ثمن الكتابة
جنات تأتي
الجلسة الأولى
امرأة أخرى
نرجس
معركة في الليل
نفيسة
جنات في لحظة إفاقة
الذنب
في البدء كانت السحلية
Shafi da ba'a sani ba
الحب الآثم
نفيسة تكف عن النداء
جنات تخرج
براءة إبليس
ثمن الكتابة
جنات تأتي
الجلسة الأولى
امرأة أخرى
نرجس
معركة في الليل
Shafi da ba'a sani ba
نفيسة
جنات في لحظة إفاقة
الذنب
في البدء كانت السحلية
الحب الآثم
نفيسة تكف عن النداء
جنات تخرج
براءة إبليس
جنات وإبليس
جنات وإبليس
Shafi da ba'a sani ba
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل، وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها، وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
Shafi da ba'a sani ba
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة إنتي. - إنتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف إنتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
Shafi da ba'a sani ba
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
جنات تأتي
ذلك الصباح شقت الشمس السحب المتراكمة في الليل، وانفتحت البوابة الضخمة. مفاصلها الحديدية طقطقت بصرير الساقية العتيقة، صوت لم يكن مألوفا في ذلك السكون المطبق، طارت بعض العصافير من الفزع أو الفرح، أصبح لها صوت يشبه الزقزقة.
دبت حركة في الأجساد الجالسة فوق الأرض. أجساد بشرية من بني آدم وبنات حواء، اتسعت عيونهم وعيونهن نصف المغلقة فيما يشبه النوم. كانوا جالسين، الرجال منهم، والنساء جالسات، فوق مساحة من الأرض الجرداء. رمل أصفر وعشب ذابل ونباتات لها أشواك. تنبت وحدها بلا ماء، ولا غذاء، يسمونها «شيطانية»، السماء قبل ظهور الشمس رمادية خاوية إلا من ذرات تراب، والسكون، الهواء معدوم، الجو ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة.
الرجال منهم في مكانهم المعتاد، جلابيبهم واسعة بيضاء علامة المرض، حزام رفيع مربوط حول الوسط له دلالة معينة في السجلات الرسمية، ضمن الأمراض المعدية كالدرن والجذام، وما إن ينظر الواحد في عيني الآخر حتى تنتقل إليه العدوى، يحملقون في الفراغ بعيون نصف مفتوحة، يملؤها إدراك كامل بالموت، تطفو فوق دمعة حبيسة لا تجف ولا تسقط، رءوسهم حليقة «نمرة واحد» بأمر المدير. وجوههم يغطيها شعر ذابل يتدلى فوق صدورهم. لا أحد يعرف أعمارهم بالضبط. إلا رجل واحد يسمونه إبليس، يبدو في عمر الشباب ، حليق الوجه، بلا شارب ولا لحية، شعر رأسه متمرد على القانون، غير محلوق، خصلة قصيرة أمامية يطيرها الهواء، تسقط فوق جبهته السمراء، يرفعها بأصابع رفيعة، تظهر عيناه في الضوء سوداوين، يكسوهما بريق خاطف شبه مجنون، من تحته دمعة مليئة بالحزن.
السور من الحجر عال من فوقه أسلاك، رءوس الأشجار تهتز مع الهواء بحركة ثقيلة، عيناه تدوران مع السور حتى البوابة الحديدية.
النساء كان لهن مكان معين، يسمى ركن الحريم، يجلسن القرفصاء فوق الأرض، رءوسهن ملفوفة بالطرح البيضاء كالعائدات من الحجاز، أذرعهن حول صدورهن معقودة، أيديهن تحت خدودهن والشفاه مطبقة، مزق السكون صوت البوابة الضخمة، اهتزت أعمدتها الحديدية واهتزت معها جدران السراي.
السراي؟! كلمة ناقصة لا تدل على شيء، حتى يضاف إليها كلمة أخرى من خمسة حروف فترتعد الأجساد. سراي أو قصر قديم منذ الفراعنة. كان يسكنه ملك تصور أنه يملك الأرض والسماء، وبني آدم وبنات حواء، ثم مات كما تموت الخيول. دفنوه في حفرة بالأرض إلى جوار حصانه وسيفه. لم يبق من الثلاثة إلا قطعة صغيرة من الحديد على شكل نصف دائرة، كانت حدوة في حافر الحصان وأصبحت داخل غرفة زجاجية بمتحف المدينة يتفرج عليها السياح.
Shafi da ba'a sani ba
جدران السراي آيلة للسقوط منذ قرون، لكنها لا تسقط. قصور كثيرة سقطت وراحت في العدم، إلا هذه السراي، وقالوا لأن الشيطان يسكنها وهو مجنون لا يؤمن بالزمن أو الله أو المدير أو رئيسة الحكيمات.
مع انفتاح البوابة ارتفع غبار في الجو، وفرقة من رجال البوليس. كعوبهم حديدية تدق الأرض كحوافر الخيول. قبعاتهم النحاسية تلمع بلون أحمر. تبعتهم فرقة من التمورجية بالمرايل البيضاء. أحذيتهم من المطاط بلا صوت. أنفاسهم عالية مسموعة تتلاحق في لهاث سريع وأفواههم مفتوحة.
ثم توقف كل شيء فجأة لحظة دخولها من البوابة. حتى العصافير كفت عن الزقزقة. ثبتت في مكانها فوق الأسلاك ترمق القادمة الجديدة بعيون صغيرة تلمع كحبات الخرز.
من بين المصراعين المفتوحين اندفع جسمها الممشوق بحركة غير مألوفة لبنات حواء. حركة مقتحمة كمن تلقي نفسها في جوف البحر وقامتها مشدودة.
تحركت نحوها عيون الرجال والنساء وثبتت فوق عينيها المفتوحتين على العالم كالنافذتين لا يطرف لهما جفن؛ الرموش طويلة مرفوعة مستعدة للمقاومة حتى النهاية، و«النني» داكن السواد ثابت في مكانه. شعرها كثيف أسود يطيره الهواء فوق وجهها. تقذفه وراء ظهرها كالفرس الجامحة. حافية القدمين تمسك حذاءها في يدها. من الجلد الأسود بدون كعب كأحذية الراقصات أو لاعبات السيرك.
اندفعت من البوابة الحديدية السوداء كالسهم الأبيض يشق الكون نصفين. من خلفها عدد من التمورجية يحاولون اللحاق بها. يمد أحدهم يده ليمسك ذراعها فتفلت منه. يمسك أحدهم بذراعها فتضربه على يده بفردة الحذاء.
مشهد لم يحدث منذ بنيت هذه السراي. قالوا إنها بنيت في ثلاثين عاما. حمل العبيد الأحجار من جبل المقطم فوق ظهورهم. صعدوا السقالات بخطى ثقيلة والكرابيج تلسع أردافهم. قالوا إنهم هم العبيد الذين بنوا هرم خوفو أو منقرع. بعضهم قال خفرع، ولا أحد منهم يعرف التاريخ قبل نزول الكتاب.
كلمة «الكتاب» مكتملة لا تحتاج إلى كلمة أخرى. إذا رنت الكلمة في الجو أدرك الجميع أنه كتاب الله ولا كتاب غيره يدخل السراي بأمر المدير. تمر رئيسة الحكيمات في الليل تفتش العنابر. تدس يدها داخل الدواليب والأدراج. تقلب أصابعها بين الملابس. في السراويل الداخلية كان الرجال يخفون الكتب والروايات الغرامية، لكن النساء أكثر حذرا، ولا يمكن للرئيسة أن تعثر في ملابسهن الداخلية على شيء، اللهم إلا بقعة دم أو رائحة حلم قديم.
من وراء حاجز الحريم اتسعت عيون النساء. لأول مرة في حياتهن يشهدن امرأة تدخل من البوابة مرفوعة القامة. أعناقهن تشرئب بحركة أشبه بالكبرياء. كالعدوى. كبرياء واحدة من جنسهن تكفي لنشر المرض. تفك امرأة ذراعيها من حول صدرها وتنهض واقفة. تطل عليها من بعيد بفم مفتوح. تفلت منها ضحكة. تشاركها النساء الضحك المكتوم. تهتز أجسادهن المتربعة فوق الأرض بالهواء المخزون. تنتقل عدوى الضحك إلى الرجال، ينبعث الهواء الراكد في صدورهم بصوت أعلى من صوت النساء. كان الضحك مباحا للرجال دون قهقهة عالية. الوحيد الذي كان يقهقه دون عقاب هو المدير، ورئيسة الحكيمات حين يغيب المدير، وحين تكون وحدها في غرفتها.
