وبهذه المظاهرات، لا لأنها موجهة لشخصي الضعيف بل لأنها أكبر دليل علني على حياة الشعب المصري، وأقوى حجة تكذب دعوى القائلين بأن مصر وطن لا وجود للوطنية فيه، وأن أبناء وادي النيل يقدمون بأنفسهم إلى ألد أعدائهم وطنهم وأقدس ميراث لآبائهم وأجدادهم.
أجل أيها السادة، إنكم باجتماعكم اليوم هذا الاجتماع الوطني ترفعون كثيرا من مقام الوطنية المصرية، وتخففون من آلام مصر العزيزة التي قاست وتقاسي أشد العذاب على مشهد منكم يا أعز بنيها ويا نخبة أنجابها. فكل اجتماع وطني تذكر فيه مصر ويطالب بحقوقها، ويعلن أبناؤها إخلاصهم لها هو في الحقيقة مرهم لجراحها، ودواء لدائها، فاذكروها ما استطعتم، فإن في ذكراها ذكرى آلامها، وذكرى الآلام تجر حتما إلى ذكر عوامل الشفاء. اذكروها كما يذكر الولد الحنون أمه الشفيقة وهي على سرير المرض والعناء. اذكروها بآلامها وإن كان غيركم يذكر بلاده بمجدها ورفعة شأنها. اذكروها فإنكم ما دمتم مقدرين لمصائبها، عارفين بحقيقة آلامها دام الأمل وطيدا في سلامتها ودام الرجاء. اذكروها فمن المستحيل أن يرى العاقل النار في داره، والداء في شخص أمه ويهمل النار ويهمل الداء، ومن المستحيل كذلك أن يكون الوطن في خطر ونحن نيام، وأن يعمل الأجنبي لامتلاك بلادنا وسلب حياتنا، بل لاستعبادنا واسترقاقنا ونحن جامدون لا عمل ولا حراك.
ألقوا أيها السادة بأنظاركم قليلا إلى الأمم الحرة تجدوا كل فرد فيها يدافع عن وطنه، ويذود عن حوض بلاده أكثر من دفاعه عن أبيه وأمه، بل هو يرضاهما ضحية للوطن، ويرضى نفسه قبلهما قربانا يقدمها لإعلاء شأن بلاده، ويعد الموت لأجل الوطن حياة دونها الحياة البشرية، ووجودا دونه كل وجود، فلم لا يكون المصري على هذا الطراز ووطنه أجمل الأوطان، وأحقها بمثل هذه المحبة الشريفة الطاهرة؟!
اسألوا التاريخ أيها السادة ما واجب أمة دخل الإنجليز ديارها خدعة وعملوا لامتلاكها وسلبها كل سلطة وكل قوة؟ يجبكم التاريخ أن واجب أمة هذا شأنها أن تعمل بكل ما في استطاعتها ضد مغتصبها، وأن تبذل في سبيل خلاص وطنها كل ما تمتلك من مال ورجال.
أجل، كل احتلال أجنبي هو عار على الوطن وبنيه، والعار واجب أن يزول، ولست أقصد بهذا الكلام أن أسألكم باسم الوطن إعلان ثورة دموية ضد محتل البلاد. كلا ثم كلا. إن أقل الناس إدراكا لمصلحة مصر يعلم علم اليقين أنها منافية لكل ثورة وكل هيجان، وإنما أسألكم أن تعملوا بكل الوسائل السلمية على استرداد الحقوق المسلوبة منكم، وأن تعملوا لأن تحكم البلاد بأبناء البلاد. نعم إني أعلم أن الاحتلال قوي السلطة عظيم الرهبة شديد العقاب، وأن العمل ضده موجب للعذاب مسبب للفقر والفاقة، ولكن في الرضى بالاحتلال الخيانة والعار، وفي العمل ضد الاحتلال الشرف والفخار.
فيا ذوي النفوس الأبية، ويا ذوي الضمائر الحية، اطلبوا الشرف ولو مع الفقر، اخدموا الوطن ولو أسقطت على رءوسكم الصواعق. كونوا مع مصر إن سعيدة فسعداء وإن تعيسة فتعساء. قولوا لعدوها في وجهه: أنت عدو لنا، ولصديقها: أنت صديق لنا. لا تحبوا من يرميها بنبال الموت بل امنعوه عنها إذا قدرتم، ثم ردوها في صدر راميها إن استطعتم، وإن لم تستطيعوا فكونوا معها لا مع المعتدين.
