مقدمة
أدب المقالة
البرتقالة الرخيصة
ذات المليمين
شيطان الجرذ
ثورة في خزانة الكتب
خطيب هايد بارك
جنة العبيط
في سوق البغال
بيضة الفيل
Shafi da ba'a sani ba
قصاصات الزجاج
الدقة الثالثة عشرة
شعر مصبوغ
تجويع النمر
الكبش الجريح
لست أومن بالإنسان 1
حكمة البوم
قارئ الأفكار
النساء قوامات
أعذب الشعر أصدقه
Shafi da ba'a sani ba
قوة الخيال
لماذا لا نخلق (1)
لماذا لا نخلق (2)
أخلاق العبيد
مقدمة
أدب المقالة
البرتقالة الرخيصة
ذات المليمين
شيطان الجرذ
ثورة في خزانة الكتب
Shafi da ba'a sani ba
خطيب هايد بارك
جنة العبيط
في سوق البغال
بيضة الفيل
قصاصات الزجاج
الدقة الثالثة عشرة
شعر مصبوغ
تجويع النمر
الكبش الجريح
لست أومن بالإنسان 1
Shafi da ba'a sani ba
حكمة البوم
قارئ الأفكار
النساء قوامات
أعذب الشعر أصدقه
قوة الخيال
لماذا لا نخلق (1)
لماذا لا نخلق (2)
أخلاق العبيد
جنة العبيط
جنة العبيط
Shafi da ba'a sani ba
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
لست أقيس قامتي إلى ذرة من «وردزورث» أو «كولردج» الشاعرين الإنجليزيين اللذين أخرجا معا ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة» في أول القرن التاسع عشر؛ كلا، ولا أقيس شيئا في هذا الكتاب بشيء من ذلك الديوان؛ لكن كان لهذين الشاعرين أمل، كما أن لي أملا، وانتهج الشاعران في الديوان منهاجا، فانتهجت في هذا الكتاب منهاجا.
رأى الشاعران رأيا في الشعر خالفا به المعروف المألوف إذ ذاك، فبسط أحدهما - وردزورث - هذا الرأي الجديد في مقدمة طويلة للديوان، ثم جاءت بقية الديوان - مما نظم الشاعران - بمثابة التطبيق، وأصبح ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة» منذ ذلك الحين معلما في تاريخ الأدب يؤرخ به المؤرخون بداية عصر الابتداع.
كذلك رأيت في المقالة الأدبية رأيا أخالف به الذائع الشائع في أدبنا، وأوافق فيه رجال الأدب في الغرب، فقدمت للكتاب بفصل في شروط المقالة الأدبية وأوصافها، ثم عقبت على ذلك بمقالات هي - باستثناء عدد قليل منها في نهاية الكتاب - بمثابة التطبيق لما بسطت من قواعد.
قارئي الكريم
نشدتك الله لا تحكم على قيمة هذا الكتاب بقيمة كاتبه؛ إن كاتبه ليرجو أن يكبر في عينيك بهذا الكتاب.
نشدتك الله لا تحكم على هذا الكتاب بعدد صفحاته؛ إن صاحبه ليأمل أن يشق في المقالة الأدبية طريقا جديدا بهذه الصفحات.
نشدتك الله لا تحكم على هذا الكتاب بمعيار قادة الأدب في بلادنا؛ إنما نشرت هذا الكتاب لأناهض به أولئك القادة؛ فكأنما بهذا الكتاب أقول: من هنا الطريق يا سادة لا من هناك.
Shafi da ba'a sani ba
زكي نجيب محمود
أدب المقالة
إن معظم النار من مستصغر الشرر؛ ذلك ما قرأته في الكتب وما تعلمته من تجربة الحياة، وهو ما أجرى القلم بهذه الكلمات؛ فليس بعيدا أن ينبه هذا القلم المتواضع - الذي لا يكاد صريره يبلغ سمع صاحبه - أديبا واحدا من أئمة الأدب في هذا البلد، فيتجه وجهة جديدة في كتابة المقالة الأدبية.
فالمقالة توشك أن تكون في مصر القالب الأوحد الذي يصب فيه الأديب خواطره ومشاعره؛ فأديبنا قصير النفس، تكفيه المقالة الواحدة ليفرغ في أنهرها القليلة كل ما يتأجج به صدره من عاطفة وما يختلج به رأسه من فكرة؛ فإن غضب أديبنا من نقص يلمحه في بناء الجماعة أو أخلاق الفرد، فزع إلى المقالة يصب فيها ثورة غضبه؛ وإن افتتن أديبنا بجمال الطبيعة الخلاب، لجأ إلى المقالة يبث فيها ما أحس من عجب وإعجاب. أما الأديب الذي يريد أن يعالج بؤس البائسين فينشر في الناس القصة تلو القصة حتى يبلغ ما ينشره ألوف الصحائف كما فعل «دكنز»، أما الأديب الذي يعطف على العمال فيكتب في ذلك للمسرح الرواية في إثر الروية كما فعل «جولزورثي»، أما الأديب الذي يتلقى خطابا من قارئة تستفسره الاشتراكية فيرد على الرسالة بمجلدين، كما فعل «برناردشو»، أما الأديب الذي يرى علاج الإنسانية في حكومة دولية تمسك بزمام العالم كله فيكتب في ذلك كتبا تزيد على الخمسين كما فعل «ولز»؛ مثل هذا وذلك من الأدباء لم تشهده مصر، فبؤس البائسين علاجه مقالة، والعمال تكفي لنصرتهم مقالة، وحل المشكلات الدولية حسبه مقالة.
فالمقالة إذن هي عندنا ملاذ الأديب، الذي ليس له من دونها ملاذ، ولا بأس بهذا لو كانت المقالة الأدبية في مصر أدبا تعترف به قواعد الأدب الصحيح؛ ولكن الأديب المصري يكتب المقالة التي لو قيست بمعيار النقد الأدبي لطارت هباء، ولأغلقت دولة الأدب من دونها الأبواب، وإنما قصدت بمعيار النقد ما يكاد يجمع عليه النقاد من أدباء الإنجليز.
فهم هنالك يقولون: إن المقالة يجب أن تصدر عن قلق يحسه الأديب مما يحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع، على شرط أن يجيء السخط في نغمة هادئة خفيفة، هي أقرب إلى الأنين الخافت منها إلى العويل الصارخ، أو قل يجب أن يكون سخطا مما يعبر عنه الساخط بهزة في كتفيه ومط في شفتيه، مصطبغا بفكاهة لطيفة، لا أن يكون سخطا مما يدفع الساخط إلى تحطيم الأثاث وتمزيق الثياب، هذا السخط على الحياة القائمة في هدوء وفكاهة، هذا السخط الذي لم يبلغ أن يكون ثورة عنيفة، هو موضوع المقالة الأدبية بمعناها الصحيح؛ فإن تضرمت في نفس الأديب ثورة كاسحة جامحة، فلا يجيز له نقدة الأدب أن يتخذ المقالة متنفسا لثورته، وليسلك - إن أراد - سبيله إلى المنابر يلقي ثورته في موعظة؛ لأنها تحتمل من الواعظ أعنف ألوان التقريع، أو ليلتمس سبيلا إلى القصيدة - إن كان شاعرا - لأن القصائد لا تتنافر بطبعها مع الحماس المشتعل.
شرط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقما، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكه الجميل؛ فإن التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها، وإن افتقدت في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تصبه؛ فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثير أو قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة؛ وإن شئت فاقرأ لرب المقالة الإنجليزية «أدسن» ما كتب، فلن تجد إلا مازجا سخطه بفكاهته، فكان ذلك أفعل أدوات الإصلاح.
نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه محدثا لا معلما، بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يسامره لا أمام معلم يعنفه، نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه زميلا مخلصا يحدثه عن تجاربه ووجهة نظره، لا أن يقف منه موقف الواعظ فوق منبره يميل صلفا وتيها بورعه وتقواه، أو موقف المؤدب يصطنع الوقار حين يصب في أذن سامعه الحكمة صبا ثقيلا؛ نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب في حديقته ليمتعه بحلو الحديث، لا أن يحس كأنما الكاتب قد دفعه دفعا عنيفا إلى مكتبته ليقرأ له فصلا من كتاب!
لهذا كله يشترط الناقد الإنجليزي في المقالة الأدبية شرطا لا أحسب شيوخ الأدب عندنا يقرونه عليه؛ يشترط أن تكون المقالة على غير نسق من المنطق، أن تكون أقرب إلى قطعة مشعثة من الأحراش الحوشية منها إلى الحديقة المنسقة المنظمة، ويعرف «جونسون» - ومكانته من الأدب الإنجليزي في الذروة العليا - يعرف المقالة فيقول: إنها نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام، هي قطعة لا تجري على نسق معلوم ولم يتم هضمها في نفس كاتبها، وليس الإنشاء المنظم من المقالة الأدبية في شيء.
أين هذا من المقالة الأدبية في مصر؟ لقد سمعت أديبا كبيرا يسأل أديبا كبيرا مرة فيقول: هل قرأت مقالي في هلال هذا الشهر؟ فأجابه: أن نعم، فسأله: وماذا ترى فيه؟ هل تراني أهملت نقطة من نقط الموضوع؟ فأجابه قائلا: العفو، وهل مثلك من يهمل في مقالة يكتبها شاردة أو ورادة؟! هذه هي المقالة عند قادة الأدب: أن تكون موضوعا إنشائيا مدرسيا، كل فضله أنه جميل اللفظ واسع النظر، فالفرق بين مقالة الأديب وموضوع التلميذ فرق في الكم لا في الكيف؛ فلله درك يا معلم اللغة العربية في المدارس المصرية! إنك لتتعقب بتأثيرك شيوخ الكتاب بين كتبهم وأوراقهم، كأني بك تضغط على أذن الكاتب بين إبهامك وسبابتك حين يحمل قلمه ليكتب، مذكرا إياه: هل وفيت نقط الموضوع؟ أين نقط الموضوع؟!