لكن المشهد ذلك الصباح كان فريدا من نوعه، وإبليس كان يتمشى. عيناه تدوران فوق السور العالي. تتوقفان عند البوابة وتثبتان. رفع خصلة الشعر من فوق جبهته ورآها تدخل حافية القدمين وحذاؤها في يدها. عيناها واسعتان والرموش ثابتة، كأنما رآها من قبل. الوجه والملامح والحركة والكبرياء. كل شيء رآه في الحلم أو قبل أن يولد.
Shafi da ba'a sani ba
وانطلقت من صدره ضحكة عالية تحولت إلى قهقهة نشرت العدوى بين الرجال، والنساء أيضا. أصبح الضحك يخرج من صدورهن مع الهواء بصوت مرتفع.
انطلقت صفارات الإنذار في الجو. أطل المدير برأسه من مكتبه العلوي. ظهرت رئيسة الحكيمات برأسها الملفوف بالطرحة البيضاء من خلفها فرقة من التمورجية يمسك كل منهم عصا من الخيزران. يلسعون النساء على أردافهن. - كله يدخل العنابر! كله يدخل جوه!
تهرول النساء إلى الداخل، إلا تلك المرأة التي بدأت الضحك. تمشي بحركة بطيئة رافعة عينيها نحو القادمة الجديدة. ملامحها غريبة ومألوفة. هذه الحركة الجامحة رأتها من قبل، كالفرس الحرة غير مملوكة لأحد، يلسعها التمورجي فوق ردفيها. - بسرعة! ادخلي يا بت يا نفيسة!
تتلكأ في مشيتها. تهز ردفيها. تلسعها العصا مرة أخرى. تستدير نحوه بحركة غاضبة. - متشطر على النسوان! ما تروح تضرب الرجالة! - بسرعة ادخلي يا بت! المدير جاي!
لم يكن التمورجية يضربون الرجال فوق أردافهم. يكتفون بشخطة أو لكزة في الكتف ببوز العصا. ويدخل الجميع إلى العنابر إلا إبليس يختفي وراء جذع شجرة، ورجل آخر أكبر سنا. لحيته طويلة بيضاء، رأسه ملفوف بعمامة على شكل القمع، مدببة القمة تعلوها ريشة سوداء. تنتصب في الهواء كعرف الديك. يلكزه التمورجي في كتفه بالعصا الخيزران. - ياللا ادخل بسرعة مش شايف المدير؟ - مدير مين يا حمار؟ مش عارف أنا مين؟ - عارف يا مولانا بس ادخل بسرعة خلي اليوم يفوت على خير.
في مدخل السراي كان المدير واقفا داخل معطفه الأبيض. أمامه قائد الفرقة البوليسية، يناوله ورقة ملفوفة على شكل قرطاس. - اتفضل يا فندم، وقع لنا باستلام المريضة.
فتح المدير الورقة. تأمل الحروف طويلا. زحفت عيناه من الورقة إلى المرأة الواقفة كالنمرة وحذاؤها في يدها. عيناها تدوران حولها تتأمل المكان الجديد. فوق شفتيها ابتسامة. أخرج قلمه الحبر من جيبه العلوي ووقع باسمه فوق الورقة على شكل شخبطة. حملق فيها قائد البوليس بعينين متسعتين ثم رفع يده بالتحية العسكرية. ضرب كعبي حذائه أحدهما بالآخر. خبط بهما الأرض عدة خبطات، واستدار معطيا ظهره للمدير وخرج من البوابة مع فرقته يدبون بكعوبهم كحوافر الخيل.
الرئيسة كانت واقفة خلف المدير. حول عنقها خيط أو سلسلة تتدلى منها صفارة، راقدة فوق صدرها كالفأر الصغير داخل الخندق بين النهدين الكبيرين. رأسها الملفوف بالطرحة البيضاء مطرق إلى الأرض. عيناها تختلسان النظر إلى قدمي المرأة الحافيتين. تصعدان إلى ساقيها المشدودتي العضلات داخل سروال من الجلد. حول خصرها حزام عريض. قميصها أبيض فضفاض، له فتحة واسعة يطل منه عنقها الطويل، أسمر اللون كجذع شجرة يخرج من بطن الأرض. عيناها واسعتان تملؤهما نظرة ثابتة كالجنون. - اسمك إيه؟ - جنات!
قالتها بملء فمها، وابتسمت. امتلأ وجهها بالضوء. بينها وبين اسمها علاقة حب قديمة، «جنات». جمع جنة. هكذا كان يقول أبوها.
ودارت عيناها تتأملان المكان حتى التقتا بعيني الرئيسة. حملقت فيهما طويلا كأنما رأتهما من قبل. - نرجس؟!
Shafi da ba'a sani ba
هزت رأسها الملفوف بحركة عصبية: أنا الريسة!
وارتفعت ذراعها تمسك الصفارة الراقدة فوق صدرها. أخذت تلفها بين أصابعها كحبات السبحة. تدور بها حول نفسها. شفتاها تتمتمان بآية تطرد أرواح الجن.
ويرن صوت المدير في البهو الواسع ذي الأعمدة الحجرية: غرفة منفردة تحت الملاحظة وثلاث جلسات في الأسبوع. - حاضر يا فندم.
يخرج صوت الرئيسة من بين أسنانها دون أن تحرك شفتيها، ثم اختفى الجميع، إلا أربعة من التمورجية، وجنات واقفة كما كانت وحذاؤها في يدها. أرادت أن تصعد إلى غرفتها وحدها، لكن ثماني أذرع امتدت نحوها. أمسكوها. ساقوها عبر ممرات مظلمة طويلة. صعدوا بها دورا وراء دور. سلالم متآكلة تئن تحت أقدامهم بصوت مكتوم، كمواء القطط المريضة. داخل غرفتها بجوار عنبر الحريم تركوها فوق السرير. أغلقوا الباب عليها بالمفتاح. سمعت الصرير بأذنيها وهي مغمضة العينين.
كالحلم القديم يتحول فجأة إلى حقيقة. تفتح عينيها وتغمضهما. أين هي؟ وهذه النافذة ذات القضبان رأتها من قبل في النوم، أو في حياة أخرى قبل أن تولد.
عيناها تنفذان خلال الأعمدة الحديدية، نظرتها ممدودة بامتداد الصحراء. ترتد إليها وتدور بها على السور الحجري العالي. تهبط إلى المساحة الجرداء حول السراي. كانوا يسمونها الحديقة. عشب ذابل كالبقع الصفراء فوق الأرض. عمود حجري حفرت عليه نقوش فرعونية. هذا الرسم رأته من قبل. يشبه صورة العجل أبيس أو الإله رع في كتاب المدرسة. كانت في السنة الأولى الابتدائية وكان للآلهة رءوس لها قرون.
وراء جذع شجرة مقطوعة لمحته مختفيا. جلبابه واسع أبيض مربوط عند الوسط بحزام رفيع. شعر رأسه أسود كثيف يغطي عنقه من الخلف. أحد التمورجية يدور حول الشجرة ليمسكه. يفلت منه ويصفق بيديه كالطفل يلعب «الاستغماية». - أنا هوه أنا هوه ...
ثم رفع وجهه ورآها واقفة خلف النافذة. التقت عيونهما في نظرة طويلة كأنما التقيا من قبل. هتفت: أنا جنات.
دوى صوتها في الفضاء وذاب في الهواء، وهو واقف شاخص نحوها بعينين متسعتين. اسمها جنات، وهو يحلم بجنة واحدة.
انقض عليه التمورجي وأمسكه من ذراعه. - مسكتك يا إبليس.
Shafi da ba'a sani ba
دوت الكلمة في أذنيها. عيناها تحملقان في عينيه. أيكون هو؟
الجلسة الأولى
فتحت عينيها في الظلمة نصف فتحة بحركة سرية. تختلس من وراء عقلها نظرة إلى العالم. السقف أجرب مشقق نشت منه مياه قديمة. مطر ربما منذ نوح عليه السلام، وعروق خشبية متآكلة هبطت تحت ثقل الزمن. تطقطق في أذنيها كسرير جدتها.
