خوف
حيرة
مخاطرة
ركود
استفزاز
رعونة
قتل
خوف
حيرة
مخاطرة
ركود
استفزاز
رعونة
قتل
خاتمة المطاف
خاتمة المطاف
تأليف
علي الجارم
خوف
لم تشهد مدينة الفسطاط منذ أن دق عمرو بن العاص بها أطنابه كهذين الفارسين، وقد التفا بعباءتيهما السوداوين فزادا ظلمة الليل البهيم وحشة وإرهابا، وخطا بهما جوادهما في حذر وخشية، فلم يكن يتردد من أنفاسهما إلا ما يتردد من همسات النسيم الوادع يهز أطراف الغصون. اخترق الفارسان خضم الظلام كأنهما شبحان من أشباح الظلام، لا تكاد تحس لهما حركة أو تسمع ركزا، أو كأنهما تمثالان من صنع الفراعين الأولين سرت إليهما روح خافتة خامدة فبقيا على ما عهد فيهما من جمود إلا ما كان من يد تقبض على العنان، ورجل تثبت في الركاب. صمت وإطراق مخيفان حقا، وليل وهدوء مخيفان حقا، والهدوء في ذاته رفيق بالنفس، حبيب إليها، ولكنه إذا اقترن بالظلام كان مخيفا، وكان مبعثا للهواجس ومثارا للخيال الجامح الذي يخلق ما شاء من صور، ويبتدع ما أراد من تهاويل. وخير لك ألف مرة إذا لفك الليل في مكان موحش أن تسمع حولك صخبا وضوضاء من أن تسمع هدوءا وصمتا، إذا صح أن الهدوء والصمت يسمعان؛ ذلك لأن الهدوء مظنة المفاجأة والاغتيال، وهل قتل الصيد إلا ذلك الهدوء الذي يتصنعه الصائد لينقض؟ وهل فتك القاتل بفريسته إلا بعد أن خدعها بجو من السكون الشامل؟ وهل يسرت الفطرة للحيوانات الضارية سبيل الفتك إلا بتلك الأقدام اللينة التي لا تحس إذا مست الثرى؟
سار الفارسان في صمت وإطراق، وظللهما الليل بصمته وإطراقه، فكان لا يرى إلا سراج خافت هنا وهناك يلمع في نافذة، ولا يسمع إلا طنين بعوضة أتخمتها الدماء، فأرسلت صوتا ضعيفا متقطعا، ولا يحس إلا رفيف خفاش عاد من بعض الحدائق بعد أن نال من ثمارها.
سار الفارسان هكذا صامتين جامدين فمرا بجامع العسكر، وكان أبو هلال السبكي مؤذن المسجد ينام فوق سطحه، واتفق أن أيقظه بعض الهوام، فبدرت منه التفاتة، فرأى الفارسين. وكان من بين كبار المخرفين يحتفظ إلى حفظه القرآن الكريم بثروة واسعة من أقاصيص الجن والشياطين، فما كاد يرى الفارسين حتى حملق وتمتم بكل ما وعى صدره من صنوف الاستعاذات والأدعية، فلما جاوزاه تنفس الصعداء، وأخذ يسكن رعدة هزت أوصاله، ويحدث نفسه في همس لم تسمعه أذنه: أفارسان هما؟ لا. إنهما لم يكونا فارسين، أنا واثق بذلك ثقتي بوجود هذه المئذنة القائمة. وأنى لفارسين أن يسيرا في هذا الليل الداجي، وفي ليلة يسكن فيها كل رجل إلى أهله ويهدأ ليستقل العيد مرحا نشيطا؟ إنهما لم يتحركا ولم يتهامسا فكيف يكونان رجلين؟ لقد رأيت بعيني شرارا يتطاير من أعينهما، ورأيت بعيني أنهما كانا يركبان أسدين لا حصانين. نعم لقد كانا أسدين ما في ذلك شك. لقد سمعت زئيرهما بأذني. ولقد اتجه أحدهما ببصره إلى أعلى كأنه أحس بمكاني فأخفيت وجهي خلف شرفات المسجد.
ويلي من هذه الأرواح الشريرة التي لا تدب إلا في حلك الظلام! وإلى أين كان يسير هذان الشيطانان؟ أغلب الظن أنهما لا ينتهيان إلى خير، أكان علي أن أصيح بملء صوتي حتى أوقظ النوام لينقضوا عليهما؟ لا. لو فعلت وتيقظ الناس لتسربا في الهواء، ولم يكن جزائي إلا أن أشتم وأرمى بالجنون. غدا أقص على الناس هذا الخبر الرائع، وسيكون حديث العيد، وسوف ينالني شيء من الخير كلما قصصته على من لهم ولوع بمثل هذه الأخبار.
ابتعد الفارسان عن جامع العسكر فمال أحدهما على صاحبه وقال هامسا: كيف نجتاز الباب الشرقي يا أبا الطيب؟ - هذا ما كنت أفكر فيه يا ابن يوسف، ومن العجيب أننا دبرنا كل شيء ولم يخطر ببال أحدنا أن الباب سيكون مغلقا، وأن الحارس قد يكون شريرا عنيفا. - لو كان الحارس شكسا صخابا لقضي الأمر وكتبت علينا الخيبة. - خل عنك اليأس يا ابن أخي، فإن من خصائص هذا الخنجر أنه يسكت الأصوات. - لن ألوث يدي بدماء الأبرياء. - إن من يقف في طريق عزيمتي لا يكون بريئا. فابتسم صاحبه ابتسامة ضاعت في الظلام، وقال: أخشى أن أقف في طريق عزيمتك. - لا تمزح يا خزاعي، فإنما نحن في جد عابس دميم. بم تشير إذا لم نقتل الرجل؟ - لقد اعتدت ألا أفكر في أمر إلا بعد أن أعرف ما يحيط به من شئون، وبعد أن ألتقي بصعابه وجها لوجه، فدعنا الآن من التفكير فلعل الله معقب فرجا.
كان المتكلم عبد العزيز الخزاعي زعيم العرب ببلبيس، وكان يخاطب صديقه وصفيه أحمد بن الحسين المتنبي، وقد عزم في تلك الليلة على الرحيل عن مصر والفرار من وجه كافور، بعد أن أقام أربع سنوات في ضيافة الأسود يمدحه بروائع الشعر، ويخلع عليه من صفات الجلال والبطولة ما يندر اجتماعه في إنسان. ولم يقصد كافورا إلا بعد أن خدعه عماله، أو خدع هو نفسه بأنه سينال عنده الحظوة الكاملة، والمنزلة الرفيعة، وأنه سيوليه إمارة تسكت صائح طموحه، وتشفي غلة نفسه، وترفعه من وهدة الشعراء المجتدين، إلى قمة الملوك الحاكمين. فأقام بمصر يتزلف إلى الأسود ويتملقه؛ ويضفي عليه حللا من الثناء لم ينسجها زهير لهرم بن سنان، ويثب بنسبه المجهول دفعة واحدة حتى يبلغ به ذروة معد بن عدنان. وقد أنفد الأسود حيله، فكان يستجديه ويسأله إنجاز وعده في لطف ووداعة، أو في خشونة وإلحاف. وكثيرا ما كان ييأس فيثور على كافور وعلى نفسه وعلى الناس جميعا، ويلعن الحظ العاثر الذي ساقه إلى مصر، وأوقعه بين براثن هذا الزنجي اللعين، ويبكي على أيام سيف الدولة وعلى سالف عهده بحلب، وما كان يتقلب فيه من نعيم في ظلال هذا العربي المجاهد الكريم الذي كان يفهم شعره، ويقدر مكانته، وينزله بين سمعه وبصره، ولكنه بطر وأشر فلاقى جزاء البطر والأشر. سخط على الجنة التي كان ينعم فيها بوارف من العيش هنيء، فخرج منها مذءوما شريدا، فساقه النحس وقاده نكد الطالع إلى جحيم تأجج فيها الخلف والكذب والمطل والخديعة والرياء. إلى جحيم يرى فيها نفسه وهو العربي العزوف، والشريف الأنوف، الذي تصغر في عينه العظائم، ويرمي بعزيمته إلى أبعد مطارح الآمال، مدفوعا إلى أن يقول للقرد: أنت آية الجمال ، وللكلب: أنت العزة في تمثال، ولابن آوى أنت صفوة الصحاب، وللثعبان أنت ملح اللمى عذب الرضاب. وأن يقول لكافور:
أنت شمس أنت بدر
أنت نور فوق نور
إلى جحيم أحرق فيها آماله ومطامحه وعزته وشممه، وهدم فيها كل مجد بناه، وشرف أثله وأعلاه، وأصبح من سوقة الناس شاعرا مستجديا بغيضا، يرمي إليه العبد بفتات موائده، ويلزمه أن يقول بكل لقمة يزدردها بيتا من الشعر في وصف آلائه الحسنى، وآيات عظمته الكبرى. إلى جحيم سلط فيها كافور عليه زبانيته ينتقصونه ويزدرونه ويتجسسون عليه، فلا ينطق بكلمة إلا وهي في كتاب، ولا يخطو خطوة إلا ولها عندهم حساب.
ضاق المتنبي بمصر واختنق بعد أن رأى أنه فقد فيها كل شيء، ولم يحصل على شيء. وبعد أن رأى شبابه يولي قبل أن يبلغ من الدنيا مأربا، وغصن عوده يذوي وتسقط أوراقه جافة يابسة كما تسقط أوراق الخريف إذا عصفت بها الرياح، وبعد أن رأى الشر يلمع في عيني كافور، ورأى النمر يستجمع للوثوب، والصل الأسود يقترب منه رويدا رويدا ليقبله قبلة الوداع، وبعد أن تواترت إليه الأخبار بأن كافورا ووزيريه ابن الفرات وأبا بكر بن صالح يعدون الفخ لاصطياد الطائر الطموح المغرور، وبعد أن جلس الجواسيس والعيون حيال داره لا يفارقونها في صباح أو مساء.
ضاق المتنبي بمصر واختنق حينما تنكر له أهلها، وناصبه العداء علماؤها، ومشى له الضراء شعراؤها، وأصبح شعره فيها سخرية في كل مجلس، ومتندرا في كل سامر. ولو لم يخفف الله عنه هذه البلوى بحب عائشة بنت رشدين وصادق وفائها وحلو حديثها، وبإخلاص أخيها صالح وكريم حفاوته، وبمودة عبد العزيز الخزاعي، ورعاية إبراهيم العلوي، لبخع نفسه الحزن، ولقضى عليه الهم، ولذهبت نفسه في الهالكين. كان يحب عائشة، وكانت تحبه حبا عذريا قدسيا شريفا يناغم عزتها وكرم أرومتها، ويساوق شرفه وأنفته. وكان يزور بيت أخيها بين الحين والحين، فيجد في حنوها الجنة والنعيم، وكثيرا ما كان يضم المجلس الشريف إبراهيم العلوي والشاعر ابن أبي الجوع وشيخ العرب عبد العزيز الخزاعي .
وكان للمتنبي بصيص من أمل في أبي شجاع فاتك، وهو من كبار قواد دولة الإخشيد، ولكن الموت عاجله فأطفأ آخر وميض لمطامع الشاعر، وتركه مع كافور يتنازعان البقاء، ويتباريان في فنون الدهاء والرياء.
لم يبق إذا لأبي الطيب عيش بمصر، ولم يبق له إلا أن يرحل وأن يرحل سريعا، فقد ينطبق عليه الفخ في أية لحظة، وقد تنقض عليه الصاعقة وهو يتأمل في جمال الأفق. ولكن ماذا يصنع وقد نصب له الأسود الأرصاد، وبث خلفه العيون، وعقد العزم على أن يحتبسه بمصر وألا يدع له إلى الفرار سبيلا؟ فقد كان العبد يخشى عاقبة فراره. وكان يخاف بعد أن أذاقه عذاب الهون بمصر أن ينطلق لسانه بهجائه إذا استدبر الفسطاط، وأن يجعل من اسمه سبة الأبد، وأضحوكة الأجيال.
ضاقت الدنيا في وجه المتنبي، ورأى أن حبل كافور أخذ يقترب من رقبته رويدا رويدا، فدبر مع أصدقائه أن يفر من مصر ليلة عيد الأضحى من سنة خمسين وثلاثمائة، وأن يساعده على الفرار صديقه عبد العزيز الخزاعي، وأن يرحل ابنه وعبيده عن مصر قبل فراره بأيام.
وقد تمت المؤامرة ونفذت دون أن يخرم منها حرف، وتسلل الشاعر في هذه الليلة من داره في صحبة صديقه الخزاعي بعد أن ترك تحت غطاء سريره ورقة كتب بها قصيدة في ذم كافور نفث فيها سمه، وشفى غليل صدره، ولطخ كافورا بهجاء مر مقذع يمحي جلده الأسود ولا يمحى، وتزول بشاعة وجهه ولا يزول، ورماه بسخرية لاذعة وكلم ممض أصغت إليه الآفاق، وتداولته الأزمان وتندرت به الأجيال، وبقى بقاء الشمس، وترك للعبد ذكرا خالدا لو كان يطمع في مثل هذا الخلود. ولا يزال أبناؤنا وبناتنا وشبابنا وشيبنا ينصتون في شغف وشوق إلى:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟
فيضحكون ويطربون.
خرج المتنبي في هذه الليلة من الفسطاط فارا من وجه كافور ومعه صاحبه الخزاعي، فلما اقتربا من الباب الشرقي ألفيا عنده رجلا ضخما مفرطا في الطول، قوي العضل، موثق الخلق، كأنه صخرة نحتت على هيئة الرجال. ولم يكن فراج القوصي حارس الباب، ولكنه كان ينوب في هذه الليلة عن زوج أخته علقمة السباعي، الذي أراد أن يرفه عن نفسه ليلة العيد بالراحة وبعض اللهو، وكان فراج على قوة جسمه ضعيف العقل خامد الإدراك، ساذجا إلى حد البلاهة، عنيفا إلى حد الجنون، كأنه الهر المستوحش لا تراه إلا متنمرا متوجسا، نشأ في أعلى الصعيد ببلدة قوص نشأة جافية، بين جهل وبداوة وشظف في العيش، فلم تعطف عليه إلا بقليل من الإدراك لا يخرجه من نطاق الحيوان الأعجم إلا بشق الأنفس وبعد لأي وجهد. كان بقوص يرعى الماشية ويعيش معها: يأكل مما تأكل، ويشرب مما تشرب، ويسبح في النيل كما تسبح، وينام حيث تنام ويفهم لغتها وتفهم لغته، ولم يكن بينه وبينها من الفروق إلا أن هذا قائم يمشي على رجلين. وتلك متطامنة تمشي على أربع. وإن أحدا لا يدري إلى الآن أمنها أخذ عقله أم منه أخذت عقلها؟ ولكن الناس كانوا يرون قطيع الجاموس وفيه فراج فيظنونه مالا سائبا، وكانوا في أحيان قليلة يرون فراجا وحده، فيعجبون كيف شرد هذا الحيوان عن القطيع، وكيف ترك هكذا هملا؟ وكان شباب القرية ومجانها كثيرا ما يتندرون به ويهارشونه: جلسوا مساء يوم عند شاطئ النيل، وقد جاء ليسقي قطيعه ويشرب، فسأله خبيث منهم معاجزا: كم عدد قطيعك يا فراج؟ فوقف ذاهلا وقد فتح فاه، ثم بدا على وجهه الجد، وقال في تلعثم: عدد القطيع؟ وماذا أريد من عدد القطيع؟ إنه يأكل ويشرب وكفى. - لو سرق سارق إحدى هذه الجواميس، أكنت تعرف إذا لم تعرف عددها؟ - أعرف كل شيء، والذي أعرفه أكثر وأكثر أن سارقا لو جرؤ على أن يمد يده إلى جاموسة منها لشربت دمه شربا. ثم نظر إلى سائله في سخرية وتحد، وقال: على أن عددها من أيسر الأمور وأهونها، فهذه واحدة، وهذه واحدة، وهذه واحدة ... - كم واحدة إذا؟ فأسرع بعض الشبان ساخرا، وقال: الله سبحانه وتعالى أعلم، فالتقطها فراج في عجلة واغتباط كأنه ظفر بالقول الفصل والرأي القاطع، وصاح في جذل: الله سبحانه وتعالى أعلم.
طلب الخزاعي من فراج في رنة الآمر وعظمة الواثق أن يفتح الباب، فنظر إليه فراج وأخذ يصعد فيه بصره ويصوبه، ثم فتح الله عليه بكلمة فقذف بها في سرعة حتى لا ينساها، وقال: إني لست حارس الباب. - من أنت إذا؟ - أنا فراج. فعلم الخزاعي أن في الرجل بلاهة، وأن عليه أن يسير في الأمر على نحو لا ينفر منه ضعاف العقول. فقال: أهلا بفراج! أين المفتاح يا فراج؟ - ماذا تريد من المفتاح؟ إنه في هذه الكوة، ولكن علقمة أمرني ألا أفتح لأحد. - صحيح، إن علقمة رجل أمين ذكي شديد الحذر، وقد عرف كيف يختار رجلا مثلك أمينا ذكيا شديد الحذر، غير أنه من المحقق أنه أمرك ألا تفتح لأحد يجيء من خارج المدينة، ثم يطرق الباب طالبا الدخول إليها، فإن في ذلك خطرا عظيما، إنها تكون مصيبة داهمة حقا أن يدخل المدينة عدو. ولكنه لا يعقل أن يأمرك بألا تفتح الباب لأي رجل يريد الخروج من المدينة، الخروج من المدينة يا فراج غير الدخول إليها، أين تسكن يا فراج؟ - أسكن في حارة الحمالين بجانب الجبل. - هل بحجرتك فيران؟ - كثير جدا. - عظيم، أإذا أراد فأر في حجرتك أن يخرج منها إلى الحارة أكنت تأبى عليه أن يخرج؟ فابتسم فراج ابتسامة جعلت فمه يتصل بأذنيه كأنه فهم معضلة من أعقد مسائل الفلسفة، وقال: لا. يجب أن يخرج، إن الخير في أن يخرج. - إنك رجل متوقد القريحة. وإذا أراد فأر جديد أن يدخل حجرتك فهل تسهل له سبيل الدخول؟ - لا. أبدا. - هكذا نحن يا فراج. نحن سنخرج، وليس في ذلك أي حرج، ولا يمكن أن يكون علقمة نهاك عن أن تخرج أحدا. - إن كلامك صحيح معقول، ولكن يبقى أن علقمة أمرني ألا أفتح الباب، وهو لم يذكر دخولا ولا خروجا، ولكنك تجيء الآن فتربك عقلي بمسألة الدخول والخروج، وأظن الأحوط لي أن أثبت على أمر صاحبي، فاذهب عني بالله عليك فقد أتعبت عقلي بالحجرة والفيران، وبمشكلة الدخول والخروج، إن أمي حينما أرسلتني إلى الفسطاط لأشتغل بنقل الأحجار للدار التي بناها مولانا كافور، أمرتني أن أطيع علقمة وألا أخالف له أمرا، فاذهب إلى شأنك يا رجل، وبعد قليل يؤذن الفجر، وينبسط النهار، ويجيء علقمة، وهو أعلم مني بمعنى الدخول والخروج.
فظهر الألم على وجه الخزاعي، ورمى بنظرة نحو فراج، ثم أرسلها نحو المتنبي، وكان في هذه النظرة كثير من العجب والدهش والحسرة، وكأنه على سرعة وميضها كانت تقول: أحياة هذه العبقرية الضخمة، وذلك النبوغ الخارق أصبحت معلقة بكلمة يقولها هذا الغر الأبله الذي لا يعقل ولا يبين؟ أذلك العقل الهبرزي، والذهن الوقاد، رمى به نحس الطالع إلى أن يستجدي بسمة رضا من هذا الحيوان الجاهل المعتوه؟ أليس من أضاحيك القدر ومبكياته، أن يقف المتنبي، وهو الفارس الكرار، والبطل المغوار، الذي ملأ خياشيمه غبار الوقائع، ذليلا مستعطفا أمام ذلك الممرور الأحمق، والرعديد المائق؟ أليس من خرف الزمان، وجنون الأيام، أن يخضع الشعر، وتطأطئ الفلسفة، وتتضاءل الحكمة، ويذل المثل الشرود، لهذا الغبي العيي المأفون؟ أهذه تصاريف القدر التي يسمونها؟ أهذه أحكام الفلك الدوار التي يجب أن نقتنع بها راضين أم ساخطين؟
وما كادت تعود إليه نظرته حتى همس المتنبي في أذنه قائلا: دعني أقتله يا ابن يوسف. - اصبر قليلا فالأمر لا يستحق كل هذا، وليس هو من نوع الشرف الرفيع الذي يجب أن يراق على جوانبه الدم.
وما كاد يتم قولته حتى سمعت خطوات أخذت تقترب قليلا قليلا ظهر من ورائها رجل شعشاع يحمل في يده هراوة طويلة غليظة، ويلبس ثياب العسس. فأخذت قلب الخزاعي رعدة، وغاله ارتباك وذعر، ولكنه جمع إليه نفسه، وقال: وهذا أحد العسس يا فراج وهو يستطيع أن يفهم ما نقول. فاهتز العاس لهذا الثناء الضمني على ذكائه وعبقريته، وقال مبتسما: ما الأمر؟ - الأمر في غاية السهولة واليسر، أنت تعرف يا ... يا ... فأسرع العاس قائلا: شماخ الأحول. - أنت تعرف يا شماخ أن مولانا كافورا أمر بضرب دنانير جديدة، وأمر أن يرسل قدر منها إلى عامله بالرملة ولا بد أنك تعرفه يا شماخ. فابتلع شماخ ريقه، ورأى من واجب العظمة والذكاء وكرامة المنصب أن يكون يعرفه، فقال: نعم ... نعم ... أعرفه. - إنه الحسن بن طغج. - نعم الحسن بن طغج بلا شك، إنه الحسن بن طغج. - وأنت تعرف يا شماخ أمر عصابات اللصوص الذين تمتلئ بهم هذه المدينة. فهز شماخ رأسه مزهوا حين رأى انسياق الحديث إلى شأن يستطيع الكلام فيه، وقال: اللصوص يا سيدي؟ إنهم كثيرون منتشرون في أنحاء المدينة، وكبيرهم مسافر بن طلحة، وهم يا سيدي من قبائل القيسية، يضربون خيامهم بأهناس، وهي كورة إلى الجانب الآخر من النيل تقرب من الفسطاط، ولا تخلو ليلة من سرقة أو نهب أو غاراة. كنت أمر ليلة أمس بزقاق القناديل فرأيت باب إحدى الدور مفتوحا، فعجبت للأمر، ودخلت الدار فلم أسمع بها حسا، فلما اقتربت من دهليزها رأيت رجلا مكموما مكتوفا ملقى على الأرض، فتأملته فإذا هو إسحاق الجوهري اليهودي، وهو رجل شحيح جديب الكف جماع مناع، لو عرف أن فوق مناط الثريا درهما لطار إليه، وهو يعيش وحده في هذه الدار، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا يؤنسه في وحشته إلا أكداس من المال والجواهر، فأسرعت بحل وثاقه وفك كمامته، وعلمت بعد جهد أن اللصوص سطوا على داره، وأخذوا كل ما فيها من جواهر وتركوه جثة خامدة بين الموت والحياة. إن سرقة كهذه يا سيدي لا يجرؤ عليها إلا مسافر ورجاله. وخاف الخزاعي أن يسترسل هذا الثرثار في الانطلاق في أقاصيص السرقات التي يكاد يخطئها العد، فقال: أراد مولانا كافور أن يرسل أكياسا من الدنانير الجديدة إلى صاحب الرملة، ووكل إلينا السفر بها فكتمنا الأمر خوفا من اللصوص، وعزمنا أن نسير خفية تحت جناح الليل حتى لا يشعر بنا أحد منهم، فيتعقبنا في طريق الصحراء مع بعض رجاله، ويغتصب منا ما نحمله. - هذا رأي حازم يا سيدي، ونعم والله ما فعلت. هؤلاء اللصوص يا سيدي ... وخاف الخزاعي أن يندفع الرجل إلى أحاديث اللصوص وأفاعيلهم، فأسرع ومد يده إليه بدينار، وقال: وهذا نوع الدنانير التي أخرجتها دار الضرب حديثا. فوثب فراج وأخذ الدينار ونظر فيه، وقال هازئا: وهذا درهم أصفر! فمد شماخ يده واختطف الدينار وحملق فيه بشره ونهم، وقال: تبا لك من أبله ممرور. إن الدرهم لا يكون أصفر أيها الجاهل. إن الدرهم من فضة، والفضة بيضاء، أما الدينار من ذهب، والذهب أصفر. أعرفت أيها الغبي؟ إنه دينار كافوري جديد، وهو يساوي في قيمته خمسة دنانير.