وإن لمصر غير المحتلين أعداء آخرين هم آلات الاحتلال، آلات الفساد، فإن ذكرتم الأعداء فاذكروا الخونة فهم ألد الأعداء، وأي الأعداء هم. أولئك الذين أنكروا الوطن والوطنية، وائتمنوا على مصالح الأمة فعرضوا بها للدمار. أولئك الذي أبرتهم مصر فقابلوا برها بالسوء، وصاروا اليوم في أيد المحتلين ضد الوطن العزيز. آلات الدمار. آلات الخراب. أولئك الذين كلما صعدوا درجا من درجات المناصب نزلت نفوسهم دركا، وفقدوا نصيبا من الشرف وسمو الإحساس. أولئك الذين يبيعون الوطن على مشهد من الأمم، ويسيرون بين الناس حاملين لواء الخيانة والعار. أولئك الذين إذا مد إليهم الوطن يد الاستغاثة مدوا إليه سيوفا ليقطعوا بها يده الشريفة.
هؤلاء هم الخونة وهم أشد الأعداء ضررا، ويعلم الله أن الدم الذي يجري في عروقهم هو دم فاسد ليس بالدم المصري الصادق، وأنهم مهما ذاقوا من لذة الحياة الظاهرية فسينالهم العقاب أقسى العقاب ولو من أنفسهم متى حاسبوا ضمائرهم. نعم سيعاقب الخائنون على خيانتهم، فكم رأينا في التاريخ رجالا خانوا أوطانهم، وساعدوا الأعداء على امتلاك بلادهم فعوقبوا على خيانتهم لا من أبناء الوطن فقط بل من نفس الأعداء الذين خدموهم وساعدوهم. هذه سنة الله في خلقه؛ يقتل القاتل عقابا على عمله. فكيف بمن يعتدي على أمة بأسرها بالخيانة، ويعتدي عليها بالسلاح الذي سلمته إياه ليدافع به عنها.
نعم سيعاقب الخائنون، وسيحمل أبناؤهم من بعدهم علم الخيانة على رءوسهم، وسيبقون في التاريخ مثلا كبيرا للأبناء والأعقاب.
وإن ذكرتم الأعداء فاذكروا المنافقين، فهم خونة تفننوا في أساليب الخيانة، يظهرون أمامكم بمظهر المخلصين، وهم يدبرون مع الأعداء المكائد والدسائس، فهم ذوو وجهين وذوو لسانين فحاذروهم، وأعلنوا أمرهم ليخيب مسعاهم وتحبط أعمالهم. ... أيها السادة، أعداء الوطن عديدون، ومصائب الوطن عديدة، وبديهي أن ازدياد الأعداء يزيد من واجبات الوطنيين المخلصين لبلادهم، فلا تظهر الوطنية الحقة إلا في أوقات الخطر، ولا تعرف الهمم العالية إلا عند المصائب، وغني عن البيان أن الأمة بأسرها كارهة للاحتلال، راغبة في الجلاء والحرية، وقد أظهرت هذه الرغبة في ظروف عديدة، وجاهرت بها حينا بعد حين، إلا أنها كسائر الأمم في حاجة لأن يرشدها أبناؤها المتعلمون ورجالها الخبيرون، ويسرني كما يسر كل مصري صادق أن الناشئة المصرية عارفة بواجباتها نحو الوطن العزيز، فهم أبناء الوطن وهم رجال المستقبل، وبهم تحيا البلاد وبهم تقوم.
ولكن هناك فئة من المصريين لا أنكر إخلاص رجالها للوطن العزيز، ولكن أنكر عليهم اليأس الذي يتظاهرون به في كل وقت وفي كل مكان، فهم ما عملوا ولا يعملون للبلاد عملا نافعا، ولكنهم جعلوا اليأس علة عدم العمل وعلة الكسل، فإن سألتهم: لم لا تقومون بعمل عمومي نافع للبلاد؟ أجابوك: نحن يائسون من مستقبل الوطن، معتقدون بظلمة الأيام الآتية.
