ثم رنت كلمة «العمدة» في الجو كطلقة الرصاص. فتحوا عيونهم فجأة، سمعوا صوت أمها تلعن العمدة، لأول مرة يسمعون امرأة تلعن العمدة. كان يمكن أن تلعن الملك أو فرعون أو الأنبياء. وكلهم أسماء يقرءون عنها في الكتب، أو يرون وجوهها على ورق الصحف. مجرد صور، لكن العمدة شخص حقيقي يرونه يمشي فوق الجسر. يطل من بيته عليهم. يسمعون صوته حين يخطب، وله سجن بجوار القبور، وسلاسل، وجنود.
تجمع الخفراء حول أمها. عشرون خفيرا أو أكثر. ثلاثون أو أربعون، هكذا قال أهل الكفر. لم يتغلبوا عليها. كانت تضرب الواحد منهم بقبضة يدهما فيسقط في بطن الجسر. قالوا إن عفريتا ركبها اسمه إبليس، وكان إبليس معروفا في الكفر منذ فرعون الأول. يرونه يمشي في الليل بالقرب من الجبانة. يركب النساء أكثر مما يركب الرجال، وإذا ركب إبليس امرأة تصبح في قوة أربعين رجلا. تركب أي رجل وإن كان هو العمدة.
لم يعد أحد يقترب من أمها. يرمقونها من بعيد بعيون وجلة. يتمتمون بآية الكرسي. يطردون الشيطان وأرواح الجان، وتمشي أمها فوق الجسر رافعة رأسها نحو السماء. ولدي فين يا زهرة؟ الأطفال من حولها يرددون ويغنون: ولدي فين يا زهرة؟ تدور حول نفسها تضحك حتى تدمع عيناها من الضحك. تتجمد الضحكة في حلقها. تجف عيناها من البكاء. تحملق في الفراغ. - يا أم العدل والرحمة، فين ولدي؟
وتمشي بقدميها الكبيرتين في الأزقة. تبحث بين أكوام السبانخ. فين ولدي يا ناس؟ تدق الأبواب في الليل وتسأل: فين ولدي يا هو! تصعد إلى الجسر وتمشي على حافة النيل. يسقط ضوء القمر على شعرها الأسود الطويل. بشرتها شاحبة بيضاء خالية من الدم. - جنية البحر!
يختفي الأطفال في بطن الجسر، يقذفها الرجال بالطوب، كأنما يرجمون إبليس، وهي تمشي برأسها المرفوع نحو السماء. من خلفها شريط من الدم ينزف. تمشي لا تتوقف. ينهال الطوب عليها من كل جانب، وهي تمشي. تدوس بكل قدميها فوق الأرض. رأسها مرفوع لا يسقط. تنساب خيوط الدم من أنفها وفمها وعينيها وهي تتقدم خطوة بعد خطوة. تغيب الشمس وراء الأفق وهي لا تسقط. يختفي جسمها عند الخط الفاصل بين الأرض والسماء ورأسها مرفوع لا يسقط. صوتها يسري في أذنيها، وهي راقدة فوق البرش، هامسا كحفيف الهواء. - فين أخوك يا نفيسة؟
مسحت دموعها بكف يدها، واقفة خلف النافذة داخل جلبابها الأبيض. عنبر الحريم غارق في الظلمة. مدت عنقها بين القضبان وجذبت نفسا طويلا بلا هواء. صهد ساخن وذرات رمل. الصحراء ممدودة كبحر أسود من القطران. رائحة جاز محروق أو نفط.
انفرجت شفتاها عن نداء هامس: يا رب!
كان واقفا وراء جذع الشجرة حين سمعها تناديه. لم يتعرف على صوتها أول الأمر، ظن أنها الرئيسة فاختفى وراء الجذاع، لكن الصوت يأتي من عنبر الحريم. خيال امرأة يتحرك وراء النافذة. انتصبت أذناه مرهفتين. - يا رب!
صوتها ضعيف ممطوط يشبه صوت نفيسة. خرج من وراء الشجرة وظهر تحت الضوء. تراجعت إلى الوراء خطوة. طويل عريض ورأسه ملفوف بالعمامة يشبه العمدة، له هيبة الملك أو الرئيس، لكن قدميه حافيتان. أيكون هو الرب؟ كانت ترى الرب في أحلامها يمشي بلا حذاء كأمها. قدماه كبيرتان يدوس عليها بكل ثقله. من خلفه ترى ظله فوق الأرض طويلا. قدماه مرسومتان على الطريق كقدمي أمها. عيناها تتبعان الأثر. ينتهي الطريق الزراعي ويبدأ الشارع الأسفلت. تختفي قدماه وتضيع العلامة. تتلفت حولها وتسأل أين هي. تسمعهم يقولون القاهرة، وسألت رجلا يمشي على عكاز: يعني إيه القاهرة يا عم؟ - يعني اللي تقهر الناس. - يا مصيبتي!
بصقت في فتحة جلبابها عند العنق. سارت في طريقها مفتوحة العينين. الأسفلت يلسع بطن قدمها. أحذية جلدية تدب فوق الأرض. وجوه النساء مصبوغة وسيقانهن عارية. أبواق تزعق وأجراس تصلصل وآلاف الأصوات تدوي من فوق المآذن، وطبول تدق، وصفوف من الجنود تدق الأسفلت بكعوب حديدية، دبابات، وسيارات تطلق صفارات.
Shafi da ba'a sani ba