وحينما لمح الخزاعي الجشع في عيني شماخ لمح معه الفرصة المواتية، فقال: فإن هذا الدينار هبة خالصة لمن يسبق منكما إلى فتح الباب. وما كاد يفرغ من قوله حتى وثب شماخ إلى الكوة، وأسرع فالتقط المفتاح وأدخله بغلق الباب وأداره فانفتح، ثم هز يده بالدينار وصاح: اخرجا أيها السيدان.
فأسرعا إلى الباب، وصاح الخزاعي جذلان فرحا: لقد استحققت الدينار يا شماخ! هكذا الشهامة! وهكذا البطولة!
وبقي فراج ينظر إليهما مذهولا دهشا واجما، وهو لا يعرف ما جرى، ويستنجد عقله ليعرف أول الأمر وآخره فلا ينجده، ولم يبق في ذهنه من كل هذه المسألة المعقدة إلا أن الدرهم يجب أن يكون أبيض، وأن الدينار يجب أن يكون أصفر.
وانطلق أبو الطيب والخزاعي كأنما أطلقا من عقال. وجعل المتنبي ينظر من بعيد إلى فراج وشماخ وينشد:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وإنما نحن في جيل سواسية
شر على الحر من سقم على بدن
حولي بكل مكان منهم خلق
تخطي إذا جئت في استفهامها بمن
لا أقتري بلدا إلى على غرر
ولا أمر بخلق غير مضطعن
ولا أعاشر من أملاكهم أحدا
إلا أحق بضرب الرأس من وثن
حيرة
أخذت تباشير الصباح تبدو في الشرق كأنها نهر من نور تتهامس أمواجه، ويتلألأ فوقها حبابه، وآذن زنجي الليل بالرحيل فطفق يقتطف أزهار النجوم، فلم يترك إلا واحدة بقيت في الأفق لماعة وهاجة خفاقة، كأنها ترتعد فرقا من أن يغرقها سيل الصباح. وزجر الفارسان جواديهما فانطلقا مع الرياح كأنهما من الرياح، وانجردا كأنهما القضاء المنقض ليس له مرد ولا عنه محيد. وصبا السوط عليهما ظالمين فانصبا كما ينصب السيل هدارا عجاجا لا يقف في طريقه شيء، ورميا بطرفيهما إلى البعيد فأصبح قريبا، وكأنما أعدى عدوهما الأشجار والنخيل فعدت معهما إلى حيث يقصدان. وعجبت الطيور في السماء أن يكون منها طيور ذات قوائم، وعبس وجه الأفق بعد أن كاد غبارهما يسد معاطس الأفق، وشكت الأرض من ضرب سنابكهما المتلاحق، وظنت أنها تلاقي جزاء زلتها في أن ترضى بأن تكون أما لهذا الإنسان الذي خلق من طين!
أشرقت الشمس على الفارسين كأنها قرص من الذهب النضار، وبعثت إلى الكون نورا وحياة كعادتها في كل يوم، وهي لا تعرف ماذا يفعل الناس بالنور والحياة، ولا تعرف أن الحياة التي تمنحها فيها معنى الموت وفيها معنى الفناء، ولكن ما شأنها هي بمن يعيش أو بمن يموت؟ إنها سراج إلهي يستضيء به من أراد أن يستضيء، إنها تضيء للأعمى، وتضيء للبصير، وتشرق على البار والفاجر، ولكنها على أي حال خير من السحب البله التي تترك الرياض الظمأى، وتصب ماءها مدرارا على الأراضي السبخة التي لا تخرج زرعا ولا تنبت بقلا، وهي خير ألف مرة من الحديد الذي يخدم الإنسان ويقتله.
وأشرقت الشمس على الفارسين فكفكفا من عناني فرسيهما بعد أن جاوزا الفسطاط بأميال، وبدت الزروع والكروم والنخيل يداعبها النسيم، فينفض عنها غشية النعاس، واستيقظت القرى والدساكر ودب فيها ضجيج الحياة، بين ترنيم الطيور، وصياح الديكة، وبين ثغاء وخوار ونباح. وكان كل شيء في الكون مشرقا بساما، وكان كل شيء ضحوكا مرحا، وكان كل شيء يسطع بفطرته النقية على ما حوله فيزيده تألقا وابتهاجا، حب وسلام وجمال، هكذا خلق الكون ليكون، وهكذا يجب أن يكون، ولكن الإنسان المشئوم الشقي بنفسه ومطامعه، يقلب هذا الحب عداء وشكاسة، وهذا السلام حربا وصراعا، وهذا الجمال قبحا ودمامة. كان كل شيء في الكون جميلا مشرقا إلا المتنبي، فإنه كان واجما عابسا منتفخا بالشر مشحونا بالبغضاء، ناقما من الكون ومن كل من في الكون، يشكو ويهمهم:
أما في هذه الدنيا كريم
تزول به عن القلب الهموم؟
أما في هذه الدنيا مكان
يسر بأهله الجار المقيم؟
تشابهت البهائم والعبدى
علينا والموالي والصميم
وما أدري أذا داء حديث
أصاب الناس أم داء قديم؟
كأن الأسود اللابي فيهم
غراب حوله رخم وبوم
أخذت بمدحه فرأيت لهوا
مقالي للأحيمق: يا حليم
ولما أن هجوت رأيت عيا
مقالي لابن آوى: يا لئيم
فهل من عاذر في ذا وفي ذا
فمدفوع إلى السقم السقيم؟
إذا أتت الإساءة من وضيع
ولم ألم المسيء فمن ألوم؟
فالتفت إليه الخزاعي في ألم وحسرة قائلا: هون عليك أبا الطيب، فإن نجاتك من الأسود حياة جديدة، ولا يزال في العمر مقتبل، ولا يزال لآمالك مسبح في هذا الكون المضطرب بالآمال، وإن مثلك من اتخذ من الإخفاق سلما، ومن الهبوط ذريعة إلى الصعود. والتجربة عقل ثان، وإن لك من شعرك ورصين خلقك وبعيد طموحك ما يغزو لك الدنيا ويذل الأمراء. انظر أبا الطيب، إنك لم تفقد شيئا بل لقد ربحت كثيرا، نزلت على كافور فتغفلته واستوليت على كثير من ماله، ثم فررت منه كما يفر الماء من خلال الأصابع، ثم أرسلت هجاءه في الآفاق تتناوح به الرياح، وتسير به الركبان، ويتغنى به الصبيان، ويتنادر به السمار، وسيبقى على الزمن أضحوكة الزمن، وأقسم غير حانث إن هجاءك لأشد على الأسود من وقع السهام في غبش الظلام، وإنه ليود بجدع الأنف لو تخلى عن بعض ملكه ولم يفوق إليه شعرك المسموم قافية. لم تندب يا أبا الطيب؟ لقد ألقيت على أمراء هذا الزمان بهجائك كافورا درسا لن ينسوه، فإذا خسرت اليوم أميرا فلقد كسبت أمراء، إنهم يعطون إذا رغبوا، ولكنهم إذا رهبوا أعطوا أكثر وأكثر، وهم يحبون المديح ويثيبون عليه، ولكنهم يبغضون الهجاء ويثيبون على دفعه عنهم أضعافا وأضعافا، وقد عرف ذلك قبلك اللئيم بشار فكان يقول: إن الهجاء أجلب للمال وأرفع لقدر الشاعر من المديح. اذهب الآن أبا الطيب حيث شئت تجد كل أمير يسارع إلى لقائك، ويحتفل بمقدمك، ويقبل الأرض بين يديك، ويفتح لك خزائن ملكه. وأكبر الظن أن سيف الدولة ينتفض منك الآن فرقا، ومعز الدولة ببغداد يتحرق لقدومك عليه شوقا، وعضد الدولة بفارس يود لو يحملك إليه السحاب، أفق أبا الطيب ما هذا الحزن؟ وما هذا الوجود؟ إن من يراك يظن أنك فقدت عرشا أو سلبت سلطانا، إنك تملك الكون كله بشعرك، إن الأرض كلها لك مغدى ومراح، وإن من كانت له عبقريتك وعزيمتك يجب أن يسمو فوق الأشخاص ويرتفع فوق الشهوات، ويطل على الناس من سماء مجده كوكبا منيرا. - هذا كلام أشبه بالشعر يا ابن يوسف لا يثبت على النظر، ولا يقوى على البحث، فلقد فقدت بقدومي على العبد كل شيء: فقدت شبابي، وفقدت آمالي، وفقدت كرامتي، ودنست اسمي بين الشعراء. إنني نشأت في أول أمري شاعرا أقرض الشعر فيمن يستحق ومن لا يستحق، وكانت جوائزي لا تتجاوز بضعة دراهم، فلما منحت مرة دينارا على قصيدة من خير ما تنفس به الشعر العربي، توهمت أني لمست السماء، وقطفت عنقود الجوزاء. وكم لاقيت عسرا، وكم لاقيت عنتا، وكم قاسيت مسغبة وفقرا، وكم أطرقت للذل، وشربت المر، وبليت بقوم هم شر على الحر من سقم على بدن، ولكني كنت أزجر النفس إذا سئمت، وأروضها إذا نفرت، وأتواضع لجبروت من أمدحهم، وأصدق أكاذيبهم، وأضحك لنوادرهم الغثة الباردة، وحينما بلغت بدر بن عمار توهمت أني بلغت القمة، واقتعدت سنام الشرف. - بدر بن عمار الذي تقول فيه؟
لو كان علمك بالإله مقسما
في الناس ما بعث الإله رسولا
لو كان لفظك فيهم ما أنزل ال
فرقان والتوراة والإنجيلا
لو كان ما تعطيهم من قبل أن
تعطيهم لم يعرفوا التأميلا
لقد أغرقت أبا الطيب وجاوزت النطاق، وهذا شأنك دائما إذا رضيت. - وأغرق أيضا وأجاوز النطاق إذا سخطت. ظننت أني بلغت القمة عند بدر بن عمار هذا، وكان فتى عربيدا سكيرا ماجنا، ولكنه كان جوادا متلافا، فرضيت بحظي منه، وقنعت بجنته المحفوفة بالمكاره، ولكن حسادي تيقظوا حين نمت، وثاروا حين سكنت، وأفسدوا بيني وبين الأمير، فلم أجد وسيلة إلا أن أفر منه وأن أتخذ الليل مركبا، وأترك عنده آمالا لم تتفتح أزهارها، ولم تزغب أطيارها، وكانت هذه الخيبة الأولى، أما الخيبة الثانية، وهي التي لا أزال أقرع عليها السن، وأعض الأنامل، فهي خصومتي لسيف الدولة وإدلالي عليه أشرا وبطرا، وجفوتي لما كنت فيه من النعيم جنونا وخرقا، ومعاداتي لأهله وحاشيته تجبرا وكبرا، حتى ضاق بي وحق له أن يضيق، وتبرم بمقامي وأجدر به أن يتبرم، فنبت بي حلب وخرجت منها ليلا كما يخرج اللص المطارد. ولطالما نصح لي راويتي أبو الحسن بن سعيد بألا أترك سيف الدولة أو أبغى به بديلا من ملوك الأرض، وكأني أسمع الآن نبرات صوته في أذني، وهو يقول: «إنك الشاعر الذي بعث على رأس هذا القرن لينهض بالعرب، وليغني بمآثر العرب، وليعيد مجد دولة العرب، ولن أجد لك ميدانا بين دويلات الإسلام أوسع من حلب، ولا ملكا يساير رنين شعرك صليل سيوفه إلا سيف الدولة، إنه الملك الفذ الذي يقارع الروم، والحرب يا أبا الطيب لن تسير غازية فاتحة مظفرة إلا عن ألحان من الشعر الحماسي، الذي يلهب الوجدان، ويقذف الرعب من قلب الجبان». هكذا كان يقول ابن سعيد فما سمعت له ولا اكترثت بقوله. - حقا لقد بلغت ذروة مجدك الشعري عند سيف الدولة، وكنت والله جديرا بأن تقول:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرا
وغنى به من لا يغني مغردا
وحقيقا بأن تقول:
وعندي لك الشرد السائرا
ت لا يختصصن من الأرض دارا
قواف إذا سرن من مقولي
وثبن الجبال وخضن البحارا
ولقد صدق ابن سعيد فإن شعرك كان جندا لسيف الدولة أقوى من جنده، وسلاحا أمضى من سلاحه، فمن غيرك كان يستطيع أن يصف الجيش، وصاحبه كما قلت:
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
وفي أذن الجوزاء منه زمام
تجمع فيه كل لسن وأمة
فما يفهم الحداث إلا التراجم
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم: أنت بالغيب عالم
ضممت جناحيهم على القلب ضمة
تموت الخوافي تحتها والقوادم
بضرب أتى الهامات والنصر غائب
وصار إلى اللبات والنصر قادم
هذا أفق لم يحلق فيه شاعر، وأوج لم يصدح بجوه طائر. - لا تثر أشجاني بالله عليك يا ابن يوسف، ودع جرح قلبي يندمل. فإن الذكرى تزيده ألما ونغلا. أين أنا من سيف الدولة الآن ومن أيامه النضرات، ولياليه المشرقات؟ تركت هذا الملك الحر الكريم المجاهد يا ابن يوسف، ثم قصدت من؟ قصدت كافورا الزنجي الخبيث النتن الكذاب الماكر المحتال، فجزاني الله على كفري بالنعمة، وألقى بي في عذاب الجحيم بعد أن بطرت على الجنة، ولقد كان أبو الحسن بن سعيد صادقا أيضا حين كان يجذبني من كمي، ويقول: «احذر يا أبا الطيب. فإنه قد يجول بخاطرك أن تذهب إلى مصر، وإني أربأ بك أن تفعل هذا، وأن تجعل من نفسك عبدا للعبد الأسود، ويا لضيعة الشعر. ويا لضيعة الأدب. إذا انحدرا إلى هذه الهاوية». ولكني لم أطعه، وساقني الغرور إلى مصر، وعقدت الآمال بالكذاب الفاجر، وها أنذا أفر اليوم منه كما يفر الطائر من الفخ مهيض الجناح ممزق الأوصال. كأن حياتي أصبحت كلها فرارا، وكأنه كتب على ألا ألقى ملكا إلا فارا من ملك، وألا أودع ممدوحا إلى بمثل ما قلت في كافور. - تقصد «الدالية»؟ إنها قصيدة خالدة على الدهر، ولكن دعك من كافور الآن ووجه همك إلى ما سيكون من أمرك، وما ستتفتح به لك الأيام. - لن أترك كافورا، ولن أكفكف عنه سهام شعري، وستشرق عليه شمس كل صباح بصاعقة جديدة تهز أعواد عرشه. ولعلك لا تصدق يا ابن يوسف أني كنت أقول فيه شعرا حينما كنت تحاور فراجا حارس الباب. - عجيب أمرك يا أبا الطيب، وويل لمن يبتلى بلسانك المر. - كنت أقول:
أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا
وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
أمينا وإخلافا وغدرا وخسة
وجبنا، أشخصا لحت لي أم مخازيا؟
تظن ابتساماتي رجاء وغبطة
وما أنا إلا ضاحك من رجائيا
وتعجبني رجلاك في النعل، إنني
رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا
ولولا فضول الناس جئتك مادحا
بما كنت في سري به لك هاجيا
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة
ليضحك ربات الخدور البواكيا - هذه صفعات بالنعال لمحض المداعبة. - وستليها صفعات إن كان في الحياة متسع، لقد أهدر هذا الأسود مجدي الشعري كما قلت لك آنفا، وسوف أضطر إلى أن أبدأ بصعود السلم من جديد، فقد كان ملوك العرب يحيطونني بهالة من الهيبة والإجلال، ويظنون أني أحمى أنفا، وأعظم منزلة، وأسمى كرامة، من أن أتدلى إلى مدح العبد، وأن أشد رحالي إليه، وأن أتسلب من المروءة والرجولة فأبيع شعري بالمال لحبشي دعي في نسبه دعي في ملكه، وأن أترك صناديد العرب وأبطالهم يجاهدون فلا يصف وقائعهم واصف، ويبذلون فلا يسجل محامدهم شاعر. فكيف أذهب إليهم الآن يا ابن يوسف؟ إنني إن ذهبت فسوف توصد في وجهي أبوابهم، وأذاد مذءوما عن حضرتهم، وسيقولون متهانفين ساخرين: شاعر أفاق مهين، لا نفس له ولا كرامة، لو وجد في عنق كلب طوقا لمدحه، ولو رأى في جيب بغي درهما لخلع عليها كل صفات الطهر والعفاف. وماذا نبغي من مديح رجل كان يقول للعبد بمصر:
ويغنيك عما ينسب الناس أنه
إليك تناهى المكرمات وتنسب
وأي قبيل يستحقك قدره
معد بن عدنان فداك ويعرب
ويقول فيه:
عند الهمام أبي المسك الذي غرقت
في جوده مضر الحمراء واليمن
إننا نريد شاعرا يصدقه الناس ويوقنون أنه لا يقول للمال ولكن للزعامة القومية، والحمية العربية، والغيرة على الإسلام. هكذا سيقول ملوك العرب يا ابن يوسف ولهم الحق فيما يقولون، وليس الأمور كما تظن من أن هجائي كافورا سيخيفهم، بل إنه سيجرئهم علي ويزهدهم في وفي شعري؛ لأنني أصبحت شاعرا ليس لقوله وزن، ولا لحكمه تقدير، شاعرا لا يمدح للحق ولا يهجو للحق، وإنما يمدح ليسخر من ممدوحيه؛ ويهجو لأنه يئس منهم؛ أو لأنه امتص كل ما لديهم وراح يبحث في الأفق عن صيد جديد أسمن منهم وأدسم. خبرني بالله يا ابن يوسف، بأي وجه ألقى الآن سيف الدولة بن حمدان، بعد أن خاصمته وناوأته ونافرته؟ إنني رجل أحمق يا ابن يوسف، إذا تملكتني حمى الغضب قذفت الكلام يمينا وشمالا، وبدرت مني بوادر يحتبسها الحازم الحذر فلا يتحرك بها فوه، إنهم يسمونني الشاعر الحكيم، ولكن يظهر أنني أنثر حكمتي على الناس وأنسى نفسي، وأنني كبائع الجوهر يحلي صدور الحسان وهو متسلب عاطل، وإلا فما الذي كان دعاني بعد أن بعدت عن سيف الدولة وانقطع ما بيني وبينه، أن أعرض به عند مديحي للأسود، فأقول:
قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه
وخلت بياضا خلفها ومآقيا - هذا صحيح، فقد جعلت كافورا بحرا، وجعلت سيف الدولة ساقية، وجعلت الزنجي إنسان عين الزمان، وجعلت سيف الدولة بياض العين الذي لا غناء له ولا خطر. - ثم ما هذا العرق اللئيم الذي دفعني عند مدح كافور إلى أن أقول:
قالوا هجرت إليه الغيث قلت لهم
إلى غيوث يديه والشآبيب
إلى الذي تهب الدولات راحته
ولا يمن على آثار موهوب - أتظن أن سيف الدولة يدرك هذا التعريض البعيد؟ - إن ذهنه في فهم مرامي الشعر ومواقعه أرهف من سيفه. على أن طيشي وهذري لم يحوجاه إلى كد الفهم وإعمال النظر، فقد أرسلت هجاءه وهجاء قومه صريحا في «نونيتي» الملعونة التي أقول فيها:
رأيتكم لا يصون العرض جاركم
ولا يدر على مرعاكم اللبن
جزاء كل قريب منكم ملل
وحظ كل محب منكم ضغن
وتغضبون على من نال رفدكم
حتى يعاقبه التنغيص والمنن
أبعد هذا أستطيع أن أمد يدا إلى سيف الدولة، أو أن أنزل له بجوار؟ - أنا كفيل بأن أكبر أمنية لسيف الدولة أن يراك في قصره، وأن يعيد بشعرك عظمة ملكه وصولة سلطانه.