Shafi da ba'a sani ba
كلا، ليس للمقالة الأدبية، ولا ينبغي أن يكون لها، نقط ولا تبويب ولا تنظيم؛ فإن كانت كذلك، فلا عجب أن ينفر القارئون - يا أيها الأدباء - من قراءة ما تكتبون! لا تعجبوا يا قادة الأدب المصري ألا يقرأكم إلا قلة من طبقة القارئين؛ لأنكم تصرون على أن يقف الكاتب منكم إزاء قارئه موقف المعلم لا الزميل، موقف الكاتب لا المحدث، موقف المؤدب لا الصديق، ويصطنع الوقار فلا يصل نفسه بنفسه؛ وإلا فحدثني بربك أي فرق يجده القارئ بين الصحيفة الأدبية والكتاب المدرسي؟
أرأيت كيف يتحدث الصديق إلى صديقه عن حادثة شهدها في عربة الترام وهو في طريقه إليه؟ أرأيت كيف يلاحظ الصديق لصديقه إذ هما يسيران ملاحظة من هنا وملاحظة من هناك حول ما يقع عليه البصر؟ انقل هذا بيراعة الأديب وبراعته يكن لك منه مقالة أدبية من الطراز الأول؛ أما أن تعلم القارئ فصلا في عوامل سقوط الدولة الأموية أو في أسباب انحلال المجتمع وما إلى ذلك من فصول؛ فذلك مفيد على أنه درس علمي، ونافع في عرض اطلاعك الواسع، ومثقف للقارئ كما يثقفه فصل من كتاب، ودافع إلى الفضيلة على أنه موعظة منبرية؛ ولكن لا تطمح أن تكون أديبا بما تكتب من أمثال هذه الفصول والأبواب، فلن تكون بأمثالها في دولة الأدب قزما ولا عملاقا، أنت بهذه الفصول عالم ولست بأديب، أنت بها قارئ ولست بكاتب، وفضلك أن نقلت إلى القراء ما قرأت، وإنه لفضل عظيم؛ ولكنه شيء والأدب الخالص شيء آخر.
فكاتب المقالة الأدبية على أصح صورها، هو الذي تكفيه ظاهرة ضئيلة مما يعج به العالم من حوله، فيأخذها نقطة ابتداء، ثم يسلم نفسه إلى أحلام يأخذ بعضها برقاب بعض دون أن يكون له أثر قوي في استدعائها عن عمد وتدبير، حتى إذا ما تكاملت من هذه الخواطر المتقاطرة صورة، عمد الكاتب إلى إثباتها في رزانة لا تظهر فيها حدة العاطفة، وفي رفق بالقارئ حتى لا ينفر منه نفور الجواد الجموح؛ لأن واجب الأديب الحق أن يخدع القارئ كي يمعن في القراءة كأنما هو يسري عن نفسه المكروبة عناء اليوم أو يزجي فراغه الثقيل، وهو كلما قرأ تسلل إلى نفسه ما شاع في سطور المقالة من نكتة خفية وسخرية هادئة، دون شعور منه بأن الكاتب يعمد في كتابته إلى النكتة والسخرية؛ فإذا بالقارئ آخر الأمر يضحك، أو يتأثر على أي صورة من الصور، بهذه الصورة الخيالية التي أثبتها الكاتب في مقالته، وقد يعجب القارئ: كيف يمكن أن يكون في النفوس البشرية مثل هذه اللفتات واللمحات! ولكنه لن يلبث حتى يتبين أن هذا الذي عجب منه إنما هو جزء من نفسه أو نفوس أصدقائه، فيضجره أن يكون على هذا النحو السخيف، فيكون هذا الضجر منه أول خطوات الإصلاح المنشود.
وما دمنا نشترط في المقالة الأدبية أن تكون أقرب إلى الحديث والسمر منها إلى التعليم والتلقين؛ وجب أن يكون أسلوبها عذبا سلسا دفاقا. أما إن أخذت تشذب أطراف اللفظ هنا وتزخرف تركيب العبارة هناك؛ كان ذلك متنافرا مع طبيعة السمر المحبب إلى النفوس؛ هذا من حيث الشكل، وأما من حيث الموضوع فلا يجوز عند الناقد الأدبي أن تبحث المقالة في موضوع مجرد، كأن تبحث مثلا فضل النظام الديمقراطي أو معنى الجمال أو قاعدة في علم النفس والتربية؛ لأن ذلك يبعدها عن روح المقالة بمعناها الصحيح، إذ لا بد - كما ذكرنا - أن تعبر قبل كل شيء عن تجربة معينة مست نفس الأديب فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قرائه؛ ومن هنا قيل إن المقالة الأدبية قريبة جدا من القصيدة الغنائية؛ لأن كلتيهما تغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، وتتغلغل في ثنايا روحه حتى تعثر على ضميره المكنون، وكل الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائية هو فرق في درجة الحرارة؛ تعلو وتتناغم فتكون قصيدة، أو تهبط وتتناثر فتكون مقالة أدبية.
ولما كانت المقالة إنما تتكئ على ظاهرة مطروقة معهودة في الحياة اليومية لتنفذ خلالها إلى نقد الحياة القائمة نقدا خفيا يستره غطاء خفيف من السخرية، ولما كانت كذلك تسلك في التعبير أسلوبا سلسا مشرقا؛ فقد يظن أحيانا أنها ضرب هين من ضروب الأدب لا يدنو من القصيدة والقصة والرواية. والواقع على عكس ذلك؛ لأن أرفع الفن هو ما خفي فنه على النظرة العابرة، فما أكثر من ينجح في كتابة القصة والقصيدة! وما أقل من يجيد كتابة المقالة؛ وشأن الذي يستخف بما تطلبه المقالة من فن كشأن الذي يظن أن الشعر المرسل أيسر من القصيد المقفى، ولعل عسر المقالة ناشئ من أنها ليس لها حدود مرسومة يحفظها المبتدئ فينسج على منوالها كما يفعل في القصة أو القصيدة.
إن الذي أريد أن أؤكده مرة أخرى هو أن المقالة الأدبية لا بد أن تكون نقدا ساخرا لصورة من صور الحياة أو الأدب، وهدما لما يتشبث به الناس على أنه مثل أعلى، وما هو إلا صنم تخلف في تراث الأقدمين. أما إن كان الفصل المكتوب بحثا رصينا متسقا فسمه ما شئت؛ فقد يكون علما، وقد يكون فصلا في النقد الأدبي، وقد يكون تاريخا أو وصفا جغرافيا كتبه قلم قدير؛ ولكنه ليس مقالة أدبية، كما أنه ليس بقصيدة ولا قصة.
البرتقالة الرخيصة
لم أكد أفرغ من طعام الغداء حتى جاءني الخادم بطبق فيه برتقالة وسكين، فرفعت السكين وهممت أن أحز البرتقالة؛ ولكني أعدتها وأخذت أدير البرتقالة في قبضتي وأنظر إليها نظرة الإعجاب؛ فقد راعني إذ ذاك لونها البديع وجمالها الخلاب، وشممت لها أريجا طيبا هادئا، ولمحت في استدارتها ومسامها نضارة عجيبة؛ فأشفقت عليها من التقطيع والتشريح، ثم نظرت إلى خادمي وقلت مبتسما: لعل برتقالة اليوم يا سليمان لا يكون بها من العطب ما كان بتفاحة الأمس؟ فقال: كلا يا سيدي فلن يكون ذلك قط؛ فإن من خلال البرتقال التي يتميز بها عن سائر ألوان الفاكهة أن العطب يبدأ من خارجه لا من داخله؛ فإن وجدت قشور البرتقالة سليمة فكن على يقين جازم بأن لبابها سليم كذلك، فالبرتقالة بذلك أمينة صريحة صادقة، لا تخفي بسلامة ظاهرها خبث باطنها؛ ولا كذلك التفاحة، التي قد تبدي لك ظاهرا نضرا لامعا، فإذا ما شققت جوفه ألفيته أحيانا مباءة يضطرب فيها أخبث الدود! فقلت: تلك والله يا سليمان خلة للبرتقال لم أكن أعلمها من قبل؛ ولكني أتبين الآن أنها حق لا ريب فيه، وإنه بهذه الخلة وحدها لجدير من بائع الفاكهة أن يرصه في صناديقه الزجاجية، وأن يلفه بغلاف من ورق شفاف حرصا على هذه النفس الكريمة أن تستذل وتهان في المقاطف والأقفاص، فهو لعمري بهذه العناية أجدر من التفاح الخادع؛ وماذا تعلم يا سليمان غير ذلك من صفات البرتقال؟ فقال: إنها لتشبع الحواس جميعا؛ فهي بهجة للعين بلونها، وهي متعة للأنف بأريجها، ولذة للذوق بطعمها، ثم هي بعد ذلك راحة للأيدي حين تديرها وتدحرجها كما تفعل يا سيدي الآن؛ وقد لبست البرتقالة معطفا من جلد جميل، فإذا ما انتهت إلى آكلها نضت عن نفسها ذلك العطاف الذي لامسته الأيدي؛ لتبدو لصاحبها بكرا لم تفسدها جراثيم السوء والمرض، وهي فوق ذلك كله لم تنس أن تحنو بفضلها على الفلاح المسكين؛ لأنها قررت منذ زمن بعيد أن تمنحه جلدها ليملحه فيأكله طعاما شهيا، وليس بالقليل أن يظفر زارع البرتقال بقشوره ما دام السادة قد نعموا باللباب، فهو اعتراف بالجميل محمود على كل حال!
قلت: أفبعد هذا كله يستخف بقدرها الفاكهاني، فيقذف بها قذفا مهملا في الأوعية والسلال؟! أفبعد هذا كله تقوم البرتقالة في سوق الفاكهة بمليمين، وتقدر التفاحة بالقروش؟! تالله لو كنت موزع الأرزاق على هذه الفاكهة لغيرت معايير التقسيم وقلبتها رأسا على عقب، فأبيع هذا البرتقال الجيد بالوزن والثمن الكثير، والتفاح بالعدد والثمن البخس الرخيص؛ فلست أدري لماذا لا يكون أساس التقويم ما تبديه الفاكهة من جودة وإخلاص؟!
قلت ذلك وكانت رنة الأسى في قولي تزداد شيئا فشيئا حتى خشيت أن تنقلب إلى ثورة، فلا يجد الثائر ما يحطمه غير أثاثه، فأكلت البرتقالة وحمدت الله على نعمته.