عيناها تتسعان. يزداد سوادهما دهشة. أين السقف المدهون بالبلاستيك الأبيض والستارة الزرقاء الشفافة؟ تبرز المقلتان بلون داكن وسط البياض. تدور بهما على الجدران المشققة، رطوبة الشتاء ثم حرارة الصيف. يجف البلل. يتشقق الطلاء الجيري. تسقط منه أجزاء على نحو عشوائي أو غير عشوائي. نظام كوني دقيق لا يترك شيئا للصدفة. هكذا كانت تسمع من جدها، وإلا لماذا رسمت الأجزاء الساقطة من الطلاء صورة الإله رع أو العجل أبيس؟ قرناه يلتويان إلى الأمام بحركة مرثية وعيناه جاحظتان كعيني الشيخ بسيوني. - الشيخ بسيوني؟
فركت عينيها بإصبع رمادي كالجرانيت، غابت عنه الشمس منذ موت ابنها. أو ربما هو إصبع امرأة أخرى عاشت وماتت ثم انتبهت وفتحت عينيها نصف فتحة وفركت بطرف إصبعها جفونها.
مدت الإصبع الرمادي ومعه يدها الناحلة. ذراعها كالعصا الخيزران داخل كم جلباب أبيض ينتهي بكشكشة وإسورة واسعة. أين ساعة يدها؟
زحفت يدها بأصابعها الخمس فوق المنضدة المشققة. ظل الأصابع الخمس يتحرك فوق الجدار الداكن السمرة كأصابع جدتها. أمسكت الساعة الصغيرة ذات القرص الذهبي. أهدتها إليها أمها بعد نجاحها في الابتدائية. قربت من عينيها القرص الصغير بحجم القرش أو المليم القديم. كاد يلتصق بجفونها الباردة. لم تر العقرب الكبير ولا الصغير. الأرقام دوائر سوداء تنتهي بذيول مشرشرة كأرجل الذباب العائم في الماء.
جسدها ينتفض فوق السرير. تسمع اهتزازات الأسلاك تحت المرتبة المطاطية، كانت ترى العقرب الصغير في عز الليل دون أن تضيء النور، ثم أصبح العقرب الصغير يختفي. العقرب الكبير أيضا بدأ بالاختفاء. أتكون هذه العلامة هي اقتراب الموت، وأنها تشهد بنفسها انسحاب روحها من جسمها؟ اتسعت جفونها أكثر، تذكرت معها ما نسيته. لم تعد ترى العالم على حقيقته دون أن تضع فوق عينيها النظارة الزجاجية.
امتدت يدها وأمسكت النظارة. رفعتها فوق أنفها تثبت «الشنبر» الرفيع البلاستيك. قبل أن تنظر إلى الساعة أدركت فجأة أنها في غير حاجة إلى أن تعرف الوقت. بحركة بسيطة أزاحت «الشنبر» من فوق أنفها. حركة لم تستغرق من الوقت جزءا من الثانية، لكنها بدت في عيني المدير علامة على غياب العقل.
كان المدير جالسا إلى جوار السرير. يرمقها بمقلتين رماديتين من وراء زجاج نظارته. الرئيسة واقفة إلى جواره داخل ثوبها الأبيض في يدها الإبرة تلمع، ترسم لنفسها فوق الجدار نصلا طويلا مدببا كالسكين. غرزتها في ذراعها تحت الكم. دعكتها بقطعة من القطن المبلل بكحول أبيض.
Shafi da ba'a sani ba
رائحة الكحول تنفذ إلى أنفها، تذكرها بالمدرسة وغرفة الحكيمة. أصابع الرئيسة رفيعة شاحبة تعلوها رعشة. تنظر إلى السقف. تتفادى النظر إلى عينيها. تدعك ذراعها بقطعة القطن. مرة بعد مرة حتى توقف الدم. بقيت قطرة واحدة حمراء عالقة بكم الجلباب الأبيض.
منظر الدم منذ الطفولة يفزعها. لم يكن فزعا حقيقيا. ربما كان شيئا آخر. أقرب إلى الفرح؟ أو رغبة الاستطلاع؟ كالرغبة الآثمة كانت تريد أن تعرف. أن تقطف الثمرة المحرمة من فوق الشجرة! وحين تذبح جدتها الدجاجة تحملق في حمرة الدم القاني كأنما هو دمها.
تلفتت حولها تبحث عن عيني المدير وراء الزجاج. لم يكن هناك أحد. لا المدير ولا الرئيسة. في السقف الأجرب شق تطل منه عينان تلمعان، تحملقان فيها بنظرة فاحصة. رأسها صغير كرأس السحلية. الذيل طويل رفيع يلتوي إلى الأمام مثل قرن أبيس.
أدهشتها المفاجأة فسقطت الساعة من يدها فوق الأرض. أحدث سقوطها صوتا مسموعا فاختبأت السحلية داخل الشق وهي تضحك. رنت ضحكتها في الجو كشهقات طفلة تبكي.
هه هه هه هه.
يشبه صوت أمها حين كانت تنشج في الليل. يسري في أذنيها كحفيف الهواء. أمها واقفة وراء النافذة. جبهتها عريضة. أنفها مرتفع شديد الاستقامة. خداها عظامهما بارزة مدببة. العينان سوادهما قاتم. من زاوية فمها ينساب خيط رفيع من الدم.
أخفت رأسها تحت الوسادة، صورة أمها تغزوها من كل جانب. شلال من الصور والماء البارد يغرق رأسها. تلتقي البرودة بالسخونة فوق جبهتها العريضة. تبرز قطرات العرق، البخار يتصاعد من فتحتي أنفها يهز الملاءة والمرتبة وأرجل السرير الأربعة.
ترفع يديها الاثنتين. تمسك بهما الملاءة! تلفها حول نفسها. تتشبث بها كأنما هي روحها تمسكها بيديها قبل أن تفلت منها. - جنات؟
أذناها تنتصبان مرهفتين. أهو اسمها؟ كأنما تسمعه لأول مرة. ربما سمعته من جدها أو أبيها. كان يقول جنات جمع جنة، وتسأل: جنة يعني إيه؟ ويفتح الكتاب ويقرأ: جنة عدن تجري فيها أنهار من عسل ولبن. لم تكن تحب طعم العسل ولا اللبن. تفضل عليهما الجبنة الحادقة والخيار المخلل.
فتحت عينيها تختلس إلى ما حولها نظرة. السقف أجرب مشقق نقشت عليه صورة العجل أبيس. أين السقف الأبيض المدهون بالبلاستيك؟ والستارة الزرقاء الشفافة؟ والسرير العريض يطل منه وجه زكريا. - زكريا؟
Shafi da ba'a sani ba
أهو صوتها الذي يناديه؟ كأنما تسمع اسمه لأول مرة. زكريا؟ اسم غريب ومألوف، سمعته طول العمر، ولم تسمعه أبدا. فوق الجدار الأبيض المصقول صورتها معلقة داخل إطار ذهبي. إلى جوارها رجل يرتدي بدلة عرس سوداء. فوق شفته العليا شارب أسود، حول عنقه رباط معقود على شكل «فيونكة». جدتها كانت تسميه «بابيون» وهي واقفة إلى جواره داخل ثوب الزفاف. أبيض بلون الكفن. بين يديها باقة ورد تتدلى منها وردة شاحبة البياض خالية من الدم، والسرير من الخشب الزان عريض يتسع للموت.
وجهه يطل من فوق السرير بلون الملاءة. وجه غريب لم تره أبدا، ومألوف تماما. رأته كل يوم. ثلاثون عاما، أصبح أكثر طولا. شعر رأسه تساقط، ذؤابة واحدة نافرة فوق كل أذن. رمادية اللون. جسده داخل المنامة الحريرية مرتخي العضلات. «النني» الأسود غارق في بياض أزرق. والزرقة ذابت في لون أصفر. شفتاه تنفرجان عن صوت يتحشرج. - جنات!
كصوت جدها حين يناديها بهذا الاسم. يجلس في غرفة المكتب وراء مكتبه الأسود من خشب الورد. ينعكس وجهه فوق بلورة لامعة. أنفه مقوس كبير علامة الانحدار من سلالة أبيه الطاهرة وجده الشيخ ذي السيرة العطرة. لم يحدث أبدا أن ولد طفل من صلب أبيه دون هذه العلامة. الأنف المقوس الكبير كمنقار البطة، إلا طفلا واحدا ولدته خالة أمها بأنف صغير مقوس، ولم يعرف أحد أين راح هذا الطفل، وأمه ماتت منتحرة في مياه النيل.