هذا كلام يا ابن يوسف، وهبني أطعتك وذهبت صاغرا إلى سيف الدولة، فكيف أصل إليه إذا لم أمر ببلاد كافور، وأظنه اليوم قد ملأ كل الطرق عيونا علي وأرصادا؟ - فأين تذهب إذا لم تذهب إلى سيف الدولة؟ - والله لا أدري أين أذهب. - هل خطرت ببالك بغداد؟ - بغداد؟ ألا تزال تظنها دار الخلافة، وموئل العربية بعد أن استولى عليها الديلم، واستبد بها معز الدولة؟ إنها لا تجمع اليوم إلا شذاذ الشعراء، وحثالة المسترزقين بالأدب، الذين يغدق عليهم الوزير المهلبي الماجن، ويرسلهم على أعدائه ومنافسيه كما ترسل الكلاب المضراة خلف صيد نافر. على أن حمقي الذي سد علي طريق العودة إلى سيف الدولة قد أوصد الباب بيني وبين بغداد؛ لأنني اندفعت حينما كنت بحضرة سيف الدولة إلى أبيات كلها تعريض بصاحب الأمر ببغداد، فقد قلت أخاطب سيف الدولة:
فدتك ملوك لم تسم مواضيا
فإنك ماضي الشفرتين صقيل
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة
ففي الناس بوقات لها وطبول - ليس في هذا تعريض بمعز الدولة بتاتا، وقد عهد الناس في الشعراء وألفوا منهم أنهم إذا مدحوا ملكا فضلوه على غيره من الملوك، والناس يعرفون هذا، ويعدونه من خصائص الشعر ومنادحه، ويعتقدون أن الشاعر لا يقصد مما يقول إلا المبالغة والإغراق. - أتظن هذا؟ - هذا ما يخطر ببالي كلما قرأت أبياتا من هذا القبيل. - وما قولك في هذين البيتين إذا وقد قلتهما في سياق مدح سيف الدولة؟
فوا عجبا من دائل أنت سيفه
أما يتوقى شفرتي ما تقلدا؟
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه
تصيده الضرغام فيما تصيدا - لا يا أبا الطيب، هذا تحد صريح، وتشهير بمعز الدولة، وتصوير مخز لضعفه، كيف ساغ لك أن تقول مثل هذا؟ وما لك وللديلم؟ - لا أدري، وإنما هو لساني الذي يسوقني إلى المهالك، أرأيت الآن أني لا أستطيع الرحيل إلى بغداد؟ وماذا بقي من أقطار العرب بعد مصر والشام والعراق، وقد تركت في كل منها جريمة شعرية تذودني عنها؟ - بقي الفاطميون بالمغرب. - للفاطميين عقيدة لا أسيغها، ولهم فلسفة لا أفهمها، على أني لا أستطيع الوصول إليهم إلا إذا اخترقت بلاد كافور، فأسقط هؤلاء من الحساب أيضا. - لم تبق إلا فارس ولكني لا أشير بها عليك. - وأنا لا أشير بها على نفسي، وإذا لم يبق أمامي بعد أن يئست من الملوك، وبعد أن سدوا أبوابهم دوني، إلا أمران لا ثالث لهما: إما أن أنزل من القمة التي صعدت إليها بعد جهد وكد، وأعود إلى ما كنت عليه في بداية أمري، فأستجدي بشعري صغار الناس وطغامهم، أمثال محمد بن زريق الذي وصلني على قصيدة بعشرة دراهم، فلما عاتبه صديق في قلة الجائزة مع حسن الشعر وجودته، قال له: «والله ما أدري أكان شعره حسنا أم قبيحا؟ ولكني أزيده لأجل خاطرك عشرة دراهم أخرى». وإما أن أعود إلى الكوفة فأقبع في داري، وأهجر الناس جملة، وأقيم بيني وبين الملوك وأشباه الملوك سدا، فقد كفاني ما لقيت منهم، وكفاهم ما لقوا مني، ولي الآن ثروة تكفل الراحة والنعيم وهناءة العيش. - مثلك لا يعمل الأولى ولا يستطيع الثانية، فلن تمد يدك إلى صغار الناس مستجديا، ولن تقبع في دارك خاملا متزاهدا، إنك الحركة الدائبة يا أبا الطيب، والطموح الوثاب، والهمة الغلابة، والعزم الفصال، إن مثلك لا يقبع في داره إلا إذا قبع الفلك الدوار، ووقف الليل وتعب النهار، وسلبت الأسود غرائزها، والسيوف مقاطعها، والسيول تهدارها، والجبال ركانتها وشموخها، وكيف تهدأ وفي نفسك نار لا تهدأ إلا بالتجوال، وفي صدرك أتون يغلي بمضطرب الآمال؟ وإنك لصادق حقا حينما تقول:
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه
ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلبا بين جنبي ما له
مدى ينتهي بي في مراد أحده
يرى جسمه يكسى شفوفا تربه
فيختار أن يكسى دروعا تهده
وحينما تقول:
فما لي وللدنيا طلابي نجومها
ومسعاي منها في شدوق الأراقم؟
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه
إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
وأن ترد الماء الذي شطره دم
فتسقى إذا لم يسق من لم يزاحم
وحينما تقول:
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
مثلك يا أبا الطيب لا يهدأ في داره كما تهدأ العجائز يغزلن بأيديهن، وينلن بألسنتهن كل عدو وصديق، لا يا أبا الطيب، إنك لو أردت الاستقرار لغلبتك نفسك على الجلبة والصخب والاضطراب والضرب في كل مكان، إن لسانك لسان شاعر، وقلبك قلب ملك، وعقلك عقل حكيم، وعزمك عزم جبار، وهذه إذا اجتمعت ضاقت بها الدنيا وغصت بها الآفاق، فكيف تجمعها دار؟ وكيف تحبسها حيطان؟ - هذا هو الذي يؤلمني يا ابن يوسف، وهذا هو الذي يحز في نفسي، لقد رحلت إلى مصر طامعا في أن أنال من الأسود ولاية ألقي عندها رحال آمالي، وأسكت بها صيحات مطامعي، وأتعلل بها عن مطالبي الضخام، ومقاصدي الجسام، فضاع أملي في العبد وخاب ظني فيه. ولقد كنت على اعتزام الرحيل عنه بعد إقامتي سنتين في كنفه تحقق لي فيهما كذبه ومينه وخداعه، وأنه عبقري في بذل الوعود، نابغة النوابغ في إخلافها. كنت على أهبة الخروج من مصر حينذاك، وكان الخروج منها سهلا، فلم يكن كافور قد تشكك في أمري، ولم يكن الأبله يعتقد أني عرفت طوايا نفسه، وأدركت خبثه ومحاله. ولم يعقني عن الرحيل في ذلك الحين إلا أمران: أولهما: عائشة بنت رشدين، فلقد كانت ملكا كريما فوق هذه الأرض يا ابن يوسف، إنها الطهر المصفى والعفاف النقي، والأدب الساحر والذكاء النادر، والحنان الذي ينضح الهموم ويبدد الآلام. - والجمال الذي لم تر الشمس له مثيلا منذ طلعت الشمس. - والجمال الفاتن يا ابن يوسف، جمال الروح وجمال الجسم وجمال الخلق وجمال الابتسامة المشرقة وجمال الحديث الذي يختلب العقول. إنني رجل جاف خشن الطبع شائك الملمس يا ابن يوسف، لم تترك آمالي الضخام في قلبي مكانا لحب ولا موضعا لصبابة، ولم تهف نفسي إلى عبث الشباب ومجون الشباب، ولقد استقر في نفسي أني سهم صوبه الله إلى غرض هو المجد فيجب ألا يحيد عن المجد، وصارم بتار لم يعرف في يوم من الأيام إلا أن يسل من غمده ثم يعود إلى غمده. ما استهواني يوما جمال ولا اجتذبني دلال، ولا فهمت معنى للحب إلا فيما يقول الشعراء، وأنت أعلم بأكاذيب الشعراء، ولكني أحسست نحو عائشة بميل عنيف كفكفت من غربه، وسخرت منه أول الأمر، ولكنه عاودني أعنف مما كان وأشد حينما التقى بميلها، واتصل حبله بحبلها، ولقد كان حبنا عذريا طاهرا منزها عن دنس الدنيا، بريئا من وصمة الشهوات ساميا فوق الحياة ومآرب الحياة، لقد كان حبا يشبه حب الملائكة الأطهار إن كان الملائكة يحبون. فعائشة هي التي حببت إلي البقاء بمصر، وهي التي أماطت عني اليأس وذادت عني هواجس الهموم، وهي التي كانت تضمد تلك الجراح المسمومة التي تركتها في سهام الأسود بلطف حديثها، وفيض حنانها، وسحر بشاشتها. - إن عائشة بهجة مصر وزينة أترابها، وهي أديبة كاتبة شاعرة، وهي فوق ما وصفت جمالا وعفافا وطهرا، ومثلها جدير بحب رجل مثلك يا أبا الطيب، وما الأمر الثاني الذي حملك على إطالة المقام بالفسطاط؟ - حملني على البقاء بالفسطاط تلك الصلة الوثيقة التي عقدتها مع أبي شجاع فاتك، ولعلي اليوم في حل من أن أذيع سرا لأصدق أصدقائي، فقد انتهى الأمر، ومات فاتك وماتت معه آمالي ودفنت مطامحي. - دفنت مطامحك؟ ماذا تريد بهذا؟ - انتظر يا ابن يوسف، لم تكن الصلة بيني وبين فاتك صلة شاعر بقائد، ولكنها كانت أسمى من ذلك وأعظم شأنا، كان فاتك يبغض كافورا وكان كافور يبغضه ويخشى بطشه ويخاف منه على ملكه، فأراد فاتك أن يبتعد عن الأسود فأقام بالفيوم، وقد اتصلت به في الصحراء بالقرب من «كوم أوشيم» مرات، وكثيرا ما دار الحديث حول كافور وظلمه واغتصابه الملك، وعرف منى فاتك بغضي للأسود وما يضطرب في نفسي من آمال، ولمح شدة عجبي من أن يحكم مصر عبد حبشي والدنيا تزخر بسادات العرب وصناديدهم، وكان رجلا شهما ذكيا محبا للعرب مفتونا بعظمة تاريخهم وجلال ماضيهم، فقال: اسمع يا أبا الطيب فإن لي رأيا يسهل تنفيذه إذا حاطته الحكمة وصانه الكتمان. قلت: هات أيها القائد، فقال: إنني عبد رومي رباني الإخشيد، وليس لي في الملك مطمع ولا في عظمة السلطان أرب، ولكني أبغض الأسود كما تبغضه، وأرى أنه مغتصب ملكا لا يسمو لمثله مثله، وأن غيره أولى به وأحفظ له وأقوى عليه. وابن سيدنا «علي» الذي أمات كافور نفسه، وخنق فيه كل همة، وأطفأ وميض كل فضيلة، أصبح أضعف من ذات خمار، وأوهى من القصبة المرضوضة، لا يصلح أن يكون ملكا، ولا يصلح أن يكون رجلا، ورأيي حينما تسنح الفرصة أن أجمع قبائل العرب الضاربة بالفيوم، وأن أكون منها جيشا لهاما نزحف به على الفسطاط، ونقبض على كافور ونريح الدنيا من اسمه، ثم تكون ولاية مصر شركة بيننا على السواء. ما رأيك يا أبا الطيب؟ فدهشت وبهت وكادت تدركني غشية، لقد كانت مفاجأة عجيبة يا ابن يوسف. أكون ملكا لمصر؟ أنا الذي كان يطمع في ولاية صغيرة من العبد؟ أكون ملكا لمصر، وأدبر الأمر من مصر إلى عدن إلى العراق فأرض الروم فالنوب؟
هذا أشبه بالأحلام، وأدخل في باب الأوهام. إن مطامحي لم تصل بي إلى هذا، ولكن ماذا أعمل والخطة واضحة، والغاية محققة؟ فبلعت ريقي ثم قلت: ولكن لكافور أيها القائد جيشا بالفسطاط شديد المراس يدبره قواد عركتهم المواقع وعجمت عودهم الحروب. فأسرع وقال: إنني سأحتال على الرحيل عن الفيوم بعد أن أكون قد اتفقت مع مشايخ قبائلها، وسوف أقيم بالفسطاط حينا أستطيع فيه إغراء قواد كافور وجنوده، وأكثرهم ساخط عليه متبرم بحكمه. وتم الاتفاق والتعاهد على كل هذا يا ابن يوسف، وبقيت بمصر أنتظر الواقعة التي ليس لوقعتها كاذبة، وقدم فاتك إلى الفسطاط وأخبرني أن المؤامرة تمت على خير الوجوه وأدقها إحكاما، وأنه لم يبق إلا أن يشعل النار في الحطب، ولكن الموت عاجله قبل أن يمد يده إلى الزناد، فخابت آمالي وتمزقت مطامعي وطارت مع الرياح أحلامي. أرأيت يا ابن يوسف كيف كان حزني على فاتك شديدا؟ أرأيت كيف ضاقت بي الحياة بعده؟ أرأيت كيف اجتويت مصر وأهلها وخرجت منها محطم النفس مهيض الجناح؟ - لم أعرف كل هذا، ولكن يظهر أن كافورا كان عنده كثير منه. - نعم فإن جواسيسه يكادون يقرءون ما في الصدور. - إذا كنت تطمع في الملك يا أبا محسد! ولكني لم أر في التاريخ شاعرا أحسن القيام على الملك، وأول هؤلاء امرؤ القيس ذلك الملك الضليل، ثم الوليد بن يزيد الخليفة الأموي، ثم عبد الله بن المعتز العباسي. - هؤلاء كانوا شعراء ولم تكن لهم نفوس الملوك وعزائمهم.
وما كاد المتنبي يتم قولته حتى شاهد هو وصاحبه غبارا خلفهما، وسمعا وقع سنابك خيل تعدو نحوهما عدوا، فذهل المتنبي وصاح أدركنا الأسود! أدركنا كافور! يا لخيبة الرجاء ويا لضيعة الأمل! إن هؤلاء بعض جنوده يا ابن يوسف. كنا ظننا أننا نجونا من أظفار الأسد، فإذا هو يرسل علينا ذئابه! سأثب عليهم وأروي منهم صارمي. فصاح به الخزاعي: اهدأ أبا الطيب ولا تسرع إلى الاحتكام إلى السيف. ومضى وقت قصير، فقرب منهما ثلاثة فرسان قد أجهدوا خيلهم شدا وعنقا، وصاح بهما كبيرهم فوقفا ثم قال في صوت الآمر الظافر: ارجعا إلى الفسطاط. فأجابه الخزاعي في رزانة واستخفاف متكلف: بأمر من نرجع إلى الفسطاط؟ بأمرك أنت؟ - بأمر الوالي. - وماذا يريد منا الوالي؟ - يريد المال الذي سرقتماه أول من أمس من دار إسحاق الجوهري، فقد ثبت لنا أن مسافر بن طلحة هو الذي أغار على دار اليهودي، واستولى على جميع جواهره وبعث بها مع فارسين ليبيعاها بالشام. وقد جعل اليهودي ثلث الجواهر أجرا لمن يردها إليه. فقهقه الخزاعي حتى كادت تسقط عمامته، وقال: لله دركم أيها الحراس! ما أشد ذكاءكم! وما أبصركم باقتناص اللصوص! هل ترون في وجوهنا وفي ثيابنا وفي مراكبنا ما يوحي بأننا من اللصوص؟ إنكم أيها السادة الكرام تضيعون وقتكم معنا، فإذا كانت لكم رغبة حافزة للقبض على لصوصكم، فابحثوا عنهم في مكان آخر. - أنتم طلبة الوالي. فصاح المتنبي: إن الوالي أيها الأبله لا يطلب فارسين وكفى، وإنما يطلب لصين. ثم كشف عباءته فظهر تحتها منطقة من النضار المرصع بالجواهر، وبدا سيفه وقد كان مقبضه ونعله من خالص الذهب، وقال: أهذه ثياب لص؟ أهذه عدة لص؟ فهمس أحد الثلاثة في أذن كبيرهم، وقال: ارجع أبا علي ولا تكثر مع السيدين، فإني أخشى أن يكونا من كبار رجال الدولة.
فتراجع أبو علي، وقال: أرجو أن يعذرني السيدان إذا كنت خشن القول عنيفا في البحث، فأنتما تعرفان ما وصلت إليه حال الفسطاط من جرأة اللصوص واستهانتهم بالحكام.
فقال الخزاعي: لا تثريب عليك يا رجل، وإنما الذي أغضبنا أننا كنا نظن أننا أكرم عند الناس وعند أنفسنا من أن يخلطنا مثلك بطائفة اللصوص. - أسألك العفو يا سيدي، وأغلب ظني أن يكون اللصوص قد سلكوا طريقا أخرى. ثم أمر صاحبيه أن يلويا عناني جواديهما، وعاد ثلاثتهم أدراجهم يملئون جنبات الأفق عثيرا وقتاما. وتنفس الخزاعي الصعداء، وابتسم المتنبي ابتسامة ساخرة، وكانا قد قاربا بلبيس فزجوا جواديهما حتى بلغاها بعد ساعة أو بعض ساعة، ورأيا أبناء الخزاعي ورجاله ومحسدا وعبيده ينتظرونهم عند ظاهر المدينة، فحيا المتنبي ابنه وخادمه مسعودا بنظرة عابرة، ثم شكر الخزاعي على حسن بلائه وعظيم ما أسدى في خدمته من عناء ومخاطرة، فسأله الخزاعي عن الطريق التي سيسلكها، فقال: سأخترق الصحراء، وسأسلك المفاوز المجاهيل التي لا يصل إليها جواسيس العبد، وسأرد المناهل الأواجن، وأنزل المنازل التي لا يطرقها إلا أهلها. - إلى بغداد؟ - إلى الكوفة، إلى منبت عظامي ومسرح صباي. منها خلقناكم وفيها نعيدكم. - ومنها نخرجكم تارة أخرى! - ما أظن يا ابن يوسف. ثم التفت فإذا غلام فاره ناضر العود جميل الزي وسيم الطلعة مشرق الجبين، يتقدم نحوه ويمد يدا لتحيته، فحقق فيه النظر ثم صاح: سيدتي عائشة! ماذا جاء بك يا مولاتي؟ وما الذي حملك على اقتحام المخاطر، واتخاذ هذا الزي الغريب؟ - حملني على كل ذلك أن أراك وأن أودعك يا أبا الطيب، ثم تناثرت الدموع من عينيها كما يتناثر اللؤلؤ من عقد انفصم سمطه، ومضت تقول: إذا جفتك مصر يا أبا الطيب وضاقت بك رحابها، فإن فتاة مصرية معجبة بك مفتونة بفنك تكن لك ودا أصفى من سماء مصر، وتفتح لك قلبا أوسع من فسيحات رحابها. إنها تمنحك حبا لو كان في عاصفة لعادت نسيما، ولو مازج الملح الأجاج لصار تسنيما، ولو لمس الهجير لحسده الأصيل، أو خالط الليل ما شكا طوله محب أو عليل. دعني أحمل أوزار قومي يا أبا الطيب، وأبدلك بعقوقهم إخلاصا، وبغدرهم وفاء، وبإهمالهم إجلالا وتقديرا. لقد كان حبنا قدسيا طاهرا كأنه حب الغمام، وكانت نفوسنا صافية كصفاء الملائكة، وكان ودنا روحانيا نقيا كنقاء لآلئ الفردوس. والآن يا أبا الطيب آن أن نفترق، وقد يطوينا الموت قبل أن نلتقي، ولكني سأراك في كل لحظة وسأستمع لك في شعرك كلما رددت قصائدك الخوالد، وأبياتك الأوابد، وسأناديك في اليقظة والمنام، وسأهتف باسمك كلما عصفت بي الآلام. فزفر المتنبي وربت يدها في حنان ورفق، وقال: إن هذه الحياة يا عائشة أضيق من أن تتسع لمثل حبنا الذي لا تحده نهاية، فإذا ضاقت بنا الأولى فإن لنا في الأخرى خلودا ونعيما وظلا ظليلا وعيشا لا يكدره علينا مكدر.
وما كاد يستمر في الحديث حتى صاح مسعود: الرحيل يا سيدي الرحيل. - هل أعددتم الزاد والماء؟ - نعم يا سيدي. فحيا المتنبي الخزاعي، ثم حيا عائشة حزينا كاسف البال، وهو يقول:
لعينك ما يلقى الفؤاد وما لقى
وللحب ما لم يبق مني وما بقى
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه
ولكن من يبصر جفونك يعشق
ولم أر كالألحاظ يوم رحيلهم
بعثن بكل القتل من كل مشفق
عشية يعدونا عن النظر البكي
وعن لذة التوديع خوف التفرق
مخاطرة
كان الوقت أصيلا، وكان النسيم خائرا ضعيف المنة يمر بأطراف النخيل فيهتز له سعفها في كبر وسخرية، وكانت الشمس ترسل أشعتها صفرا براقة فوق الرمال الواهنة المجهودة، بعد أن طال بها النهار، واشتد قيظه واشتعل هجيره اللواح. وسار مع المتنبي عشرون بعيرا لحمل الزاد والماء، وخمسة عشر جوادا يمتطيها خدمه وعبيده، وقد اكتملت لهم عدتهم من السيوف والرماح، وتقدم المتنبي الركب وخلفه محسد ومسعود، وكان ينظر إلى الأفق البعيد حيران ذاهلا متجهم الوجه حزين النفس، يردد الحسرات، ويرسل الزفرات.
لم يكن حديث عقد بالصحراء وجفوة الصحراء، ولم يكن قليل الخبرة بحياة شذاذ الأعراب وصعاليكهم الضاربين في أنحائها وما لهم من أخلاق وعادات، وما يتصفون به من ختل وتلصص واستباحة للأموال، فإن لصعاليك الصحراء قوانين وشرائع غير ما تعارف عليه الناس من قوانين وشرائع، ومن العجيب أن هذه الشرائع كثيرا ما تكون متضاربة متناقضة، فهم يقتتلون لأوهن سبب، ويصفحون لأوهن سبب، ويغتصبون الأموال حراما ليبعثروها في الكرم والضيافة حلالا، وقد يحمون الجراد ولا يحمون بني الإنسان، فإدراكهم لمعنى الشرف إدراك غريب كثيرا ما يؤدي بهم إلى فعل كل ما يخالف قواعد الشرف.
عرف المتنبي حياة الصحراء وأخلاق الأعراب في طليعة صباه، حينما كان يتنقل بين القبائل في بادية الكوفة ليتلقى اللغة من أفواه رجالها، ثم عرف الصحراء حينما أقام طويلا في بادية السماوة بالشام بين بني كلاب؛ لهذا لم يكن على الصحراء دخيلا، ولم يكن عن عادات الأعراب بعيدا.
سار الركب في هذا البحر المائج الخضم بالرمال، وذلك التيه الذي يضل فيه الخريت ويزوغ البصر، وفي تلك الموماة التي يقول في مثلها أبو الطيب: «يهماء تكذب فيها العين والأذن». وقد طمست الأعلام، وانمحت الصور، وزالت الآثار، ولم يبق إلا أن يعتمد الضارب فيها على الشمس أو بعض نجوم السماء. فضاء فسيح كأنه أمل الأحمق، وأرض مجدبة كأنها كف الشحيح، وصخر أصم كأنه قلب اللئيم، ورمال صفر كأنها بطون الحيات. إنها أرض من الأحلام وجو من الأوهام، جفت فيها الحياة وجفتها الحياة، فلا نبات ولا عشب، ولا شوك ولا قتاد، لا يمر بها طير إلا خائفا عابرا، ولا وحش إلا منطلقا واجفا، كأنها نسيت عند خلق الطين والماء فليس بها أثر للطين ولا قطرة من الماء. تبدو الكثبان بها وسنى مكدودة تمد رؤوسها إلى السماء كأنها تتضرع طالبة الفرار، وتبدو الوهاد بها مظلمة مخيفة كأنها أشداق الأسود. جفوة وشقاء ومحول وجمود وقسوة، ثم صمت ورعب وسكون هو سكون الموت، ووحشة القبور.
سار المتنبي يتقدم ركبه في هذا التيه، ولم يبق في صدره من الآمال الضخام إلا أمل واحد ضئيل خافت هو أن يعيش، هو أن يستطيع أن يخترق هذه الصحراء وفيه ذماء من حياة، هو أن ينجو بجلده من هذا الخطر الداهم والبلاء الواقع، لم يبق من مطامعه أن يكون أميرا أو ملكا، ولم يبق من آماله أن يكبت أعداءه ويدوس بقدمه فوق آنافهم، ولم يبق من وساوس نفسه أن يترك في الدنيا «دويا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر» طارت كل هذه الأحلام أمام عظمة الصحراء ومخاوفها؛ لأن الصحراء كالبحر الهائج المضطرب ترتعد لهوله الحياة، ويتوارى عنده الأمل، وتخشع النفوس.
وبدا القمر موشكا على الاكتمال فلف الصحراء في غلالة من نور، وكان المتنبي فوق صهوة جواده يرمي طرفه هنا وهناك، كما ينظر الصقر من قنته إلى ما حوله من فضاء فسيح، وكان يهمهم بكلمات تقطعها زفرة حينا، وزمجرة أحيانا، فقرب منه محسد، وقال: ألا نحط الرحال هنا يا أبي فقد انتصف الليل وكلت الرواحل؟ - إن سير الليل أروح للعبيد والدواب، وكلما بعدنا عن الفسطاط زال الحذر وسرنا في أمن واطمئنان. - إننا نسير في طريق لم تطأها قدم مسافر، فمن أين ليد كافور أن تمتد إلينا؟ - إنني أشعر بشيء من الراحة كلما بعدت الشقة بيني وبين الأسود؛ لأنني أريد أن أنسى أني رحلت إلى مصر وأني قصدت الأسود، ويخيل إلي أن بين المسافات والفكر اتصالا، وأنه كلما شسعت المسافات بينك وبين شيء قل تفكيرك فيه. - اترك كافورا يا أبي لشأنه، فأنت أعظم وأنبل من أن تحقد على الرجل أو تلقي لمثله بالا. - لن يفلت من يدي هذا الوغد الذي جعل مني أضحوكة للشعراء والأمراء. إن أباك يا محسدا إذا مست كبرياؤه فقد مس منه مكان السم في الأفعى. انقل عني يا محسد وأذع:
وأسود أما القلب منه فضيق
نخيب، وأما بطنه فرحيب
إذا ما عدمت الأصل والعقل والندى
فما لحياة في جنابك طيب - يلوح لي أنك تخفف بهجائه عن نفسك بعض ما تجد. - نعم يا بني إن هجاءه يروح عن نفسي، ولا بد للمصدور أن ينفث، وللحزين أن يرسل الدموع. - حقا لقد أساء إليك، وأغرى بك حثالة الشعراء، ومسترزقة العلماء. كنت منذ شهر أسير بخطة مسجد عبد الله مع الشريف إبراهيم العلوي، فقابلنا الشيخ المعتوه الموسوس محمد بن موسى الذي يلقبونه بسيبويه، وكان على حماره، وهو لا ينزل عنه لأمير أو عظيم، فسلم عليه الشريف، ولما عرفه بي صاح: أنت ابن المتنبي! أهلا أهلا بابن شاعر الغبراء! لله أبوك فإنه يأتي في شعره بالعجب العجاب. بالله سل أباك يا بني عن قوله في كافور:
يقل له القيام على الرءوس
وبذل المكرمات من النفوس
أكان يريد حقا أن يقف للأستاذ على رأسه، وأن يطلق رجليه في الهواء؟ يا له من مبتكر بارع! ويا لها من صورة بديعة! ويا لها من مهارة فائقة لا يستطيع أن يباريه فيها إلا «الأزعر الطمطماني» أعظم مضحك بالمدينة! واجتمع الناس حوله لارتفاع صوته وكثرة إشارته، ثم انطلق يقول: كان أبوك بالأمس خيرا منه اليوم حين قال لأبي الحسين المري:
خير أعضائنا الرءوس ولكن
فضلتها بقصدك الأقدام
ثم هلم إلي يا بني هلم! أللإنس يقول أبوك الشعر أم للجن؟ أيقوله ليفهمه الناس أم ليتمتموا به على رءوس المرضى والمصروعين لطرد المردة والشياطين؟ أشهد أني حللت الطلاسم، وفككت الألغاز، وتعلمت لغة الجن، وقرأت خطوط الفراعنة، ولكني لم أفهم قول أبيك:
لا تجزني بضنى بي بعدها بقر
تجري دموعي مسكوبا بمسكوب
لقد كنا نشمئز من أن يتغزل الشعراء في الغزلان حتى جاء أبوك فتغزل في البقر! ثم إني أتحدى السيد الشريف، وهو ابن أفصح قريش، أن يدلني على معنى لهذا الكلام الخنفشاري! فخجل الشريف، وزاد في خجله ازدحام الناس وانتصار بعض طلاب العلم لشيخهم الموسوس، فقال: إن في البيت خفاء من غير شك، ولكن الشاعر يسأل الله ألا تجزيه الحسان بالضنى الذي حل به ضنى يحل بهن، كما جزين دمعه المسكوب بدمع سكبنه لفراقه. فصاح المجنون: الله الله! سبحان الفتاح العليم! سبحان المنعم المتفضل واهب القوى والقدر! ألا قال كما يقول الناس:
لا قدر الله أن تضنى ضناي بها
كما جزتني مسكوبا بمسكوب
على أن المعنى بعد كل هذا ضئيل سخيف، لو رأيته ملقى على قارعة الطريق ما مددت يدي لالتقاطه. ثم أنحى بعصاه على حماره وهو يصيح: أسرع بنا أيها الحمار قبل أن يفسد ذوقي وذوقك!