Shafi da ba'a sani ba
وهنا نقر الباب طارق نقرة خفيفة، ثم دفعه في أناة وأقبل، وأخذ يدنو بخطى ثقيلة حتى اقترب من المائدة، فألقى عليها غلافا مليئا بأوراق، ثم جلس ونظر إلي نظرة يشيع منها اليأس، وابتسم ابتسامة خفيفة ينبعث منها القنوط وخيبة الرجاء، فسألته: ماذا دهاك؟ فأجاب: انظر! وأشار بإصبعه إلى الحزمة الملقاة قائلا: لقد رفض الناشر أن يتعهد طبع الكتاب، وهكذا ضاع مجهود أعوام ثلاثة أدراج الرياح! فسألته: وماذا قال الناشر؟ فأجاب: زعم لي أن الكتاب جيد لا بأس بمادته، ولكنه لا يتوقع له سوقا نافقة؛ لأن العبرة عند القارئين بالكاتب لا بالكتاب، ألست ترى في ذلك يا أخي عبثا أي عبث؟
قلت: هون على نفسك الأمر ولا تحزن، فكتابك هذا برتقالة رخيصة، وكم في الأشياء ما هو جيد ورخيص! وإن ذلك ليذكرني بيوم أشقيت فيه نفسي بتحرير مقالة جيدة ممتازة، وحملتها فخورا إلى صاحب الصحيفة الأسبوعية، وجلست أمامه أرقب كلمة التقدير تنحدر بين شفتيه، فما راعني إلا أن أراه ينفذ مسرعا إلى آخر المقالة يقرأ الإمضاء، فالمقالات عند سادتنا أولئك تقرأ من أذيالها لا من رءوسها! ثم مط شفتيه مطا فهمت معناه، ودفعها بين أوراقه حيث استقرت إلى الأبد، وها أنا ذا أتبين اليوم أن مقالتي - ككتابك - برتقالة رخيصة؛ فخير لنا وأقوم أن نكون تفاحا معطوبا من أن نكون برتقالا جيدا لذيذا.
ألا ما أكثر بين الناس هذا البرتقال الرخيص! فإن شئت حدثتك عن رجل يكيل له أولو الأمر المدح والثناء؛ ولكن كما يمدح الآكلون البرتقال؛ يستمرئونه ولا يدفعون له إلا ثمنا قليلا، وإن شئت حدثتك عن رجل أراد الزواج، فوجدت فيه المخطوبة ما تشتهي من خلق قوي ورأي مستقيم، ولكنها نظرت فإذا هو في سوق السلع بضاعة بخسة مزجاة، فهزت كتفيها ومطت شفتيها، وقالت مغضبة: ردوه! إنه برتقالة رخيصة تمتدح ولا تشترى، وإن شئت حدثتك وحدثتك.
فمتى؟ متى يا رباه يعرف الفاكهاني لهذه البرتقالة المسكينة قدرها؟
ذات المليمين
لست أدري متى وكيف تسللت هذه القطعة من ذات المليمين إلى نقودي؛ ولكن الذي أدريه في يقين هو أنها عمرت هنالك شهرا كاملا، تنتقل معي حيث أنتقل وتسير حيث أسير، تحاول جاهدة أن تجد سبيلها إلى الإنفاق، وأنا أغالب طبيعة البشر فأعاونها في ذلك، فما أجد لها السبيل؛ ولعلك تدري شيئا من هذا الصراع الدائم القائم بين المال وصاحبه، هذا يشد المال إلى جيوبه شدا لا يريد له أن يشهد النور، والمال يبتغي لنفسه أن يتنفس الهواء الحر الطليق، فيجري دافقا سيالا بين أصابع المتعاملين؛ تارة تحسه أيد ناعمة لكنها تستخف به وتزدريه، وطورا تظفر به أيد خشنة لكنها تتقبله قبولا حسنا وتكرم له المثوى، وإن ذلك لمن عجب الحياة الذي لا ينقضي؛ فإن طاب لك المأوى ألفيت به الشوك والحسك مما يستذل النفوس ويؤجج الصدور، وإن التمست لنفسك العزة وجدت مأواك خشنا غليظا، ومهما يكن من أمر، فقد ألحفت هذه القطعة تنشد لنفسها الفكاك، وغالبت نفسي وعاونتها على الإنفاق؛ ولكن كان لها القدر بالمرصاد.
فها أنا ذا عند دار السينما أضرب بمنكبي مع الضاربين، لعلي أجد السبيل إلى شباك التذاكر، وقد ضربت حوله زحمة الناس نطاقا يخنق الأنفاس، وأين من هؤلاء القوم من يواتيه حظه السعيد فيبلغ عتبة الشباك؟ إن عيون المتزاحمين لتكاد تفتك به من حسدها له على توفيقه فتكا؛ وحان الحين وكنت أنا المرموق بهاتيك العيون الفواتك، ووقفت أمام الشباك أملأ عارضته بمرفقي؛ ولكني أسرعت الحركة والكلام لتطمئن نفوس المنتظرين الناظرين فلا يحقدوا، وضربت يدي في جيبي وأخرجتها فقذفت بما أخرجت لبائعة التذاكر، فإذا بها ذات المليمين تتحرك على رخامة الشباك في رعونة الإيقاع.
وجلست في مقهى مع طائفة من الأصدقاء، لا تزال بيني وبينهم حواجز الكلفة قائمة، يحاول كل منا أن يستر من نفسه الفقر والجهل والضعة، ليظهر الثراء والعلم ورفعة المكانة بين الناس. وجاء الخادم يتقاضانا ثمن ما شربنا، فتسابقت الأيدي مخلصة إلى الجيوب - يا ليتها تدرك أصحاب المسغبة بعشر معشار هذا الوفاء لأصحاب اليسار! - فهذا موقف من المواقف النادرة التي ينعم فيها من يثبت للآخرين غناه، وأخرجت كل يد ما فيها على المنضدة في سرعة متلهفة؛ فقذف واحد بريال قوي العضلات، صداح الرنين، ونشر آخر جنيها من الورق بين إصبعيه، وقذفت على المنضدة بما حملت يدي مع القاذفين، فإذا بنصف ريال يأخذ مكانة لا بأس بها بين القذائف؛ ولكن دارت إلى جانبه ذات المليمين فحطت من قدره وقيمته، وشاء الحظ العاثر أن تتعثر هذه القطعة المنكودة في دورانها حتى هوت إلى الأرض في رنين ضئيل فانحنى أحد الأصدقاء إليها وردها إلي، فأخذتها والجبين يتندى من الخجل، فليس يشرف المرء في مثل هذه المواقف أن يضم جيبه شيئا من ذوات الملاليم!
وكنت أجالس فئة من رفاقي، وأرادت المصادفة أن يدور بيننا حديث أخذ يشتد فيه الجدال ويشتد حتى اضطرم واشتعل، فجاء زميل يجمع منا قدرا من المال نحسن به على خادم طاحت يد المنون بزوجه، وعجزت دراهمه أن تقلقل الجثة من سريرها إلى القبر، فجاءنا يطلب الإحسان - والموت يقسو على الفقير كما تقسو عليه الحياة، فلا هو إن عاش حي بين الأحياء، ولا هو إن مات واجد سبيلا ميسورة إلى مراقد الموتى! - ودار الزميل الكريم يلقف من الأصابع ما امتدت به، ومددت إصبعي ذاهلا مشتغلا بما أنا فيه من الجدل وقد كدت أنتصر، وإذا بالزميل يبتسم لي قائلا: لا بأس فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وضحك الحاضرون جميعا، ونظرت فإذا بذات المليمين بين إصبعيه فجذبتها في حركة عصبية سريعة، وفمي يتمتم ألفاظ الأسف، وأخرجت ضعف ما أحسن به الآخرون لأعوض هذه السقطة؛ فمن أمثال هذه السقطات ترتسم شخصية الرجل في أذهان الناس!
حقا إن العرق دساس، ومن تجري في عروقه دماء النذالة والضعة هيهات أن يخفي عن الناس طويته، فالنفس لا بد يوما مفضوحة بسلوكها، ولو حاولت أن تسدل على مكنونها ألف ستار وستار؛ فهذه القطعة ذات المليمين - فيما يظهر - قد استغلت شبهها بذات القرشين استغلالا دنيئا خسيسا، وأشهد الله أني من إجرامها بريء! فقد عن لي يوما أن أسلك نفسي في زمرة الوجهاء ولست منهم في عير ولا نفير؛ فركبت الترام في الدرجة الأولى وجاء الكمساري يجبي من الراكبين الأجور، وكنت منه في أقصى المقصورة، فمددت له يدي بذات قرشين، وأراد أحد الراكبين أن يعينني على ما قصرت عنه ذراعي، فأخذ مني قطعة النقد ليعطيها للعامل، ورأيته ينظر إلى القطعة في يده ثم إلي؛ ولكن أدبه قد شاء له ألا يتدخل في أمر لا يعنيه، وناولها إلى بائع التذاكر، فنظر إليها الرجل وقال: ما هذا؟ فقلت: خذ قرشا وهات قرشا، فقال: عشنا ورأينا ذات المليمين تلد من جوفها القروش! فأدخلت يدي إلى نقودي في رعشة الخجل، وأصلحت الخطأ، وقدمت للرجل المعذرة بالابتسام والكلام، وأردت أن أثبت للجالسين براءتي - ووجاهتي - فأحسنت بذات المليمين إلى فقير قفز إلى سلم العربة يطلب الإحسان، وانتهى بذلك تاريخ مؤلم طويل. •••
Shafi da ba'a sani ba
لكن الله الذي يضمر الخير في الشر؛ قد أراد لهذه القطعة الخبيثة ألا يذهب عني بلاؤها بغير درس مفيد، بصرني بناحية من طبائع الناس لذيذة ومضحكة معا.
فقد جلست بين جماعة ذات مساء، وكان في الحاضرين أديب شاب لم يتجاوز العشرين؛ هو الذي حشر نفسه في زمرة الأدباء حشرا بغير دعوة منهم ولا قبول، ولست أعلم من ماضيه الأدبي إلا مقالة نشرتها له مجلة أسبوعية، ولو اكتفى بهذا الحد من الأحلام لكان جميلا، لأن الأحلام الحلوة التي تنفع صاحبها ولا تؤذي الآخرين ليس بها بأس ولا ضرر؛ ولكن الغرور أخذ من هذا السخيف مأخذا شديدا، فإذا به لا يكتفي أن يكون أديبا من الأدباء؛ ولكنه - لو أنصف الزمان وعرف للناس أقدارهم - في الطليعة منهم، وشيوخ الأدب يقفون له بالمرصاد لا يخلون بينه وبين النشر؛ لأنهم ينفسون عليه ما وهبه الله من عبقرية ونبوغ! فقلت لنفسي: أليس هذا بين الناس قطعة من ذوات المليمين تستغل شبهها بذات القرشين، فتدس نفسها بين الريالات وأنصافها دسا دنيئا قد يخدع الغافلين؟!