في الليل تنكمش إلى جوار جدتها في السرير النحاسي ذي الأعمدة الأربعة، ومن غرفة المكتب تسمع صوت جدها يتنحنح بلا سبب، كان يصدر عنه ذلك الصوت في سكون الليل. نحنحة غليظة فيها خشونة، كأنما يؤكد لجدتها ذكورته، أو وجوده على قيد الحياة، أو على الأقل أنه يقظ لا ينام.
وفي هدوء الليل تتسلل وتمشي في الصالة الكبيرة. تطل من باب الغرفة الموارب. ترى جدها جالسا يقرأ أو ممسكا بالقلم يكتب. تهمس في أذن جدتها النائمة: جدي بيكتب إيه يا نينه؟
تفتح جدتها فمها الخالي من الأسنان وتتثاءب: جدك بيكتب كلام فارغ في كلام فارغ!
في الصباح تتسلل إلى غرفة المكتب. كان الرف في المكتبة عاليا. أعلى من رأسها. تقف فوق الكرسي وتشب فوق أطراف أصابعها. تشد كتابا غلافه ناعم مصقول. الحروف منقوشة بماء الذهب. تمر بيدها فوق الورق الشفاف. تشد ورقة وتصنع منها طائرة بجناحين.
رآها جدها وهو يدخل من الباب. خطف منها الكتاب وهو يصيح: ده كتاب ربنا يا حمارة!
وأخذت قبل أن تنام علقة ساخنة منه بالعصا الخيزران. رقدت إلى جوار جدتها تبكي بصوت مكتوم. أعمدة السرير النحاسي تهتز مع نشيجها. لم تكن تعرف أن الله يؤلف الكتب مثل جدها. - هو ربنا بيعرف يكتب زي جدي يا نينه؟ - طبعا ربنا فوق جدك وفوق الجميع!
لم تكن تتصور أن هناك أحدا فوق جدها إلا صاحب الجلالة الملك، ولم يكن الملك يؤلف الكتب. كانت تسمع من أبيها أنه ملك فاسد يقضي الليل في شرب الخمر مع الراقصات، لكن مكتبة جدها مليئة بالكتب، جدها كتب هذه الكتب؟ سؤال كان يراودها حتى كبرت قليلا، وعرفت من أمها أن جدها لم يكتب إلا كتابين اثنين وكف عن الكتابة، ثم مات جدها بعد أن كف عن الكتابة. جاءتهم برقية تعزية من الملك، علقتها جدتها داخل إطار مذهب. تشير إليها بإصبعها لكل من أتى يعزي، وفي عينيها بريق. أبوها وأمها أيضا امتلأت عيونهما بالبريق. يتأملان البرقية ذات الحواشي المزركشة.
Shafi da ba'a sani ba
في الليل وهي راقدة دار في رأسها السؤال: الفرح ببرقية الملك أكبر من الحزن على موت جدها؟
قلبها ثقيل بالإثم. هي أيضا لم تحزن على جدها. غمرها الفرح حين انتهى اليوم ولم يعد. أصبحت تقضي الساعات في غرفة المكتب لا تخشى شيئا، وتنام الليل بلا أرق، إلا سؤال واحد كان يدور في رأسها: كيف يكون لجدها كتابان وربنا ليس عنده إلا كتاب واحد؟
في غرفة المكتب تدور عيناها فوق الأغلفة. تبحثان عن كتاب الله. كان أبوها يسميه المصحف. تمشي بيدها فوق جلده الناعم. له رائحة خاصة تملأ بها أنفها، تصورت أنها رائحة الله.
ارتبطت في ذهنها رائحة الله برائحة جدها، والكتب القديمة، وحروف المطبعة والرفوف الخشبية والكراسي الجلدية، والسجادة العجمية، تفوح منها رائحة التراب، والهواء الراكد في غرف المكاتب المغلقة.
فتحت عينيها نصف فتحة تختلس من وراء عقلها نظرة إلى العالم. السقف أجرب مشقق. الرئيسة واقفة داخل ثوبها الأبيض. رأسها ملفوف بطرحة رمادية، في يدها الإبرة.
شدت منها ذراعها بقوة: مش عاوزة حقن! - لازم تاخدي الحقنة! - أنا مش عيانة! - أنت عيانة. - عيانة بإيه؟ - مش ضروري تعرفي. - لازم أعرف!
تخبط بيدها فوق المنضدة الخشبية: لازم أعرف.
ترفس الهواء بذراعيها وساقيها: لازم أعرف! - مش ضروري تعرفي!
صوت الرئيسة فيه خشونة كصوت جدها الميت. لم تعد جدتها تخاف منه بعد أن مات. من تحت الوسادة تخرج الإنجيل وتقول إنه كتاب الله. ترسم فوق صدرها الصليب وتتمتم: أبانا الذي في الملكوت اغفر لنا خطايانا. أبوها كان من أقباط الصعيد. يملك عزبة كبيرة وعبيدا سودا، أراد جدها أن يرث العزبة فتزوجها على سنة الله ورسوله. طلب منها أن تسلم فأسلمت لترثه بعد أن يموت. سمعت أن له عزبة وسط الدلتا ولم تعرف أن الخديوي أخذها من أبيه على شكل قرض. كان الحاكم محل ثقة، ولا يمكن لأحد أن يطالبه بإيصال. إذا تسرب الشك إلى قلب أحد أصابه غضب الله قبل الخديوي. هكذا كانت تكتب جريدة الأهرام ومجلة أبو الهول. جدتها كانت تصدق ما يكتب في الصحف، ثم ماتت دون أن ترث أحدا. غضب عليها أبوها وحرمها من الأرض، هجرها زوجها في الفراش حين بلغت سن اليأس، وتزوج في الخفاء فتاة في الرابعة عشرة. - أبانا الذي في الملكوت اغفر لنا خطايانا. - يعني إيه سن اليأس يا نينة؟ - مش ضروري تعرفي يا بنت. - لازم أعرف يا نينة. - مش ضروري تعرفي! - لازم أعرف!
تضرب بقبضة يدها في الهواء. وجه جدتها يشبه وجه الرئيسة مليئا بالتجاعيد. بين شفتيها الرماديتين صفارة تنفخ فيها. خداها يمتلئان بالهواء كالبلونة. تضحك بصوت عال كما كانت تضحك في فناء المدرسة. تشد من فمها الصفارة وتجري تصفق بيديها مهللة ومن حولها تلميذات الفصل: هه هه هه هه!
Shafi da ba'a sani ba
تظهر الناظرة بأنفها الكبير المقوس الذي يشبه أنف جدها. رأسها ملفوف بطرحة بيضاء. بين أصابعها قلم طويل مدبب كالإبرة. رئيسة الحكيمات ترتدي وجه ناظرة المدرسة. بين نهديها سلسلة تتدلى منها صفارة. تنفخ فيها فينبعث صوت حاد ممطوط كالمزمار. يظهر على الفور أربعة من التمورجية داخل المرايل البيضاء.
لم تكن تستسلم حتى يذهب عنها العقل في غيبوبة. ربما هو المخدر في الإبرة. أو أن أحدا يضربها فوق رأسها بقبضة حديدية وتغيب عن العالم بما يشبه النوم أو الموت. ينفصل عظمها عن جسمها، إلا خلية واحدة عاقلة تظل عالقة متشبثة بفروة الرأس. تدرك بها أنهم يحملونها فوق نقالة لها عجلات. قدماها ويداها مربوطة بالحبال. يسيرون بها في ممر طويل مظلم. صوت العجلات يجري فوق البلاط. من تحت جفونها المغلقة ترى السقف. أجرب مشقق سقطت منه أجزاء. أشكال غريبة مرسومة. جسد رجل له رأس عجل، وامرأة لها ذيل سمكة مثل جنية البحر. رأسها يهتز مع اهتزاز العجلات. ارتطم رأسها بالباب وهم يدخلونها إلى الغرفة. أرقدوها فوق منضدة باردة تغطيها طبقة من المشمع. ربطوها في أرجل المنضدة بحبل. وضعوا بين أسنانها قطعة مربعة من المطاط، لفوا حول رأسها حزاما من الجلد له سلك طويل، ينتهي بفيشة سوداء.