فبالله كيف يستطيع طبيب أن يحكم على عليل بعدم الشفاء قبل أن يفحص داءه ويعطيه الدواء. على أننا نرى الكثير من الأطباء لا ييأس أبدا من شفاء المريض حتى في آخر لحظة من حياته، فكيف ييأس رجال من بني مصر من مستقبل البلاد، وهم وإن كانوا قد خبروا داء مصر فيعلم الله ويعلم الناس أنهم إلى اليوم ما قدموا لها الدواء، كيف نيأس من المستقبل والمستقبل بيد الله وحده؟! وكثيرا ما تأتي الحوادث بخلاف المنتظر وبغير حساب؛ ألم يكن الكثير من المصريين ومن غير المصريين في يأس من مستقبل الدولة العلية، ويعتقدون أنها على مقربة من الموت؟ فها هي اليوم قد ساعدتها الحوادث التي ساقها الأعداء مؤملين البطش بها فظهرت بمظهر القوة والحياة، وأصبحتم جميعا فرحين بسلامتها معتقدين حسن مستقبلها.
كيف نيأس من المستقبل وقد أرانا التاريخ أمما حكمها الأجانب قرونا طويلة، ثم قامت بعد الذل والاسترقاق مطالبة بحقوقها، وأخرجت الأعداء من ديارها، واستردت حقوقها وحريتها؟!
هي النفوس الصغيرة التي يخلق عندها الأمل بكلمة أو بتلغراف، ثم يستولي عليها اليأس بكلمة أو بتلغراف، أما النفوس العالية الكبيرة، فيدوم فيها الأمل ما دام الدم في العروق وما دامت الحياة.
وأي حياة ترضاها النفوس الشريفة مع اليأس؟ أيجمع المرء في جسم واحد الموت والحياة؟ إذ اليأس موت حقيقي وأي موت.
كيف نيأس ونحن جميعا عالمون بأن ما يظهر طويلا في حياة الأفراد هو قصير في حياة الشعوب ؟ فعشر من السنوات في حياة الإنسان طويلة حقا، ولكنها في حياة الأمة قصيرة جدا. على أنه إذا كان اليائسون معتقدين صحة أفكارهم فعار عليهم أن يقوموا في الأمة بوظيفة تثبيط همم الآملين، والآملون في البلاد كثيرون، بل الأمة كلها مؤملة خيرا في المستقبل، وإن لم تظهر إلى الآن أعمال الآملين فستظهر بعد قليل، وسترى الأمة المصرية وأمم العالم أجمع أن للوطن المصري أبناء مخلصين يقدرون الوطنية قدرها، ويعرفون لمصر حقوقها ولا يخافون الاحتلال وقوته، بل يجاهدون في سبل خلاص البلاد منه أشد الجهاد وأحسنه، ولا غرو فإن سبل خدم الوطن عديدة، وإن أهمها إعلان الحقيقة في كل بلد وفي كل زمان، فالحرية بنت الحقيقة، وما نشرت الحقيقة في أمة إلا وارتفعت كلمتها وعلا شأنها، فالحقيقة نور ساطع إذا انتشر اختفى الظلم وانتشرت الحرية والعدل، فكما أن الأفراد لا تسلب حقوقهم ولا يعتدي اللصوص على أمتعتهم إلا في ظلام الليل الحالك، فكذلك شأن الأمم لا تسلب حقوقها ولا يعتدي العدو على أملاكها إلا إذا كانت الحقيقة مجهولة فيها، وكانت هي عائشة في الجهل والظلام.
فيا أيها المصريون المخلصون لمصر، انشروا الحقيقة في أمتكم والأمم الأخرى. قولوا للمصري إنه إنسان من بني الإنسان، له حقوق الإنسان تروه رجلا كرجال الأمم الحرة يحمل لواء الوطن بكل قوة وإقدام. قولوا للفلاح المصري إنه خلق إنسانا ككل إنسان، وأن الله أعطاه في الحياة حقوق أكبر الأفراد، وأن له صوتا لو رفعه سمع في الملأ الأعلى، وأنه ما خلق لأن يعمل لغيره بل ليعمل لوطنه ولنفسه، تروه عندئذ أشد الناس دفاعا عن حقوق الأمة والوطن. قولوا للأمة المصرية إنها أمة كسائر الأمم من أقدس حقوقها أن تحكم نفسها بنفسها، وألا تنفذ رغائب غيرها، وأن تكون في بلادها عالية الكلمة قوية السلطة لا يرد لها رأي ولا يخالف لها أمر. هنالك تجدون الأمة حية والشعب قويا، ولا ترون أولئك الذين يهزءون برغبة الشعب ورغبة نوابه ويسخرون من رغائب الأمة ومطالبها.
