خمس سنوات يا علاء وأنت تقود الباصات وتمشي في الجنازات، ترقد إلى جوار زوجتك صامتا مرهقا تفكر في مستقبل أطفالك الخمسة، وأطفال الجيران، وكل الأطفال الذين قتلوا أمام عينيك.
تنام كل ليلة وأنت تفكر في الموت، تسأل نفسك في الحلم، إذا كان الموت هو النهاية، فلماذا لا أفعل شيئا بسيطا قبل أن أموت؟ ويشتغل عقلك الباطن في النوم، ترى نفسك داخل الباص، الذي لم يعد باصا بل طائرة تقودها بنفسك، لم تركب في حياتك طائرة، لكن قدراتك في الحلم تدهشك، تقتحم بالطائرة عاصمة الأعداء، تل أبيب نفسها تدخلها، تلك التي لا يدخلها أي جيش عربي، ولا جيوش العرب جميعا مجتمعين في القمم وغير القمم، الجهابذة منهم والأباطرة والأسياد والسادة المؤيدين والمعارضين، اليسار منهم واليمين والوسط، ويسار الوسط ويمين الوسط، فهؤلاء جميعا يا علاء أصبحوا بغير سلاح إلا فصاحة اللسان في الشعر والخطب والمقالات المحبرة فوق الورق.
ترى نفسك في الحلم يا علاء تقود الطائرة من الفولاذ وليس من الورق، طائرة مصفحة تكاد تشبه الباص الذي تقوده كل يوم من الصباح إلى المساء، يهتز بك سريرك وأنت نائم حين يقتحم تل أبيب الباص المصفح، الذي أصبح يطير في الجو مثل الطائرة تماما، وأنت وراء عجلة القيادة.
في الصباح وجدت نفسك في بيتك موقوفا عن العمل، منذ بداية الانتفاضة طردوك أنت وزملاءك، أصبحت تخرج كل يوم تبحث عن رزق أطفالك الخمسة وتعود فارغ اليدين، ستة شهور يا علاء وأنت تمشي في الشوارع وفي الجنازات، لا شيء أمامك إلا أن تموت أنت وأطفالك، لكن قبل أن تموت ماذا تفعل.
هكذا رأوك تمشي في الشوارع شارد الذهن، تدوس على دم الأطفال الشهداء وتمشي، تغمض عينيك لحظة، ترى نفسك راكبا الباص كالطيارة، تنقل زملاءك العمال حتى مفترق اليازور، القرية التي دمرها جيش الاحتلال جنوب تل أبيب، تدور عجلة القيادة في يدك نصف دورة، وتنطلق كالطائرة نحو ثكنات العدو.
تفتح عينيك يا علاء وترى نفسك تمشي في الشارع، تدوس على دماء لم تجف، تتعثر في أشلاء الأطفال، والرصاص يدوي في أذنيك، وأنت تمشي، هكذا تمشي لا تعرف إلى أين، لم تدخل في حياتك حزبا يا علاء، لم تنضم إلى تنظيم أو جماعة، لم تعلق في بيتك صورة شهيد، كنت مثال الطاعة والهدوء والعمل دون شكوى، خمس سنوات تقود الباصات تحت عيون الرقابة والجنود، والضباط المهرة المدربين على الاستجواب والتحقيق، ورؤساؤك في شركة الباصات، والجميع شخصوك بأنك إنسان بسيط لا تحيط بك أي شكوك، لم يسبق لك أن اعتقلت من قبل جيش الاحتلال أو الشرطة الفلسطينية ولم تكن لك مشاكل سياسية أو أمنية أو جنائية، أنت إنسان عادي بسيط لك زوجة وخمسة أطفال، وليس شابا أعزب طائشا.
كيف إذن يا علاء يحدث ما حدث صباح الأربعاء 14 فبراير؟ منذ أيام قليلة أعادوك إلى عملك، ولم تعرف لماذا أعادوك، هل قمعوا الانتفاضة؟ هل مات كل الأطفال؟ هل نفدت كل قطع الحجارة من الشوارع؟
خرجت يا علاء ذلك الصباح صامتا كعادتك شارد الذهن، جلست وراء عجلة القيادة داخل الباص، أنزلت العمال جميعا عند مفترق اليازور جنوب تل أبيب، وفجأة دارت عينيك نصف دورة، رأيت الفرقة العسكرية، ثلاثين من جنود الاحتلال واقفين هناك، أغمضت عينيك كما في الحلم، تحول الباص إلى الطائرة المصفحة، انطلقت نحوهم مثل الصاروخ، سقط منهم ثمانية قتلى وواحد وعشرون جريحا.
عقدت الدهشة ألسنة رؤسائك في شركة الباصات، لم يفهموا كيف يقوم إنسان بسيط مثلك بمثل هذا الهجوم، لكن زملاءك البسطاء قالوا: ما حدث لعلاء أمر بسيط طبيعي، إن ما نراه في حياتنا كل يوم يجعل الإنسان البسيط منا يقوم بأي شيء، ما فعله علاء ليس عملا جنونيا ولا انتحاريا ولا أي شيء، لقد فعل ما يفعله كل منا وهو نائم في الحلم.
القاهرة، 15 فبراير 2001
Shafi da ba'a sani ba