وحدثني صديق أراد لنفسه الصدارة فالتحق بجمعية أعضاؤها طائفة ممتازة من علية القوم؛ فخالطهم، ولكنهم لما يخالطوه؛ وهش لهم وابتسم، ولكنهم تولوا عنه وعبسوا؛ فجاءني شاكيا باكيا من لؤم الطباع الذي يؤلم ويشقي، فقلت له وقد تلقيت العبرة من ذات المليمين: اعلم أن في النقود ريالات ومليمات؛ فإن وجدت واحدة من ذوات المليمين نفسها بين الريالات فظنت نفسها «عضوا» في هذه «الجماعة» فأصابها ما أساء إليها وأشقاها؛ فليس الذنب ذنب الريالات المتكبرة، لكنه ذنب ذات المليمين؛ لأنها أرادت أن تكلف الأشياء ضد طباعها، إذ أرادت - خطأ - أن تكون ريالا.
شيطان الجرذ
حدثني صاحبي، وكان ممن يفهمون عن الحيوان الأعجم؛ أن جرذا يافعا كانت تسري فيه الحياة مرحة وثابة، فكان كله قوة وكله أملا وكله حركة ونشاطا، كأنما انسكب في أعصابه من الحياة أكثر مما تسع أعصابه، فهو لا يستطيع - وإن أراد - أن يقر في مكان ساعة من زمان، ولا يعرف من دهره إلا أن يسير في مناكب الأرض سعيا وإن لقي في سبيل ذلك حتفه؛ فما أرخص الموت عنده بالقياس إلى إثبات وجوده وتقرير ذاته، حتى لا يطوى العمر دون أن يحسه الوجود؛ فإن هالك هذا الأمل العريض ينشده مثل ذلك البدن الواهن العاجز فابتسمت إشفاقا وسخرية؛ أجابك في مثل سخريتك بأن الوجود وجوده هو، وبأنه من الغفلة أن يكون وألا يكون في آن معا؛ فاضحك ما شئت فلن ينثني الجرذ عن أن يكون في دنياه شيئا كما أراد له بارئه أن يكون!
وكان الجرذ وحيد أمه، فرأت منه تلك الأم العجوز المحطمة ذلك الوثوب فلم يكن معناه في قاموس ألفاظها إلا النزق والطيش، فلم تدخر وسعا في الحد من نشاط وليدها وهو قرة عينها وأملها الذي يعيد لها الشباب بشبابه، فكانت تستقبله في لهفة الأم الحدبة الحنون، وتكيل له عظات السنين نصحا بألا ينصاع لدعوة شيطانه الخبيث: ألا ترحم يا ابناه أمك المكتهلة؟ ما ضرك أن تهدأ في كمينك بين ذراعي وأمام بصري؟ لئن يكن قد أغراك بالدنيا رعدها وبرقها؛ فما ذاك يا ولدي إلا رعد خلب وبرق كذوب! وإن يكن قد أهاب بك صوت المجد؛ فما ذاك يا بني إلا صيحة الشيطان فيك، يأبى عليك الأمن فينصب لك حبائل الموت باسم المجد والخلود! خذها كلمة أملتها تجربة السنين: لن يغنم الحي من حياته إن كان حكيما بأكثر من الدعة والهدوء؛ ماذا تجدي علي الدنيا بأسرها إن راعك سنور فدهاك ففجعني فيك؟ القناعة القناعة يا ولدي، فأقل العيش مع القناعة خير وفير، وملك الأرض كلها مع الطموح الكاذب يسير حقير!
عاد الجرذ يوما من جولة المساء فاستقبلته أمه بهذا النصح الذي وقع منه موقع السحر، فتسلل إلى مخدعه واندس في فراشه وهو يردد: نعم ماذا تجدي الدنيا بأسرها إن راعني سنور فدهاني فأوردني مر الحتوف؟! صدقت يا أماه، فلن أبرح الدار بعد اليوم، وحسبي من دهري زاد يقيم الأود ويحفظ الأنفاس، إن الشرف ليقتضيني ألا أستمع لهذا الشيطان الملعون الذي يوسوس لي كلما أقبل المساء أن أتستر تحت جناحه الأسحم وأسطو على ملك غيري من عباد الله! كلا! إن هذا الشيطان العابث ليزخرف لي الرذيلة بإكليل المجد الزائف، ويشوه في عيني الفضيلة فيسميها لي استكانة وخنوعا!
وأخذت الفأر اليافع سنة من النوم وهو يغالب في نفسه هذه الأهواء المصطرعة المتنازعة، فصوت أمه يدعوه إلى ملاينة الدهر والرضا بأخشن العيش وأغلظه ليغنم السلامة ويجنب نفسه الخطر؛ ونعيم الدنيا يغريه بالمنازلة والجهاد حتى يظفر لنفسه بأمتع العيش وأنعمه، فلا ينبغي أن يقنع باليسير وغيره غارق إلى آذانه في الوفير الغزير ويقول: هل من مزيد؛ والحياة تعطيه! ولم يكد يغط الجرذ المذكور في نعاسه حتى رأى في نومه، ويا لهول ما رأى؛ رأى في السماء سحابة حمراء أخذت تتشكل وتستوي حتى استقامت أمام ناظريه كائنا مخيفا، ترتعش شفاهه من الغيظ وتكاد تقدح عيناه الشرر؛ وأخذ يحدق في الفأر الصغير وكأنما يرسل في نفسه من نظراته سهوما مسمومة يرتعد لها الفأر ويرتاع، فقال الجرذ في رجفة الجازع: من؟ - أنا شيطانك الأمين. - اغرب عني فلن أستجيب لك بعد اليوم، إني أعوذ منك بنصيحة أمي! - بل يا أحمق لذ بقيادي من نصيحة أمك؛ نصيحة؟ إنها للضلال المبين! كأني بك قد أصخت إلى هذا الهراء الذي لقنته أمك إياك منذ حين! يا بني، لا تخدعنك ألفاظ الفضيلة والحكمة الجوفاء؛ إنها سموم أنشأها لكم القوي إنشاء لتسكن أعصابكم وتهدأ نفوسكم، حتى إذا ما تداريتم في بطون جحوركم أخذ يتقلب في نعيمه ويتمرغ في أسباب ترفه؛ لماذا يكفيك من عيشك كسرة خشنة ولغيرك أطيب الآكال؟ ألست تؤدي للحياة واجب الحياة على أتم نحو وأكمل صورة؟ فقم وانهض إلى الدنيا العريضة مجاهدا حتى تنتزع من مخلب الدهر حياة مريئة، فيكون لك بها نشوتان؛ نشوة الغنيمة نفسها ونشوة الظفر بالغنيمة، قم واملأ الدنيا ضجة وصياحا حتى يعترف لك الوجود بالوجود. - ولكن السنور الأشهب يجول في البيت فيملأ أبهاءه بموائه. - تبا لكم يا معشر الجرذان! إنكم لا تنفكون تضعون لأنفسكم الحوائل تبريرا لعجزكم أمام ضمائركم المعتلة، إن هذا السنور نفسه لداعية لك أن تنهض وتسري في أنحاء الدار، حتى إذا ما ظفرت ببغيتك صحت في استكبار الظافر، تلك بغيتي أصبتها وأنف السنور في الرغام؛ وهل يلذ السعي ويطيب الجهاد بغير ذلك العدو العنيد تغالبه فتغلبه؟ أكنت تريد أيها الجندي الخائر أن تحارب في الموقعة بغير أعداء ثم تزعم لنفسك النصر والظفر؟ - إن لكلامك يا شيطاني لسحرا أبلغ السحر، حتى لكأن ألفاظك يا لعين شواظ من نار تلتهب أوارا في حشاي، لكم وددت أن أتابعك لولا أن تقول أمي ويقول الجرذان: لقد تابع الغر شيطانه المريد! - إن فعلوا فقل لهم: لهذا الشيطان صوت الحق والحياة، وإنكم لدعاة الجمود والموت؛ فشيطاني أحق أن أتبع. إن ما يشير به الكهول يا بني باسم الحكمة خدعة باطلة، واسمه الصحيح هو الجبن والخور؛ أفأنت بحاجة إلى أن أذكرك بأنه لن يصيب نعيم الدنيا إلا الفاتك اللهج؟ هذه دول الأرض جميعا فانظر أيها الظافر، أهي التي خشيت وثبة النمر فقبعت في عقر دارها أم من تنمرت فوثبت فكان لها من رقاع الأرض أوفر الحظوظ؟ إنه لخير لك ألف مرة أن تستأسد يوما ثم تموت من أن تعيش في هذا الخمول قرنا كاملا.
فثارت نخوة الفأر واشتعلت حماسته، ونفض الفراش من حوله وأقسم ألا يستسلم بعد الساعة لدعوة أمه العجوز، وانتفض انتفاضة عنيفة استيقظ على إثرها من نعاسه، واستوى جالسا في مخدعه يستعيد ما أملاه عليه شيطانه في حلمه، وإذا به كلمة الحق والقوة والحياة، ثم جهر في صوت مسموع: نعم لن أصبر على هذا العيش الغليظ لحظة واحدة! وسمعت أمه القول فارتعدت في نومها فازعة: ماذا تقول يا بني؟ - وداعا يا أماه ، فانعمي أنت بأنفاسك الذليلة لتغنمي العافية؛ أما أنا فلن أدع نحوا من أنحاء البيت إلا ارتدته ونعمت بما فيه، وهنيئا بعد ذلك بمخلب القط.
وتسلل الجرذ إلى حجر الدار وأبهائها، فهذا طعام شهي يأكله وذاك شراب سائغ يستقيه، فإذا أثقل الكرى جفنيه تخير لنفسه بين أردية الدمقس مرقدا وثيرا. وتعاقبت الأيام والليالي والفأر الصغير النشيط ناعم في عيش هنيء مريء، حتى كان مساء مشئوم؛ وإذا بمخلب السنور يهوي في ظلمة الليل فيغرس أظافره في الجرذ الممتلئ، ويصيح هذا صيحة ترن أصداؤها في جحر الأم، فتأتي لاهثة جازعة لترى وليدها ووحيدها جريحا طريحا أمام القط الكاسر. - يا ويلتاه! لقد كان ما خفت أن يكون. - عني يا أماه؛ للموت بعد نعيم العيش أشهى من الحياة في ظلمة الجحور.