وفجأة بدأ جسمها يتقلص. ذراعاها وساقاها تنتفض تحت الحبال. كالفرخة المذبوحة المربوطة في الأرض. صوتها لا يخرج رغم أنها تصرخ. أسنانها تصطك بصوت عال. زبد أبيض كرغوة الصابون يخرج من فمها، ثم يكف جسمها عن الحركة. ترتخي ذراعاها بجوارها. ذراع منهما تنتفض فوق حافة المنضدة قبل أن تسقط. تتدلى في الهواء بجوار جسمها وتهتز مثل بندول الساعة.
امتدت يد الرئيسة وأمسكت ذراعها. أعادته فوق المنضدة إلى جوار جسمها. زحفت أصابعها إلى معصمها تجس النبض. « لب دب لب دب لب دب.»
الدقات تحت ضلوعها قوية. لها إيقاع منتظم. كاللحن القديم الراقص. أوراق الشجر تتراقص مع الهواء ، وسنابل القمح. يسري اللحن في أذنيها ناعما كصوت أمها. تهدهدها في السرير الهزاز. - هوه نامي نينة هوه ... هوه ...
تفتح عينيها وترى وجه أمها من حوله طرحة بيضاء. المقلتان سوداوان يطفو فوقهما الماء. تربت على كتفها وتهمس بصوت مألوف: جنات!
امرأة أخرى
يسري الصوت في أذنيها كحفيف الهواء. يمشي فوق جفونها المغلقة ناعما كصوت أمها. تهدهدها في السرير الهزاز، تغني لها قبل أن تنام: هووه ... نامي نينا هوووه ... وتسقط في النوم كأنما تغرق في بحر دافئ. تسبح كالسمكة ثم تفرد جناحيها وتطير فوق الماء. كالفراشة تصفق بجناحيها تحت أشعة الشمس، والسماء زرقاء صافية. تجري فوق العشب بغير حذاء. سنابل القمح تتراقص مع الهواء. رائحة زرع أخضر في أنفها، وهي تجري لا تتوقف. من خلفها صوته يطاردها ... كلمة واحدة تنطلق في ظهرها كالرصاصة: يا ساقطة!
تنكفئ وهي تجري فوق وجهها. تتحسس الأرض من تحتها.
أين السرير العريض؟ والستارة الشفافة؟ وزكريا؟
Shafi da ba'a sani ba
يدها ممدودة نحوه مبللة بالمطر. بشرتها ناعمة تشبه يدها وهي طفلة. يدها الأخرى جافة مشققة عروقها نافرة تشبه يد جدتها، والدقات تحت ضلوعها لها إيقاع المطر فوق أوراق الشجر. صفير الريح يدوي في أذنيها كالهتاف. أصوات كثيرة تهتف: يسقط النظام! يسقط! يسقط!
ترهف أذنيها. تتلهف على سماع الصوت. الناس يصيحون أم هي نائمة؟ يذوب الصوت في الصمت. يدوي الصمت في أذنيها كهدير الملايين. الكل يهتف والكل صامت. الليل يزحف بغير توقف، والهواء راكد مشبع بالهزيمة. وجهها ناحية النافذة وظهرها ناحيته: يا ساقطة!
ترن الكلمة في رأسها مألوفة، كأنما سمعتها طول العمر. في المدرسة كانت تسمع الشيخ بسيوني يقول سقط فعل ماض، والمؤنث سقطت. فهي ساقطة مثل أمها حواء. لها صورة بجوار أمها فوق ركبتيها أخوها الأصغر، وأبوها جالس وفوق ركبته أختها الصغرى، وأخوها الأكبر واقف إلى جوار أبيها، عيناه نصف مغلقتين، وهي واقفة في طرف الصورة عيناها مفتوحتان. تحملق في عين «الكاميرا» بنظرة متسعة شبه مجنونة.
ماذا كانت ترى هناك داخل بؤرة العدسة؟ ربما كانت ترى عين الله أو عين الشيطان. أو ربما هو الفراغ يتجمع في تلك البؤرة على شكل الثقب المفتوح، يتسرب منه العالم إلى الفراغ، أو ربما هي الشمس تتجمع في العين الزجاجية ثم تنعكس في عينيها فلا ترى شيئا.
منذ ولدت وعيناها مفتوحتان. كان الناس يولدون بعيون مغمضة. خرجت من بطن أمها تنظر لا يطرف لها جفن، وبصقت جدتها في فتحة ثوبها وهي تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إنس والا جن؟
كانت عيون الرجال تنجذب نحو وجهها. تتوقف عند العينين، وسمعت من يقول إن في عينيها جاذبية الذكاء وبريقه. سرعان ما ينقلب إلى اتهام بخفة العقل أو لوثة الجنون. لون «النني» في عينيها يتغير مع حركة الأرض حول الشمس، فيصبح في الليل أسود داكنا كعيون الشياطين، وفي النهار تنعكس عليه زرقة السماء فيصبح سماوي اللون كعيون الملائكة، وفي ضوء الغسق عند الغروب أو الشفق يكتسب «النني» وهجا أحمر كعيون الممسوسين بأرواح الجن.
منذ عرفت الحروف والكتابة وهي تدون ما يهمس به الرجال في أذنيها. قال لها الشيخ بسيوني في المدرسة: عيناك فيهما شبق حوائي. قالها بلغة عربية فصحى. كان يدرسها اللغة والدين، ولم تعرف ما معنى كلمة «شبق حوائي». سألت أباها فرمقها بنظرة جعلت جذور الشعر تنتصب في فروة رأسها. وهمس رجل في أذنها وهي تمشي في الطريق: أنت أنثى! خرج لسانه من فمه وهو ينطق كلمة «أنثى». وعيناه فوق نهديها كأنما هي كائن غير عاقل من فصيلة الثدييات.
كلما كانت تكبر يتغير وصف الرجال لعينيها. بعضهم رأى فيهما الحزن الدفين منذ حواء الآثمة، وبعضهم رأى فيهما براءة وفرحا لا تسعهما الدنيا، أو طهارة العذراء مريم، وبعضهم رأى فيهما قوة تجذب، وآخرون رأوا فيها قوة تطرد، وهناك من رآهما مفتوحتين بلا نهاية على الأفق، وغيرهم رأوهما مسدودتين غير قابلتين للاختراق.
كانت هي الوحيدة العاجزة عن رؤية عينيها إلا من خلال زجاج المرآة، تحملق فيهما وبينها وبينهما الحاجز المسدود اللامع. ترى النظرة الحجرية من نوع الرخام الأبيض. داخلها دائرة سوداء فارغة، كالثقب العميق في بئر بغير قاع. - يا ساقطة!
الصوت يدوي في أذنيها من خلفها وهي تقفز فوق السلم. جدتها القبطية (أم أمها) كانت تحذرها من القفز فوق السلالم، أو ركوب الدراجة، أو أن تدب بقدمها فوق الأرض، أو أن تفتح ساقيها عن آخرهما وهي تمشي. - شرف البنت رقيق مثل ورقة السيجارة.
Shafi da ba'a sani ba
كلما احترقت سيجارة بين شفتي جدها أو أبيها، وألقيت عقبها في المطفأة تصورت أنها تلك العقب المحترقة داخل الرماد. - جنات اصحي!
يد تلكزها في كتفها لتصحو، لكنها نائمة. لا تكفي يد واحدة لإيقاظها. نومها عميق كالموت. وهي تدرك الموت على نحو غريب. تراقب نفسها بنفسها حين تموت، وترى أباها جالسا وبين يديه المصحف. صوته يتحشرج كأنما يتجشأ. - لا يمسح العار إلا الموت.
الهواء ثقيل مملوء بالدخان والهزيمة. حول عنقها حزام مشدود يخنقها. أهي التي خنقت نفسها؟ مهما حدث لها لم تكن تموت، وكيف تموت وعقلها ما زال في رأسها؟ إنها يد أخرى تلك التي تقودها للموت. ربما هي يد الله، أو يد أبيها أو زوجها أو جدها الأكبر الذي مات قبل أن تولد، لكن روحه الطاهرة نهضت من القبر لتغسل العار.
فتحت جفونها نصف فتحة، تختلس نظرة من وراء الكون. رأت جدها الذي لم تره. يشبه الرب الذي لم تره أبدا. ترتدي روحه قفطان الشيخ بسيوني، عمامته ملفوفة حول رأسه سبع لفات. واقف وراء الشماعة في الظلمة، وصوته غريب مألوف، فيه بحة خشنة، يتكلم بلغة فصحى: قفي وجهك للجدار وارفعي ذراعيك إلى أعلى.