وما كاد يتم محسد حديثه حتى زفر المتنبي، وقال في كبر وأنفة: هؤلاء يا بني لا يفهمون معنى الشعر، فإن من أولى خصائصه وأكبر ما يدفع فيه إلى اللذة والاستمتاع، أن يكون خفيا تضطرب في إدراكه العقول.
واستمر الركب يقطع البيداء، يقيل وقت الظهيرة، ويعرس في أخريات الليل، حتى رأى العبيد نخيلات عن بعد فصاحوا في جذل وابتهاج: لقد بلغنا منابت العشب! سنرى بعد قليل الزرع والماء! وسنجد بعد قليل نخلا نلجأ إلى ظلها الظليل! ولقد كانوا في تفاؤلهم صادقين، فقد بلغوا ما يعرف «بنخل» ولكنهم ما كادوا يصلون إليه ويحمدون عاقبة السرى، حتى وجدوا عنده شرذمة من لصوص الأعراب تسقي خيلها، وما إن رأتهم حتى وثبت عليهم تبغي انتهاب ما معهم من خيل وإبل وغنائم، فقاتلهم المتنبي وعبيده وأثخنوا فيهم، فسقط من سقط منهم، وفر الباقون يلتمسون النجاة. وفرح العبيد بانتصارهم، واندفعوا إلى الماء يشربون ويسقون دوابهم ويغمسون رءوسهم فيه حبا له وشوقا إليه، ثم أخذوا يرقصون ويغنون على طريقتهم في الرقص والغناء.
ونزل أبو الطيب بنخل ضيفا على أبي النجم ملاعب الأسنة، وهو كبير الأعراب في هذه الحلة، فأحسن ضيافته، وأكرم مثواه. وبعد أيام نال فيها العبيد شيئا من الراحة أمر المتنبي بالمسير وشد الترحال، فعادت الخيل إلى خبها، والإبل إلى وخيدها، وكان السير مملا مضنيا، والطريق وعرا موحشا، لا ترى فيه العيون إلا هياكل بشرية لقوم قتلهم ظمأ الصحراء، أو إبل قضى عليها طول السفار.
ومضت هكذا أيام وأيام نال فيها طول الطريق وقلة الزاد من العبيد، فضويت أجسامهم، ونفد صبرهم، وشكست أخلاقهم وبدت فيهم روح السخط والتمرد، وكان يسيطر عليهم ويتزعم جماعتهم عبدان، هما : مجاهد وشعلان، وكانا أقواهم نفسا، وأشدهم عزما، وأمضاهم ذكاء وتدبيرا، وأمهرهم لعبا بسيف أو تحكما في جواد.
وأحسن المتنبي بوادر هذا العصيان، فأمر ابنه ومسعودا أن يراقبا العبيد عندما يخلون إلى أنفسهم.
واجتمع العبيد في معرسهم ذات ليلة، وأخذوا يشكون ويتذمرون، وكان مسعود مختفيا خلف بعير يسمع ولا تراه عين، فقال مجاهد: إن هذا المتنبي الأخرق يسوقنا إلى الدمار. فأجابه شعلان: لقد ضل الطريق ما في ذلك شك، ولن تكون نهايتنا إلا مثل تلك العظام التي نراها في الطريق، والتي كان لها لحوم فأكلتها الصحراء، والعجيب أنني كلما نصحت لعبده مسعود أن ننيخ الإبل للراحة، وأن نبحث عن دليل يرشدنا إلى مكان ينقذنا من هذا التيه، ونجد فيه ما تقتات به الدواب، عبس في وجهي وقال في تيه وصلف: أتظن أنك أعلم من سيدي بمجاهل الصحراء ومناهلها؟ إنك لو نبست بشيء من هذا الكلام أمامه لجعلك طعاما لسيفه. فزمجر العبيد في سخط واستنكار وهمسوا: ماذا نفعل إذا ونحن أمام موت محقق؟ فقال مجاهد: يجب أن نثور ونحن والحمد لله جمع يبلغ الخمسة والثلاثين، ولا نعجز عن أن نقتله ونقتل ابنه وعبده. فقال أحد العبيد في صوت خافت: ثم نأخذ جميع ما جمعه من أموال مصر وكنوزها، فقال مجاهد: وماذا تنفع الكنوز في هذه الصحراء الجرداء الماحلة؟ فأجاب شعلان: إني أعرف طريق العودة إلى نخل. - إذا تكون الثورة غدا حينما يأمرنا هذا المخاطر المجنون بالرحيل.
وسكت القوم وهومت رءوسهم للنوم، وانطلق مسعود إلى سيده فنفض إليه جملة الخبر، فأطرق المتنبي طويلا ثم رفع رأسه، وقال: سنذهب معا حينما يسيطر النوم على هؤلاء الكلاب ونستولي على ما نستطيع من سيوفهم، فإن العقرب لا تلسع إذا قطعت حمتها. اذهب عني الآن يا مسعود وأيقظ محسدا وسأكون معكما بعد قليل.
ومر من الليل ساعة، فغادر المتنبي رحله وقابل ابنه ومسعودا، وانسلوا تحت ستار الظلام إلى معرس العبيد فرأوهم نياما، وقد ألقى كل سائف منهم سيفه إلى جنبه، فمشوا بينهم في هدوء لا يسمع له ركز ولا تحس نأمة، وندلوا سيوفهم واحدا بعد واحد. والعبيد في سبات كاد يجعله السغب والكلال موتا. وتبلج ضوء الصباح، وتيقظ العبيد فتفقدوا سيوفهم فلم يجدوها فذعروا أول الأمر، ثم عرفوا أن المتنبي شعر بمكيدتهم فسلبهم سلاحهم وهم رقود، فقال مجاهد: لقد سرق سيدنا الأحمق أسلحتنا ونحن نيام، ولكن هذا لن ينجيه من أيدينا، إن بضعة رجال منا يكفون للقبض عليه، ولو كان متسلحا بسيوف الهند كلها. هلموا إلى الثورة أيها الشجعان!
فقام العبيد وكان المتنبي قد أخذ لهم الأهبة، فما كادوا يصلون إليه وإلى من معه حتى أركضوا فيهم جيادهم، وأخذوا يضربون بالسيوف يمينا وشمالا، فبهت العبيد وذعروا وتملكهم الوهل، وفر بعضهم، وقبض أبو الطيب على مجاهد وشعلان وبعض الثوار، وأمر أن يقيدوا وأن يضربوا بالسياط حتى تتهرأ أجسادهم، وتضرع له العبيد وتذللوا وأعلنوا التوبة، وشفع فيهم محسد فأطلقهم فانكبوا على يديه يقبلونها خاضعين آسفين.
ولم تمض أيام حتى بلغ المتنبي «حسمى» وهي أرض طيبة كثيرة الماء تحيط بها الجبال الشامخة، وينبت بها كثير من النبات والفاكهة، فنزل بها القوم بعد أن نهكتهم الصحراء وشفهم طول السفر وبعد الطريق. وكان بنو فزارة يخيمون بحسمى، وكان لأبي الطيب صلة قديمة بأميرهم حسان بن حكمة، فنزل على جار له حتى لا يجر على صديقه غضب كافور إذا علم بنزوله عنده، وكان هذا الجار يدعى «وردان بن ربيعة الطائي» وكان لئيما خسيس الطبع جشعا خائنا، فما كاد يرى حمول المتنبي وذخائره حتى وسوس إليه الجشع أن ينتهب منها ما يستطيع، وبأي وسيلة يستطيع، فأظهر الحب والمودة لعبيد أبي الطيب، وكان يدعوهم إلى خبائه ويدفع زوجه وكانت ذات ملاحة إلى مجالستهم ومجاملتهم وإغرائهم، وتمكن بهذه الذرائع الخبيثة من دفع العبيد إلى استراق كثير من أموال المتنبي وأمتعته، وكان للمتنبي سيف مقبضه ونعله من الذهب الخالص، فطمع فيه وردان وزين لشعلان سرقته، فتربص ذات ليلة حتى علم أن القوم أدركهم النعاس، ومشى في رفق وحذر ثم استرق السيف من الرحل، ودفعه إلى مجاهد وأمره أن يركب ويسرع إلى وردان، ثم هم بأن يسرق فرس المتنبي ليفر به، ولكن المتنبي رآه وهو يحاول حل رسن الفرس فزجره فلم يزدجر وبدا في وجهه الغدر والعناد، فضرب وجهه بالسيف فشطره شطرين، وخر العبد صريعا، فقال:
لئن تك طيئ كانت لئاما
فألأمها ربيعة أو بنوه
مررنا منه في حسمى بعبد
يمج اللؤم منخره وفوه
أشذ بعرسه عني عبيدي
فأتلفهم ومالي أتلفوه
فإن شقيت بأيديهم جيادي
لقد شقيت بمنصلي الوجوه
وأسرع المتنبي بالرحيل عن حسمى بعد أن أقام بها شهرا، وزادت وساوسه واضطربت نفسه حينما اطلع على كتاب لكافور يطلع فيه إلى رؤساء القبائل النازلين بالصحراء القبض عليه، وإرساله إلى الفسطاط مكبلا، بعد أن أغراهم بالعطاء الجم والمال الكثير.
وكانت للمتنبي ثقة بفتى من بني فزارة يسمى «فليتة بن محمد»، فسأله أن يصحبه في الطريق، وأن ينحرف به عن المسالك التي يطرقها العاوون وراءه المتعقبون لأثره.
وانطلق الركب بين الحذر والوجل، وأرسل المتنبي نظره إلى نواحي الأفق البعيد خائفا مذعورا، «إذا رأى غير شيء ظنه رجلا» كما يقول، وما مر بالقوم يومان حتى صاح فليته ذات صباح، وكان مطرح النظر، يرى بعيني زرقاء اليمامة: إني أرى عن بعد سربا من الخيل يسير إلى جانب الجبل، وأحسب فرسانه من أعوان كافور، فمد المتنبي عنقه، وحدق بعينيه وقال: صدقت يا ابن محمد. يجب أن نختفي جميعا وراء هذه الأكمة وهي منا جد قريب. ومال بجواده نحوها فسار خلفه العبيد وهم لا يعلمون من الأمر شيئا، ووقف هو ومن معه خلف الأكمة ساعتين أو أكثر، ثم أرسل مسعودا ليكشف له أمر الفرسان فلم يجد لهم أثرا. فقال فليته: أغلب الظن أنهم عادوا من حيث أتوا بعد أن يئسوا من الطلب. وزفر المتنبي وقال: ألا يزال هذا الأسود يطلبني ويسأل عني كل رملة من رمال الصحراء؟ تعس العبد. والله لن ينال مني ظلا.
قطعت بسيري كل يهماء مفزع
وجبت بخيلي كل بيداء بلقع
وثلمت سيفي في رءوس وأدرع
وحطمت رمحي في نحور وأضلع
وفارقت مصرا والأسيود عينه
حذار مسيري تستهل بأدمع
ألم يفهم الأفعى مقالي وأنني
أفارق من أقلي بقلب مشيع؟
ولا أرعوي إلا إلى من يودني
ولا يطبيني منزل غير ممرع
أبا النتن، قد قيدتني بمواعد
مخافة نظم للفؤاد مروع
وقدرت من فرط الجهالة أنني
أقيم على كذب رصيف مصنع
وأترك سيف الدولة الملك الرضا
كريم المحيا أروعا وابن أروع
فتى بحره عذب، ومقصده غنى
ومرتع مرعى جوده خير مرتع
ورحل القوم بعد أن هدأت أنفاس دوابهم، فواصلوا السير حتى وردوا «البويرة» بعد ثلاث ليال، فأقاموا بها يومين ثم رحلوا عنها يغذون السير ويطوون المراحل إلى أن نزلوا «بسيطة»، وهي أرض تقرب من الكوفة، فانزاح الهم قليلا عن صدر أبي الطيب، وابتهج العبيد بقرب انتهاء الصحراء، وأخذوا يرقصون وينغمون أصواتا يظنونها غناء وتطريبا، وقد زاغت أبصارهم من وهج الصحراء وشدة قيظها، فرأى بعضهم نعامة فظنها نخلة، ورأى ثورا فظنه منارة مسجد.
ثم أمر أبو الطيب بشد الرحال فانطلق الركب، وما زال ينتقل من حلة إلى حلة، ومن منهل إلى منهل، حتى بدت له معالم الكوفة بمآذنها وقبابها، فكبر القوم وهللوا، وصاح محسد: هذه هي الكوفة! هنا ولد أعظم شاعر! هنا ولد شاعر العرب الذي تفتحت له سماوات الوحي، وتدانت له قطوف الإلهام! لقد قهرنا الصحراء وأذللنا صعابها وشققنا منها قلبا لم يشقه منسم ولا حافر، وألقينا على كافور درسا لن ينساه، وعلمناه أن أظافره وإن طالت لم تمس للبطل العربي الهمام شسعا!
ودخل المتنبي الكوفة بعد أن قضى في الصحراء ثلاثة أشهر، وبعد أن نجا من أهوالها كمن ينجو من ماضغي أسد، أو يقذف به اليم إلى الساحل بعد صراع عنيف. دخل الكوفة شامخ الرأي تياها، وهو يقول:
ألا كل ماشية الخيزلي
فدى كل ماشية الهيدبي
ضربت بها التيه ضرب القما
ر إما لهذا وإما لذا
لتعلم مصر ومن بالعراق
ومن بالعواصم أني الفتى!
وأني وفيت، وأني أبيت
وأني عتوت على من عتا
وماذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكى؟
بها نبطي من أهل السواد
يدرس أنساب أهل الفلا
وأسود مشفره نصفه
يقال له: أنت بدر الدجى
ومن جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى
ركود
كانت الكوفة في ذلك الحين لا تزال مستبحرة العمران كثيرة السكان واسعة الرقعة، بها نحو خمسين ألف دار من ربيعة ومضر،. ونحو أربع وعشرين ألف دار لبقية القبائل العدنانية، وستة آلاف دار للقبائل اليمنية، وبها كثير من العلويين الذين اتخذوها موئلا أيام الدولة الأموية لكثرة أنصارهم بالعراق، وللفرار بأنفسهم من موجات الظلم والاضطهاد.
وكان المسجد الذي بناه علي بن أبي طالب لا يزال ماثلا بعد أن جدد بناءه، وأقام ما انهار منه يوسف بن عمر عامل هشام بن عبد الملك على العراق، وكان هذا المسجد روضة العلماء والأدباء والمحدثين، ومباءة طلاب العلم والأدب، وهو المسجد الذي تلقى فيه أبو الطيب في طليعة صباه علوم الأدب واللغة، وفيه كان يجلس إلى الناشئ الأصغر الشاعر، ويكتب عنه ما يمليه من شعره على الطلاب.
وكان يحكم الكوفة حين عاد إليها أبو الطيب وال من قبل معز الدولة له ميل إلى الأدب والشعر، وحب للعلم والعلماء، ولكنه كان شديد الحرص على منصبه، كثير الخوف والوساوس من كل ما يؤدي إلى سخط بغداد، أو يجر عليه مصيبة العزل التي أصبحت شبحا مخيفا يساوره في اليقظة والمنام.
بلغ أبو الطيب الكوفة بعد رحلته المضنية القاسية الجريئة، فاتجه نحو داره وكانت بمحلة العلويين بالقرب من المسجد الجامع، فمشى في طرق اشتبهت عليه منافذها، ولقي أناسا ليس له بهم عهد، فقد غاب عن الكوفة وعن أهلها أكثر من ثلاثين عاما، مات فيها أقوام وولد أقوام، وتهدمت معالم وقامت معالم، وليس ببعيد أن يكون قد مر بباله وهو يتطلع يمينا وشمالا في دهشة وعجب، ذلك الرجل الذي بعثه إخوانه من أهل الكهف بعد أن لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا؛ لينظر لهم أيها أزكى طعاما وليأتيهم برزق منه.
كان ينظر فإذا الفناء الرحيب الذي كان يلعب فيه مع أترابه أصبح دورا ومتاجر، وإذا القصر الذي كان آهلا بسكانه عامرا بأسباب الغنى والسؤدد مائجا بعبيده وجواريه أصبح طللا دارسا وربعا محيلا، وإذا الشجرة التي كانت لا تتجاوز قامته حينما كان يمر بها وهو ذاهب إلى المكتب، أصبحت دوحة باسقة ممتدة الأفنان. كل شيء تغير، وكل مظهر تبدل، والزمن كفيل بأن يغير كل شيء، «ومن ذا الذي يا عز لا يتغير؟» إنه هو نفسه تغير، فليس هو الآن ذلك الطفل المرح الوثاب الذي يسره كل شيء، ويضحكه كل شيء. أين هو الآن من ذلك الطفل بعد أن فارقه ثلاثين عاما ثم عاد إليه بنفس جديدة، وخلق جديد؟ إنه الآن لا يقنع بما دون الملك، ولا يرضى بأقل من اقتناص البزاة إذا اصطاد غيره البغاث والرخم، ولا يهدأ إلا إذا حلق في السماء ورأى الناس تحته كأنهم ذباب أو نمال، إنه الآن يقول:
وما تسع الأزمان علمي بأمرها
وما تحسن الأيام تكتب ما أملي
إنه الشاعر الطموح، والشارد الجموح، والصخرة النطوح.
إنه هو الذي ازدهى على الأمراء وتحكم فيهم ثم هجاهم، وهو الذي تزلف إليه العظماء فازدراهم، وسمت إليه عيون الشعراء فبهرهم وأخرسهم، وحاول علماء الأدب واللغة أن يجروا معه في شوط فبزهم وأخمد أنفاسهم. إنه الفارس المغوار، والبطل الكرار، الذي تحدى الصحراء وأرغم أنف البيداء، وصارع الموت وأفنى الفناء.
يحاذرني حتفي كأني حتفه
وتنكرني الأفعى فيقتلها سمي
هذه هي نفس أبي الطيب حينما عاد إلى الكوفة. وهذه بعض خواطره التي كانت تضطرب في صدره.
بلغ المتنبي داره فطرق ابنه الباب فأسرع «مفلح» إلى فتحه، ودخل أبو الطيب ومحسد وبعض عبيده، فصاح محسد: أين أمي؟ فأطلت من أعلى السلم امرأة في نحو السابعة والثلاثين، لا تزال تزهى بريان شبابها، وتدل بنضرة عودها، وكان في وجهها نبل واستسلام وثقة، وفي نظراتها حيرة وذهول ودهشة. وهي من أسرة عريقة بالشام فتن بها المتنبي وفتنت به، وكانت تشبهه في قوة الجلد وبعد الهمة ومضاء العزيمة.
لم تكد الأم تسمع صوت محسد حتى أسرعت إليه، فوثبت فوق درجات السلم وثبا، ثم مدت ذراعيها في شوق وحنان فطوته إلى صدرها وهي تغمغم: وهكذا يا ولدي يلتقي الشتيتان وإن طال الزمان. ويعود القارظان بعد قنوط وإياس. ثم ألقت على جبينه قبلة فيها كل معاني الحب والشوق، واتجهت نحو المتنبي في إجلال وشغف فعانقته عناق المحب الواله المهجور، ثم قالت: الحمد لله على سلامتك يا سيدي. لقد طالت الغيبة وانقطعت الرسائل منذ بعثت بي إلى هنا، ورحلت وحدك إلى مصر، ولقد كادت الوساوس تعبث في لولا ما كان يملأ المدينة من أخبارك بين الحين والحين، فإنك يا سيدي ما كنت تنشد قصيدة بمصر حتى تطير إلينا أبياتها بعد قليل. ما لي أرى سيدي مضنى هزيلا؟ - لقد لوحتني الصحراء يا فاطمة، وكان القيظ شديدا والسير مجهدا والطريق وعرا كثير المخاطر، ولكن شوقي إليك هون علي كل شيء. كيف الحال؟ وكيف قضيت هذه السنوات الخمس؟ - بخير يا سيدي، ولقد كان لسيدتي زينب زوج الشريف الحسن بن عمر العلوي الفضل الأكبر في إزالة وحشتي، فإنها كانت تكثر من زيارتي وتنقل لي عن زوجها أخبارك بمصر، ومنذ شهر وصلت قصيدتك التي هجوت بها عبد الإخشيد، وكانت سمر الناس وحديث الأدباء، ولقد علمت منذ أيام بقرب قدومك إلى الكوفة، فقد أرسل إلينا الوالي أحد أعوانه ليتحقق من عودتك، فلما أخبره مفلح بأنك لا تزال غائبا أسر إليه بأنك خرجت من مصر منذ أشهر، وأن معز الدولة بعث إلى الوالي طلبا منه استقصاء خبرك. فأطرق المتنبي مفكرا ثم رفع رأسه، وقال: معز الدولة الديلمي الغاشم مقطوع اليد اليسرى يسأل عني؟ ما هذا النحس الذي يلاحقني؟ أأفر من الأسود الماكر في مصر ليطاردني بأمثال هؤلاء. لن أقول من الآن شعرا، ولن يظفر مني أمثال هؤلاء المناكيد ببيت واحد. ثم لمح على الحائط بيتا من الشعر كان كتبه بخطه وهو في العاشرة فقرأ:
وإلا تمت تحت السيوف مكرما
تمت وتلاق الذل غير مكرم
فأخذته رعدة، وطافت بنفسه ذكريات وأحلام وصاح: نعم، إنني خلقت فارسا قبل أن أخلق شاعرا، وقد ألقيت عناني للشعر طويلا، فأحلني دار الهوان وزحزحني عن قمة المجد وسأسكت اليوم شعري ليتكلم سيفي:
من اقتضى بسوى الهندي حاجته
أجاب كل سؤال عن هل بلم
ثم قام فخلع ثيابه واستلقى على فراشه شاخص العينين شارد الفكر مضطربا، فقد كانت تطول بذهنه أطياف من الماضي القريب والبعيد، وصور من الحوادث، وتهاويل من الآمال والأحلام التي ذهبت بددا وآضت حطاما. مرت به أيام صباه، وما كان فيها من أمل مكبوت كالزهرة المنطوية في كمها، والناء المخبوءة تحت رمادها، ومرت به أيام رحلته إلى دمشق في طلب العلم والأدب وهو بعد غلام لم يطر شاربه، وما قاسى في تلك الملاوة من فقر وضنك وسغب، ومرت به أيام استجدائه بالشعر ذليلا متصاغرا ينتقل على قدميه من بلد إلى بلد. ويمدح من هو بالصفع أجدر منه بالمديح، وينثر الدر فوق رءوس الخنازير، ثم مرت به أيام حلب وأيام سيف الدولة حين بلغ القمة ووصل بعد طول الكد إلى الغاية، فاختلج فؤاده وهاجت بلابله، وطافت بوجهه سحابة حزن غائمة، وضرب كفا على كف، فقد كان ينبغي ألا يفارق سيف الدولة، وكان ينبغي أن يصل حظه بحظه في ميزان القدر، ثم مرت أيام كافور وما كان فيها من آمال طارت قبل أن ينبت لها جناح، ودفنت قبل أن تلمح نور الحياة، ثم دار فكره دورة سريعة نحو ما يستقبله من أيام وأحوال، وما ينتظره من أحداث وخطوب، هذا معز الدولة يسأل عني. لقد علم بفراري من مصر. ماذا يريد مني؟ إنه رجل خبيث ماكر منتقم، ووزيره المهلبي شر منه وأشد نكرا، إنني سأطوي صحائف الشعر، لقد نلت من جرائه ما كفاني، سأقيم في داري، وسأنكب على دراسة الأدب واللغة، ولن يدوي لأبي الطيب بعد اليوم في الآفاق صوت، ولن يشعر أحد بمكانه. لقد نال من الشهرة والمال فوق ما تطمح إليه الشهرة، ويصبو إليه حب المال، ولكن تلك النفس النزوع لا تطيعني، وهذه الروح الوثابة لا ترضى بالسكون كأنها الطائر القلق لا يستقر في وكن ، إنني خلقت من عصف الرياح وهدير السيول وقعقعة الرعود، فلن أستطيع أن أجلس هادئا في عقر داري ألفن هذا بيتا من الشعر، وأصحح لهذا كلمة في اللغة. لم أولد وفي يدي مغزل، ولكني ولدت وفي يدي سيف بتار. لست ممن يجلس في شمس الشتاء، ويستظل من لفحات الهجير بدوحة أو جدار.