Shafi da ba'a sani ba
ثورة في خزانة الكتب
شاءت لي المصادفة البصيرة - والمصادفة قد لا تكون عمياء - أن أقرأ في ليلة واحدة فكرتين في كتابين مختلفين، لا علاقة لإحداهما بالأخرى؛ ولكنهما - على ما بينهما من تفاوت بعيد - تعانقتا في ذهني، واتحدتا فتكون منهما ازدواج عجيب؛ أما الأولى فهي أن آباءنا من المصريين الأقدمين كانوا ينسبون للأسماء المنقوشة على التماثيل والتوابيت قوى سحرية عجيبة، تكاد تدنيها من الأحياء؛ فهم لم ينقشوا أسماء موتاهم على تلك الأصنام الحجرية للزخرفة والزركشة والزينة، بل ليكون لها في جوف القبور قدرة أن تصيح للروح فتهتدي بصياحها إلى الجسد الراقد لتسري فيه الحياة من جديد؛ وأما الفكرة الثانية فكانت تعليقا لكاتب حديث على رأي فيلسوف قديم في أرستقراطية العقل وحلولها محل أرستقراطية المال؛ إذ أراد أن يلقي بزمام الأمر في الدولة إلى من تثبت لهم الكفاءة العقلية وألا يخلي بين الأدنين في قدرتهم الفكرية وبين مناصب الدولة العليا؛ فليس أشد عبثا في هذه الحياة من أن يحرص الإنسان ما وسعه الحرص على أن يختار أحسن الحذائين لإصلاح حذائه، وأن ينتقي أحسن السائسين لتدريب جياده؛ ثم لا يعبأ بمن يتولى إصلاح دولته!
فرغت من القراءة فأعدت الكتابين إلى خزانة كتبي، وليس فيها سوى بضع مئات قليلة منها، تتفاوت أقدارها العلمية، من كتب في المطالعة والهجاء إلى مجلدات في الفلسفة والعلوم، رصت في رفوف الخزانة الثلاثة رصا يقع بين الفوضى والنظام؛ أعدت الكتابين وأويت إلى مخدعي، فسرعان ما استغرقني نعاس دافئ جميل، ما كان أحلاه بعد يوم مليء بالعمل والعناء، وسبحت في عالم الرؤى فماذا رأيت؟
رأيتني حاكما في دولة أصرف أمور شعبها، لعلها أن تكون أعجب ما شهدت الأرض من دول، ولعله أن يكون أعجب ما ظهر على وجه الدهر من شعوب! أما دولتي فمداها بناء ضخم ذو طبقات ثلاث، لم ألبث أن أتبين فيه خزانة الكتب ضخمت في عالم الأحلام، ثم ضخمت حتى أصبحت هذا البناء الفخم الجميل؛ وأما رعيتي فكانت بضع مئات قليلة من أمساخ لا تطمئن لها العين، ما كدت أباشر شئونها حتى أدركت أنها كتبي قد أصابها في أضغاث الأحلام هذا المسخ والتشويه؛ فقد رأيتها كائنات حية ليست كالتي عهدت من كائنات، يتألف واحدها من لسان غليظ طويل في فم ضخم بشع، ولكل منها جناحان بعضها يستطيع بهما الطيران وبعضها لا يستطيع، وأحسب أن اللسان قد غلظ فيها وطال؛ لأنها لم تصطنع من أول الدهر سوى بضاعة الكلام، فتطور عضو الكلام وضمرت سائر الأعضاء؛ وأعجب ما فيها أن خواطرها مكتوبة في عقد من أوراق الشجر يتدلى من عنقها، بحيث تستطيع العين رؤيتها، وهي حين تتكلم تهز من صدرها تلك الخواطر المكتوبة هزا تتحول به من الكتابة إلى الصياح.
نظرت إلى دولتي وقلبت الرأي في رعيتي، فشاع في نفسي الأسف والأسى لسوء حالها، وكاد يقعدني اليأس عن محاولة إصلاحها فقد خيل إلي أن فوضاها فوق كل إصلاح؛ كانت دولتي مقسمة ثلاث طبقات؛ علياها تسكن الطابق الأعلى، ودنياها الأدنى، وأوساطها في الوسيط؛ وقد راعني ذات يوم أن أرى أن أطيب ما تنتج البلاد من خيرات ينصرف إلى الفئة العالية وهي لا تعمل، وأما الحثالة فإلى الفئة التي تكدح وتشقى، وهي التي سفلت في بناء الدولة حتى استقرت في قاعها؛ فقلت لنفسي: لا حييت بعد اليوم في الدولة حاكما إذا أنا أغمضت العين على هذه النقائص والعيوب، ولن تذهب ثقافتي عبثا، فسأهتدي بآراء المصلحين جميعا، من مضى منهم ومن حضر؛ لأستأصل من جسم شعبي كل داء دفين.
وآثرت قبل البدء في الإصلاح أن أخالط رعيتي عن كثب وأحادثهم، لعلي أعلم كيف علا من علا، وسفل من سفل، فإن في ذلك لبداية وهداية؛ فصعدت لتوي إلى الطابق الأعلى، فإذا فئة من شعبي تتقلب في ألوان النعيم، أسدلت من دونها الستر لتتقي مر النسيم ولفحة الضوء، أجنحتها من المخمل وأوراقها المتدلية من الحرير، وقد خط عليها ما خط بماء الذهب؛ فأخذت أسأل هؤلاء واحدا بعد واحد: ما صنع حتى جاز له أن يصعد هذا المرتقى؟ فأجاب أولهم: إن جواز صعوده هو أن اسمه المطبوع على صدره له رنين قوي إذا نطق به، وهو مكتوب بالخط الضخم العريض؛ فعجبت له كيف يمكن أن يكون رنين الأسماء وضخامة الحروف من أسباب العلا! لكنه أجاب بأن تقاليد الدولة منذ عهد بعيد قد أباحت لمن يعلو صوته على سائر الأصوات أن يتسع صيته، فيأخذ من أمته مكانا عاليا ممتازا، ولا عبرة بما في صياحه هذا من خطأ أو صواب، ثم سألني: ألست ترى - يا صاحب الجلالة - ما بين الصوت والصيت من علاقة في اللفظ؟ وأضاف قائلا: إن علاقة اللفظ عند الفلاسفة دليل على روابط المعنى. فسألت آخر، فأجاب بأن جواز صعوده هو أن جناحيه وما يتدلى على صدره من أوراق صنعت كلها من مادة جيدة مصقولة؛ فعجبت له كيف تكون نعومة الملمس جوازا للصعود! فقال: إن تقاليد الدولة منذ أقدم العصور تعنى بظواهر الأشياء دون بواطنها؛ لأن فيلسوفا قديما علمهم أن الإنسان لا يدرك من الأشياء غير الظواهر، وأما حقائق الأشياء فعلمها عند علام الغيوب. وسألت ثالثا، فقال: إنه مطبوع في بلاد الإنجليز؛ فعجبت له كيف يمكن أن يكون مكان الطباعة بذي شأن، ما دامت الأحرف هي الأحرف والكلام هو الكلام! فأجاب بأن تقاليد الدولة من أقدم عصورها تقضي أن يكون لذلك اعتبار عند قسمة الأقدار. وسألت رابعا، فقال: إنه ينتمي في نسبه إلى كاتب مشهور معروف؛ فعجبت كيف يمكن أن تكون النسبة وحدها كفيلا له بالصعود! فأجاب بأن تقاليد الدولة منذ فجر تاريخها قد جرت بأن يكون لأصحاب الأنساب في الدولة أكبر الأنصاب. وسألت خامسا وسادسا وسابعا.
هبطت السلم مسرعا لا ألوي على شيء، وأنا أوشك أن أصيح: كلا، لن يكون لمثل هذا العبث وجود في دولتي بعد اليوم. إن شيخا في الطابق الأسفل قيل إن به مسا من جنون، قد جاءني منذ أيام يقص علي قصة الإصلاح الذي يريده لأمتي، فأعرضت عنه وتوليت؛ وما كان ينبغي أن أفعل، فما يدريني؟ لعله يهدي، فما يفصل الجنون عن النبوغ إلا حاجز رقيق؛ وقصدت إلى الشيخ حانقا مغضبا، فوجدته يروح ويغدو ولا يكاد يستقر به المكان، فناديته: ادن مني أيها الشيخ وأعد على سمعي ما قصصته بالأمس. فقال: أردت لأمتك الإصلاح - يا صاحب الجلالة - فما أعرتني أذنا مصغية ولا قلبا واعيا، والأمر هين لا عناء فيه، أريد أن تسود في الدولة أرستقراطية العقل مكان أرستقراطية المال وغير المال من الأعراض التي لا تمت إلى طبيعة الإنسان في شيء؛ فهذا الفرد وهذا وذاك ممن تنطوي صدورهم على تفكير ناضج سليم، وتتألف خواطرهم التي نقشت على صدورهم من فلسفة وعلم رصين، لهم من الدولة المكان الأعلى؛ وهذا الفرد وهذا وذاك ممن تغلب عليهم العاطفة فينطقون بآيات من الشعر والنثر، لهم من الدولة المكان الأوسط؛ لأن العاطفة عندي في منزلة دون العقل الخالص، ثم احشر في الطابق الأسفل من رعيتك أصحاب العقول الفارغة والصدور الخاوية، مهما يكن حظهم من ضخامة عنوان وجمال أوراق. فلم أجد في فعل ما أشار به الشيخ شيئا من العسر، إذا استثنيت بعض نظرات ملتهبة حداد رمقني بها أفراد الطبقة الممتازة حين أنزلتهم من الدولة أسفل سافلين.
وانتبذت بعد هذا الانقلاب مكانا أستريح وأزهو؛ ولكني لم أكد آخذ من الراحة نصيبا، حتى سمعت في أرجاء الدولة ضجة وصياحا؛ فهذا صوت شيء يتحطم، وتلك صرخة إنسان يتألم؛ فسرت في جسمي قشعريرة الخوف، وأرهفت الأذن فإذا بي أتبين كلمات تنبئ بثورة الشعب، فجمدت في مكاني لا أريم حتى هدأت العاصفة، ثم طفت بأسفل الطوابق أول الأمر؛ فإذا بأصحاب الفكر وأرباب الأدب ممن أصابتهم الرفعة في الانقلاب الذي قمت به في تنظيم الدولة، قد أعيدوا إلى دركهم الأول، بعد أن تكسرت منهم أجنحة وقطعت ألسنة وتمزقت أوراق.
فجلست محزونا واعتمدت رأسي على كفي، وتمتمت في يأس: لم يأت بعد أوان الإصلاح لأمتي، فلا بد أن تنقضي قرون أخرى يعلو فيها أصحاب الظاهر البراق ويسفل أصحاب الحق المبين؛ واستيقظت فإذا موعد العمل قد حان، فارتديت ثيابي مسروعا وهرولت إلى العمل مسرعا لأرد عن نفسي عادية الأذى.
خطيب هايد بارك
Shafi da ba'a sani ba
أهديها إلى من ضل سواء السبيل
أمسكت السماء عن المطر بعد شهر كاد أن يكون المطر فيه موصولا في لندن، فذهبت أستنشق الهواء في «هايد بارك».
