أعود أيها القارئ فأستحلفك الذمة والضمير والإخلاص للوطن، أن تتدبر الأمر في روية وهدوء؛ فإن رأيت صوابا ما زعمته لك، فاستجمع قواك وتوكل على الله، وانزل عن سلطانك لمن هي أحق منك بالسلطان.
أعذب الشعر أصدقه
زعم ناقد عربي قديم أن أعذب الشعر أكذبه؛ وسواء كان هذا الناقد جادا في زعمه أو هازلا، فقد جرت عبارته مجرى القول الصادق الجميل، وكان لها أثر عميق في توجيه الشعراء، وفي تكوين الذوق الفني عند القراء؛ فماذا يريد «بالكذب» في الشعر؟ هل كان من السذاجة بحيث أغراه السجع، فصرفه عن دقة الحكم وصدق الرأي، وآثر أن يمتع سمعه بإيقاع اللفظتين «أعذب» و«أكذب» فأرسل العبارة لاهيا عابثا؟ ربما كان الأمر كذلك، لأن العناية بالألفاظ كثيرا ما تطغى على دقة التفكير.
أو لعله أبصر من ذلك وأعمق، وأراد بعبارته الموجزة أن يقرر أن العيش مر أليم، وأن خيال الشاعر كفيل أن يخلق عالما جديدا حلوا مستساغا، يلوذ به فرارا من دنيا الحقيقة والواقع؛ فهو كلما اشتد بعدا عن الواقع فيما يصور، كان أكثر توفيقا في تحقيق الغرض الذي يقصد إليه.
وخير الفروض إنصافا له واعترافا بعمق نظره، أن نفسر إيثاره للكذب في الشعر بأنه إيثار «للذاتي» دون «الموضوعي» في عالم الفنون؛ فنحن إذا حللنا حمرة الشفق مثلا، كان معناها إحساس العين باللون حين يتجه الرائي ببصره نحو السماء، فليست الحمرة الجميلة كائنة في الشفق ذاته، ولكنها صنيعة عين الإنسان، هي التي خلقتها خلقا حين تلقت ضوء الشفق؛ وإذن فليس الشفق أحمر إلا لأن عينا تنظر إليه، وهكذا قل في سائر الصفات الثانوية التي تؤلف شطرا كبيرا من حقائق الأشياء؛ وإن كان الأمر كذلك، فماذا نطلب من الشاعر؟ أنطالبه أن يتقصى بعقله حقائق الأشياء في ذاتها ليصفها كما هي في الواقع، مستقلة عن حواس الإنسان؟ إنه لو فعل، كان بهذا الوصف الموضوعي أقرب إلى الفلاسفة والعلماء منه إلى أصحاب الفن والشعراء؛ أم نطالبه بأن يصف دنياه كما تقع من نفسه، مهما تكن هذه الصورة الذاتية بعيدة عن الواقع؟ نعم، إنه ينبغي للشاعر في رأي الناقد ألا يكترث بالأشياء في ذاتها، بل واجبه أن يصورها بالنسبة إليه؛ ولهذا كان أعذب الشعر عنده أكذبه.
وأيا ما كان غرضه ، فلسنا نحب لرأيه أن يشيع، ونؤثر في ذلك رأي الناقدين من أدباء الإنجليز، الذين يتخذون الصدق مقياسا لجودة الشعر، وسأسوق في إيجاز شديد رأي ناقدين يقعان من الأدب الإنجليزي في أعلى منازله، وهما «ما كولي» و«جون رسكن».