طوال الردينيات يقصفها دمي
وبيض السريجيات يقطعها لحمي
لا. لا. لن أستطيع الفرار، ولن أستطيع أن أثبت وأدع العالم يموج ويتحرك، ولن أستطيع أن أدع الفلك يدور دون أن يتحدث باسمي ويملأ الأسماع بمحامدي، ولن أطيق أن أرى الأرض تقسم دولها بين منتفخي البطون وأنا واقف أنظر إليهم غرثان ظامئا. كان لي أمل في كافور، وكان لي آمال في فاتك، ولكن هيهات. هيهات. ذهب كل شيء. ولم يبق إلا أن أكتفي من الغاية بما يقرب من الغاية، وإذا فاتني الملك فلن تفوتني المنزلة الرفيعة بين ملوك الأرض، ولن يفوتني أن يعدني الناس ملكا من غير صولجان. أما أن أقبع في داري فليس إلى ذلك من سبيل. ولكن كيف أتقي خطر مطامحي؟ وكيف أتجنب ما تجره مصاحبة كبار الساسة من ويلات؟ يجب أن أحذر. ويجب أن أتعلم من تجاربي. ويجب أن أبتعد قليلا حتى أصون لنفسي كرامتها وعزها، وحتى يطلبني الملوك ولا أطلبهم، وحتى أتخلص من وصمة الشاعر المستجدي الذي يطرق كل باب ويجلس على كل خوان. هذا هو الذي يجب أن يكون، الأمر لله من قبل ومن بعد. ثم أخذته سنة فنام.
وشاع خبر وصول المتنبي إلى الكوفة فتنقل في كل دار، ورف فوق كل سامر، وردده كل لسان، فكانت المرأة تنظر من نافذة دارها وتصيح بجارتها قائلة: أعلمت أن ابن الحسين قد وصل إلى الكوفة بالأمس؟ - لقد أخبرني بذلك أبو محمد فيا له من خبر غريب. إن زوجه كانت من الصابرات حقا، ولعلها اليوم أسعد امرأة بالكوفة. - كانت جدته تتمنى هذا اليوم، فقد كانت وهي على فراش الموت تتلهف للقائه، وتلثم آخر رسالة بعث بها إليها، وكان لسانها يتلعثم بترديد اسمه حتى ماتت.
ودخل طالب مسجد الكوفة في الصباح، وكان يزخر بالعلماء والطلاب فرفع صوته قائلا: أيها الطلاب لقد عاد بالأمس أبو الطيب المتنبي إلى وطنه. فصاح أحدهم: أهلا أهلا بشاعر العرب، إن المتنبي مجد الكوفة ومجد العروبة، لقد كنا بالأمس نتذاكر قوله:
وإني لنجم تهتدي صحبتي به
إذا حال من دون النجوم سحاب
غني عن الأوطان لا يستفزني
إلى بلد سافرت عنه إياب
فقال أحد الشيوخ: لقد أنذرنا أبو الطيب بأنه لن يعود إلى الكوفة. ولكن الله كذب ظنه وعاد المتنبي ليملأ آفاقنا تغريدا.
والتقى في سوق الوراقين الحسن العلوي بحماد الوراق فحياه وسأله: أبلغك وصول أبي الطيب إلى الكوفة بالأمس؟ - بلغني يا سيدي؟ إن الخبر ملأ المدينة، إن صبيان المكاتب يترنمون بأهازيج الترحيب به. - أظنك تعرفه وهو غلام؟ - أعرفه يا سيدي! لقد كان يتردد على دكاني كل يوم، ولكني لم أكسب منه درهما، كان يتناول الكتاب ويجلس على هذه الدكة، فإذا مرت ساعة أو نحوها أعطانيه لأضعه في مكانه، فإذا طلبت منه أن يشتريه. أخبرني بأنه حفظه عن ظهر قلب من الدفة إلى الدفة.
وأقبل لزيارة المتنبي كبار العلماء والأدباء في المدينة، وتوافد عليه الطلاب يسألونه ويقيدون عنه ما يلي، وكان يجلس على كرسي ضخم في صدر القاعة وبجانبه محسد، وقد وقف عند الباب عبده مفلح، وكان بين زواره الشريف الحسن العلوي وابنه الحسين، وكان فتى في العشرين وسيم الطلعة حسن الحديث حاضر البديهة، فقال العلوي: لقد كانت الكوفة تتشوق إلى قدومك يا أبا الطيب بعد أن تراجع مجدها، وكادت تذوي أفنان الأدب والشعر فيها. - إننا رأينا ما رأينا من ملوك وأمم وممالك، فعرفنا أن كل شيء في هذه الدنيا هباء، وأن آمال المرء فيها هواء. - لقد نلت في هذه الرحلة ما لم ينله شاعر، وبلغت منزلة تتقطع دونها أعناق الآمال. - وماذا حصلت عليه بعد ذلك يا ابن الرسول؟ لا شيء إلا أني عدت إلى داري في الكوفة أحمل فوق كتفي أثقال السنين، بعد أن خرجت منها يافعا ريان الشباب. - خرجت سنة تسع عشرة وثلثمائة فارا من القرامطة؟ - نعم يا سيدي، فلقد كان القرامطة بلاء على الكوفة وعلى العراق كله. - لقد دمروا وأحرقوا كثيرا من الدور والمساجد، وكم نهبوا وسلبوا وفعلوا الأفاعيل. - وكنت في ذلك الحين شاديا في الشعر فنظمت قصيدة أهجو فيها زعيمهم أبا طاهر فبلغه خبرها فأهدر دمي، فخرجت فارا مع أبي في حماية الليل وستاره حتى بلغنا بغداد، فلم أقم بها طويلا حتى ودعت أبي واتخذت طريقي إلى شمالي الشام. - وقد مضى منذ ذلك الحين أكثر من ثلاثين عاما، ولا يزال هؤلاء القرامطة يعيثون بالفساد حول الكوفة، إنهم قوم فجرة يستحلون كل شيء، ولا يخضعون لحاكم، ولا يرجعون إلى شرع. وبينما هما في الحديث إذ دخل مفلح ينبئ المتنبي بقدوم الوالي، فهنأه بسلامة قدومه ورد المتنبي تحيته بتحية امتزج فيها الإجلال بتواضع الكبراء، وذهب الحديث مذاهب شتى، وجاء ذكر سيف الدولة وكافور فقال الوالي: لقد كانت تصل إلينا قصائدك في الأسود، فكنا نقرؤها وتطرب لها من جهة أنها شعر، لا من وجهة أنها قيلت في كافور. ويعجبني فيك يا أبا الطيب أنك لا تصرف القصيدة كلها إلى ممدوحك كما تفعل جمهرة الشعراء، ولكنك تتصدق عليه بأبيات قليلة، ثم تتجه في بقية القصيدة إلى الحكمة العالية وخوالج النفوس وما يجيش به صدرك من همم وعزائم، ولقد أحزنني حقا أن تقول في كافور:
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه
لعوقه شيء عن الدوران
هذا بيت لم تتفتح عن مثله شفة شاعر منذ عرفت الأوزان وقيلت الأشعار. وكان من مصائب القدر أن يبقى دره مخزونا في أطواء الزمان حتى ينثر على الأسود الحبشي. ما أجل المعنى، وما أروع اللفظ، وما أبعد الخيال. وأبدع ما في البيت كله كلمة «شيء» هذه. فما أحلى هذا التنكير وهذا التجهيل الذي تضمنته. كان مولانا معز الدولة أحق بهذا البيت وأجدر. فهو زند الخلافة وعضدها، وحامي حمى المسلمين، ومعلي كلمة الدين، والملك الذي له من القوة والسلطان ما يصح أن يقال فيه مثل هذا الكلام. أذاهب أنت إلى بغداد يا أبا الطيب بعد أن تستريح قليلا بالكوفة؟ - إنني سأستريح طويلا يا سيدي، وسيستريح معي شعري. - لا. إن شعرك لا يستريح، إن الطائر لا يستطيع إلا أن يغرد، والمسك لا يملك إلا أن يفوح. قل لي بالله متى تذهب إلى بغداد حتى أكتب إلى مولاي معز الدولة؟ لقد كتبت اليوم رسالة إلى الوزير المهلبي أخبره فيها بقدومك، وأكبر الظن أنه لن يدعك تستريح يا أبا الطيب. إن الناس يطمعون في أدبك وشعرك، لقد رفعت سيف الدولة إلى القمة، وملأت الدنيا بمديح كافور ثم بهجائه، وأظنك لا تبخل على الخلافة ورجالها ببعض ما نثرته على تابعيها من الأمراء. - سأنظر في هذا يا سيدي، ولكني الآن أوثر الهدوء والاستقرار بعد أن طوحت بي الطوائح. - لست ملكا لنفسك يا أبا محسد، وإنما أنت ملك العرب وملك الخلافة، وكان يجب على ابن العراق ألا يشيد إلا بمجد العراق. خلصني بالله يا أبا الطيب، فقد ينالني لوم من دار الخلافة إذا لم تسرع إليها. - لا لوم ولا تثريب يا سيدي، والأمور مرهونة بأوقاتها. وانقض المجلس، وتوالت الأيام وتوالت المجالس، وفي كل يوم يزيد أبو الطيب سأما وتبرما. إنه لا يستطيع أن يعيش كما يعيش الناس، لقد عاد إلى ديوان شعره فرتبه وكتبه وأسقط منه ما أراد أن يسقط وزاد فيه ما راق له أن يزيد، وانتهى الديوان، وعادت الحياة إلى ركودها. ورأى أن يتخذ الصيد مسلاة فما مرت أيام، حتى ضجر بالصيد ومل الركوب، ورجاه صديقه الحسن العلوي أن يمدح بني هاشم بقصيدة فسقط القلم من بين أنامله ولم يستطع أن يخط حرفا، ماذا جرى له؟ وما هذا الحنين إلى الغربة والانتقال؟ إنه اليوم بين أهله وولده يعيش في أرغد عيش وأرفه حال، فما هذا الضجر الذي ينتابه في كل حين؟ وما هذا النزوع إلى القلق والاضطراب في الأرض؟ إن من الناس من تتبعهم الراحة ويضنيهم طول الجمام، يجب أن يرحل عن الكوفة، ويجب ألا يحصره وطن، إن العباقرة لا وطن لهم أو إن وطنهم الأرض كلها. ولكن أين يذهب؟ لقد رجاه صديقه علي بن حمزة في أن يزوره ببغداد، ولقد توالت كتبه وتتابعت رسائله، وكان في هذه الرسائل ملحا ملحفا، فهو لا يريد أن يدفن أبو الطيب نفسه حيا بين عجائز الكوفة وشيوخها، وهو يضن بهذه الجذوة المتوقدة أن تخمد، وبهذا النبوغ النادر أن ينطفئ، وبهذا الشعر الرائع أن يجبل. ويقول: أن بغداد تتشوف إلى لقائه، وتمد أعناقها لترقبه من الخليفة ومعز الدولة والوزير المهلبي إلى صغار المتأدبين. فلم لا يذهب إلى بغداد؟ ولم لا يعلم دعاة الشعر فيها أن الشعر شيء غير نظم الكلام؟ ولم لا يلوح بشعره لمعز الدولة أو للمهلبي حتى يأتيا إليه حبوا؟ ولم لا يضرب من كانوا يتيهون عليه ويخدعونه كسيف الدولة وكافور ضربة قاصمة بما يناله من الحظوة وعظيم المنزلة عند معز الدولة؟ ولم يستبعد أن ينال من معز الدولة ما تصبو إليه نفسه من الولايات إذا أحسن التأتي وأتقن الخداع، وعرف الطريق إلى نفسه؟ يجب أن يذهب إلى بغداد غدا. نعم غدا يرحل إلى بغداد. ويفيق المتنبي من هذه الغمرات فيسمع صوته وهو ينادي محسدا، ويقبل محسد فيبتدره قائلا: قل لمفلح يعد الخيل والإبل فسنرحل غدا إلى بغداد. وتدخل فاطمة وعلى وجهها مسحة من الحزن لهول ما علمت من وشك رحيله، وتقول: أتطول هذه الرحلة يا سيدي؟ - لا أدري يا فاطمة، ولكني لن أتركك وحدك هذه المرة، فإذا اطمأن بي المقام ببغداد أرسلت مفلحا لإحضارك.
وجاء الغد وأعدت الركائب في الصباح، ووقف المتنبي وفي وجهه لمحات يختلط فيها اليأس بالأمل، فقبل زوجه ثم صاح في وديعة الله. وامتطى جواده وهو يردد:
ليس التعلل بالآمال من أربي
ولا القناعة بالإقلال من شيمي
ولا أظن بنات الدهر تتركني
حتى تسد عليها طرقها هممي
استفزاز
بلغ الركب بغداد في أصيل يوم من ربيع الآخر سنة ثنتين وخمسين وثلاثمائة، ونزل أبو الطيب وابنه وعبيده في خان من أفخم خانات المدينة، وكانت بغداد في ذلك الحين لا تزال تحتفظ ببقية من عظمة العباسيين وحضارتهم ومجدهم الأثيل مع ما أصابها من ظلم معز الدولة، وإقطاع قواده وجنوده القرى جميعها، ومصادرته الغاشمة للأموال، وكانت عش العلماء وموئل الأدباء والشعراء وملتقى أمم الأرض من كل أفق ودين، وكانت تزخر في هذا الحين بالجواسيس وأصحاب الأخبار، فمنهم جواسيس لمعز الدولة، وجواسيس لكافور، وجواسيس لسيف الدولة، وجواسيس لعضد الدولة ملك فارس، وآخرون للفاطميين ملوك المغرب.
وصل المتنبي بغداد فتشمم الجواسيس الخبر ونقله بعضهم إلى معز الدولة، وأرسله بعضهم إلى ممالكهم على أجنحة الطير، وما كاد معز الدولة يتلقى الخبر حتى بعث في طلب وزيره المهلبي. وكان معز الدولة في التاسعة والأربعين، قوي البناء قوي الشكيمة أصلع الرأس شديد احمرار الوجه له عينان كأنهما عينا نمر، وكان مقطوع اليد اليسرى وبعض أصابع اليمنى، شرسا سريع الغضب حقودا شحيحا، ولم يكن إلا قائدا ماهرا وشجاعا واسع الحيلة، أما الشعر وأما الأدب فكان بينه وبينهما بون بعيد. نشأت به وبأخويه دولة بني بويه، وكان في أول نشأته فقيرا يعيش من جمع الحطب وبيعه، وحينما استولى على بغداد انتزع الحكم من أيدي الخلفاء واستبد به. فخلع الخليفة المستكفي بالله وسمل عينيه، وولى مكانه الخليفة المطيع على أن يكون شبحا من أشباح الماضي لا ينقض ولا يبرم. أما وزيره المهلبي فكان رجلا أديبا شاعرا لين الجانب خصيب الجناب، عرف البؤس مرا أيام شبابه فتمسك بمنصبه حريصا عليه وعطف على الأدباء البائسين، وكان مجلسه منتدى رحيبا للعلماء والأدباء والشعراء أمثال أبي الفرج الأصفهاني والسري الرفاء وابن البقال وابن سكرة وابن الحجاج.
دخل المهلبي على معز الدولة، فسمعه عن بعد وهو يهدر هدير البعير، فلما رآه صاح: لقد قدم المتنبي بغداد الساعة فماذا ترى؟ أليس في قصري من شعراء بغداد والمتطفلين عليها من يزيدون على الحاجة؟ لقد أصبحت معدتي لا تستطيع هضم أشعارهم، وهذه الأموال التي تبعثر في كل عام عليهم أولى بها أن تتدفق على القواد والجنود. - يا مولاي إن المتنبي شاعر مر اللسان مر العود شائك الجانب، فإذا لم تقبل عليه وتملأ فمه بعطاياك فربما خرج عن جادة الأدب، وشعر هذا الملعون له أجنحة لا تمل الطيران. - إنه عرض بي وكاد يصرح بهجائي في بعض مدائحه لهذا العربي المفتون الذي يدعو نفسه سيف الدولة، فلن يطأ بساطي. ولن ينشد أمامي شعرا. إن له أن يقيم ببغداد كما يشاء، ففي بغداد من هم شر منه من حثالات الأقطار ونفايات الأمم. - إن الرجل يا مولاي ليس ممن يستهان بأمرهم، وليس ممن توصد الأبواب في وجوههم، فقد بلغ منزلة من المجد الشعري يجب أن نخضع لها راضين أو كارهين، والذي أشير به ألا نبدأ الرجل بالعدوان، وألا نلقي بأنفسنا عند أقدامه متزلفين متملقين كما فعل الغر سيف الدولة، وكما فعل المأفون الجاهل كافور، فكان جزاؤهما منه الجفاء وشر الهجاء. والذي أنصح به أن ننتظر ونترقب، فإذا جاء إلى القصر مستجديا متواضعا كما يجيء غيره من الشعراء، والتمس الإذن بمديح مولانا فتحنا له الأبواب مرحبين، وأجزلنا له الصلة مغدقين، أما إذا لم يفعل شيئا من ذلك فليس له عندنا إلا أن نترك لجواسيسنا مراقبته من بعيد، وأن نجعل إقامته ببغداد جحيما لا تطاق. - أليس بين شعراء بغداد وأدبائها من يبلغ منزلة هذا المتنبي، ومن يستطيع أن يحطم صلفه وكبرياءه؟ فإن من العار أن يقال: إن دار الخلافة أقفرت من الشعراء فلم يقف فيها شاعر في وجه هذا المغامر الآفاق. - إن شعراء بغداد يا مولانا كالكلاب المضراة، وهم رهن إشارتي، ولكني لا أعطي هذه الإشارة إلا في وقتها، ويجب أن ننتظر كما قلت. - فلننتظر إذا، وإني سأترك لك الأمر كله. وانتهى الحديث فخاضا في شئون أخرى.
وعلم علي بن حمزة اللغوي بقدوم المتنبي، فأسرع إلى الخان وطلب منه أن ينزل بداره فقبل بعد رجاء وإلحاح. وكانت دار ابن حمزة في ربض حميد بالجانب الغربي. فأقام بها أبو الطيب مدة ثوائه ببغداد، وكان يتردد عليه كل يوم شعراء المدينة وأدباؤها ورجال اللغة فيها، واتصل به في هذه الفترة تلميذه أبو الفتح عثمان بن جنى، وكان شابا لم يجاوز السادسة والعشرين يتوقد ذكاء ويلتهب غيرة على التحصيل والمدارسة، واقتنص علي بن حمزة الفرصة، فروى عنه ديوانه ووقف منه على ما أشكل عليه من ألفاظه ومعانيه، ومرت بالمتنبي أيام وهو على تلك الحال حتى فاجأه ابن حمزة يوما سائلا: ألا تريد أن تزور الوزير المهلبي؟ - إني أنتظر أن يدعوني إليه. - إن الوزراء والأمراء في بغداد لا يدعون الشعراء، وقد جرت عادة العظماء مثلك أنهم إذا نزلوا بلد ملك أو أمير أن يبدءوه بالزيارة. - إنني لن أبذل نفسي رخيصة، وكان يجب على المهلبي بعد أن علم بوصولي أن يلح في أن أكون ضيفه، وأن يفرد لي جناحا بقصر الخلافة. فنظر إليه ابن حمزة في عجب ودهشة، وقال: إن وزيرنا المهلبي رجل شاعر أديب سخي الكف، ولكنه إلى كل ذلك مغال في تقدير كرامته معتز بكبريائه، يرى أن من دون مقامه أن يستجدي شاعرا أو يتملق أديبا، على أني أعتقد أنه ينتظر زيارتك في قلق وشغف. - فلينتظر إذا طويلا فإني لا أزور هذا الخليج الماجن. - لا يا أبا الطيب، إنك رجل جم الآمال بعيد المطامح، وقد قضيت الحياة في كد ووثوب، فبلغت من بعد المنزلة مكانا قصيا، ولكنك لم تصل بعد إلى الغايات التي أقرؤها في شعرك. لقد سقطت من سلم الطموح مرتين كنت فيهما موشكا على القمة: مرة عندما غضبت على سيف الدولة، ومرة عندما غضب عليك كافور، فإياك وأن تسقط الثالثة! إن لنا أملا كبيرا في المهلبي وفي معز الدولة، وإن رجلا مثلك لو ظفر بمودتهما لظفر بكل شيء. فإذا كنت قد طمعت عند كافور في ولاية، فهنا مصدر الولايات، وهنا النبع الفياض برفيع المناصب، وهنا خلافة المسلمين التي جعلت كافورا ملكا، وسيف الدولة أميرا. - كنت أحب أن يبدأ مهلبيكم بدعوتي، والذي أخشاه الآن ألا أقابل بما يليق بمثلي من الكرامة. - هذا وهم يا سيدي. إن شهرتك غرست في قلوب الناس منك رهبة ولم يخل منها قلب أمير أو وزير. اذهب إليه يا أبا الطيب غدا. - سأذهب.
وفي صباح اليوم الثاني ركب أبو الطيب في عظمة تشبه عظمة الملوك وخلفه العبيد والخدم بين فارس وراجل، وقصد إلى قصر الخلافة فاستقبلته حاشية الوزير في إكرام وحفاوة، وأسرع المهلبي فأذن له فدخل عليه المتنبي في تؤدة وجلالة سمت مرتفع الصدر شامخ الأنف، كأنه أسد بن عمار الذي يقول فيه:
يطأ الثرى مترفقا من تيهه
فكأنه آس يجس عليلا
فحيا الوزير ورد الوزير تحيته في شيء من الفتور بعدما رأى من تشامخه وتعاظمه، وتقدم المتنبي فجلس إلى جنبه حتى التصقت ركبته بركبته، وكان بالمجلس أبو الفرج الأصفهاني وابن البقال الشاعر، واتجه المهلبي إلى أبي الطيب، وقال في تهكم لا يكاد يلمح: لقد زرت بغداد منذ شهر يا أبا الطيب ولم تزرنا، أتعد هذا تجنبا أو تجنيا؟ - الأعذار كثيرة يا سيدي. - الأعذار تقول: يا أبا الطيب إنك بخير وعافية، وإنك تقضي وقتا طويلا كل يوم في دراسة شعرك مع ابن حمزة وابن جنى. كيف تركت الأسود بمصر؟ - تركته وهو لا يزال أسود. - ألا تزال تهدد الناس بشعرك يا أبا الطيب؟ - إن شعري مرآة أخلاق الناس، وليس على المرآة من ذنب إذا كشفت وجها دميما. - أرجو أن تحسن وجوهنا في مرآة شعرك، فابتسم المتنبي ابتسامة ساخرة، ولم تعجبه ملاقاة المهلبي له، وقال:
وأحسن وجه في الورى وجه محسن
وأيمن كف فيهم كف منعم - نترك الإحسان والإنعام الآن يا أبا الطيب حتى نسمع. والتفت إلى أبي الفرج وأخذ يطارحه الشعر ونوادر الأدب، والمتنبي يشترك في الحديث متعاظما، يخطئ هذا ويجبه ذاك، حتى انقض المجلس فخرج مغيظا ساخطا؛ لأن المهلبي لم يحسن لقاءه كما يحب، ولم يستجد مدحه كما كان يؤمل، واشتد غضب المهلبي على المتنبي؛ لأنه لم يمدحه؛ ولأنه أظهر من الصلف والتيه ما لا يجمل بمجالس الوزراء، فصمم العزم على الكيد له وتلقينه درسا لا ينساه في وجوب التطامن للوزراء والخضوع للعظماء.
وبلغ الشاعر داره فلقيه ابن حمزة وعاجله سائلا: كيف الحال يا أبا الطيب؟ - شر حال! إن وزيركم يحسبني من شعرائه المهازيل الذين يقعون حول مائدته لالتقاط فتاتها. ثم قص عليه ما دار في المجلس، فانقبض وجه ابن حمزة، وقال في تحسر: لقد أضعت الفرصة يا أبا الطيب، وسلطت عليك أكبر مدرب للكلاب. - ماذا تقصد؟ - أقصد أنه سيرسل عليك عصابته، وسنسمع غدا فيك شعرا هو قيء أمعاء البديع، وأشلاء جيفة البيان. - لقد قلت في أمثالهم:
وأتعب من ناداك من لا تجيبه
وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وما التيه طبي فيهم غير أنني
بغيض إلى الجاهل المتعاقل - لا يا أبا الطيب، إن هؤلاء ليسوا ممن يسهل اتقاء شرهم، أرأيت الأوحال التي كلما حاولت التخلص منها زدت فيها ارتطاما؟ إن لهم في بغداد حكما على الحكام، ونفوذا على ذوي النفوذ، إنهم يهددون كل عظيم في عرضه وشرفه ومزال ماضيه، فيقبل عليهم خاضعا مستغيثا جاثيا على ركبتيه، باذلا كل ما يضربونه عليه من مال. إن قطاع الطريق ولصوص الليل أشرف منهم نفسا وأكرم خلقا؛ لأنهم يعفون عن استلاب النساء وقتل الأطفال، أما هؤلاء فلا تسلم منهم حرمة، ولا يتنزهون عن ملأمة. إنهم يرسلون البيت من الشعر مسموما كما يرسل القرمطي سهمه لا يبالي إلى أي قلب نفذ. وهؤلاء جميعا في قبضة المهلبي يوسوس لهم بالدنانير فيقبلون، ثم يوجههم إلى الصيد فيتواثبون، وهو يطل عليهم من بعيد جذلان مسرورا. وكلما زاد أحدهم في النهش زادت المكافأة وكلما ولغ أحدهم في الدماء عظم الجزاء. إن هؤلاء الشعراء يحكموننا الآن يا أبا الطيب، فهم يوجبون علينا طاعتهم، ويفرضون علينا من الضرائب والإتاوات ما يشاءون. والويل ثم الويل لمن أظهر العصيان أو حدثته نفسه باستنكار شيء أو التأفف من شيء! لا يا أبا الطيب، اشتر عرضك من هؤلاء، واذهب بعد أيام إلى المهلبي وفي كمك قصيدة في مديحه. وأنتم الشعراء أجرأ خلق الله على الكذب، وأقدرهم على تصوير ممدوح خيالي تعطونه اسم من ترجون صلته. والذي مدح كافورا يا أبا محمد لا يعجز عن مدح الجاحظ بالجمال، وهبنقة بالذكاء، والحجاج بالرفق والحنان. - لن أمدح المغرور المستهتر، ولن أذهب إليه. ولن أبالي بكلابه المساعير. - ذلك لك يا أبا الطيب، ولكني أحذرك من ابن الحجاج وابن سكرة وابن لنكك والحاتمي، أحذر هؤلاء يا أبا الطيب وتجنب الاشتباك معهم، وإذا دفعت إلى لقائهم فجاملهم وتلطف. - لو كانت المجاملة من خلقي يا ابن حمزة لكنت في حال غير هذه الحال.