انشروا الحقيقة عن مسألة مصر في كل بلد وفي كل ناد، فليس المصريون وحدهم هم أصحاب الحقوق في مسألة مصر ضد المحتلين، بل معهم أمم كثيرة من أمم أوروبا لها في مصر مصالح توافق مصالحهم ولا توافق مصالح المحتلين، وخير ما يعمل لمصلحة مصر هو أن تنضم الأمة الأوروبية إلى الأمة المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي، ففي ذلك الخلاص وفي ذلك السلام.
ولسنا أيها السادة بأنصار دولة دون دولة بل نحن أنصار الوطن المصري، وطن الآباء والأجداد وموطن الأبناء والأعقاب، فإن ظهرت دولة من الدول بمظهر المحبة لمصر والميل لمساعدتها كنا أكبر أصدقائها وأعظم أنصارها، فمصلحة وطننا قبل كل مصلحة، وهي هي المصلحة الوطنية التي تفرض علينا أن نشكر من صميم فؤادنا الذين رفضوا من سياسي أوروبا العمل مع الإنجليز ضد مصر، والذين أوقفوا الإنجليز عن حد الاحتلال في البلاد، وهي هي المصلحة الوطنية التي تفرض علينا أن نشكر كل رجل من أي أمة كان يدافع عن حقوق وطننا، ويساعدنا على استرداد حريتنا وحقوقنا الشرعية.
وإذ كان بعض الرجال المخلصين للوطن العزيز يخافون الظهور أمام قوة الاحتلال بمظهر المجاهدين ضده، ولا يستطيعون أن يقوموا أمام الأمم مدافعين عن بلادهم مناضلين عن حقوق شعبهم، فعليهم في مصر نفسها واجبات وطنية يضيق المقام عن عدها، ولكني أقف قليلا وأذكر منها بنوع خاص واجب تربية الأمة وتعليمها.
نعم إن هذا الواجب أكبر واجب وطني، والبلاد مطالبة بالقيام به، فقد أصبحت المدارس على خلاف رغائب الشعب وآماله، وأصبحت الأمة في حاجة إلى مدارس أهلية ترشدها إلى مصلحة البلاد الحقيقية، وتعلمها ما للأمة من الحقوق وما عليها نحو الوطن من الواجبات.
لم لا يقوم كبراء مصر ووزراؤها السالفون بأمر تأسيس المدارس الأهلية وتربية الأمة؟ لم لا يعقدون الشركات لهذه الغاية، ويخصصون أيامهم الأخيرة لهذا العمل الشريف؟ رأينا عظيما منهم قام بمسألة الإعانة العسكرية، وأجهد نفسه في هذا الأمر، وله من الأمة والوطن جزيل الشكر والثناء، فلم لا نراه يقوم مع الكبراء الآخرين بمسألة إعانة عمومية لتأسيس مدارس أهلية والبلاد في أشد حاجة إليها ؟ يا أيها الكبراء ويا أيها العظماء ويا أيها الأغنياء، ما الفخار بالرتب والألقاب، ولا بسكنى القصور العالية والتحدث بما كان وما ربما كان سيكون. بل الفخار كل الفخار في العمل آناء الليل وأطراف النهار لخدمة البلاد وإعلاء شأنها، فما الحياة بأيام تمر وسنين تكر، بل بالعمل وبالخدمة الوطنية.
وما الحياة بأنفاس نرددها
إن الحياة حياة الفكر والعمل
وإذا كان رجل ضعيف الصوت مثلي يسأل السادة الأمراء والسادة الأغنياء العمل في الشيخوخة والقيام في آخر العمر بتتويج خدمتهم الوطنية، فذلك لأني أعتقد أن الكثير منهم قضى حياة شريفة، وخدم البلاد بصدق وإخلاص، فهي هي البلاد بنفسها تسأل خيرة رجالها على لسان أضعف أبنائها أن يبقوا مثلا طيبا للشبيبة والناشئين، وأن ينشروا في الأمة نور التربية ونور الحقيقة، وأن يبثوا فيها روح الوطنية وروح الرجاء.
نرى الكثيرين من الأغنياء يهتمون بأمر توظف أبنائهم، ولا يرون الشرف إلا في الوظائف، فمتى يسمعون أنين الوطن وشكايته من هذا الداء العضال داء السعي وراء الوظائف؟!