كانت هذه هي طريقة العقاب في المدرسة، وتقف ووجهها ملتصق بالجدار وذراعاها مرفوعتان. لا يمكن أن تهبط ذراع وإن أحست أن ثوبها يرتفع من الخلف، يزحف بين ردفيها شيء كالإصبع. ينتفض جسدها، وفي الانتفاضة تسقط ذراع من ذراعيها، فتهبط فوقها العصا الخيزران. ترفع ذراعها بسرعة إلى أعلى، ترفعها عاليا بيدها الأخرى حتى تلامس السقف.
ويدق الجرس ويخلو الفصل إلا هي. تظل واقفة منتصبة لا تسقط منها ذراع، وتنام وهي واقفة لا تسقط، وفي الحلم تظل واقفة لا تسقط، مهما انهالت فوقها العصا لا تسقط. تموت وهي واقفة لا تسقط، كجدتها الريفية أم أبيها. كانت تراها في الليل واقفة، وتسألها: واقفة ليه يا ستي الحاجة؟ - عشان لما عزرائيل يجي يلاقيني واقفة. - عزرائيل مين؟
لم تكن تعرف من هو عزرائيل. تقول جدتها إنه يأتي في الليل بعد أن ترقد ليخطف روحها من جسمها، فإذا لم ترقد وظلت واقفة ينصرف عنها، ويذهب إلى امرأة أخرى. «امرأة أخرى؟!»
دوت الكلمتان في رأسها كطلقتين من الرصاص. طلقة وراء طلقة، ثم دب الصمت. صمت مطبق لم تسمع فيه إلا نباح كلب من بعيد، وبوق سيارة ينطلق مرة واحدة ثم يكف، ولا يبقى فوق الجدار إلا دائرة من الضوء الأبيض تزحف فوقه. تمشي فوق الجدار حتى السقف، ثم تهبط إلى الأرض. تمشي فوق البلاط، وتصعد إلى السرير، تمشي كالشعاع فوق وجهها، ثم تثبت على جفونها المغلقة.
فتحت عينيها نصف فتحة ورأت المدير واقفا وبجواره الرئيسة. خلع القلم من جيبه العلوي وكتب شيئا فوق الورقة. نظرت الرئيسة في الورقة ثم هزت رأسها المطرق وهمست: حاضر يا فندم. استدار المدير وخرج من الغرفة. خرجت وراءه تمشي بظهر محني. قبل أن تغلق الباب خلفها استدارت. التقت عيونهما في نظرة طويلة صامتة. - نرجس؟
انفرجت شفتاها عن حروف متقطعة. صوت يشبه مواء القطط، أو نهنهة ذابت في الهواء.
Shafi da ba'a sani ba
ثم انغلق الباب وغرقت الغرفة في الظلام. سمعت المفتاح يدور حول نفسه ثلاث مرات، وأقدام تسرع فوق الممر البلاط. طرقعة حذاء وأنفاس تلهث.
نرجس
ظلت تلهث حتى دخلت غرفتها العلوية واغلقت الباب. أسندت رأسها إلى الجدار وأغمضت عينيها. طفلتان تلعبان الحجلة في فناء المدرسة. تجريان بين الزرع الأخضر وراء الفراشات، فتحت عينيها ورأت نفسها واقفة أمام المرآة. خلعت الطرحة من حول رأسها. انسدل شعرها الأسود حول كتفيها. ضفيرتان طويلتان كبنات المدارس. هزت رأسها فاهتزت الضفيرتان. - نرجس؟
رن صوتها في أذنها غريبا. كلمة نرجس أشد غرابة. اسم امرأة أخرى ربما. ظلها مرسوم فوق الجدار. منتصب إلى جوارها. - أهي نرجس؟ روح أخرى تتقمص جسدها؟
كانت تؤمن بوجود الأرواح. الجان ورد ذكره في القرآن. هكذا قال أبوها. جدتها حكت لها عن عفريت جدها يخرج في الليل من القبر. يمشي فوق الأرض بلا قدمين ولا ساقين، ولا أي شيء يمكن أن تراه العين. يتقمص جسد القطة أحيانا، ويرقد أمام باب المرحاض أو «بيت الأدب» كسا تسميه جدتها. يخلع جسد القطة ويرتدي جسد فأر صغير أو سحلية، أو يظل كما كان روحا بلا جسد، ويمكنه أن يدخل من تحت عقب الباب أو شق النافذة.
كانت تخاف من العفاريت وأرواح الجان. تنهض من السرير في الليل وتحكم إغلاق النافذة بالترباس. تسد الشق بين الجدار والنافذة بخرقة قديمة أو ورقة تقطعها من كراسة المدرسة. تلف نفسها باللحاف من الرأس إلى القدم، لا تترك ثغرة واحدة يمكن أن ينفذ منها العفريت، وتضم ركبتيها. تحكم إغلاق فخذيها فلا يمكن لأحد من الإنس أو الجن أن يفتحهما.
أمام المرآة تحملق في وجهها الداكن السمرة. جسمها النحيف داخل الثوب الأبيض، والمرأة الأخرى مرسومة فوق الجدار داخل ثوب أسود. ظهرها محني كظهر جدتها. تحرك رأسها بعيدا عن المرآة وتمشي إلى الوراء خطوة، فإذا بالظل المرسوم على الحائط يمشي خطوة إلى الوراء. أتكون هي وليست المرأة الأخرى؟ تمتمت بآية وعادت تنظر في المرآة. فوق صدرها وسام الشرف والوطنية من الدرجة الأولى، قرص ذهبي مشبوك بدبوس، خلعته من فوق الثوب وأرقدته في صندوقه المبطن بالجوخ الأخضر. ربتت عليه ووضعته داخل الدرج. بدأت تخلع ثوبها. سقط إلى الأرض وتكور عند قدميها. لمحت نهديها في المرآة فأخفتهما بيديها الاثنتين. حوطت كتفيها بشال كبير أبيض، وابتلعت رشفتين من كوب الماء. ريقها ناشف والدقات تحت ضلوعها تتصاعد. شيء مدفون في جسدها يفزعها. شيء محبوس لا تعرفه، وصوت لا يشبه أصوات البشر يهمس في أذنها: إبليس يوسوس؟
سارت إلى النافذة تطل على السماء. سوداء قاتمة بلا قمر ولا نجوم، إلا نجمة واحدة كانت جدتها تغني لها، يا زهرة يا أم الكون. رءوس الأشجار تتحرك في الظلمة كالأرواح الشريرة.
رأته خلف جذع الشجرة المقطوع، جالسا داخل جلبابه الأبيض، رأسه ملفوف بالعمامة على شكل القمع. أو طرطور أبيض تعلوه ريشة الديك أو الطاووس. رأسه مرفوع نحو السماء، عيناه تحملقان في الفراغ، شفتاه تنفتحان وتنغلقان، يتمتم بآية أو يكلم نفسه.
لمحها في النافذة فاختفى وراء الشجرة. تكور حول نفسه كالقنفذ. كان يخاف منها أكثر مما يخاف من المدير، فهي امرأة وفي أعماقه خوف دفين من النساء. انحشر رأسه بين عظمتي الحوض في جسد أمه، ضغطت عليه بعظمتي الفخذ، كاد يموت قبل أن يولد. أدرك أنها لم تكن تريده حيا، ولم تكن تطيق النظر إلى أرنبة أنفه، تذكرها بأبيه، وهي الرئيسة. في أعماقه خوف من الرؤساء، عاد أبوه يوما شاحب اللون. رقد في السرير يهذي بالحمى. سمعه في الليل يلهث بكلمة واحدة. الرئيس، وفي الصباح قبل الأذان مات.
Shafi da ba'a sani ba
عيناها تطلان من النافذة كعيني أمه، تفتشان عنه في مخبئه. تلسعه على ردفيه بالعصا الخيزران. اسمع الكلام يا ولد! لم يكن يسمع كلام أمه. كلام نسوان! هكذا يقول جده، ناقصات عقل ودين! هكذا يقول أبوه، ولا يفلح قوم ولوا أمورهم امرأة.
يتكور حول نفسه وراء جذع الشجرة. رأسه بين ركبتيه، وهي واقفة في النافذة، لا ترى منه إلا ظلا أسود فوق الأرض. انفرجت شفتاها عن ابتسامة، فاعوج فمها من ناحية اليمين. فم المدير حين يبتسم تصبح له هذه الاعوجاجة. رئيس المدير أيضا، وكل الرؤساء كانت تراهم في الصحف. إذا ابتسم الواحد منهم اعوج فمه ناحية اليمين. حركة أصبح لها جاذبية تنم عن سمو المكانة.