وبعد مرور يوم أو يومين على هذا الحديث اجتمع بحانة بالكرخ تعرف بحانة أبي نواس ثلاثة رجال جلسوا في حجرة بعيدة عن الطراق، وطلب أحدهم من فتاة الحان خمرا رومية معتقة فأحضرتها، وأخذوا يتساقون ويتهامسون ثم قال أحدهم: لقد جعل لكل شاعر منا خمسمائة دينار. - هذا ليس بالكثير يا ابن الحجاج. - ما أطمعك يا ابن سكرة. أتستقل خمسمائة دينار في عشرين بيتا أو نحوها من أقذر الشعر وأفحشه تقذف بها في وجه المتنبي، ثم تنال من بعدها شهرة الأبد؟ ما رأيك يا ابن لنكك؟ - أرى أن العرض حسن، ولقد أعددت بالأمس أبياتا وسأزيد عليها؛ لأن الوزير وعدني بزيادة العطاء إذا فحش الهجاء وتعددت فنونه. - هذا حسن، ولكن أترى أن نأخذ في هجو الرجل دون أن نستدرجه بشيء من الملاحاة والمهارشة؟ - لا. يجب أن نزوره غدا، وقد علمت أنه غاية في الكبر والأنفة والزهو بنفسه، ومثل هذا يسهل اصطياده واجتذابه إلى المعركة. - عظيم. غدا نلتقي في الصباح بداري، ومنها نذهب إلى دار ابن حمزة للتشرف بمقابلة هذا الزق المنتفخ. وانتهى ما في الإناء من شراب، وانتهى ما في عقولهم من كيد وتدبير، فخرجوا من الحانة يترنحون ويصخبون. وجاء الغد وأسرعوا إلى دار ابن حمزة فاستقبلهم ببشر مصنوع وترحيب متكلف، ثم دلف إلى حجرة المتنبي فأخبره بزواره وكرر تحذيره والنصح له، ودخل الشعراء على أبي الطيب وكان جالسا فلم يتحرك من مكانه، وأخذ ينظر في وجوههم كمن ينظر إلى حشرات غريبة الخلقة دنيئة الفصيلة ليس له بمثلها عهد، وكرر الشعراء التحية فبدرت منه تحية فاترة أردفها في عجلة بأمرهم بالجلوس، فجلس القوم والغيظ يحتدم في وجوههم، ثم أخذت ابن الحجاج قهقهة طويلة تصنع أنه لا يستطيع لها كتما، فنظر إليه المتنبي في ازدراء وسأل: مم تضحك يا رجل؟ - أضحك. يا سيدي لأنني سخرت بالأمس من رجل زعم أنك كنت تطمع في ملك مصر، وطالما لاحيته وطالما حاججته، ولكن ظهر لي أنك كنت مخطئا. - كيف؟ - لأن هذه الجلسة وهذا الصلف وهذه النظرات التعبة الجافية لا تصدر إلا عن ملك. - ما لك ولكل هذا يا رجل؟ أجئت لتزورني أم لتظهر سخفك؟ فأسرع ابن سكرة، وقال: إن هذه المقابلة التي صدمتنا بها لا تقابل إلا بالسخف والسخرية، أفق أيها الشيخ من سباتك فإننا شعراء بغداد. سل كل إنسان تلاقيه ينبئك من هم شعراء بغداد. إن في جراب أشعارنا علاجا ناجعا لأمثالك المغرورين. إننا خلقنا من الشعر ميسما يشوه الوجوه الصلفة، ولجاما يعقد الألسنة البذيئة، وقارا يلطخ العرض فلا تغسله أمواه السماء، فقال المتنبي باسما وكأنه لم يسمع إلا طنين ذباب: لم تزد على أن جعلت الشعراء عصابة من قطاع الطريق، فسحقا لك من شاعر! وما أتعس الشعر بمثلك! ثم التفت إلى ابن لنكك، وقال: وأنت يا شاعر آخر الزمان، هل في جراب شعرك شيء غير الذي في جراب صاحبك؟ فاتجه إليه متحديا، وقال: أتريد ما في جرابي؟ إذا فاسمع:
ما أوقح المتنبي
فيما حكى وادعاه
أبيح مالا عظيما
لما أباح قفاه
يا سائلي عن غناه
من ذاك كان غناه
إن كان ذاك نبيا
فالجا ثليق إله
فقهقه المتنبي وضرب الأرض برجليه، وقال: هدأ الله أنفسكم كما هدأتم نفسي، وأسعد بالكم كما أسعدتم بالي، أهذا كل شعركم؟ في الحق لقد رعبتموني أول الأمر حتى ظننت أن وراء تهديدكم نارا وصواعق من الشعر الذي أعرفه، والذي أدخره لأعدائي من الملوك، أما الآن وقد سمعت هذا الشعر الذي عمشت مقلتاه، واختلط فيه قفاه بغناه، فإني أستطيع أن أمد رجلي جذلان مرحا، وأن أعتقد أنني سأقضي في بغداد وقتا سعيدا أترقب فيه كل يوم ما يضحكني ويذهب بهمومي. رحم الله بغداد! ورحم الله شعراء بغداد! هنا كان النواسي، وهنا كان مسلم، وهنا كان ابن الرومي، وأنتم اليوم تلبسون ثيابهم؟ البسوها ما شئتم فرب ثوب يتبرأ من كتفي لابسه! أبقي في جرابكم شيء من السباب؟ إن كان فهاتوه فإني مصغ لكم مشغوف بشعركم، وإن لم يكن فاذهبوا لإعداد غيره.
لا تجسر الفصحاء تنشدها هنا
بيتا ولكني الهزبر الباسل
ما نال أهل الجاهلية كلهم
شعري، ولا سمعت بسحري بابل
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
ثم وقف فانصرف القوم صاخبين مهددين. وبقي المتنبي باسم الوجه عابس القلب، إنه استطاع حقا أن يسخر منهم وأن يستخف بتهديدهم، ولكنه إلى ذلك علم علم اليقين أن أمله في المهلبي ذهب إلى غير رجعة، وأن بقاءه ببغداد أصبح محفوفا بالمكاره. واتجه إليه ابن حمزة، وقال: لقد كنت داهية واسع الحيلة في مقابلة هؤلاء الأنذال، ولكني لا أزال أحذرك منهم، فإن الثعبان لا يموت إذا قطع ذنبه، فزفر المتنبي، وقال: لا يزعجني شيء يا ابن حمزة إلا أن أمني في نهاية أيامي بمثل هؤلاء الزعانف.
وفي صباح اليوم التالي أطلق ابن الحجاج من داره كلبة هزيلة بعد أن علق بعنقها ورقة شدها بخيط، ووكل بها ثلاثة من عبيده، وأمرهم أن يمروا بها في جميع أحياء بغداد وأرباعها، وأن يطيلوا الوقوف أمام معاهد العلم ومظان الطلاب، وأن يصونوا الورقة ويحافظوا عليها، حتى إذا جاء المساء أطلقوا الكلبة في حديقة دار ابن حمزة.
وسارت الكلبة خارجة من سوق داخلة في غيرها، واجتمع خلفها خلق عظيم، ومرت بمسجد ابن رغبان حيث يزدحم طلاب العلم، فاستوقفها أحدهم وأخذ يقرأ ما في الورقة بصوت جهير، فكان فيها:
له الويل ابن أمي كيف مالت
به الدنيا إلى خلق اللئام؟
رمى نسب الكلاب وكان زينا
بعار من مثالبه وذام
يبيع الشعر «أحمد» لا يبالي
وأين لمثله خوف الملام؟
غدا عبدا لكافور بمصر
وذل لآل تغلب بالشآم
سأنشده من الأشعار بيتا
له، إن كان لا يرضى كلامي (وآنف من أخي لأبي وأمي
إذا ما لم أجده من الكرام)
وما كاد يتم القراءة حتى قهقه الطلاب، وصفقوا وساروا خلف الكلبة يدعون كل عالم وكل أديب وكل ملم بالقراءة إلى قراءة الأبيات، واستمرت الحال هكذا طيلة النهار، وصار المتنبي حديث المدينة، وأصبح اسمه متندرا لكل مازح، ومضغة في فم كل بذيء، حتى إذا مالت الشمس للغروب قاد العبيد الكلبة إلى دار ابن حمزة، فلمحها أبو الطيب وكان في حديقة الدار، فأمر مفلحا أن يحضرها بما في عنقها، وحين قرأ الأبيات اكفهر وجهه، وعلم أنه أمام خصوم عاهرين لا تعجزهم دنيئة، ولا تكفهم ذرة من رجولة، فدعا ابن حمزة وألقى إليه الورقة، فلما قرأها قال: قاتلهم الله، ما ألد خصامهم. وما أسوأ كيدهم. هذه الكلبة مرت طول النهار بكل ناحية من نواحي المدينة، وهذه الأبيات قرأها آلاف من الناس بين سخرية وقحة، وسباب مقذع. تعسا لهم. والله ما كنت أظن أنهم يبلغون هذا. أتحب أن أرسل إلى ابن الحجاج يا أبا الطيب؟ - لا يا أبا حمزة، إياك وأن تظهر المبالاة بهم، فإن الكلب الجبان يشجع إذا أظهرت الخوف منه.
واجتمع الشعراء الثلاثة بالوزير المهلبي، وكان الحديث يدور حول حادثة الكلبة وما أثار في المدينة من ضحك وسخرية وفكاهة، وشكرهم الوزير على ما بذلوا من جهد، ووعدهم بمضاعفة الثواب إذا ثابروا.
ومرت أيام وأيام والمتنبي متحصن بداره يكاد يخشى الخروج ومقابلة الناس، واتفق أن دعاه أبو الفتح بن جنى للغداء بداره فأجاب الدعوة، وركب في حشد من عبيده يقصد دار صاحبه، وما كاد يبلغ صينية الكرخ حتى اخترق ابن الحجاج صفوف الناس، وعلق بلجام جواده، فتزاحم الناس حولهما من كل جانب، وأخذ ابن الحجاج ينشد بصوت عال قصيدة بذيئة في هجاء أبي الطيب أولها:
يا شيخ أهل العلم فينا ومن
يلزم أهل العلم توقيره
وكان المتنبي مطرقا في خشوع وجلال في أثناء الإنشاد، لم تظهر على وجهه لمحة استنكار، ولم تبد منه بادرة تدل على أن شعرا ينشد أو هجاء يقال، وحينما أتم ابن الحجاج إنشاده التفت إليه أبو الطيب، وقال : لقد أجهدت نفسك يا صاحبي بالوقوف في هذه الشمس المحرقة. ثم أرخى عنان فرسه وأطلقه للمسير.
وكلما طالت إقامة المتنبي ببغداد زادت الحملة قوة وتأجج لهيبها. وكانت تجري هذه الأحاداث وهو ساكت لا ينبس، رزين لا يطيش، ولكن نفسه كانت تتقد غيظا وقلبه يتفتت كمدا، جلس مرة مطرقا حزينا، وقد مرت بذهنه هذه الصورة المخزية، وهذه الحرب الكريهة التي ألقى فيها سلاحه ليصون كرامته من أن تنزل في هذا الميدان، ثم أخذ يحادث نفسه ويقول: إلى متى هذه المطاولة؟ وإلى متى هذا الحلم الذي قد يعده الناس جبنا؟ أين شعرك يا أبا الطيب؟ إن بيتا واحدا منك كفيل بأن يلقف ما صنعوا وأن يلتهم حبالهم وعصيهم. إنهم ذباب قذر يكفي أن تمر بنعلك عليهم فتمحوهم جميعا. ولكنك إذا هجوتهم كنت لهم قرينا، والموت خير ألف مرة من أن تكون قرينا لهؤلاء. اهج المهلبي إذا، اهجه أبا الطيب، اهج معز الدولة، نعم اهج هذين أو واحدا منهما، فإن مثلك لا يهجو إلا الملوك والوزراء، وأقسم بالشعر ومناته وعزاه إن قصيدة واحدة منك في هجائهما لن تكون ألفاظا، ولن تكون حروفا، ولكنها تكون صاعقة تحطم العروش وتبعثر التيجان. ولكن كيف تهجوهما؟ إنك إن فعلت فلن يكون لك مسكن إلا في السماء، نعم إن هجاءهما لا يبقي لك في الأرض مكانا، لقد غاضبت مصر وجفوت الشام، فإذا فررت من العراق فأين تذهب؟ قد يجول بنفسك أن تذهب إلى بلاد فارس، وأظن أن ملكها عضد الدولة لا يلاقي من هجا عمه معز الدولة بالقبل والعناق. لا يا أبا الطيب، اصبر ما استطعت الصبر، واكظم غيظك المحموم ما قدرت، فإذا لم تقدر فارحل إلى الكوفة، وادفن نفسك بين الكتب، فقد أصبحت ميت الأحياء. وجاء ابن حمزة ذات مساء فدخل على المتنبي مهموما يمسح عرقا تصبب من وجهه، وقال: لقد قابلت الساعة أبا علي الحاتمي، فأخبرني بأنه سيزورك غدا. - من أبو علي الحاتمي؟ - إنه من أعلام بغداد وكبار أدبائها، وهو أستاذ كثير من شعرائها وكتابها. - وماذا يريد مني؟ - يريد أن يسعد بلقائك، وأن يجاذبك الحديث في الشعر والأدب، اسمع يا أبا الطيب. إن الحاتمي رجل مهيب رفيع المكانة في بغداد، وليس هو ممن يقابل بالإعراض والسخرية كما قابلت ابن الحجاج وصاحبيه، فرجائي إليك أن تبسط له من نفسك وحديثك، وأن تقابله بما يليق بمنزلته وكرامته، فقد كفانا ما لقينا من الفضائح في دروب بغداد وأزقتها، وكفانا أننا أصبحنا اليوم حديثا لأدعياء الأدب وسخفاء المجان. - اجعل كل هذا دبر أذنك يا ابن حمزة. - اجعله دبر أذني إن استطعت، ولكني لا أضيف إليه كارثة جديدة بإهانة أعظم أدباء بغداد. - لا. لن نهينه ما أحسن الكلام والتزم الأدب.
وجاء الحاتمي في الغد وقد اعتزم أن يسقط المتنبي من سماء كبريائه، وأن ينكس رأسه في التراب، وأن يظهر جهله بالشعر والأدب واللغة، ثم ينشر في طول بغداد وعرضها أنه حطم الصنم، وخرق الطبل الأجوف، وأن هذا المتنبي الذي يظن أن شمس العراق لم تطلع على مثله ليس إلا دعيا مغرورا أفاقا.
جاء الحاتمي وقد ركب بغلة فارهة وحوله عدة من الغلمان بين مماليك وأحرار، فلما بلغ الدار ولمحه أبو الطيب غادر مجلسه ودخل حجرة أخرى واستأذن الحاتمي وأذن له، فاستقبله ابن حمزة أحسن استقبال وحياه أجمل تحية، وكان بالمجلس أبو الفتح بن جني والقاضي أبو الحسن المحاملي، ثم دخل أبو الطيب فسلم عليه الحاتمي مبتسما، وقال: لقد لمحتك يا أبا الطيب في هذه الحجرة وأنا بباب الدار، فلما علمت بقدومي تركتها، أفعلت ذلك لكي لا تنهض إلي بالسلام؟ فسكت أبو الطيب ولم يجب، ثم جلس على كرسيه معرضا بنظر إلى السقف والحيطان، ولما فرغ من هذا اتجه إلى ابن جني، وقال: إن البيت هو:
حالفته صدورها والعوالي
لتخوضن دونه الأهوالا
والضاد في «تخوضن» مضمومة؛ لأن الفعل مسند إلى واو المذكرين مؤكد بالنون.
فقال ابن جني: كنت أقرؤه «لتخوضن» بفتح الضاد على أن الفعل مسند إلى ضمير مؤنث يعود على الصدور والعوالي، وكيف يا سيدي يسند الفعل إلى واو المذكرين المحذوفة في «تخوضن»، وهي خاصة بالعقلاء؟ - حينما قلنا: إن صدور الخيل وعوالي الرماح حالفت الممدوح أجريناها مجرى من يعقل من الذكور.
كان يدور هذا الحديث والحاتمي متفزز متوثب، ينفخ من الغضب، فالتفت إليه المتنبي، وقال: كيف حالك؟ فأجاب الحاتمي وهو يتميز من الغيظ: أنا بخير لولا ما جنيته على نفسي من قصدك، وجشمت دابتي من السعي إلى مثلك، أجبني بالله أيها الرجل! فيم تيهك وخيلاؤك؟ وعجبك وكبرياؤك؟ وهل عدوت أن تكون شاعرا متكسبا؟ إذا قصدك شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدبه صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطانه خفضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك؟
فأطرق المتنبي وعلم أن الرجل ليس بهين، وأنه يمكنه أن يلين معه بعض اللين، فقال: خفض عليك واكفف من غربك واستأن فإن الأناة من شيم مثلك. فهدأ الحاتمي قليلا، ثم قال: إني جئت أسألك عن أشياء وأراجعك في أشياء، حدثني عن قولك:
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة
ففي الناس بوقات لها وطبول
أهكذا تمدح الملوك؟ فالتفت إليه المتنبي في زهو وجبرية، وقال: إن تلاميذي يجيبونك عن كل ما تسأل.
فقال ابن جني: لا أرى في البيت إلا روعة وإبداعا، فإن للجيس عددا هي السيوف والبوقات والطبول، وإن السيف خير هذه العدد وهو اسم الممدوح «سيف الدولة»، أما البوقات والطبول فلها ضجيج وجلجلة، ولكنها لا تعمل شيئا؛ لذلك شبه الشاعر بها غير الممدوح من الملوك. - هل معز الدولة بوق وطبل؟ - لا أدري، وإنما أنا مفسر شعر، ثم غمز بعينه الباقية، وقال: هل قرأت يا سيدي بعد هذا البيت وهو مما لم يسبقه إليه شاعر؟
أنا السابق الهادي إلى ما أقوله
إذ القول قبل القائلين مقول
وما لكلام الناس فيما يريبني
أصول، ولا لقائليه أصول
أعادي على ما يوجب الحب للفتى
وأهدأ والأفكار في تجول
فقال الحاتمي: وكيف لم يخجل المتنبي من سيف الدولة حين قال في رثاء أمه؟
صلاة الله خالقنا حنوط
على الوجه المكفن بالجمال
فقال ابن جني: وماذا في هذا يا سيدي؟ أتستنكر أن توصف أمك بالجمال؟ أتظنه جمالا كجمال الراقصات والقيان؟ إنه يا سيدي جمال النفس الرضية والخلق النبيل. اقرأ يا سيدي من هذه القصيدة وسبح بحمد واهب المواهب:
مشى الأمراء حوليها حفاة
كأن المرو من زف الرئال
وأبرزت الخدور مخبآت
يضغن النقس أمكنة الغوالي
أتتهن المصيبة غافلات
فدمع الحزن في دمع الدلال
ولو كان النساء كمن فقدنا
لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
فقال الحاتمي: ويقول المتنبي:
وإذا أشار محدثا فكأنه
قرد يقهقه أو عجوز تلطم
أما كان في أفانين الهجاء مندوحة عن هذا الكلام؟ فأسرع إليه ابن جنى قائلا: رحماك يا مولاي، فقد جئت بأبلغ بيت تنفس عنه الهجاء في الشعر العربي! ما أغرب الصورة وما أمهر صناعتها! إنها صورة لو عثر بمثلها حماد عجرد لأغنته عن كل هجائه في بشار. وفي هذه القصيدة يا سيدي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن جهله وخطاب من لا يفهم
واستمر الجدل على هذا النحو ساعات، وكان المتنبي يشترك فيه أحيانا في رفق ولين، وشعر الحاتمي أنه إزاء شاعرك لا يدرك، ورأى من عطف المتنبي ومجاملته في أثناء الحديث ما خفف من حدته وهدأ من ثائرته، ولم يجد في نفسه حرجا من أن يجامل المتنبي هنا ثم يدعي للوزير المهلبي أنه انتصر عليه وغلبه، ونهض فنهض المتنبي مشيعا له إلى باب الدار حتى ركب.
وزاد يقين أبي الطيب بأن السحاب يتراكم، وأن الصاعقة توشك أن تنقض، فصبر على دخن، وطوى نفسه على غيظ دفين.
وكان كافور قد أقام أبو عوف الكناني بدار الخلافة منذ سنين؛ لينقل إليه أخبارها وليكون سفيره لدى معز الدولة والخليفة، وقد أنبأه أبو عوف بقدوم المتنبي بغداد، وجاءه الجواب بأن يحتال لقتله غيلة، فإذا لم يستطع ألزمه طائعا أو مكرها أن يمدح كافورا بقصيدة تمحو كل ما جره عليه هجاؤه من العار. وبذل أبو عوف كل ما في مكنته من جهود لإطاعة أمر كافور فلم يوفق. وفي ليلة دخل عليه منصور الحلي وكان شريكا له في المؤامرة، فقال: لقد اهتديت إلى أحكم الطرق وأسلمها لإنفاذ المؤامرة. فاتجه إليه الكناني في تشوف قائلا: كيف؟ - كنت اليوم أزور أبا إسحاق الصابي ودار الحديث حول المتنبي، فأثنى عليه كثيرا وأخبرني أنه يود أن يدعوه إلى داره؛ ليؤدي له ما يستحق من كرامة، وليعتذر له عما ناله من سلاطة شعراء بغداد وشنيع هجائهم، فقلت له: إنني أؤدي عنك الرسالة يا سيدي، فاكتب إليه رقعة لدعوته غدا وأنا كفيل بحملها إليه. فكتب هذه الرسالة، وأخرج من كمه ورقة بخط الصابئ، فقال الكناني: وماذا نصنع بهذه الرسالة؟ - تسلمها إلى عبيدك غدا في الصباح، وتأمرهم أن يذهبوا بها إلى المتنبي بدار ابن حمزة، زاعمين أنهم عبيد أبي إسحاق، وأن سيدهم أمرهم أن يصحبوا المتنبي إلى داره. - ثم؟ - ثم يذهبون به إلى قصرك الخالي بالزبيدية، وهو قصر منعزل بعيد عن الدور، فإذا بلغوا به القصر وضعوه في إحدى غرفه وقيده، ثم هددوه بأنه إن لم ينظم قصيدة في مدح كافور قتل شر قتلة.
وجاء الصباح وتمت المؤامرة، ورأى المتنبي نفسه مقيد الرجلين وحوله زنوج تلتهب عيونهم بالغضب، وقد وضع كبيرهم على خوان ورقا وأقلاما، وهو يقول: هنا تكتب قصيدة في مدح مولانا كافور، وإلا ذهبت روحك إلى الشيطان! وتكلف المتنبي الرضا وأظهر الرغبة، فتركوه وذهبوا إلى سرداب القصر فعثروا به على دن ممتلئ بخمر من خمر البلح تغلي وتشتد وتقذف بالزبد، فتصايحوا تصايح الزنوح، وقال كبيرهم: لنشرب حتى يتم شاعرنا القصيدة، فتهافتوا على الشراب وأخذوا يكرعون ويغنون حتى صدعت الخمر رءوسهم.