اتركوا الأبناء معشر الآباء في الحياة الحرة، اتركوهم يخدموا الوطن ويخدموا أنفسهم في غير دائرة الوظائف. اتركوهم أحرارا غير مقيدين بقيود الرواتب. ابعثوا بهم إلى الخارج؛ ليدرسوا التجارة والصناعة ويؤسسوا في البلاد المعامل والمصانع تزدادوا بذلك شرفا وفخرا، وتزدادوا أمام الله وأمام الوطن مثوبة وأجرا، وإلا فإن أهملت تربية الأمة وبقي الكبراء منعكفين في إدارة شئونهم الخاصة، واستمر الآباء يلقون بالأبناء إلى مهاوي التوظف في الوظائف، وبقيت التجارة والصناعة في كساد، ودامت الأمة في حاجة إلى استجلاب لوازمها الضرورية من غير بلادها؛ دام الانحطاط ودام التأخر ودام الخطر (انتهت باختصار). (19) سعد زغلول باشا
الخطبة التي ألقاها بالسرادق يوم 19 سبتمبر سنة 1923
لم أصعد للخطابة فيكم لأني لا أزال ضعيفا، ولا أقوى على الخطابة، ولكني صعدت إليه إطاعة لأمركم واضطرادا لخطتي التي التزمتها، وهي أني لست أميرا فيكم، ولكني خادم لمبادئكم وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يرزق مصر الاستقلال التام (تصفيق).
طلب مني بعض خطبائكم أن ألقي كلمة لتكون بردا وسلاما على قلوبكم، والكلمة التي جاشت في صدري عقب هذه الدعوة هي أن أرجوكم وأرجو كل مصري أن يحافظ على أمر واحد، هو فخار نهضتنا الحاضرة، ذلك الأمر هو الاتحاد المقدس (تصفيق).
لست خالق هذه النهضة كما قال بعض خطبائكم، لا أقول ذلك ولا أدعيه بل لا أتصوره، إنما نهضتكم قديمة تبتدئ من عهد مؤسس الأسرة المالكة محمد علي، وللحركة العرابية فضل عظيم فيها، وكذلك للسيد جمال الدين الأفغاني وأتباعه وتلاميذه أثر كبير، وللمرحوم مصطفى كامل باشا فضل عزيز فيها أيضا، وكذلك للمرحوم فريد بك.
كل هذا حق ويجب علينا أن لا نكتمه؛ لأنه لا يكتم الحق إلا الضعيف (تصفيق). ثم أتت هذه النهضة على أثر تلك النهضات وامتازت على سابقاتها بأن أوجدت هذا الاتحاد المقدس بين الصليب والهلال (تصفيق). هذا الاتحاد الذي أرجو مصر جميعها أن لا تتهاون فيه فإنه فخار هذه النهضة وهو عمادها ... وهو الذي اضطرب له خصومنا إذ أسقط من أيديهم حجة كانوا يعتمدون عليها كما أردنا تحرير رقابنا من النير الذي وضعوه في أعناقنا.
يقول خصومنا إننا حماة الأقلية فيكم لأنكم قوم متعصبون، فلا بد من أن نبقى بينكم لنحفظ العدل فيكم! ... هذه الحجة سقطت باتحادكم، ولكنهم الآن انتهزوا فرصة الانتخاب ليثبتوا الانقسام فيكم، فاحذروا هذه الدسيسة، واعلموا أنه ليس هناك أقباط ومسلمون. ليس هناك إلا مصريون فقط، ومن يسمونهم أقباطا كانوا ولا يزالون أنصارا لهذه النهضة، وقد ضحوا كما ضحيتم، وعملوا كما عملتم، وبينهم أفاضل كثيرون يمكن الاعتماد عليهم، فاحثوا التراب في وجوه أولئك الدساسين الذين يفرقون بين مصريين ومصريين، إنه لا امتياز لواحد على آخر إلا بالإخلاص والكفاءة.
فيهم أجسامنا وفيهم من هو أفضل من كثير منا، أقول هذا لأني أقول الحق، ويجب على زعيمكم أن يقول الحق (تصفيق حاد).
