وبلغ الشاعر داره فلقيه ابن حمزة وعاجله سائلا: كيف الحال يا أبا الطيب؟ - شر حال! إن وزيركم يحسبني من شعرائه المهازيل الذين يقعون حول مائدته لالتقاط فتاتها. ثم قص عليه ما دار في المجلس، فانقبض وجه ابن حمزة، وقال في تحسر: لقد أضعت الفرصة يا أبا الطيب، وسلطت عليك أكبر مدرب للكلاب. - ماذا تقصد؟ - أقصد أنه سيرسل عليك عصابته، وسنسمع غدا فيك شعرا هو قيء أمعاء البديع، وأشلاء جيفة البيان. - لقد قلت في أمثالهم:
وأتعب من ناداك من لا تجيبه
وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وما التيه طبي فيهم غير أنني
بغيض إلى الجاهل المتعاقل - لا يا أبا الطيب، إن هؤلاء ليسوا ممن يسهل اتقاء شرهم، أرأيت الأوحال التي كلما حاولت التخلص منها زدت فيها ارتطاما؟ إن لهم في بغداد حكما على الحكام، ونفوذا على ذوي النفوذ، إنهم يهددون كل عظيم في عرضه وشرفه ومزال ماضيه، فيقبل عليهم خاضعا مستغيثا جاثيا على ركبتيه، باذلا كل ما يضربونه عليه من مال. إن قطاع الطريق ولصوص الليل أشرف منهم نفسا وأكرم خلقا؛ لأنهم يعفون عن استلاب النساء وقتل الأطفال، أما هؤلاء فلا تسلم منهم حرمة، ولا يتنزهون عن ملأمة. إنهم يرسلون البيت من الشعر مسموما كما يرسل القرمطي سهمه لا يبالي إلى أي قلب نفذ. وهؤلاء جميعا في قبضة المهلبي يوسوس لهم بالدنانير فيقبلون، ثم يوجههم إلى الصيد فيتواثبون، وهو يطل عليهم من بعيد جذلان مسرورا. وكلما زاد أحدهم في النهش زادت المكافأة وكلما ولغ أحدهم في الدماء عظم الجزاء. إن هؤلاء الشعراء يحكموننا الآن يا أبا الطيب، فهم يوجبون علينا طاعتهم، ويفرضون علينا من الضرائب والإتاوات ما يشاءون. والويل ثم الويل لمن أظهر العصيان أو حدثته نفسه باستنكار شيء أو التأفف من شيء! لا يا أبا الطيب، اشتر عرضك من هؤلاء، واذهب بعد أيام إلى المهلبي وفي كمك قصيدة في مديحه. وأنتم الشعراء أجرأ خلق الله على الكذب، وأقدرهم على تصوير ممدوح خيالي تعطونه اسم من ترجون صلته. والذي مدح كافورا يا أبا محمد لا يعجز عن مدح الجاحظ بالجمال، وهبنقة بالذكاء، والحجاج بالرفق والحنان. - لن أمدح المغرور المستهتر، ولن أذهب إليه. ولن أبالي بكلابه المساعير. - ذلك لك يا أبا الطيب، ولكني أحذرك من ابن الحجاج وابن سكرة وابن لنكك والحاتمي، أحذر هؤلاء يا أبا الطيب وتجنب الاشتباك معهم، وإذا دفعت إلى لقائهم فجاملهم وتلطف. - لو كانت المجاملة من خلقي يا ابن حمزة لكنت في حال غير هذه الحال.