وجلس المتنبي في غرفته يائسا ساخطا، ثم ألقى نظرة على النافذة فلمح من بعيد فتى ينصب فخه للطيور، فأشار إليه وكرر الإشارة فلم يلتفت، فبحث في الغرفة عن حصاة فقذفه بها فرفع الفتى رأسه، ورأى أبا الطيب وهو يشير إليه إشارات تدل على الاستغاثة وطلب النجدة، فأسرع إليه وصعد في السلم حتى وصل إلى غرفته، فأخبره المتنبي بالقصة وطلب إليه أن يفك قيده فقطعه بسكين كانت في حزامه، ثم قال: هلم يا شيخ فإنك تستطيع أن تخرج الآن آمنا، فلست أسمع بالدار إلا غناء سكارى. - إذا لقد سكر المناكيد! - يظهر ذلك. - دعني الآن أكتب شيئا ثم نخرج معا وأخذ الورقة وكتب فيها:
ولي همة من رأى همتها النوى
فتركبني من عزمها المركب الوعرا
تروق بني الدنيا عجائبها ولي
فؤاد ببيض الهند لا بيضها مغرى
أخو همم رحالة لا تزال في
نوى تقطع البيداء أو أقطع العمرا
ومن كان عزمي بين جنبيه حثه
وخيل طول الأرض في عينه شبرا
صحبت ملوك الأرض مغتبطا بهم
وفارقتهم ملآن من حنق صدرا
ولله آيات وليست كهذه
فإنك يا كافور آيته الكبرى
واكفر يا كافور حين تلوح لي
ففارقت مذ فارقتك الشرك والكفرا
فلما أتم الكتابة تسلل مع الفتى من الدار، ورأى جواده تحت الشجرة فامتطاه وطار. وصحا العبيد وذهبوا إلى الغرفة فلم يجدوا للمتنبي أثرا، ورأوا الورقة فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون في صخب وشكاس، ثم حملوا الورقة إلى الكناني فقرأها وضرب بكف على كف وصاح في العبيد: لقد أفسدتم كل شيء يا عبيد السوء، اكتموا كل ما جرى، وأقنعوا أنفسكم أنه لم يحصل شيء، لو وصل إلى سيدي كافور علم هذه الحادثة لقتلنا جميعا. وإني أيضا سأكتم خبر هذه الورقة. ها هي ذي انظروا!! ثم مزقها قطعة قطعة ونثرها في الهواء.
وبلغ المتنبي دار ابن حمزة مجهدا مكدودا مضطرب العصب، وهو يصيح: يا محسد: يا مفلح، فلما أقبلا عليه قال: لن نقيم بهذه المدينة إلا الليلة، أسمعتما؟ أعدا الرواحل والجياد، سنرحل غدا في الصباح. ثم أخذ يغمغم:
عش عزيزا أو مت وأنت كريم
بين طعن القنا وخفق البنود
فرءوس الرماح أذهب للغي
ظ وأشفى لغل صدر الحقود
لا كما قد حييت غير حميد
وإذا مت مت غير فقيد
فاطلب العز في لظى ودع الذ
ل ولو كان في جنان الخلود
رعونة
غادر المتنبي بغداد والغيظ يمزق فؤاده، والغل تغلي في نفسه مراجله، لقد كان يظن أن الأدباء والشعراء سيتنافسون في إجلاله وتكريمه، ويتسابقون إلى التقاط كل كلمة تخرج من فيه كأنما هي قرآن مبين، ويقتتلون على نيل الحظوة عنده والتقرب إليه، ولقد كان يتخيل أن الخليفة سيسرع إلى ملاقاته مرحبا محييا، وأن معز الدولة سيسعى إليه على الأقدام راجيا متملقا، وأن الخلافة ستخلي له قصرا على دجلة من قصور العباسيين يطل منه على رعية مخلصة لأدبه تردد حمده في الغدو والآصال، ولقد كان يتوهم أنه وقد أصبح العلم الفرد في دولة البيان ستجد فيه دار الخلافة علما خفاقا يجمع حولها أقطار العربية، وداعية منقطع النظير يعيد الأوطان المتمردة إلى أحضان بغداد، كان يحلم بكل هذا وهو رجل بعيد الأحلام، وكان يقدر كل هذا وهو رجل ما أصاب مرة في تقدير، وطالما منى نفسه بعد أن خاب في أن ينال ضيعة أو يحكم ولاية أنه بعد أن يمد جناحي نفوذه على عرش الخلافة، سيصبح الآمر في الولاة الناهي في الملوك، فهل حصل من هذه الأوهام على شيء؟ لم يسمع الخليفة السجين أن شخصا يدعى بالمتنبي زار بغداد، ولم يقبل معز الدولة أن شاعرا مستجديا تياها يطأ بساطه، وتكبر عليه المهلبي وعزفت نفسه عن أن يطلب منه شعرا، ثم أغرى به شعراءه، فمزقوا عرضه واعتقلوه في داره فلم يكن يخرج منها إلا خائفا يترقب. هذا ما لقيه في دار الخلافة، لم تر لمواهبه شبحا، ولم تلمح لنبوغه أثرا، ولم تجد فيه إلا شاعرا طليح أسفار كلت يداه من طرق الأبواب. جالت هذه الأفكار بنفس المتنبي وهو يقطع الطريق عدوا بين بغداد والكوفة عائدا إلى موطنه سيفا محطما، وأملا حائرا، وحطاما بشريا، فزفر في حزن وأسى، وقال:
وقت يضيع وعمر ليت مدته
في غير أمته من سالف الأمم!
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على الهرم
وبعد أيام بلغ الكوفة فألقى بها عصا التسيار، وعزم على أن يعيش بها كما يعيش سراة المدينة، وخلع ثياب الشاعر ولبس عدة الفارس وسلاحه، وعاد إلى قضاء وقته بين الصيد ومجالسة الأدباء والأشراف، وحاول أن ينسى طموحه، وأن يسخر من آماله، وأن يرضى من الغنيمة بالإياب، ويقنع بعد طول الجهاد بالطعام والشراب. وبينما كان يوما عائدا إلى داره إذ رأى ابنه محسدا يسرع إليه ويهمس: سيدي سعد الدولة هنا. - سعد الدولة؟ ابن سيف الدولة؟ - نعم يا أبي، لقد حضر منذ ساعة. فأسرع المتنبي إلى لقائه، وما كاد يراه حتى انكب عليه يعانقه ويقبله ويرحب به. وكان أبو المعالي سعد الدولة في نحو الثالثة عشرة وسيما قسيما تظهر عليه مخايل البطولة، وتنطق في وجهه ملامح العروبة، فاتجه إليه أبو الطيب، وقال: كيف حال مولاي سيف الدولة؟ - لقد تركت أبي مريضا، ولكن المرض لم يمنعه من الخروج إلى لقاء الروم الذين أغاروا على طرسوس. إنهم لا يتركوننا لحظة للراحة وتجفيف العرق يا أبا الطيب! ولقد كاد أبي يضيق بهم ذرعا. ثم أخرج من كمه رسالة، وقال: هذه رسالة أبي إليك. فقرأ المتنبي فإذا فيها: من سيف الدولة أبي الحسين بن حمدان إلى أبي الطيب أحمد بن الحسين:
أما بعد فإني أحمد الله إليك؛ وأطلب لك العافية والسلامة. علمت بتركك الأسود وشكرت الله على نجاتك من هذا الطاغية. وإني أبعث إليك بابني وهو أغلى ما في الحياة عندي، لأرجوك في العودة إلى حلب، لقد تغيرت بعدك الأحوال يا أبا الطيب، وقويت شوكة الروم وطمى طغيانهم، وتخاذل الناس حولي وسئموا القتال. والإسلام والعروبة في حلب أحوج ما يكونان إلى صوتك الرنان، وشعرك الفياض بالقوة والحماسة ليلهب العزائم ويوقظ الهمم. لقد كان وجودك إلى جانبي بحلب طالع يمن علي وعلى المجاهدين في الإسلام، ولقد كانت أيامك أيام انتصار وفتوح ملأت الدنيا بوصفها، وخلدت في التاريخ ذكرها. أقبل علينا أبا الطيب، فإن السيوف تهتز في أغمادها شوقا إليك، ومجالس الأدب تكتم أنفاسها انتظارا لقدومك. أقبل يا شاعر العرب. وإذا كانت في نفسك مني غضاضة، فإني أقول لك الآن ما قلته لي من قبل:
وإن كان ذنبي كل ذنب فإنه
محا الذنب كل المحو من جاء تائبا
قرأ المتنبي الرسالة فتقاطرت الدموع من عينيه، ثم قبلها مرات وقال: إنني لولا العوائق لطرت إلى مولاي سيف الدولة. ثم أطرق طويلا مفكرا مهموما وهو يستمع لحديث نفسه وهي تقول: يطلبك الآن سيف الدولة بعد أن نبذك وازدراك وتغاضى عن إساءة أهله وعشيرته لك، وبعد أن ضجر بإقامتك ومل ثواءك؟ يطلبك بعد أن صرف وجهه عنك تياها، وترك ابن خالويه يقذفك بالمفتاح في وجهك دون أن يلقى منه نكيرا؟ لا يا أبا الطيب لست ألعوبة في أيدي هؤلاء الأمراء ينبذونها كلما ملو اللهو بها. عرفهم أبا الطيب أن نفسك أقوى من نفوسهم، وأن كرامتك فوق كرامتهم، وأنك إذا انصرفت نفسك عن الشيء لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل. على أنك قد لقيت من الشعر ما كفاك، ومن هؤلاء الأمراء المتقلبين ما تئن اليوم تحت أثقاله، لا يا أبا الطيب، لا تذهب إلى حلب، فإن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين!
ثم اتجه إلى سعد الدولة وقال: يقيم مولاي عندنا أياما ليستريح، وربما تبعته إلى حلب. وأقام سعد الدولة بالكوفة حينا، ولما عزم على الرحيل ودعه الشاعر وألقى في رحله قصيدة لأبيه من أروع ما نظمه في سيف الدولة منها:
ليس إلاك يا علي همام
سيفه دون عرضه مسلول
كيف لا تأمن العراق ومصر
وسراياك دونها والخيول؟
أنت طول الحياة للروم غاز
فمتى الوعد أن يكون القفول؟
قعد الناس كلهم عن مساع
يك وقامت بها القنا والنصول
ما الذي عنده تدار المنايا
كالذي عنده تدار الشمول
من عبيدي إن عشت لي ألف كا
فور ولي من نداك ريف ونيل
وعاد المتنبي إلى حياة الملل والفراغ، وكان صديقه الحسن العلوي يكثر من ازدياره، ويجتهد في تسليته والترويح عنه، فبينما كانا في أحد الأيام بظاهر الكوفة إذ رأيا شابا في نحو العشرين قوي العضل وثيق البناء قصير القامة غليظ الوجه عابس نظرات العينين، يبدو كأنه ساخط على الوجود ومن في الوجود، ووراءه طائفة من الأعراب في أسمال وأخلاق، وهم يسيرون خلفه في رهبة ومهابة، كما تسير العبيد خلف السيد المطاع. ومر الشاب ومن معه بالمتنبي وصاحبه، فلم يزد على أن رفع بصره إليهما في اشمئزاز، ثم ابتسم ابتسامة سخرية وازدراء. فقال المتنبي: من هذا الوغد الجافي يا سيدي الشريف؟ - هذا ضبة بن يزيد، وهو فتى قرمطي شرير خبيث، لو أراد الشيطان أن يتخذ لروحه مكانا ما اختار لها غير جسمه. إن هؤلاء القرامطة يا سيدي لم يتمسكوا بمذهبهم عن رأي وعقيدة، ولكنهم قوم صعاليك فتاكون نهابون، عز عليهم أن يروا بعض الناس في نعمة ويسر، فأوغروا صدور الفقراء على الأغنياء، وزينوا لهم نبذ طاعة كل حاكم، وأحلوا لهم السلب والنهب والقتل وكل ما يندى له الجبين من رذائل. وقد وجدت دعوتهم قبولا عند شذاذ الأعراب الذين كانوا يقتلون ويسلبون في خوف وحذر، فأصبحوا الآن يقتلون ويسلبون عن عقيدة ودين. هؤلاء القرامطة كارثة على الإسلام يا أبا الطيب. - بلا شك، وإني أعتقد أن هذه الثورات ليست إلا فتنا سياسية ابتدعها أعداء العرب لإضعاف دولة العرب، وألبسوها ثوب المذاهب الدينية. - هذا صحيح. وضبة هذا يسيطر على فريق من صعاليك بني كلاب، وأظن أنهم يدبرون خطة للهجوم على الكوفة، وقد أخذ أغنياء المدينة يحتاطون لأموالهم، ويعدون العدة لصدهم. - سأمحو بسيفي هذا وساوس عقولهم إن كان لهم عقول.
ومرت شهور ولا حديث للمدينة إلا غارات القرامطة، وتخوف الناس من وحشيتهم وقبح أفاعيلهم، وفي صباح أحد الأيام زار الحسن العلوي دار أبي الطيب وكان مضطربا مهتاجا، فحياه المتنبي، وقال: ما الخبر يا سيدي؟ اجلس واهدأ قليلا. - لن أجلس يا أبا الطيب. فإن الفرصة قد أمكنت من هذا الوغد ضبة، وقد سير إلى بعض رجالي رسولا يطلب النجدة ويقول: إنهم قد ضيقوا عليه الخناق، ولا يحتاجون إلا إلى بضعة فرسان للتغلب عليه وعلى أنصاره. قم يا أبا الطيب واركب معنا. - هذا هو اليوم الذي كنت أتمناه على الأيام فقد صدئ سيفي في غمده.
وركب أبو الطيب والشريف على رأس شرذمة من الفرسان، وما كادوا يصلون إلى ميدان المعركة حتى فر رجال ضبة شماطيط، والتجأ إلى حصن منيع أحكم إغلاق بابه، وأطل من نافذة ضيقة به وأخذ يسب ويلعن ويصيح: أين متنبيكم هذا الكاذب المنافق الجبان؟ أين ابن عبدان السقاء حتى أبصق في وجهه بصقة تذكره بالماء الذي كان يحمله أبوه؟ أين هذا الدعي الفاجر لأعلمه أن امتشاق الحسام غير نظم الكلام؟ فصاح الشريف: مرحى بمن يفر من الحراب، ويقاتل بالسباب. إنك في الحق أجبن من فأر. ولكنك في الشتم أجرأ من أسد. - إنني أقدم إذا كان الإقدام عزما، وأحجم إذا كان الإحجام حزما. فصاح المتنبي: على شرط أنك لا ترى الإقدام عزما في يوم من الأيام. - اخسأ يا دعي كندة. والله إن سيفي ليحن إلى رأسك، ولكنه يخشى أن يدنس بدمائك.
فمال الشريف على المتنبي، وقال: لقد جاوز الكلب الحد وبلغ الغاية في الإقذاع، اهجه يا أبا الطيب، اهجه من صنف كلامه ونوعه، ومزق عرضه كما تمزق النعل الخلق. فجلس المتنبي هنيهة ثم أخذ ينادي ضبة وهو في حصنه بأقبح الألقاب، وينشده قصيدة قذرة الألفاظ والمعاني قذفه فيها بكل ما حققه من السباب، ورماه ورمى أمه بما يتعفف عن ذكره أبذأ الناس لسانا. وعاد جماعة المحاربين ولم يبلغوا من ضبة مأربا، ولم يجرد أبو الطيب سيفه من قرابه.
وقال أحدهم: لقد كانت قصيدة عجيبة، وأغلب ظني أنها ستثير ضجيجا في بني كلاب.
وقال ثان: لعلها تؤدب هؤلاء القرامطة وتصرفهم عن غيهم.
وقال ثالث: إني أخشى ما أخشاه أن تصل هذه القصيدة إلى أذن فاتك الأسدي. فالتفت المتنبي في انزعاج، وقال: ومن فاتك الأسدي هذا؟ - فاتك الأسدي رجل قرمطي، وهو خال ضبة بن يزيد، وهو لص بطاش مغامر يستحل دم الحجاج في الحرم، والقصيدة كلها قذف في أخته وثلم لعرضها، ولا أعتقد أنه يسكت عن هذا أو بعض هذا. فتهافت المتنبي ساخرا، وقال:
إذا صلت لم أترك مصالا «لفاتك»
وإن قلت لم أترك مقالا لعالم
واستمر أهل الكوفة في خوف وذعر من القرامطة، وعلمت فاطمة زوج المتنبي بخبر ضبة، وتساقط إلى سمعها بعض أبيات من القصيدة فتوجست شرا، ولم تستطع أن تحادث زوجها في الأمر.
وبعد أن أشهر تجددت ثورة القرامطة وتجمعوا حول زعمائهم بظاهر الكوفة، وصمموا على الهجوم على المدينة، فالتف كبراؤها حول أبي الطيب وجهزوا فصيلة من الفرسان والرجالة لقتالهم، وقد كانوا أرسلوا إلى بغداد رسولا لطلب المعونة، وخرج أبو الطيب وعبيده للقتال وحارب أياما فأثخن في أعدائه، وانتهت المعركة، وفر بنو كلاب، وعاد الشاعر الفارس منصورا مظفرا. وجاء جيش بغداد بعد أيام فخلع قائده «دلير» على المتنبي وأجزل له العطاء، وأنشده أبو الطيب قصيدة في الميدان، وقد كان ممتطيا جواده منها:
ذريني أنل ما لا ينال من العلا
فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة؟
ولا بد دون الشهد من إبر النحل
وسارت القصيدة في البوادي، وسخط الأعراب على أبي الطيب لمدحه دلير الديلمي، ومرت شهور ضاق فيها الشاعر بالكوفة، وتمنى لو وجد إلى سواها منفدا، وفي يوم طرق بابه فارسان كان أحدهما يحمل رسالة من أبي الفضل بن العميد وزير عضد الدولة «بأرجان» يدعو فيها الشاعر إلى الرحيل إليه، ويبذل له الوعود الحسان، وكان الثاني رسولا من قبل سيف الدولة يلح عليه في الذهاب إلى حلب، ويغريه بكل وسائل الإغراء، وقد فكر المتنبي في الرسالتين وأطال التفكير، فمرة تدفعه عروبته إلى الرحيل إلى حلب وإلى السخط على الديلم وكل من يتصل بالديلم، ومرة ينفر كما ينفر المهر الشموس ويأبى أن يعود إلى رجل أهين في حضرته فلم يدفع عنه، وترك أعداءه وحساده يثلبون عرضه حتى اضطر إلى قصد الأسود الذي هدم حياته وأهدر كرامته. وانتهى بالمتنبي العزم إلى أن يعتذر إلى سيف الدولة بأبيات، وأن يقصد ابن العميد. وما كاد يلقي الخبر على زوجته حتى غشيتها غاشية من الحزن والتطير وصاحت: لا تذهب يا أبا الطيب. بالله عليك لا تذهب. إن أنفاسي لم تهدأ بعد مما لاقيت من فراقك الطويل، وإن خفقات قلبي لا تزال تأبى أن تظن أنك بجانبي، ولو كنت ممن يتقون المخاطر، ويتوقون المهالك، لكان حزني لفراقك حزن امرأة غاب عنها زوجها وبقيت تمني نفسها بلقائه، ولكنك رجل إذا ابتلعتك القفار تحديت الموت، وسخرت من الخطوب، ولم تبال بالأسود ولا بالحيات السود.
فربت أبو الطيب ذراعها في رفق وقال: لا تخافي يا فاطمة فالطريق آمنة، ولن أغيب عنك طويلا. - إن الوساوس تقتلني يا سيدي، وإني أشعر في هذه المرة - ولا أدري لم أشعر - بشيء يكاد يقف له قلبي، فبالله عليك لا ترحل يا أبا الطيب. - هذه وساوس شيطان يا فاطمة فاصرفيها عنك. ثم مد إليها ذراعيه في رفق فعانقته باكية مكلومة الفؤاد، وأخذت تردد الحسرات، وتزود بالدعوات، فاجتذب نفسه من ذراعيها وأسرع إلى الباب، فرأى عبيده قد أعدوا كل شيء للرحيل. ففصل من الكوفة ومعه ابنه محسد وعبده مفلح في أول صفر سنة أربع وخمسين وثلاثمائة قاصدا أرجان، وهو يقول:
شر البلاد مكان لا صديق به
وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
وشر ما قنصته راحتي قنص
شهب البزاة سواء فيه والرخم - كل شيء ينال بالصبر والحزم.
وبعث المتنبي إلى ابن العميد غلاما يعلمه بقدومه، وكان ابن العميد مضطجعا في دسته وحوله كبار رجاله، وقد علم في الصباح بقرب قدوم المتنبي، فالتفت إلى نديمه العلوي العباسي. - إننا ننتظر من أبي الطيب شعرا أبلغ وأروع مما قاله في سيف الدولة وكافور. - حقا إنه كان ينثر درره فوق من لا يميزون الدر من الحصى، أما وقد جاء ينشد «الجاحظ الثاني» الذي امتلك زمام الأدب، ودانت له رقاب البلاغة، فيجب أن يفكر طويلا قبل أن يقول، وأن يبرز من بدائعه ما لم يمر بخيال شاعر. - أتعرف أن الأديب أحيانا تفوته الإجادة إذا حرص على أن يجيد؟ - كيف يا سيدي؟ - إنه إذا حاول الإتقان التجأ إلى التعمق والتعمل، وأدركته حال عصبية من التشكك تحول بينه وبين فطرته السليمة، وقد لمح المتنبي الذي لم يفته شيء من خواطر النفوس هذا المعنى إذ يقول:
أبلغ ما يطلب النجاح به الطب
ع وعند التعمق الزلل
وبينما هما في الحديث إذ دخل الحاجب يؤذن بقدوم المتنبي وأنه ينتظر بظاهر المدينة، فوثب ابن العميد من مضجعه وأمر حجابه وقواده باستقباله، فسار الموكب وعاد بأبي الطيب بين مظاهر الحفاوة والإكرام، ولما مثل بين يدي ابن العميد قام له وقرب إليه كرسيا عليه وسادة من ديباج، وقال: لقد شرفت بك بلاد فارس يا أبا الطيب، ولقد كنا في شوق إليك وإلى شعرك وأدبك، وكنا نتلقط أخبارك ونتزود بما يطير إلينا من أشعارك بعد أن ملأت شهرتك الدنيا وشغلت الناس، إن شعرك أصبح حديث كل لسان، ومستشهد كل أديب، فلقد ماتت إحدى أخواتي، فورد علي نيف وستون رقعة في التعزية ما منها إلا وقد صدر بقولك:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
فوقف المتنبي إجلالا لهذا الثناء وقال: أدبي يا سيدي قطرات من بحرك الفياض، ولمحات من عبقريتك النادرة. فابتسم ابن العميد واهتز للمديح، ثم سأله عما لقيه في طريقه وما لاقاه في سفره، فأفاض في وصف الطريق وما احتمله من عناء ونصب، ثم أسرع فقال: وقد هون كل هذا رجاء مولانا والأمل في لقائه، وبحث في كمه فأخرج درجا كتب فيه قصيدة فوقف وأنشدها بين يدي ابن العميد، وكان الجمع حاشدا، وإعجاب السامعين شديدا، والثناء على الشاعر متواليا، ووصله أبو الفضل بمائتي دينار وبسيف من أثمن السيوف وأغلاها، وأفرد له دارا وخص به خدما وعبيدا. وكان الشاعر يزوره في كل يوم ويظهر الابتهاج والسرور، ويحمد الله الذي وفقه إلى قصده. واقتنص ابن العميد الفرصة فقرأ على أبي الطيب كتابه الذي سماه «ديوان اللغة»، وكان يعجب لحفظه وغزارة علمه بالأوابد والنوادر. وأراد يوما أن يتبسط مع أبي الطيب ويداعبه، فقال: إن لي نظرات ومآخذ على قصيدتك التي أنشدتها. فدهش المتنبي، وقال: ما هي يا سيدي؟ - لقد قلت:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا
وبكاك ما لم يجر دمعك أو جرى
ثم قلت بعد هذا البيت:
كم غر صبرك وابتسامك صاحبا
لما رآه وفي الحشا ما لا يرى
وهذا تناقض بين، فقد أخبرتنا في البيت الأول أن حبك وبكاءك ظاهران سواء أصبرت أم لم تصبر، وسواء أجرى دمعك أم لم يجر، ثم عقبت بأن صبرك خدع الناس وأخفى عليهم وجدك وهيامك. فأسرع المتنبي وقال: تلك حال وهذه حال، غاية الأمر أن البيت الثاني متقدم في الوجود على البيت الأول؛ لأن هذا المحب في أول أمره وقبل أن يضنيه الهوى، ويغير حاله الهيام، كان يغر من رآه، ولكنه بعد أن ألح عليه السقم لم ينفعه الجلد ولم يغن عنه الصبر، فبدا هواه لكل ناظر. - هذا طريق ملتو لا تدرج فيه العقول. ثم ماذا تقول في مخالفتك بين مصراعي البيت الأول؟ فقد أتيت في المصراع الأول بإيجاب بعده نفي، وفي المصراع الثاني بنفي بعده إيجاب. - إنها مخالفة في اللفظ لا في المعنى يا سيدي؛ لأن من صبر لم يجر دمعه، ومن لم يصبر جرى دمعه. فقهقه ابن العميد وصاح: لن تغلب يا أبا الطيب، فإن لك في كل مضيق منفذا يخفى على كل عين.