وهايد بارك متنزه فسيح يقع في قلب هذه العاصمة الكبرى، له خصائص يتميز بها في أذهان عارفيه؛ منها هؤلاء الخطباء عند مدخله، خمسة منهم أو ستة يرتقون المنابر ليخطبوا في الدين أو السياسة أو الاجتماع من شاء أن يستمع إليهم من رواد الحديقة، فهؤلاء يتحلقون حول الخطباء تفريجا عن أنفسهم وإزجاء لأوقات فراغهم، وما أقل في هذه الدنيا من يفرج عنك لوجه الله لا يريد منك جزاء ولا شكورا؛ فإن أردت لنفسك لهوا وفكاهة فاقصد سوق الخطباء في هايد بارك؛ لتقرن حماسة الخطيب باستخفاف المستمع.
قصدت الحديقة أريد الهواء النقي، ولا أريد حديث الخطباء، فقد كانت غايتي غذاء الرئتين لا غذاء الرأس؛ فالرأس عندئذ كان في تخمة مما يحمل من غذاء؛ لكن ما أكثر ما ترغمك الظروف على غير ما تريد؛ فقد استوقفني بين الخطباء منظر عجيب؛ خطيب من هؤلاء رأيته قائما على منبره يخطب ولا من سميع! لم يقف أمام الرجل إنسان واحد يستمع إليه، ومع ذلك مضى المسكين في خطابه يرفع صوته ويخفضه، ويشير بيمناه تارة وبيسراه طورا، وينحني ويستقيم، ويضرب النضد الصغير الذي أمامه بيده، مقبوضة مرة مبسوطة أخرى! دنوت منه ووقفت إزاءه أنظر إليه، وما هو إلا أن طاف برأسي خاطر عجيب، إذ خيل إلي أني أنظر إلى نفسي في مرآة، وإنها لفرصة نادرة الوقوع أن تجد لنفسك مرآة تصورها لك فتهديك بعد ضلال؛ فما أهون أن تنظر إلى وجهك في مرآتك لتصلح ما اختلط من شعرات رأسك وتشذب ما هاش من شاربيك؛ لكن أنى لك مرآة تجلو أمام ناظريك ما خفي من شعاب نفسك لتصلح منها ما اعوج إن كانت بذات عوج، أو لتزهى بها إن كانت قمينة بالإعجاب؟ رأيت في ذلك الخطيب مرآة لنفسي، وأخذت دقة الصورة تزداد في عيني جلاء ووضوحا، فابتسمت ثم ضحكت في نبرة مسموعة.
قال الخطيب: ما يضحكك يا صاحبي؟
قلت: يضحكني أننا شبيهان.
قال: شبيهان؟
قلت: نعم وليس الشبه في هيئة الجسم؛ فأنت إنجليزي أصفر الشعر أزرق العينين أحمر البشرة، وأنا مصري أسود الشعر والعينين أسمر اللون؛ لكننا شبيهان، فكلانا يبعثر في الهواء طاقة وهبه الله إياها لينفقها في الجري والقفز واللهو واللعب؛ أما هواؤك فطلق نقي، وأما هوائي فحبيس تحده الجدران؛ كلانا يبذل الجهد أدراج الرياح.
عجيب هذا الضوء الذي تلقيه تجارب الأيام على القول المكرر المعاد! فقد تردد العبارة الواحدة ألف مرة وتحسبك قد فهمت معناها لأنك عرفت معاني ألفاظها كما تشرحها القواميس، فإذا بك تنطق بها مرة أخرى فتلمس فيها حياة نابضة لم تعهدها من قبل، فكأنما أشرق عليك منها معنى جديد؛ لأنها في هذه المرة كانت قطعة من حياتك، وقبسا من روحك، ولم تكن ألفاظا مرصوصة يقولها الناس فيرن صداها بين شفتيك؛ فكم رددت مع الناس قولهم: «لا في العير ولا في النفير» ولم أكن أدري أنني إنما كنت أرددها ترديد الببغاوات عن غير فهم حي صحيح، حتى قلتها منذ قريب فأحسست لها هزة تشيع في وجودي، وأدركت أنها لم تعد مثلا يقال؛ بل أصبحت جزءا من صميم الحياة؛ وحدث مثل ذلك حين قلت لصاحبي الخطيب: إننا نبذل الجهد فيذهب الجهد أدراج الرياح!
رحمك الله يا «سيرفانتيز» ترى من ذا كنت تعني إذ صورت لنا «دون كيشوت» يمتطي جواده الهزيل الكسيح، ويحمل سيفه المحطم المثلوم، ويجوب الأرض محاربا ليعده الناس فارسا من الفرسان؟ فيأتي «دون كيشوت» إزاء طواحين الهواء ويخيل له الوهم أنها جماعة من الأعداء، ويسل سيفه ويظل يضرب في الهواء، ثم يغمد السيف منتفخ الأوداج من كبرياء؛ لأنه فتك بالعدو وصرعه وأرداه! من ذا كنت تعني حين صورت لنا هذا الفارس الحالم الذي يحارب في وهمه، وينتصر في وهمه، والناس من حوله لا يرون حربا ولا نصرا؟
Shafi da ba'a sani ba
أرأيت يا خطيب الهواء سيارة أمسكها الوحل فأخذت عجلاتها تدور وهي في مكانها لا تتحول؟ لو كانت هذه السيارة لتنطق لزعمت لك أنها طوت من الأرض فراسخ وأميالا؛ لأنها تحس في حر أنفاسها حرارة الجهاد، وتحس عجلاتها تدور، فهيهات أن يقع في ظنها أنها تدور في غير سير إلى أمام، إيمانا منها بأن ذلك ضد طبائع الأشياء، وما تدري أن هذا الوحل الذي يأذن لعجلاتها أن تدور ثم يمسك جسمها عن السير هو أيضا من طبائع الأشياء!
نحن أيها الخطيب شبيهان؛ كلانا رأى الهدف وأخطأ سواء السبيل، أراد لنا نحس الطالع في صبانا أن يخدعنا المعلمون، والمعلمون أحيانا يخدعون، ويبشرون بما لا يؤمنون، فأوصونا أن نجعل من النجم غايتنا، فأبت علينا الأمانة البلهاء إلا أن نكد ونكدح لنبلغ النجم؛ وفاتتنا الحيلة التي يدركها الألوف إدراك البداهة في غير عسر ولا عناء، وهي أن نلتمس النجم في صورته على صفحة الماء، وأولو الأمر لا يفرقون بين النجم وصورته، فكلاهما في أعينهم لامع لألاء؛ وبربك لا تقل إننا إذ نروم النجم في سمائه تستقيم منا الظهور، وتشرئب الأعناق، وتشمخ الأنوف؛ أما إن أردنا الصورة فلا بد من «انحناء»، فتلك حكمة القدماء، والحكمة إنما تساير وسائل النقل في تطورها، فلا ينبغي أن تكون حكمة الطائرة مثل حكمة «الحمار».
قال «مكيافلي» لأميره ناصحا: ليس المهم أن تكون رحيما بشعبك ، إنما المهم أن يقال عنك إنك رحيم، فاقس ما شئت، وابطش بمن شئت؛ لكن ليكن لك في ذلك فن يخدع الناس عن حقيقة نفسك، فإذا أنت في ظنهم الأمير الذي يحنو على البائس ويعطف على المحروم؛ ألقى مكيافلي درسه على أميره، وكان درسا في سياسة الملك، فلقفه من فمه أصحاب الفطنة وجعلوه دستور الحياة؛ فليس المهم أن تكون ذا علم، وإنما المهم أن يعدك الناس بين العلماء، وكم من رجل رأيته يتربع على كرسيه رزينا رصينا وعلى وجهه مخايل العلم والحكمة، وقد علق فوق رأسه قيثارة فخمة ضخمة مشدودة الأوتار؛ فتأتي إلاهة الشهرة فتربت على كتفه وتمضي فخورا بابنها النجيب، ولا تني تنشر ذكره في طول البلاد وعرضها؛ لأنه «لو» عزف كان خير العازفين؛ فلئن جمدت الألحان على أوتار قيثارته الآن، فما أيسر عليه أن يذيبها نغما شجيا طروبا إن أراد؛ وقد ضقت بغفلتها ذات يوم فصحت بها: يا إلاهة الشهرة لا تصدقيهم، إنهم لا يعزفون لأنهم لا يعرفون؛ لكنها ازورت عني وأدارت إلى قولي أذنا صماء؛ وما أكثر ما تحرج أولئك الإلاهات صدري؛ لأنهن ينخدعن كما ينخدع البشر!
نحن أيها الخطيب شبيهان؛ كلانا يبذل الجهد في غير موضعه فيذهب الجهد أدراج الرياح، القيمة كلها في اختيار الموضع الملائم لجهدك المبذول؛ فالمسافر الذي كان يقطع الصحراء جائعا فوجد كنزا من الجواهر، لم يعدل عنده هذا الكنز النفيس رغيفا من الخبز! لم تعد للجوهر نفاسته لأنه أخطأ المكان الصحيح؛ تسعة أعشار الرزق في التجارة، والتجارة هي أن تضع السلعة في مكان تباع فيه. إن عبارة واحدة من خطبتك تلقيها في مجلس النواب خير من مائة ألف خطبة تلقيها في «هايد بارك»؛ وكتاب واحد أقرؤه أنا في «هايد بارك» - أفهمه أو لا أفهمه - خير من مائة ألف كتاب أكتبه في حديقة قصر النيل.
قال: وما قصر النيل؟
قلت: حديقة في القاهرة، وطني الحبيب.
قال: ولماذا؟
قلت: لا تسلني لماذا؛ لماذا يكون الماء في النهر ماء فإذا انتقل إلى خزان القاطرة تحول بخارا يشد العربات؟
قال: لأنه جاور نار الأتون فاستفاد.
قلت: وقارئ الكتاب في هايد بارك ربما استفاد لأنه جاور الغيد الحسان اللائي ليس لهن أضراب في قصر النيل، أو ربما استفاد لأنه استمع إلى خطباء هذا المكان، أو من يدري؟ لعل مذهب التفاوت بين الأجناس يلعب هنا لعبته؛ فلما ساد اليونان كانوا هم الأحرار وغيرهم العبيد، ولما ساد العرب كانوا هم الأشراف وغيرهم عجم، ولما ساد الآريون حقت اللعنة على أبناء سام؛ أفلا يجوز أن يكون أصحاب السلطان من فصيلة هايد بارك، فكانوا هم العلماء وغيرهم في الجهالة يعمهون؟ وبربك لا تقل إنه لا ينبغي أن يكون لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى، فتلك حكمة القدماء.