لقد برهنا في مواطن كثيرة على إخلاص شديد، وكفاءة نادرة وأفتخر - أنا الذي شرفتموني بدعوتي زعيمكم - بأني أعتمد على كثير منهم، فكلمتي ووصيتي فيكم أن تحافظوا على هذا الاتحاد المقدس، وأن تعرفوا أن خصومكم يتميزون غيظا كلما وجدوا هذا الاتحاد متينا فيكم (تصفيق). ولولا وطنية في الأقباط وإخلاص شديد لتقبلوا دعوة الأجنبي لحمايتهم، وكانوا يفوزون بالجاه والمناصب بدل النفي والسجن والاعتقال، ولكنهم فضلوا أن يكونوا مصريين معذبين محرومين من المناصب والجاه والمصالح، يسامون الخسف، ويذاقون الموت والظلم على أن يكونوا محميين بأعدائهم وأعدائكم.
هذه المزية يجب علينا أن نحفظها وأن نبقيها دائما في صدورنا، وإني أفتخر كل الافتخار كلما رأيتكم متحدين متساندين، فحافظوا على اتحادكم، وهناك افتخار آخر لهذه النهضة وهو التفاف الأمة حول شخصي الضعيف.
تعودتم طاعتي وأنا لم أكن أميرا فيكم، ولا قريبا لبيت ملك اعتدتم الخضوع له، ولا أنا من بيت كبير، بل أنا فلاح ابن فلاح من بيت صغير، يقول عليه خصومنا: إنه حقير. ونعمت الحقارة هذه! ولم أكن غنيا ليكون التفافكم حولي طمعا في مال، ولا أنا ذو جاه أوزع الجاه على من يطمع فيه، ولكنكم التففتم حولي فدللتم بذلك على أنكم لا تطلبون مالا ولا جاها، بل السجن في بعض الأوقات (تصفيق حاد).
أنتم أمة تلتف حول رجل لا مال عنده ولا جاه، ولا جمال أيضا (ضحك). حقيقة أن كل ما يستهوي الناس عادة مفقود عندي، أنا مقر بذلك، وأنا أؤكد لكم وأقسم بالله وبصفاته أني ما تخيلت حتى في منامي أن شخصي الضعيف موضوع تلك الحفاوة، ولكني أعتقد أن في الأمة شعورا تبعيا ونورا إلاهيا هداها إلى شيء في شخصي الضعيف هو أني متمسك بمبادئها (تصفيق).
قالوا وما أكثر ما قالوا! قالوا إنكم قوم تعبدون الأشخاص (يعني ما شفتوش إلا أنا؟) (ضحك) لم لم تعبدوا غيري؟ هذا كلام فارغ، لا يستحق مني الرد، وهذا هو الدليل على أن نهضتكم حقيقية.
تعبت مع صحبي المخلصين، وهنا اسمحوا لي أن استطرد عن أولئك الصحب.
تعبت ولكن صحبتهم أنستني آلام النفي؛ لأنهم كانوا حقيقة أبناء بررة، شعرت بحبهم وأنسوني كل ما كان يمكن أن أحس به في سجني وغربتي، ولولا قصر الوقت لشرحت لكم جميل عنايتهم بي، يقينا كنت أتقوى في عزيمتي بهم، وإني أشكرهم على هذه التقوية، أنسوني آلاما كثيرة ووجدت فيهم عوضا كبيرا، شكرتهم بسري هناك، وهنا أشكرهم علنا أمام الأمة جميعا (تصفيق حاد).
نفينا فماذا حصل؟ حل محلنا آخرون، فكان لهم من الأمة نفس الاحترام الذي كان لنا؛ لأنهم حلوا في المكان الذي عهدت فيه الأمة الإخلاص، حلوا فيه، ولم يكن أمامهم إلا السجن والنفي والإثم، ودل ذلك على أن الأمة جميعها مستعدة إذا غاب منها سيد قام سيد (تصفيق).
جاء هؤلاء الخلق ونابوا عنا أحسن نيابة، وعذبوا وأهينوا ولكنهم صبروا حتى حكم عليهم بالإعدام فتقبلوه بوجوه باشة هاتفين لمصر وللاستقلال التام (تصفيق حاد وهتاف متواصل). وعندما أخذوا قام من خلفهم وسار سيرهم، فكان له ما كان لهم من احترام وسجن واعتقال، ثم خلفهم أسياد آخرون قاموا بعبئهم خير قيام، فتوالى قيام الأبطال مكان الأبطال، السجن يفتح أبوابه لكل حر ولكل عامل للحرية؛ دليل على تأصل النهضة فيكم وأنكم حقيقة مستعدون لأن تضحوا بكل شيء في سبيل استقلالكم، وأن نهضتكم حقيقية وأنكم تمجدون الأشخاص الذين يتمسكون بمبادئكم مهما كانوا، وكنت وأنا في منفاي عندما أرى هذه الوثبات أقول: لقد تمت مأموريتي واستقلت البلاد (هتاف لحياة الرئيس). فأجاب معاليه هاتفا: «لتحيا جميع الوفود التي خلفت سعدا في مكان سعد» فردد الجميع هذا الهتاف.