أما «ما كولي» (1800-1859م) فقد كتب كثيرا في نقد الشعراء والناثرين، ومن ذلك كتاب رصده لنقد الكاتب الشاعر «أدسن»، فجاء في سياق البحث أن القائد الإنجليزي المعروف «مولبرا» حين ظفر بالنصر في موقعة بلنهيم «وقعت في أغسطس 1704م»، أخذ الشعراء الإنجليز ينظمون القصائد في مدحه، والإشادة بنصره، ولكن التوفيق الفني أخطأهم جميعا، لأنهم أخذوا يمتدحون في «مولبرا» أنه صبغ الأنهار، وخضب السهول بدماء الأعداء، فلم يصادف هذا القول وأشباهه قبولا من نقدة الشعر، وأحس الناس أن هذه الواقعة الفاصلة ينبغي أن تلتمس سبيلها إلى الخلود عن طريق الشعر الرفيع؛ لذا لجأ بعض الوزراء إلى شاعر فذ، هو «أدسن» وطلبوا إليه أن يجود بقصيدة من شعره الخالد في «مولبرا» اعترافا بفضله، ففعل، وصادف عند النقاد كل إعجاب؛ وأشد ما أثار إعجابهم سطر بلغ في رأيهم ذروة الشعر، يشبه فيه مولبرا بالملك المدبر في عاصفة القتال الهوجاء، فالدنيا ترتج من حوله، وهو رصين رزين يفكر ويدبر؛ فقال «ما كولي» تعليقا على هذا السطر رأيه في وجوب الصدق في الشعر، إذ قال ما ملخصه:
في رأينا أن أهم ما تمتاز به قصيدة «أدسن» هو أنه اصطنع في شعره رصانة الرجولة ورزانة العقل الحكيم، ونبذ الإغراق في الخيال نبذا محمودا. إن الشاعر العظيم «هوميروس» قد تغنى بالحروب قبل أن تصبح الحروب علما وفنا، فكان إذا دبت العداوة في عهده بين مدينتين صغيرتين، بعثت كل منهما بأبنائها جميعا إلى ساحة القتال لا يفقهون من وسائل النظام شيئا، وكل سلاحهم أدوات الصناعة شذبوها وهيئوها على نحو ساذج غليظ؛ وكان كل فريق من المتحاربين يقوده نفر قليل من الرؤساء البارزين الذين مكنتهم الثروة أن يظفروا لأنفسهم بعدة حربية جيدة متينة وجياد كريمة وعربات حربية، كما أتاح لهم الفراغ أن يدربوا أنفسهم على القتال تدريبا طويلا؛ فكان الموهوب من هؤلاء القادة بقوة ممتازة وشجاعة نادرة، أشد عنفا وأعمق أثرا في ميدان الحرب من عشرين رجلا من أوساط الرجال، فهو يستطيع بقوته ورشاقته وشجاعته ومهارته في الرماية، أن يكون له أبلغ الأثر في تقرير مجرى القتال؛ هكذا كانت المواقع أيام هوميروس، للرجل الواحد الممتاز شأن عظيم في رجحان كفة النصر في هذا الفريق أو ذاك؛ فمتى يكون «هوميروس» صادقا في شعره حين يصور الأبطال؟ إنه يصدق لو رسم المحارب البارع في صورة العملاق الجبار، الذي يقوى على قذف رواسخ الصخر، وثقال الحراب والرماح؛ إنه حين صور «أخيل» وقد ادرع بعدته الحربية، وحمل رمحه الذي لا يقوى على حمله سواه من الرجال، فساق أمامه جيوش الأعداء جميعا، لم يزد بذلك على أن بالغ مبالغة جميلة لصورة المحارب الباسل كما يتصوره أهل زمانه، يصرع بيمينه الأعداء رجلا في إثر رجل، في جرأة ومهارة وقوة؛ ولو اختار «هوميروس» لبطله صورة الرجل الرزين البارع في رسم الخطط الحربية في غير حاجة إلى قوة عضلية ومهارة في الرماية وركوب الخيل، لكان شعره كاذبا لا يستحق منا التقدير والإعجاب؛ وإن الشعوب البدائية كلها لتفهم البطل على نحو ما تصوره اليونان وصوره «هوميروس»؛ فيروى عن المماليك أنهم حين رأوا بونابرت أخذتهم دهشة عميقة، أن يكون أعظم قادة أوروبا رجلا لا يزيد طوله على خمس أقدام، ولا يحسن ركوب جواده! فأين هو من بطلهم مراد بك الذي يمتاز بضخامة الجسم وقوة العضلات ومهارة التصرف في الرمح والجواد؟
كان «هوميروس» إذن صادقا حين صور الحروب كما صورها، وحين رسم الأبطال كما رسمهم، ولكن شعراءنا حين مجدوا «مولبرا» قلدوا «هوميروس»، فجاء تصويرهم كاذبا يمجه الذوق السليم؛ فهذا أحدهم يصف الجراح الدامية التي أنزلها «مولبرا» في أجساد الأعداء، وهذا آخر يزعم أن «مولبرا» كان يرمي الرمح فيحصد الأعناق، وهذا ثالث يقول إنه استطاع وحده أن يسوق أمامه ألوف الرجال وأن يصبغ الأرض بالدماء؛ ولكن هذه الصور جميعا إن امتدحناها في «هوميروس»، فإنما ننكرها من هؤلاء الشعراء.
فلما أراد «أدسن» أن يمجد «مولبرا» كانت براعته أن تخلص من هذه الصور التقليدية، إذ مجد في بطله صفات أخرى، هي النشاط والحكمة والعلم الحربي ورباطة الجأش التي مكنته أن يظل في معمعة القتال الصاخبة، محتفظا بقوته العقلية التي يختبر بها الموقف ويصرف بها الجنود.
Shafi da ba'a sani ba