فالصدق عند ما كولي - كما ترى - هو مقياس الشعر الصحيح.
وكذلك يرى «جون رسكن» (1819-1900م) أن الصدق أساس لجودة الشعر؛ ولكن ماذا يعني بالصدق؟ إن الشاعر إنسان تثور فيه العواطف فاترة حينا عنيفة حينا آخر.
فهو حين ينظر إلى الأشياء لا ينظر إليها نظر العقل الفلسفي المجرد، بل إن عاطفته لتصبغ نظره هذا بصبغة خاصة، راضيا كان أو كارها؛ وكل قارئ في وسعه أن يذكر حالات من حزنه وفرحه، فيقارن بين نظره إلى الدنيا في كلتا الحالتين، هي باكية في عينه إذا حزن، باسمة إذا ابتسم؛ فالشاعر الطروب حين ينظر إلى زهرة صفراء قد تدفعه العاطفة أن يصورها كأسا من ذهب، وحين يسمع خرير الماء يصور الماء مغردا شاديا، والشاعر الحزين يسمع صوت العاصفة يظنها مزمجرة غاضبة؛ أفنقول إن هذا قول كاذب لا يصور الحق؟
يقول «رسكن» إن الخطأ نوعان: خطأ الخيال المريد، الذي يختار بنفسه الصورة الخيالية وهو عالم أنها خيال، ولا يتوقع من القارئ أن يختلط عليه الأمر فيصدقها على أنها الحقيقة الواقعة، كمن يصور الهلال سفينة من فضة أثقلتها حمولة من عنبر؛ وخطأ سببه اضطراب المشاعر اضطرابا يحول دون الحكم الصحيح، كالذي يرى البحر يلتهم الغرقى أثناء العاصفة، فيصوره وحشا ضاريا أراد أن ينتقم؛ فالعقل في مثل هذه الحالة يضيف للشيء صفات الأحياء، لأن قواه العاقلة قد هدها الحزن وأوهنتها قوة المشاعر؛ وقد تعود الناس أن يعدوا هذه الأباطيل تصويرا شعريا جيدا، وأن يظنوا أن الحالة النفسية التي تجيز أكاذيب العواطف جديرة بالشاعر؛ ولكن «رسكن» يرفض ذلك، ويعتقد أن الشعراء الفحول يأبون على أنفسهم هذا الضرب من الكذب، وأن شعراء المرتبة الثانية هم الذين يجيزون هذا ويسيغونه؛ وهنا يسرع «رسكن» فيثبت رأيا جديرا - في نظري - أن ننشره بكل قوة هنا في مصر، وهو أن شعراء الطبقة الأولى وحدهم هم الذين يستحقون منا العناية؛ وأما من دونهم فليس خليقا بنا أن ننفق في قراءة شعرهم وقتا ولا مجهودا؛ وفيم هذه التضحية وأمامنا من الشعر الجيد ما يملأ أيام الحياة؟ «إنها جريمة ترتكبها في حق نفسك أن تفني شيئا من فراغك في شعر لم يبلغ من الجودة حدها الأقصى، ولست أقبل هذه الأعذار التي يرددها القائلون بأن صغار الشعراء لهم يوم ينبغون فيه، وأن ما يكتبونه فيه بعض الخير، وعندي أنه إذا لم يكن في الشعر كل الخير فلا خير فيه؛ فليشعل صغار الشعراء النار في إنتاجهم، ولينتظروا اليوم الذي يجودون فيه.»
إن من يستسيغ الخطأ العاطفي شاعر خارت قواه حتى لم يعد يقوى على ما هو بصدده، فطغى عليه هذا وأزاغ بصره عن الحق. إننا نريد العاطفة لا لتصرعنا بل لنغالبها فنغلبها، وهذه هي سمة العبقرية الشعرية وعلامة النبوغ الفني، نعم إنها منزلة لا بأس بها أن تبلغ العواطف من القوة ما يغري العقل بتصديقها؛ ولكن منزلة أسمى من هذه وأرفع، أن تقوى العاطفة ويقوى العقل معها، ليقرر سلطانه أمام طغيانها، أو ليؤازرها مؤازرة لا تنتهي بضعفه واندحاره؛ بهذا يبلغ الشاعر أعلى مراتب النبوغ.
فالناس عند «رسكن» ثلاثة رجال: رجل يدرك الحق خالصا لأنه لا يشعر، فيرى الوردة وردة لا أكثر، لأنه لا يحبها حبا يزيد على حقيقتها شيئا، وهذا بعيد عن الشعر لا يقع منه في كثير أو قليل؛ ورجل يدرك إدراكا باطلا لأنه يشعر، فالوردة قد تكون في نظره أي شيء إلا أنها وردة، فتكون نجما ساطعا، أو حجرا كريما، أو غادة راقصة، ولكنها لا تكون وردة أبدا، وهذا هو شاعر الطبقة الثانية؛ ورجل يدرك إدراكا صحيحا على الرغم من شعوره القوي، فيرى الوردة وردة دائما، ولكنه يضيف إلى حقيقتها ما تزدحم به مشاعره، وهذا هو شاعر الطبقة الأولى.
فعظمة الشاعر إذن مرهونة بعاملين: دقة الشعور، والسيطرة عليه؛ فهو لا ينطق إلا بما يحس ويشعر؛ فالشاعر الجيد قد يصف البحر الهائج بالغضب، وكذلك يفعل الشاعر الرديء، ولكن الفرق بينهما أن هذا الشاعر الرديء لا يستطيع أن يصف البحر إلا غاضبا، وأما الجيد فقادر على ضبط العادات الفكرية وأخذ نفسه بالحقيقة الخالصة.
وهكذا يرى الناقد المثقف البصير أن أعذب الشعر أصدقه، فليسمع الشعراء.
قوة الخيال
نقد أديب أديبا منذ حين، فقال إنه مستطيع لو حلل كلامه أن يرده إلى أربابه جزءا جزءا؛ وقرأت هذا فقلت لنفسي: يا ليت شعري، أين الكائن الحي الذي لا يستطيع العلم أن يرجعه في المخابير إلى أصوله عنصرا عنصرا؟ ووقعت عيني حينئذ على أناملي ممسكة بالصحيفة، فقلت: وداعا أيتها الأنامل، فلم تعودي بعد اليوم بأناملي؛ وكيف تكونين، وهذه الكيمياء تتربص بك الدوائر لتحملك إلى معاملها فتخلص إلى نتيجة محتومة، هي أنك تأليف من عناصر عندها أنباؤها؟ بل وداعا أيتها النفس، وأنت مني سر وجودي! فما أنت سوى حلقات متتابعات من المشاعر والخواطر، أستطيع أن أرد كل حلقة منها إلى أصل مما وقعت عليه الحواس!
Shafi da ba'a sani ba