Shafi da ba'a sani ba
العبرة يا صديقي في اختيار المكان الصحيح، فالوسخ وسخ؛ لأنه مادة أخطأت مكانها، ولو اختارت مكانها الملائم لشرفت كما تشرف سائر المواد؛ فهذا الغبار على منظاري قذارة يجب أن تزال، ولو اختار الغبار وجه الأرض مكانا لاختار موضعه وما عرض نفسه لألوان الهوان؛ وقل مثل ذلك في الرجال، فزيد في جماعة من الناس مجلبة للصغار، ولو انتقل زيد إلى حيث ينبغي له أن يكون لأصبح لأقرانه مدعاة للفخار.
على أن القذر قد يكون له فضل عظيم؛ فلوح الزجاج إن خلا من الغبار خفي عن العيون فصدمه السائرون وهشموه حطيما، وإن أردت له أن يرى فلا مندوحة لك عن شيء من العكر فيه؛ إذ ليس من حقك أن تكلف الناس ما لا يطيقون، فلأبصارهم حدود فرضتها عليهم الطبيعة فرضا ليس لهم عنها محيص؛ فامزج صفاءك بالعكر، ولا تقل إن الصفاء خير من القذر؛ فتلك حكمة القدماء.
جنة العبيط
أما العبيط فهو أنا؛ وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب فيها النسائم عليلة بليلة؛ فإذا ما خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية؛ عدت إلى جنتي، أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنا الصقر الهرم، تغفو عيناه، فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو؛ لينعم في غفوته بحلاوة غفلته.
أنا في جنتي السمح الكريم الذي ورث الجود عن آباء وجدود؛ فمن سواي كان أبوه يذبح الجمل والناقة ليطعم كل ذي مسغبة وفاقة؟ من سواي إلى حاتم ينتمي، وبهذا العنصر الكريم يحتمي؟ وهل كانت صفات آبائي وأجدادي لتذهب مع الهواء هباء، أم هي تجري في العروق مع الدماء دماء؟ ها أنا ذا أحنو على البائس عطفا وإن كنت لا أعطيه؛ وأذوب على المصاب أسى وإن كنت لا أواسيه؛ وتبت يدا حاسد يقول إن أصحاب الحاجة عندي يستجدون ولا عطاء، والمعوزين أكفهم تنقبض على هواء؛ فقلب عطوف خير للفقير من قرش إنفاقه سريع، وفؤاد ذائب أبقى له من عون لا يلبث أن يضيع. إني أعوذ بالله من إنسان يفهم الإحسان بلغة القرش والمليم؛ تلك لعمري مادية طغت موجتها على العالم كله، ولولا رحمة من ربي، ورشاد من قادتي؛ لكنت اليوم في غمرتها من المغرقين؛ لقد أقفر العالم حول جنتي فلا عطف ولا عاطفة، واستحالت فيه القلوب نيكلا ونحاسا تعرفها بالرنين لأنها لم تعد من لحم ودم! أهكذا يقوم كل شيء بالمال حتى إحسان المحسن وعطاء الكريم؟ فالقرش والمليم هو معنى الإحسان في الغرب الذميم، الذي غلظت فيه الأكباد، كأنما قدت من صخر جماد؛ كم جامعة عندهم أنشأها ثري؟ وكم دارا أعدها للفقير غني؟ كم منهم يلبي النداء إذا ما دعا الداعي بالعطاء؟ لا، بل إن هذا الغرب المنكود ليسير إلى هاوية ليس لها من قرار؛ إذ هو يسعى إلى محو الفقر محوا، حتى لا يكون لفضيلة الإحسان عنده موضع! فاللهم إني أحمدك أن رضيت لي الإسلام دينا، وجعلت لي الإحسان ديدنا.
أنا في جنتي العالم العلامة، والحبر الفهامة؛ أقرأ الكف وأحسب النجوم فأنبئ بما كان وما يكون، أفسر الأحلام فلا أخطئ التفسير، وأعبر عن الرؤيا فأحسن التعبير، لكل رمز معنى أعلمه، ولكل لفظ مغزى أفهمه؛ استفسرني ذات يوم حالم فقال: رأيت - اللهم اجعل خيرا ما رأيت - رأيتني أنظر إلى كفي، فيغيظني من الإصبع الوسطى طولها فوق أخواتها، ولا أحتمل الغيظ، فآتي من مكتبتي بمبراة مرهفة ماضية، وأجذ منها ما طال، وألقي بالجزء المبتور في النار؛ وما هو إلا أن أرى شبحا مخيفا يخرج من بين ألسنة اللهب؛ كله أصابع، أصابع في كتفيه، وأصابع في جنبيه، وأصابع في قدميه، وأصابع من رأسه ومن بطنه ومن ظهره؛ والأصابع كلها من ذوات الأظفار، حتى لكأنها المخالب، أخذت تنقبض وتتلوى، وتنبسط وتتحوى، تريد أن تنال مني لتفتك بي؛ فتملكني الفزع، والرعب والجزع، وكلما اقتربت مني تقهقرت حتى بلغت الجدار، ولم يعد بعد ذلك مهرب ولا فرار؛ ثم رأيت دمائي تسيل دفاقة من إصبعي الجريح، فصحت وصحوت.
فأطرقت قليلا ثم أجبته قائلا: لقد أضلك الشيطان الرجيم فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكفارتك صيام عام وإطعام ألف مسكين؛ ولولا أننا نريد بك اليسر ولا نريد العسر لكان جزاؤك ما لاقى «برومثيوس» عند اليونان فيما تروي الأساطير؛ فقد أراد الآلهة أن يستأثروا بالعلم ونوره، وأراد «برومثيوس» أن يهب الإنسان قبسا منه، فسرق من الآلهة شعلة العرفان ليهدي بها البشر، وغضب الآلهة لفعلته، فشدوه على جلمود صخر فوق الجبل، وأطلقوا عليه سباع الطير تنهش كبده كل يوم مرة، فكلما انتهشت له كبدا، بدلته الآلهة كبدا أخرى. فأصابع كفك هي الناس من حولك تفاوتت أقدارهم وتباينت أرزاقهم بمشيئة ربك الذي يعطي من يشاء ويحرم من يشاء بغير حساب، والمبراة التي أتيت بها من مكتبتك رمز لضلالك بما قرأت، كأنك «فاوست» غاص في العلم فأضله العلم ضلالا بعيدا؛ وكنت بمثابة من باع للشيطان طمأنينة نفسه لقاء لغو فارغ لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم حدثتك النفس الأمارة بالسوء أن تعدل فيما خلق الله وتبدل؛ فكان جزاؤك عذاب الدارين، فعذابك في الدنيا دماء تسيل رمزا لما أنت ملاقيه من تعذيب في النفس أو في الجسم أو فيهما معا، وعذابك في الآخرة نار تصلاها وبئس القرار، وسيظل الوحش ذو الأصابع ماثلا أبدا أمام عينيك شاهدا عليك بما أحدثته للعباد من فساد، في عالم ليس في الإمكان أن يكون أبدع مما كان؛ وأما الجدار الذي سد عليك طريق الفرار، فمعناه أن عذابك آت لا ريب فيه، إلا أن تدعو ربك بالمغفرة لعل ربك أن يستجيب لك الدعاء.
أنا في جنتي الحارس للفضيلة أرعاها من كل عدوان، لا أغض الطرف عن مجانة المجان، والعالم حول جنتي يغوص إلى أذنيه في خلاعة وإفك ورذيلة ومجون؛ دعهم يطيروا في الهواء ويغوصوا تحت الماء، فلا غناء في علم ولا خير في حياة بغير فضيلة، دعهم يحلقوا فوق رءوسنا طيرا أبابيل ترمينا بحجارة من سجيل، فليس الموت في رداء الفضيلة إلا الخلود. إني والله لأشفق على هؤلاء المساكين، جارت بهم السبيل فلا دنيا ولا دين، أتدري ما معنى الفضيلة عند هؤلاء المجانين؟ معناها كل شيء إلا الفضيلة! فالنساء عندهم يخالطن الرجال، والنساء عندهم يراقصن الرجال، ثم النساء عندهم يعملن مع الرجال، وهن يقاتلن مع الرجال! أرأيت أفحش من هذا الإفك إفكا! وأقبح من هذا المجون مجونا؟ حدثني صديق أنه رأى هناك ذات يوم بعينيه، في مكان واحد من دكان واحد؛ قبعة وقبعا (وأراد بالقبع قبعة الرجل تمييزا للذكر من الأنثى) رآهما معروضين لا يسترهما عن أنظار المارة إلا لوح من الزجاج يشف للمارة عما وراءه، وأعجب العجب أن علامة واحدة من علامات الحياء والخجل لم تبد على رجل منهم أو امرأة؛ وبعد، فهم يتحدثون عن الفضيلة كما أتحدث، لكنها تعني عندهم شيئا عجيبا؛ فإن خالطت هؤلاء القوم، فينبغي أن تكون منهم على حذر؛ لأنهم يسمون الأشياء بغير أسمائها، والرذائل والفضائل عندهم قد يلبس بعضها أثواب بعض؛ سل حكيمهم: ما الفضيلة يا مولانا في بلادكم؟ يجبك حكيمهم: إنها في اختلاط الحابل بالنابل! إي والله، لا يختلف عندهم رجل أمسك صيده بالحبال عن رجل أمسكه بالنبال، ترى هؤلاء وأولئك خليطا واحدا؛ «خليط» هذه هي الكلمة التي أريد، فهيهات أن تعرف في أرضهم أين الرعاة وأين الغنم، فكلهم - إن شئت - راع، وإن شئت فكلهم غنم؛ في هذا الخليط يقترب الإنسان من الإنسان ، وقد يكون أحد الإنسانين ذا لحية وشارب، وقد يكون الآخر حليقا ناعم الخدين أملس الصدغين، وقد يكون في اقترابهما أن يخز الأول والثاني فيدميه؛ لكنه خليط وفوضى، ولن يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، ولا سراة إذا «عمالهم» سادوا.
في هذا الخليط يتصايح الناس بما يجيش في صدورهم، لا يكم أحد أحدا؛ لأن أحدا ليس له سلطان على أحد، كأنهم ذباب يطن، لا تملك ذبابة منها أن تسكت عن الطنين ذبابة؛ والمطبعة فاغرة فاها تلتقم من الأقلام حنظلها وشهدها، ومن الأفواه حلوها ومرها؛ لتخرجه للناس صحفا وكتبا؛ وما ظنك بقوم يأذنون لرجل من أعلام كتابهم أن يقول في كتاب مطبوع: إن الفتيان والفتيات، في المعاهد والجامعات؛ ينبغي أن تشرف الدولة على تنظيم غرائزهم، فتدبر لهم لقاء لا ينسل. إن الدولة التي تدرأ عن أهلها السموم، من واجبها أن تكم هذه الأفواه، لكنهم قوم لا يعقلون.