وذهب المتنبي إلى داره وقد آلمه النقد فالتقى بابن حمزة، وقال: لقد ألقى علي سيدك الرئيس اليوم درسا في الأدب والنقد. ثم أخبره بما دار في المجلس فهون عليه الأمر، وقال: إنها ممازحة أديب. فصاح المتنبي: لا أحب هذه الممازحات. - لقد أكرمنا الرجل وأحسن مثوانا، فيجب أن نغضي عن بعض ما لا نحب، بل يجب أن نعترف له بالسبق في ميدان الأدب في شيء من المجاملة والتواضع.
وجاء عيد النيروز وهو عيد يحتفل فيه الفرس بقدوم الربيع، وينثرون الورود في كل مكان، وينظمون من الأزهار عقودا وتيجانا، فأعد المتنبي قصيدة من أروع الشعر وأبدعه خيالا وأحلاه رنين نغم، هنأ فيها أبا الفضل بالنيروز، واعتذر عن بعض تقصيره في قصيدته الرائية، وقد جاء في القصيدة الجديدة :
نحن في أرض فارس في سرور
ذا الصباح الذي نرى ميلاده
عظمته ممالك الفرس حتى
كل أيام عامه حساده
ما لبسنا فيه الأكاليل حتى
لبستها تلاعه ووهاده
عند من لا يقاس كسرى أبو سا
سان ملكا به ولا أولاده
عربي لسانه فلسفي
رأيه فارسية أعياده
وقضى الشاعر شهرين في ضيافة ابن العميد محفوفا بصنوف الإكرام والرعاية، ولكن نفسه الملول أبت عليه أن يركد في مكان كالماء الآسن، فاغتنم لقاء الرئيس واستأذنه في الرحيل، ولكن ابن العميد فاجأه بأن عضد الدولة ملك شيراز أرسل يلح في قدومه إليه، ويتشوف إلى لقائه، وأنه بعث إليه بهدايا لم تظفر بمثلها الملوك. فاضطرب المتنبي، وقال: بالله يا سيدي دعني من هؤلاء الديلم. إنني شاعر عربي وما أنزل الله الشعر على قلبي إلا لأكون لسان العرب، وعنوان العرب، ومعيد مجد العرب. - إن عضد الدولة رجل ديلمي النسب حقا، ولكنه عربي النفس عربي النزعة، وهو أديب شاعر يناصر العلم ويرفع شأن دولة العرب، وسيصل إليك من عطائه وصلاته فوق ما يتوهم خيال شاعر. - بالله عليك يا سيدي لا تغرني بهذه الوعود، فإني ملقى من هؤلاء الملوك، ملدوغ من جحورهم مرات. ولولا مطامحي ما أصغيت إلى أكاذيبهم، ولعشت في خير حال، أقصد الواحد منهم بعد الآخر، فأتوجه إليه بآيات خالدات من الشعر الذي تحسده لآلئ البحار، فإذا نال مني لا يبتغي تنكر لي، وصرف عني وجهه في صلف وكبرياء. - إن عضد الدولة ليس من هذا الصنف يا أبا الطيب، إنه رجل خلق ليكون ملكا، وملك خلق ليكون رجلا، فلو أقمت عنده ما أقمت لكان في يوم وداعك أحف منه بك في يوم استقبالك. - ولكني يا سيدي رجل ملول شديد الضجر مولع بالنقلة، وهذا لا يرضي هؤلاء الملوك الذين يلذ لهم احتباسي على الرغم مني، فإذا قبلني على أن أقيم عنده كما أشاء، وأرحل عنه متى أشاء توجهت إليه.
وكاتب ابن العميد عضد الدولة بشروط المتنبي، فقبلها فشد الرحال إلى شيراز كارها، وقد زاد به الحنين إلى زوجه ، وعادت إليه أطياف للشام وحلب، ومر في طريقه بشعب «بوان» وهو غيضة كثيرة الأدواح الملتفة المزهرة، والأشجار المثمرة، والمياه المتدفقة، وهو أحد متنزهات الدنيا الأربعة، وقد أوحى هذا الشعب إلى أبي الطيب بروائع المعاني، وهاج في نفسه ذكريات دمشق والعروبة وما للعرب من كرم ومجد حين يقول:
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
طبت فرساننا والخيل حتى
خشيت وإن كرمن من الحران
غدونا تنفض الأغصان فيها
على أعرافها مثل الجمان
فسرت وقد حجبن الحر عني
وجئن من الضياء بما كفاني
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيرا تفر من البنان
لها ثمر تشير إليك منه
بأشربة وقفن بلا أواني
وأمواه تصل بها حصاها
صليل الحلي في أيدي الغواني
ولو كانت دمشق ثنى عناني
لبيق الثرد صيني الجفان
ثم عاوده الحنين إلى زوجته وإلى الشام عامة، فقال:
شامية طالما خلوت بها
تبصر في ناظري محياها
فقبلت ناظري تغالطني
وإنما قبلت به فاها
فليتها لا تزال آوية
وليته لا يزال مأواها
كل جريح ترجى سلامته
إلا فؤادا رمته عيناها
ما نفضت في يدي غدائرها
جعلته في المدام أفواها
ولما كان على نحو أربعة أميال من شيراز أرسل عضد الدولة وجوه دولته لاستقباله، وبلغ القصر في هذا الموكب الحافل فأحسن عقد الدولة لقاءه، وأنشده أبو الطيب قصيدة نال عليها أجزل الصلات وأنفس الهدايا. وكان من شهود الحفل أبو علي الفارسي وعبد العزيز الجرجاني، وهما من كبار رجال اللغة والأدب، وأقام في ذرا ممدوحه زهاء ثلاثة أشهر كان فيها موضع الإكرام والحفاوة، ولكنه كان ضجرا كثير القلق، يمل النعيم وينزع إلى المخاطر، ولقد كان يعبر عن نفسه حقا حين قال:
أبوكم آدم سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان
فلما طغت عليه السآمة دخل على عضد الدولة واستأذنه في السفر وألح، ولم يجد الرجل بدا إلا أن يأذن له، وعاد المتنبي إلى داره فأخبر ابن حمزة ومحسدا بعزمه، وأمر مفلحا أن يستعد بعد ثلاثة أيام، فقال مفلح : سأعد كل شيء يا سيدي غير أني أود أن أخبر مولاي بأمر يزعجني، وقد يكون تافها، وقد يكون من وساوس نفسي. - ما هو؟ - رأيت قبل أن نرحل من أرجان أعرابيا يطوف حول دارنا ويكثر التلفت والنظر، فلم آبه له ولكني عدت فرأيته هنا بالأمس فسألته عن شأنه، فقال: إنه رجل فقير رحل من العراق إلى فارس طلبا للرزق، ولكنه لم يجد عملا، ثم سألني عن موعد عودة سيدي إلى العراق، فلما قلت له: إني لا أعلم، وأظهرت الريبة في أمره، قال: إنه لا يملك راحلة، وإنه يطمع في أن يحمله سيدي معه إلى العراق، وإنه لذلك يسأل عن موعد سفره، فزجرت الرجل وأبعدته عن الدار. - لا أرى من بأس في أن نحمل الرجل. فقال ابن حمزة: لا تتسرع يا أبا الطيب، فقد يكون الرجل نذير شر، وقد يكون جاسوسا عليك من أعدائك بعثوا به إلى فارس ليخبرهم بيوم رحيلك إلى العراق. - هراء. إنني أتسلح بشجاعتي لا أبالي بمن علم بمقامي أو رحيلي. على أن المتنبي قد ساوره شيء من الخوف. وطافت بنفسه ذكريات ضبة وخاله فاتك، ولكن هذا الخوف لم يدم طويلا، فهز كتفيه في استخفاف، ثم طلب إلى مفلح أن يعد ورقا وأقلاما، وقام إلى حجرته فكتب قصيدة يودع بها عضد الدولة، وركب إليه في الصباح وأنشده القصيدة، فأجزل عطاءه وأحسن توديعه. وبينما كان المتنبي وصحبه وعبيده يستعدون للرحيل إذ لمحوا فارسا على جواد أشهب يسبقهم إلى طريق العراق، فصاح مفلح: هذا هو الأعرابي الذي كان يحوم حول دارنا بأرجان فقال محسد: ويل للوغد. حقا إنه كان يترقب موعد سفرنا ليعوف الطريق الذي نسلكه. وقال ابن حمزة: هذا هو الذي ظننته. وامتطى المتنبي جواده وهو يقول:
فزل يا بعد عن أيدي ركاب
لها وقع الأسنة في حشاكا
وأنى شئت يا طرقي فكوني
أذاة أو نجاة أو هلاكا
قتل
في أحد أرباض الكوفة، وفي ليلة حالكة السواد شديدة البرد، اجتمع عدد من الرجال يزيد على العشرة بدار مجاشع الكلابي، وجلسوا حول النار يصطلون. وكان بالحجرة سراج خافت النور كاد يجف زيته، فأخذ يخفق كأنه مريض دنف دهمه الفواق قبل أن يسلم الروح. وكان جو الحجرة يوحي بالحزن والفجيعة والدمار، ولو كشف عن البصر الحجاب لرأى فوق رءوس هؤلاء المقعين حول النار أرواح الشياطين تحوم في مرح، وتصفق بأجنحتها في جذل وشماتة. وكلما التمع السراج كشف من القوم وجوها عابسة شرسة شريرة جرحتها السيوف وخرقتها السهام، وأعينا يتأجج فيها الغدر، وتضطرم الأحقاد. رفع مجاشع الكلابي رأسه، وقال: لقد مر بنا حين من الدهر لم نجرد فيه سيفا، ولم نركض جوادا، حتى كدنا نفقد صفات البطولة، وننام على الطوى، ونعلل صغارنا بالماء. فقال شمر بن وهب: كنا نسقط على مدينة الكوفة بين الحين والحين، ولكن أهلها أخذوا لأنفسهم الحيطة وأعدوا جيشا مرابطا، واستعانوا ببعض جنود بغداد، فكلما أرسلنا عليهم غارة شتتوا شملها، وأثخنوا في رجالها. فقال مجاشع: وكلما توالت هزائمنا تفرق عنا الطامعون في الغنائم؛ حتى أصبحنا قلة ضئيلة خائرة العزائم. فأسرع فهد القيسي قائلا: وكانت قاصمة الظهر تلك الهزيمة التي رمانا بها ذلك المتنبي الشاعر الدعي، والله لو ظفرت به لشربت دمه. - صدقت يا فهد، ولن تفوتنا حياته ولو كانت في قمقم سليمان. أتدرون لم أمرنا ضبة بن يزيد بالاجتماع هنا الليلة؟ فقال شمر: لا أدري، ولكني علمت منذ أيام أن خاله فاتكا قد يزور الكوفة في طريقه إلى واسط. - فاتك؟ إنه رجل أي رجل. ولعله يهدينا إلى صيد جديد، فقد ظمئنا إلى الدماء، وصفرت أيدينا من المال. ثم سكت القوم هنيهة فسمعوا عن بعد عواء كلب جائع مقرور اخترق صوته سواد الليل حزينا مؤلما، كأنه ندب الثواكل، ولم تمر إلا لحظات حتى سمع طرق خافت. فقام مجاشع ففتح الباب وعاد معه فاتك الأسدي وضبة، فقام القوم لتحيتهما في شيء من الرهبة والمهابة، وكان فاتك في الثلاثين من عمره، طويل القامة متين العضل متناسق التكوين شديد السمرة عربي الملامح براق العينين في وميض يكاد يصرع من يراه، وكان كث اللحية وقد وقف شعرها كأنه شوك قنفذ. حيا فاتك الجماعة في ابتسامة كأنها كشرة الأسد ثم قال في لهجة العاتب: لقد جئت الليلة أيها الإخوان لأمر ذي بال أردت أن أحدثكم فيه، ولو أن واحدا منكم هزته الأريحية وثارت في نفسه الغيرة لقبيلته وقومه لأغناني عن تجشم الطريق واجتياب القفار، كلكم أهل لضبة، وكلكم قبيله وأنصاره، وإذا مس عرض ضبة فقد مست أعراضكم جميعا، وإذا طعن شرفه فقد أصابتكم الطعنة جميعا، ولقد ترامت إلى أخبار أقضت مضجعي، وأنبتت الشوك في وسادي، وتناقل الرواة أبياتا قذرة من شعر نجس لطخ به ذلك الشاعر الدعي المنبوز بالمتنبي ابن أختي ضبة، يا للهول. ويا للعار. إنه لشعر تتعفف البغي عن أن تدنس فمها بكلمة منه، ويأنف مجان الحانات من أن يلقوا إليه سمعا، فقد ولغ هذا الكلب الفاجر في عرض أختي فلم يترك كلمات من مستقذرات اللغة حتى وصمها بها، ولم يدع سهما مسموما بالفحش والإقذاع حتى صوبه إليها، وعجيب أن يقال هذا الكلام الدنس فتتناقله الصبيان، ويتنادر به المجان، وتسير به الرواحل من بلد إلى بلد، وتملأ ريحه المنتنة جو الصحراء، ثم لا تثورون ولا تغضبون. ثم لا تروون سيوفكم من دماء هذا الغوي الأفاك. ثم لا تمحون هذا العار عن أنفسكم وعن قبيلتكم بضربة فيصل. لقد أصبحتم متندر القبائل، وسخرية العرب جميعا.
ولقد جئت أيها الإخوان لأغسل العار عن نفسي وعنكم، لقد جئت لأجرد سيفا وأصون شرفا، لقد جئت لأقطع لسان الأفعى وأهشم أنيابها. مرحى. مرحى. يا لضيعة العرب. شرف أختي يمرغ في التراب في كل مجلس وفي كل سامر، وأخوها فاتك الذي ترتجف لهوله الصحاري، ويخلع اسمه كل قلب، ويجلس في عقر داره هانئا رضيا، لا يأخذ لها بثأر ولا يدفع عنها بيمين؟ شرف أختي يداس بالنعال وأهلها ينظرون واجمين ذاهلين؟ فصاح مجاشع: غدا نذهب إلى الكوفة ونذبحه ولو كان بيد ذراعي أسد. فأجابه فاتك حزينا: إنه ليس بالكوفة، إنه رحل منذ شهر أو أكثر إلى بلاد فارس. - نذهب إلى فارس ونقتله ولو كان في حماية كسرى أنو شروان. وهنا وقف شمر بن وهب، وقال: الرأي عندي يا سيدي أن يرحل أحدنا إلى فارس، وأن يبحث عنه حتى يصل إلى مكانه، ثم يوجر فيه خنجره. فقال فاتك: لقد قاربت الصواب فإني أوافقك على أن يسافر رجل منا إلى فارس ليعرف مكانه، ويرقبه عن كثب، حتى إذا رحل عائدا إلى العراق أسرع إلينا بدير العاقول، فأخبرنا بطريق مروره فسرنا نحوه ووثبنا عليه ومزقناه تمزيقا، فقال ضبة: ولم لا نقتله بفارس ونستريح من مشقة السفر ومظنة فراره؟ - ذلك لأننا لا نريد أن نكتفي بسفك دمه، وإنما نريد فوق ذلك أن ننهب كل ما سيعود به من فارس من أموال ونفائس وذخائر، وتحف أغلى من أن تقدر بثمن، وأعز من أن يحوزها قصر ملك. فصاح القوم جميعا. - نعم الرأي يا فاتك، إنك لرجل ملقن.
واتفق القوم على أن يرحل شمر بن وهب إلى فارس، وأن يضم ضبة إلى جماعتهم نحو عشرين لصا من فتاك الأعراب، وأن يسيروا جميعا تحت لواء فاتك إلى دير العاقول لينتظروا فريستهم هناك، وليتربصوا للقتل والغنائم. وتفرق القوم على أن يلتقوا في موعد ضربوه.
وخرج المتنبي من شيراز في نحو العشرة من عبيده ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب والطيب والثياب والكتب ونفائس الهدايا، وسار الركب في جو باسم الصباح رقيق النسيم، وكان المتنبي على غير عادته منبسط أسارير الوجه إلى ما يقرب من المرح، حتى إنه كان يمازح ابن حمزة ويصغي في أناه ورفق إلى حديث محسد، ويداعب مفلحا ويدعوه بكافور الأمين. وقد تكون هذه النشوة الطارئة؛ لأنه استطاع أن يتخلص من الديلم من غير اصطدام أو عربدة على خلاف عادته في مفارقة كل أمير أو ملك؛ وقد تكون لأنه أنقذ نفسه ولسانه من مدح غير العرب والإشادة بمجد غير مجد العرب، فقد كان شيء من ذلك يؤلم نزعته العربية، ويكدر عليه صفو حياته؛ وقد تكون لأنه عاد إلى وطنه بهذه الأحمال والأموال والكنوز التي لم يظفر بمثلها شاعر منذ هلهل ابن ربيعة الشعر؛ وقد تكون لأنه وقد طالت عليه الغربة واشتد به الحنين يشعر اليوم بأنه عائد إلى أهله وزوجته التي لا يزال يحس بخفقات قلبها في صدره ساعة توديعه وبتناثر دموعها فوق خديه. قد تكون هذه النشوة الطارئة لهذا جميعه أو لشيء منه أو لشيء لم نعرفه من نزعات هذه النفس الضخمة المليئة بالأسرار. وحينما لمح ابن حمزة هذه البارقة العابرة التي قليلا ما لمعت بهذا الوجه الغائم العبوس أراد أن يغتنمها، فقال: ما رأيك يا أبا الطيب في سيف الدولة؟ - عربي قصير الباع طويل الأمل. وعيبه أنه إذا من من. - وماذا ترى في كافور؟ - غراب حوله رخم وبوم. - وكيف نصف المهلبي؟ - هر رأى في مرآة كاذبة أنه أسد. - ومعز الدولة؟ - شبح للجهل والبخل والشراسة.
يحسبه الجاهل ما لم يعلما
شيخا على كرسيه معمما - وماذا تقول في ابن العميد؟ - رجل ما زال يغري الشعراء بمدحه بالأدب والكتابة، حتى اعتقد آخر الأمر أنه أديب كاتب. - وعضد الدولة؟ - تاج من ذهب فوق رأس من خزف. - وما رأيك في عبد العزيز الجرجاني؟ - أراد أن يفلسف الأدب فشوه الأدب وأضعف الفلسفة. - وماذا ترى في أبي علي الفارسي؟ - أعجمي حاول أن يطوع اللغة إلى أصول وهمية هي أبعد في الخيال من شعري. - وكيف تراني؟ - فيك ما يجعلك لسان نفسك، ولكنك تأبى إلا أن تكون لسان غيرك.
فضحك ابن حمزة وابتسم المتنبي، ولكن هذا الابتسام طار من وجهه بعد قليل وخلفته سحابة مظلمة من الحزن والكآبة، فزفر وقال:
وما الموت إلا سارق دق شخصه
يصول بلا كف ويسعى بلا رجل
ثم أخذ يردد:
نعد المشرفية والعوالي
وتقتلنا المنون بلا قتال
وهنا قال ابن حمزة: ما هذا الشعر القاتم يا أبا الطيب؟ وما لنا ولذكر الموت والمنون؟ - الموت يا ابن حمزة راحة الحزين وموئل اليائس. كانت لي آمال ومطامح يا ابن حمزة فأين هي؟ أرأيت هذه الذرات التي تتراقص في أشعة الشمس والتي يسمونها بالهباء؟ هذه هي آمالي. أرأيت هذه الحفرة هناك؟ إنها كانت بئرا فطمرتها الرمال وغطتها السوافي، هذه هي آمالي. أرأيت إلى هذا النسيم الذي إذا مددت إليه يدك لتقبض عليه فر من خلال أصابعك؟ إنه يا ابن حمزة آمالي. كانت لي آمال، وكانت لي مطامح، فعبثت بها يد الأيام، وطوحت بها الطوائح. وكانت لي أحلام ناضرة باسمة فتيقظت بعد نهاية العمر فلم أجد نضرة ولم ألمح ابتساما، كنت أطمح إلى أن أكون رجل الدنيا فأبت علي الدنيا، وكنت أطمح إلى أن أكون ملكا فنبذتني العروش وسخرت مني التيجان. وكنت أقول:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ
كأنهم من طول ما التثموا مرد
فلم أجد مشايخ إذا وجدت الحق، ولم أجد الحق إذا وجدت المشايخ، وأنا اليوم أعود إلى داري بالكوفة شيخا هما حطمته الأيام وثلمته الحوادث. - ما هذه الخواطر السود يا أبا الطيب؟ لقد أعطتك الدنيا من الجاه والمال وبعد المنزلة فوق ما تمتد إليه أعناق الشعراء.
وبلغ الركب الأهواز بعد عشرين يوما، فحط الرحال ليستريح وأسرع أبو الحسن السوسي عامل الأهواز فاستقبل المتنبي وأضافه أياما، ثم استأنف الرحيل إلى واسط، وفيها كتب عنه ابن حمزة بعض قصائده في عضد الدولة، واعتذر عن التخلف عنه لمرض نزل به، فسار الركب قاصدا إلى بغداد ثم الكوفة، ومر المتنبي ببلدة تسمى «جبل»، فنزل ضيفا على أبي نصر محمد الجبلي فأحسن الرجل وفادته وأكرم مثواه.
أما عصابة فاتك فقد أحكمت إنفاذ مؤامرتها، ورحلت عن الكوفة على النحو الذي دبرته، وربضت بدير العاقول تنتظر قدوم المتنبي، فأسرع إلى القوم شمر بن وهب جاسوسهم بفارس وأخبرهم برحيل المتنبي، وبأنه كان يرقب طريق سيره، وبأنه رآه بالأمس وهو يحط رحاله بجبل، فتواثبوا إلى خيولهم وأخذوا يجوبون الطريق بين دير العاقول وجبل.
وحينما عزم المتنبي على الرحيل جلس إليه أبو النصر، وقال: على أي شيء أنت مجمع يا أبا الطيب؟ - لقد عزمت على الرحيل مساء اليوم، وسأتخذ الليل مركبا فإن السير فيه يخف علي. - نعم الرأي يا أبا الطيب. ولكني أرى أن يكون معك جماعة من رجال هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة. فقطب المتنبي وجهه، وقال: لم تقول هذا يا أبا النصر؟ - إنما أردت أن تستأنس بهذه الجماعة في الطريف فصاح في غضب: أما ونجاد السيف في عنقي فما بي حاجة إلى مؤنس غيره. فأجابه في مضض: الرأي لك يا أبا الطيب، وإنما كنت لك نصيحا. - إن تلويحك يا أبا نصر ينبئ بشيء، فعرفني جلية الأمر. فزفر الجبلي زفرة طويلة وقال: جلية الأمر يا سيدي أن فاتكا الأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام، وهو يتقد عليك غضبا؛ لأنك هجوت ابن أخته ضبة، وقد بدرت منه بوادر توجب عليك الاحتراز والتيقظ، ومعه نحو ثلاثين من بني عمه يأكلون النار ويحطمون الحجر الأسود. فالرأي يا سيدي أن تأخذ معك عشرين رجلا يسيرون بين يديك إلى بغداد. فانتفخت أوداج المتنبي من الغيظ وصاح: لا والله لا أرضى أن يتحدث عني الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي.
فأسرع أبو النصر يقول وقد نفذ صبره: يا هذا، إني سأوجه معك قوما من قبلي يسيرون بسيرك، ويكونون في خفارتك. - لا والله لا فعلت شيئا من هذا. أمن عبيد العصا تخاف علي؟ والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد كلهم معطشون بخمس، وقد نظروا إلى الماء كبطون الحيات، ما جسر لهم خف ولا ظلف أن يرده. معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة عين، إنهم كلاب عاوية يا أبا نصر، ولن يمسوا شعرة مني. - قل: إن شاء الله يا أبا الطيب. - هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيا، ولا تستجلب آتيا.
وركب المتنبي ومعه عبيده وذخائره في ليلة حالكة الظلام، وأخذ طريقه حتى حاذى النعمانية، ثم أغذ السير حتى قارب الصافية وبينها وبين بغداد ستة عشر فرسخا. وفي اليوم الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة خرج عليه في هذا المكان فاتك ورجاله، فقاتلهم الشاعر قتال الأبطال، حتى قتل جميع من كانوا معه وبقي وحيدا يضرب بسيفه ذات اليمين وذات الشمال، وقد نال منه الضعف وأخذ منه الوهن ، فحمل عليه فاتك وطعنه في جنبه الأيسر فأسقطه عن جواده فارتمى على الأرض، وأخذ يجود بأنفاس قصار تزاحمها حشرجة الموت ويردد:
ردي حياض الردى يا نفس واتركي
حياض خوف الردى للشاء والغنم
إن لم أذرك على الأرماح سائله
فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
Shafi da ba'a sani ba