وبعد مرور يوم أو يومين على هذا الحديث اجتمع بحانة بالكرخ تعرف بحانة أبي نواس ثلاثة رجال جلسوا في حجرة بعيدة عن الطراق، وطلب أحدهم من فتاة الحان خمرا رومية معتقة فأحضرتها، وأخذوا يتساقون ويتهامسون ثم قال أحدهم: لقد جعل لكل شاعر منا خمسمائة دينار. - هذا ليس بالكثير يا ابن الحجاج. - ما أطمعك يا ابن سكرة. أتستقل خمسمائة دينار في عشرين بيتا أو نحوها من أقذر الشعر وأفحشه تقذف بها في وجه المتنبي، ثم تنال من بعدها شهرة الأبد؟ ما رأيك يا ابن لنكك؟ - أرى أن العرض حسن، ولقد أعددت بالأمس أبياتا وسأزيد عليها؛ لأن الوزير وعدني بزيادة العطاء إذا فحش الهجاء وتعددت فنونه. - هذا حسن، ولكن أترى أن نأخذ في هجو الرجل دون أن نستدرجه بشيء من الملاحاة والمهارشة؟ - لا. يجب أن نزوره غدا، وقد علمت أنه غاية في الكبر والأنفة والزهو بنفسه، ومثل هذا يسهل اصطياده واجتذابه إلى المعركة. - عظيم. غدا نلتقي في الصباح بداري، ومنها نذهب إلى دار ابن حمزة للتشرف بمقابلة هذا الزق المنتفخ. وانتهى ما في الإناء من شراب، وانتهى ما في عقولهم من كيد وتدبير، فخرجوا من الحانة يترنحون ويصخبون. وجاء الغد وأسرعوا إلى دار ابن حمزة فاستقبلهم ببشر مصنوع وترحيب متكلف، ثم دلف إلى حجرة المتنبي فأخبره بزواره وكرر تحذيره والنصح له، ودخل الشعراء على أبي الطيب وكان جالسا فلم يتحرك من مكانه، وأخذ ينظر في وجوههم كمن ينظر إلى حشرات غريبة الخلقة دنيئة الفصيلة ليس له بمثلها عهد، وكرر الشعراء التحية فبدرت منه تحية فاترة أردفها في عجلة بأمرهم بالجلوس، فجلس القوم والغيظ يحتدم في وجوههم، ثم أخذت ابن الحجاج قهقهة طويلة تصنع أنه لا يستطيع لها كتما، فنظر إليه المتنبي في ازدراء وسأل: مم تضحك يا رجل؟ - أضحك. يا سيدي لأنني سخرت بالأمس من رجل زعم أنك كنت تطمع في ملك مصر، وطالما لاحيته وطالما حاججته، ولكن ظهر لي أنك كنت مخطئا. - كيف؟ - لأن هذه الجلسة وهذا الصلف وهذه النظرات التعبة الجافية لا تصدر إلا عن ملك. - ما لك ولكل هذا يا رجل؟ أجئت لتزورني أم لتظهر سخفك؟ فأسرع ابن سكرة، وقال: إن هذه المقابلة التي صدمتنا بها لا تقابل إلا بالسخف والسخرية، أفق أيها الشيخ من سباتك فإننا شعراء بغداد. سل كل إنسان تلاقيه ينبئك من هم شعراء بغداد. إن في جراب أشعارنا علاجا ناجعا لأمثالك المغرورين. إننا خلقنا من الشعر ميسما يشوه الوجوه الصلفة، ولجاما يعقد الألسنة البذيئة، وقارا يلطخ العرض فلا تغسله أمواه السماء، فقال المتنبي باسما وكأنه لم يسمع إلا طنين ذباب: لم تزد على أن جعلت الشعراء عصابة من قطاع الطريق، فسحقا لك من شاعر! وما أتعس الشعر بمثلك! ثم التفت إلى ابن لنكك، وقال: وأنت يا شاعر آخر الزمان، هل في جراب شعرك شيء غير الذي في جراب صاحبك؟ فاتجه إليه متحديا، وقال: أتريد ما في جرابي؟ إذا فاسمع:
ما أوقح المتنبي
فيما حكى وادعاه
أبيح مالا عظيما
لما أباح قفاه
Shafi da ba'a sani ba