ملأت صدرها بهواء الليل - انتفخ كصدر أبيها حين يجلس إلى جوار العمدة، واضعا الساق فوق الساق. لم يكن أحد يجلس أمام العمدة واضعا ساقه فوق الساق الأخرى، إلا أبوها بعد أن أصبح حلاق الملك. تنحني رءوس الرجال أمامه كأنما يرون الملك. لا يصدقون أن رجلا من قريتهم يمكن أن يرى الملك وجها لوجه، فما بال أن يمسك ذقنه بيده ويحلقه بالموسى؟ بعد زوال الملكية لم يعد يجلس واضعا ساقه فوق الساق الأخرى، لكن عنقه كان يشرئب عاليا حين يحكي عن ابنته. كيف وقفت أمام الرئيس في عيد النصر. كيف انحنت بنصفها الأعلى. كيف امتدت يدها لتصافح يده. كيف قلدها وسام الوطنية والشرف. - الشرف!
ترن الكلمة في أذنيها بصوت أبيها. يفتح فكيه عن آخرهما ناطقا «الشرف» كأنما يتثاءب، يضغط على الحروف. يضاعف الضغط على الشدة فوق حرف الشين. تتطاير الحروف في الهواء مع الرذاذ المتناثر من فمه. تلتقطها آذان النسوة الجالسات في بطن الجسر. ينكمشن داخل جلاليبهن السوداء. تضم كل منهن ركبتيها وفخذيها. تمتم بآية تطرد العفاريت وأرواح الجان، فالشرف هو العرض، والعرض أغلى من الأرض. يتوارثه الرجال أبا عن جد. لا يمكن لأحد أن يمس شرف الآخر وإن كان من الإنس أو الجن. الدم وحده يغسل العار إذا ضاع الشرف، والدم وحده يثبت وجود الشرف في ليلة الزفاف. تأتي الداية بإصبع له ظفر طويل. تفض بكارة العروس. تتلقى الدم فوق بشكير أبيض. تطلق النسوة الزغاريد. تدق الطبول. تنتفخ صدور الرجال والأزواج. يرفعون أنوفهم حتى تلامس السقف، فالشرف شرف الذكور، والأنثى ليست إلا الدليل.
كانت ليلة حالكة السواد حين خرج البشكير نظيفا أبيض، لا تلوثه قطرة واحدة، وانكمش حلاق الملك في مقعده. تضاءل عنقه وأصبح كالسمسمة. في الليل نهض. فتح الصندوق الخشبي حيث ترقد العدة. أخرج الموسى. سنه فوق قطعة من البلاط. في الصباح وجدوه راقدا ومن حوله دم كثير يغرق البشكير الأبيض، وعاد إليه شرفه كاملا.
سارت الرئيسة من النافذة إلى المرآة. حملقت في وجهها طويلا، حول كل عين انتفاخة وتجاعيد. عضلات الخدين متهدلة. كانت ملساء وفي عينيها بريق. في ليلة واحدة انتقلت من الطفولة إلى الكهولة. كانوا يسمونها ليلة الفرح. قبل الكهولة عاشت مرحلة البلوغ بلا شباب، بلا أحلام يقظة. أما المراهقة فلم تعرفها، ولم تعرفها أخت من أخواتها أو زميلة في المدرسة. أو بنت من بنات القرية. سقط رأسها حين ولدت فوق قطعة من الأرض يسمونها الوطن.
سرت فوق جسدها قشعريرة كالحمى. بينها وبين كلمة الوطن علاقة حب، خمسة حروف تعلمت أن تكتبها قبل أن تكتب اسمها. تسأل المدرس ما هو الوطن؟ يقول إنها الأرض تمشي فوقها - أصبح قلبها ينوء بحب قطعة أرض تشقى فوقها أمها ويملكها العمدة، وفي المظاهرات تخرج مع التلميذات تهتف: يحيا الوطن! يكتوي قلبها بحب الكلمة من الحروف الخمسة. ترددها عن ظهر قلب. ينفصل قلبها عن لسانها وهي ترددها، وينفصل عقلها عن قلبها وهي تهتف. ترى جسدها يمشي وحده في الشارع، وهي واقفة فوق الرصيف. تستدير وتعود من حيث أتت، تمشي بخطوة ثقيلة نحو أبيها الميت. تدرك بعقلها أنه ميت، لكنها تمشي إليه. تمسك يده تقبلها. تقسم بالله العظيم ثلاثا أنها بريئة. لم يمسسهما بشر، ولا عفريت من الجن، في الحلم أو في اليقظة، وأنها منذ الطفولة كانت تحكم إغلاق النافذة بالترباس، وتسد الشقوق في الجدار أو الباب، وتغلق أذنيها فلا تسمع همس إبليس ولا حفيف الهواء. ركبتاها أيضا كانت تغلقهما كأنما بالترباس. لا يمكن لإنس أو جن أن يفتحهما، ويأتيها صوت أبيها المشروخ: لكن يا بنتي فين الدم؟
تتطلع بعينيها نحو السماء، تسأل الله: فين الدم يا رب؟ صمت مطبق ولا أحد يرد. بوق سيارة ينبعث من بعيد كالزمارة، الهواء لا يتحرك ورءوس الأشجار ثابتة. ورقة واحدة تسقط بصوت مسموع. ويدب السكون. - فين الدم يا رب؟
تعاود السؤال بلا يأس. أملها في الله كبير. عادل ورحيم ولا يمكن أن يجدها. تشرئب بعنقها خارج النافذة. ترهف أذنيها لسماع الصوت، ويأتيها الهمس ناعما كحفيف الهواء: مؤامرة دبرها العمدة. - ليه بس يا رب؟ - كان يريد الانتقام من أبيك. - ليه؟ - كان يجلس أمامه واضعا الساق فوق الساق. - وإيه يعني يا رب؟ - الناس درجات والعين لا ترتفع عن الحاجب. - الناس سواسية كأسنان المشط يا رب. - بتردي علي يا قليلة الحياء؟ - أنا يا رب ... - اخرسي! - أنا ... - لا تقاطعيني! - ... - لا ترفعي عينك في عيني! - ... - ورثت غرور أبيك.
تمد يدها في الظلمة تمسك يد أبيها الميت. تدرك أنه ميت، لكن يده في يدها محسوسة. تلثمها. تنفذ إلى أنفها الرائحة. تسري في عروقها كالدم. كانت تظنها رائحة الله. تشمها حين تجلس إلى جوار أبيها. بين يديه المصحف. يهز رأسه ويقرأ الآيات. لم تكن تعرف القراءة بعد، تقلب بأصابعها الصفحات. تتشمم الأوراق الرقيقة. تكاد تتمزق بين أصابعها. يضربها أبوها على يدها. - كتاب ربنا يا حمارة!
Shafi da ba'a sani ba
لم يكن لأبيها في البيت إلا هذا الكتاب. يضعه فوق الرف الخشبي إلى جوار صندوق الحلاقة. قبل أن يلمسه يتوضأ ويغسل يديه خمس مرات. يحفظه عن ظهر قلب، يردده الليل والنهار. يجثو بين يدي الله وبين يديه الكتاب.
ترفع ذراعيها نحو السماء: يا رب أبويا عمره ما فاته فرض. - عارف يا نرجس. - ليه يا رب عملت فيه كده؟! - لأمتحن قوة إيمانه يا حمارة! - أبويا كان مؤمن مية في المية.
تطرق برأسها إلى الأرض. تتراءى لها صورة سيدنا إبراهيم وهو يذبح ابنه قبل أن يهبط كبش الفداء. ترفع عينيها إلى السماء مليئتين بالدموع. كان أبوها أفضل من سيدنا إبراهيم. ذبح نفسه ولم يذبح ابنته، وأمها كانت امرأة فاضلة. عاشت عذراء مثل ستنا مريم، أما جدتها فكانت أفضل الجميع، تشقى في الحقل طول النهار، وتقضي الليل راكعة تصلي.