نعم إنهم عذبوا وأهينوا وسجنوا، وأخيرا وجد من يعيرهم بالسجن والنفي! عابوا عليهم أن يسجنوا، عابوا عليهم أن يهانوا، وقالوا بطولة كفارغ بندق. بئست هذه الكلمة! لا معنى للبطولة إلا أن يقتحم الشخص الأخطار مع كونه عالما بأنها أخطار، ويتحملها برباطة جأش وثبات جنان كما تحملها هؤلاء الذين كانوا معي، وأشهد الله أني كنت آخرهم، فهم أبطالنا وهم أبطال الأمة، وهم الذين يجب أن ترفع لهم الأعلام وأن يشاد بذكرهم (تصفيق).
وإني أؤكد لكم أن كل ما يظهر مني من عمل صالح فهو باشتراكهم، وربما كان فيهم من هو صاحب الفكرة الصالحة لأني ضعيف بشيخوختي في وسط أولئك الشبان القديرين، فصاح صائح: «ليحيا التواضع .» فرد الرئيس قائلا: «أنا لا أعرف الكذب ولو في التواضع.» إني أقول الحق حتى لو كان فيه فخر لنفسي، إني لا أخشى في الحق لومة لائم، ولا أخشى الجرائد.
إني كنت أقرأ قبل كل الجرائد جرائد المخالفين، وأسر كل السرور بكذبها، وأحمد الله لأنهم لم يجدوا ضد إخواني حقا يعيبونهم عليه، لأنه لا أسر للنفس من أن ترى خصمها منغمسا في الكذب والرذيلة.
لقد فاتني أن أشكر الوفود، ولكن هل أنتم في حاجة إلى شكر أبديه؟ لا نبديه لكم فلسان الحال أفصح من بياني (تصفيق حاد وهتاف متواصل).
هوامش
بعض كبار خطباء العرب والإفرنج
إبراهام لنكولن.
جان جوريس.
جورج كليمنصو.
مصطفى كامل باشا.
رينيه فيفياني.
فيكتور هوجو.
نابليون بونابرت.
سعد زغلول باشا.
إريستيد بريان.
بنيتو موسوليني.
الخاتمة
والآن وقد جزنا معا أيها القارئ هذه المسافات الشاسعة، وطوينا عصورا مختلفة، وبلدانا مختلفة، وحضارات مختلفة، وسمعنا من أفواه البشر على تنازع أهوائهم وتضارب مذاهبهم، وتباين طباعهم وتناقض حالاتهم أناشيد القلب البشري من أحلام وآلام صاعدة، كلها نحو مثل أعلى واحد هو العدل هو الحق هو الحب هو الله، فيحق لنا أن نقول: إن الخطابة نفحة روحانية، يستطيع بها الإنسان أن يرتفع فوق مراتب الإنسانية، وأن يمشي على رءوس الحقب تاركا صدى صوته في سمع الأجيال تتعاقب فيه ثم تزول وهو لا يعرف الزوال.
وإذا لم يسعنا أن نجمع بين دفتي هذا الكتاب إلا القليل من تلك الآيات التي يتجلى فيها وحي العبقرية، ففي هذا القليل ما يكفي ليحبب إليك هذا الفن، ويساعدك على الذهاب فيه مدى بعيدا، بعد الذي مهدناه لك من البيان عن كل ما يتعلق بقواعده، وشروطه، وأصوله، وفروعه، وطرقه، وأنواعه، وما يشترك فيه أو يحتاج إليه من شئون الصحة وأسباب التربية والعناية بالجسم والصوت والأخلاق على ما أجمع عليه أرباب الفن وأيده العلم والاختبار.
وكان الفراغ من تبييضه في شهر أبريل سنة 1930 ميلادية، والحمد لله أولا وآخرا.
الدكتور نقولا فياض
Shafi da ba'a sani ba