في المرآة رأت دموعها تنهمر فوق وجهها. مسحتها بطرف الشال الأبيض فانزلق عن كتفها كاشفا عن نهدها. امتدت يدها بسرعة وأعادت الشال إلى مكانه. عينا المدير تطلان عليها من الجدار. اختفت وراء ضلفة الدولاب: عيناه مقتحمتان كعيون المديرين. تقذفه بوسادة السرير. ينزلق الشال إلى الأرض. تلمح نفسها في المرآة عارية. تجري إلى لمبة النور تطفئها وتدس نفسها في السرير. يشد عنها الغطاء. أصابعه كبيرة يغطيها شعر شاحب كأصابع جدها، وصوته كصوت المديرين فيه سخرية. - مكسوفة يا بت؟!
يصدر عنها صوت يشبه مواء القطط: مئ مئ مئ! - ده خجل العذراوات والا إيه يا بت؟
تنكمش تحت الملاءة لا تقوى على النظر إليه. منذ جاءت إلى السراي وهي لا ترفع عينيها في عينيه؛ فهو المدير الكبير. منذ دخلت لأول مرة اتجهت عيناه إلى صدرها، وحين استدارت لتخرج من الباب أحست نظرته فوق ردفيها. تطرد عينيه عنها كما كانت تطرد صوت إبليس، وفي ليلة شتوية رأته يدخل غرفتها. أجهشت بالبكاء فوق صدره. - أنا عذراء والله العظيم يا بيه. - إزاي يا بت؟ - ما كانش فيه دم يا بيه. - يمكن غشاؤك مطاط يا بت. - مطاط يعني إيه؟ - يعني الأستيك.
وضحك بصوت عال. أطلق قهقهة اهتزت لها أرجل السرير الأربع. صوته يدوي في أذنيها وساقاها تهتزان. الأستيك؟ الكلمة لها بوز مدبب. تخرق الأذن، لكن المدير أعطاها درسا في التشريح. أخرج القلم من جيبه العلوي ورسم فتحة المهبل والغشاء. الله هو الذي خلق الغشاء المطاط. حكمتك يا رب! الأستيك يعني مرن. المرونة مطلوبة، هكذا قال لها المدير.
في المرآة رأت فوق عينيهما دمعة جافة، شعاع خافت ينبعث من المصباح بجوار السرير. مدت يدها وأطفأته. ذاب جسدها في الظلمة ومعه جسد المدير، وكل شيء راح في العدم.
معركة في الليل
كان متكورا وراء جذع الشجرة كالقنفذ. يرقب خيالها يروح ويجيء وراء النافذة. نهداها يظهران ويختفيان تحت الشال. أنفاسها تلهث. ابتهال طويل أو تنهيدة. - يا رب!
Shafi da ba'a sani ba
كاد يخرج من مخبئه معلنا عن نفسه، لكنه يعرف أنها الرئيسة وليست نفيسة أو امرأة أخرى في عنبر الحريم. بينه وبين الرئيسات عداء قديم. منذ ولدته أمه وضغطت بعظمتي الحوض على رأسه. كان صغيرا وهي كبيرة. كفها ضخمة تسقط فوق صدغه كالبلطة. يختفي منها داخل الدولاب. يختنق برائحة ملابسها المتدلية فوق رأسه. عرق تحت الإبط ولبن جاف ... خلاخيل وأساور تشخشخ. لبان ذكر وحنة حمراء وفوط الحيض. يسمع صوتها تناديه من وراء الضلفة الخشبية: زكريا.
يرن الاسم في أذنيه غريبا، كأنما لم يسمعه أبدا، ومألوفا كأنما سمعه طول العمر، زكريا؟ ما معنى الكلمة؟ يطردها من أذنه ويطرد معها صورة أمه، وزوجته، وكل النساء. في أعماقه نفور من الجنس الآخر، وشيء آخر كالانجذاب. عيناه تنجذبان إلى كل امرأة لا تشبه أمه. يختارها صغيرة الحجم، ضعيفة العظام، يدها طرية غير قادرة على الصفع، لكن صورة أمه لا تفارقه. ورائحتها في أنفه، حنين جارف يشده إليها. يود الارتماء في حضنها، وحضن كل امرأة تشبهها. - يا رب!
أذناه تنتصبان من وراء الشجرة. يرهف السمع. صوت أنثوي خاشع يناديه. ليس صوت الرئيسة الآمر. عيناه تتعلقان بنافذتها. ينجذب إليها رغم النفور، وهي الوحيدة بين النسوة لا تؤمن به. ترمقه بنظرة أمه كأنما هي زوجته. تضربه على أطراف أصابعه. تعاقبه بالوقوف وجهه للحائط أو تنام في السرير وتعطيه ظهرها. - ... يا ... يا ... ر ... ب ...
انقطع الصوت وانطفأ النور في غرفتها. انتظر قليلا حتى استغرقت في النوم ثم خرج من مخبئه. انتصب واقفا راسما ظله فوق الأرض، طويلا شامخا. رأسه ملفوف بالعمامة الكبيرة تعلوها الريشة، منتصبة في الظلمة تلمع كالسونكي في رأس البندقية. يتقدم خطوة بطيئة. رءوس الأشجار تنحني أمامه مع الهواء، والأرض والسماء تمتدان تحت قدميه في خشوع.
هز رأسه راضيا عن الكون. خلقه في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، هكذا قال له الرجال في العنبر، ثم حذفوا العبارة الأخيرة، قالوا له: أنت لا تتعب مثلنا. إذن أنت لا تستريح.
قدماه كبيرتان داخل شبشب من البلاستيك يسمونه زنوبة. يدوس على الأرض بكل قدميه. يطرد اسم زنوبة من رأسه. يحرك يده أمام وجهه كأنما يهش ذبابة. ينقل القدم وراء القدم. تمحت قدميه سجادة طويلة حمراء، تمتد حتى الأفق. قرص الشمس يتوهج فوق هرم خوفو. صورته تظهر داخل القرص. يتعرف على وجهه رغم المسافة البعيدة. مربع كبير يشبه وجه الضبع. حاجباه كثيفان يلتقيان عند أرنبة أنفه. غضروف كبير مقوس، كمنقار النسر، منذ رآه في المرآة، لأول مرة أراد الخلاص منه. ثابت له جذر عميق داخل رأسه. أذناه أيضا ليستا مثل آذان البشر، تلتويان إلى الأمام مثل قرني البقرة أو العجل.
يمط شفتيه بامتعاض، ثم يبتسم خلسة بزاوية فمه. كان العجل مقدسا. يرسمه في كراسة المدرسة. يحمل بين قرنيه قرص الشمس وله نهدان كأمه. ينادونه باسم امرأة، هاتور أو ساطور كما كانت جدته تقول. - ... يا ... يا ... يا ... يا ... يا ...
توقف لحظة يتسمع الصوت، كالريح تصفر من بعيد. يتحول الصفير في أذنيه إلى هدير كالشلال، كالهتاف، آلاف الأصوات تدوي: يا ... يا ... يا ... يا ... يا ... يعيش ...
الأصوات تذوب في صوت واحد. الكل يهتف والكل صامت ... وهو يمشي بين صفين طويلين من الجنود ممدودين حتى الأفق. يؤدون له التحية، يرد عليها رافعا ذراعه اليمنى. ساقه اليمنى ترتفع أيضا في الهواء. كالعصا الخشبية. لها بوز طويل من الجلد الأسود اللامع، وكعب سميك من الحديد على شكل حدوة حصان. يتركها مرفوعة نحو السماء، ثم يهبط بها إلى الأرض بجوار الساق الأخرى. طبول النصر تدق: مارش عسكري. آلاف الجنود يدقون الأرض. يرفعون أرجلهم في الهواء، متصلبة كالأرجل الخشبية. وجوههم رمادية بلون حجر المقطم. أنوفهم خط مستقيم. الأنف وراء الأنف في صف طويل لا نهائي. الرءوس متلاصقة محلوقة نمرة واحد، تعلوها طاسة نحاسية. تحت كل طاسة عينان غائمتان مقلوبتان إلى الداخل. أفواههم مفتوحة تلهث و«النني» يختفي تحت الجفن. - يا ... يا ... يا يعيش إلى الأبد!
يتلقى كلمة «الأبد» بكل الفتحات في رأسه. العينان والأنف والفم. الأذنان تنتصبان مفتوحتين. مسام جسده تتفتح. يستقبل الخلود والحروف قطرات ماء يلعقها بطرف لسانه ثم يمضغها. يهز رأسه علامة الرضا. ابتسامة خفيفة تحوم حول شفتيه. يميل فمه ناحية اليمين في اعوجاجة، ثم يعتدل.
Shafi da ba'a sani ba