في هذا الخليط لا يؤمن الناس بأن الليل لا ينبغي له أن يسبق النهار، ولا الشمس أن تدرك القمر، وأن كلا في فلك يسبحون؛ فهم يريدون لأجرام السماء كلها أن تسبح في فلك واحد، ثم تختلف بعد ذلك أوضاعها وأشكالها ما شاءت أن تختلف؛ وذلك الفلك الواحد عندهم هو صفة الإنسانية التي تجعل الإنسان شيئا غير الكلب والحمار؛ فكن عندهم فقيرا ما شئت، أو كن عندهم غنيا ما شئت؛ لكنك إنسان. كن عندهم جاهلا ما شئت، أو كن عندهم عالما ما شئت؛ لكنك إنسان. كن عندهم ضعيفا ما شئت، أو كن عندهم قويا ما شئت؛ لكنك إنسان. كن عندهم زارعا أو صانعا؛ فأنت إنسان. كن عندهم خادما أو مخدوما وأنت في كلتا الحالين إنسان؛ كأنهم جماعة من النمل لا تختلف فيها نملة عن نملة! وأقرن فوضاهم هذه بالنظام في جنتي، فأحمد الله على سلامتي. أرادت زوجتي في جنتي أن تستخدم خادمة، فسألتها: اسمك ماذا؟ - بثينة يا سيدتي.
Shafi da ba'a sani ba
لكن زوجتي كانت بثينة كذلك، فأبى عليها حب النظام إلا أن تفرق بين الأسماء حتى لا يختلط خادم بمخدوم، وقالت في نبرة كلها مرارة، ونظرة تشع منها الحرارة: ستكونين منذ اليوم زينب، أتفهمين؟ - حاضر، سيدتي.
وبثينة بالطبع لم تفهم لماذا تكون منذ اليوم زينب؛ لأنها جاهلة صغيرة، لم تفهم بعد ما الفضيلة وما الرذيلة.
كلا! لا أريد لهذا الغرب اللعين أن ينفذ إلى جنتي، ولا لمدينة الغرب أن تفسد مدنيتي؛ وإنه لتغنيني عن سيارته حمارتي، وتكفيني دون طيارته بغلتي؛ ما دمت عن رذيلته في حصن من فضيلتي.
لكن لكل جنة إبليسها، وإبليس جنتي وسواس خناس، ما ينفك يوسوس في صدري هاتفا: يا ويح نفسك، لقد ضلت ضلالين؛ ضلالا بغفلتها، وضلالا بتضليل قادتها.
في سوق البغال
قد كنت أعلم حقا وصدقا ويقينا أن الليالي من الزمان حبالى يلدن كل عجيبة؛ لكنني لم أكن أعلم أن عجائب الزمان قد تهزأ بالخيال، ما شطح منه وما جمح، حتى سمعت أن بغلا يحتج ويحاج كما يفعل عباد الله من بني الإنسان.
فلقد حدثني صديق إنجليزي، كان ضابطا في البحرية إبان الحرب، عن زميل له طوحت به خطوب البحر إلى جزيرة نائية في عرض المحيط الهادي، لم يزد سكانها فيما رأى عن بضع مئات اختلفت طبائعهم عن طبائعه، ولسانهم عن لسانه؛ لكنه كان في خبرته بالحياة فسيح الأفق بحيث لم يدهش لاختلاف الشعوب في طرائق العيش وأساليب التفكير والتعبير، فالناس في رأيه ناس إن ابيضت جلودهم أو اقتتمت، والناس ناس إن دارت ألسنتهم في الأشداق من اليسار إلى اليمين أو دارت من اليمين إلى اليسار؛ لكن الذي أدهشه حقا من أهل الجزيرة سذاجة بلغت بهم في سرعة التصديق حدا لم يألفه فيما شهد من شعوب الأرض طرا، فهم يتناقلون رواية خلفا عن سلف يؤمنون بصدقها لإيمانهم بصدق رواتها، مع أنها تنافي أوضاع الطبيعة كلها، أو قل إنها تنافي ما ألف ذلك الزميل من هذه الأوضاع.
فقد روى له هنالك راو أنه منذ مائة عام عرضت في ساحة السوق من الجزيرة جماعة من البغال للبيع والشراء، جيء بها من أرض في شمالي أفريقيا لعلها بقعة من صحرائها لم يعرف أهل الجزيرة كيف يسمونها؛ فأخذ الأمر يجري مجراه المألوف عند القوم هناك كلما تم بينهم بيع أو شراء؛ عرضت البغال وجاء الشارون، فلم يكن بد من أن تنزع عن ظهورها السرج، ومن أفواهها اللجم، لتبدو عارية من كل زينة؛ وأخذ الخبراء يجسون عضلاتها هنا، ويختبرون مفاصلها هناك، ويفتحون أفواهها لينظروا إلى أعمارها في أسنانها، ثم يركبونها ويدورون بها في ساحة السوق دورة أو دورتين، ليروا أهي في جريها من العاديات أم الزاحفات، خفاف الحركة هي أم ثقالها؛ ويختبرون قدرتها على الحمل والجر بشتى الوسائل، ليثق الشارون أنهم لن ينفقوا مالهم عبثا إن أنفقوه ثمنا لهذه البغال.
لكن البغال فيما يظهر لم تعجبها هذه الطريقة في التقويم والتسويم؛ لأنها تختلف عما ألفته في بلادها؛ وهنا كانت المعجزة التي أدهشت صديقي وأدهشتني وستدهش كل قارئ وسامع؛ وهي أن ثارت البغال على سيدها وشقت عصا الطاعة على نحو يشبه جدا ما يصنعه البشر إذا غضبت منهم طائفة لأمر أو أعلنت عصيانها، فلم تكن ثورة البغال جموحا أو شموسا، كلا، ولا رفسا وركلا، بل كانت احتجاجا يقوم على علل وأسباب، أشبهوا فيه الآدميين لولا خلل في المنطق قل أن يزل فيه الآدميون؛ أقول لولا هذا الخلل في طريقة التفكير لخلتها في ثورتها جماعة من البشر سحرها ساحر ممن جاءتنا أنباؤهم في كتب الأقدمين، فاستحالت بغالا وما هي بالبغال، أو تقمصت أرواحها أجساد البغال فبقي لها من صفاتها الأولى شيء وزال عنها شيء.
أوشكت عملية الجس والفحص أن تنتهي بتاجر البغال أن يضع في أسفل سلم التقدير بغلا هزيلا ضئيلا رخو العود تلين عضلاته لكل غامر، فإن جرى تعثر، وإن حمل على ظهره هوى؛ لكن سرعان ما أشار هذا البغل الهزيل إلى سائر البغال فانتبذت ركنا من ساحة السوق، تتبادل الرأي والشورى؛ فإن لم تدهش لبغال تجادل وتقاول، فادهش لأن تكون الزعامة لبغل لم يكن أضخمها حجما ولا أروعها شكلا أو أسرعها حركة؛ وأغلب الظن أن قد كانت له صفات رآها البغال ولم تدركها أعين البشر!
Shafi da ba'a sani ba
قال البغل الزعيم لزملائه: ليس الرأي عندي أن نترك القوم يتحكمون في أقدارنا كما شاءت لهم أهواؤهم، وإنهم لعلى ضلال، فقد أراد الله لنا أن نكون بغالا، ولله حكمته فيما أراد، ثم شاء لنا أن نكون مركبا للإنسان وأداة لحمل أثقاله، ولسنا على هذا القضاء المحتوم بثائرين، فالدنيا تبادل وتعاون، نحن نحمله وأثقاله، وهو يعد لنا المأوى وينبت الغذاء؛ لكن الذي لا ينبغي أن نلين له هو هذا الظلم والحيف والإجحاف؛ فما هكذا يكون تقويم البغال، ولو تركناهم في ذلك وشأنهم اضطربت أوضاعنا، فعلا أسفلنا وسفل أعلانا، وقد خلقنا الله درجات بعضها فوق بعض، ومن الجحود بل من الكفر بنعمة الله أن نسوي بين هذه المنازل المختلفات، أو نغير فيها ونبدل؛ فهل أنوب عنكم لدى صاحب الأمر فأحتج لكم، فإما أقام للعدل ميزانه، وإما ثورة منا وعصيان؟
فاجتمع رأي البغال على أن يبايعوا ذلك البغل الزعيم.
تقدم كبير البغال وفي أثره الزملاء، والناس إزاء ذلك كله مفغورة أفواههم من عجب، مفتوحة أعينهم من رعب وخوف؛ فهم يؤمنون بالمعجزات الخوارق التي لا تجري على سنن الطبيعة، على شريطة أن تكون تلك المعجزات رواية تروى، لا حدثا يقع منهم على مرأى ومسمع.
قال البغل الزعيم لصاحب الأمر: لك أن تصنع بنا ما شئت في حدود العدل، وليس عدلا أن يكون هذا أساس التقويم، لقد نزعتم عنا اللجم والسروج، فماذا أبقيتم لنا مما تتم به المفاضلة بين الجيد والرديء؟ فما بغل بغير سرجه ولجامه؟ وفيم هذا الجس في عضلاتنا، وهذا الإرهاق كله في فحص أجسادنا؟ إن ذلك بدع لم نعتده في بلادنا.
ارتعش صاحب الأمر من فرق، وأجاب وقلبه في حلقه فزعا: لست أدري في ذلك بدعا فتلك سبيلنا في التقدير، الشيء عندنا قيمته فيما يصنعه؛ فالطبيب طبيب بمقدار ما يطب للمرضى، لا بسماعته التي يلفها حول عنقه، والحذاء حذاء بما يجيد من صناعة الأحذية لا بالغطاء الجلدي على ركبتيه، والكلب السلوقي ممتاز لما يصنع في حلبة الصيد لا بطوقه البراق، والسيف بتار بحده لا بغمده، فأي عجب في أن يكون البغل بغلا بقوته وسرعته لا بسرجه ولجامه؟
فأجاب كبير البغال: إنكم في هذا البلد تنخدعون بحقائق الأشياء، وإنكم في هذا لعلى ضلال مبين، الشمس في حقيقتها كتلة ضخمة مهلهلة من غاز مشتعل؛ لكنها عند من يعقل قرص صغير مستدير، لأنها تبدو لعينه قرصا صغيرا مستديرا، والقمر في حقيقته جسم معتم؛ لكنه عند من يفهم سراج منير، لأنه يبدو لعينه سراجا منيرا؛ الطبيعة كلها بإنسانها وحيوانها ظواهر ومظاهر، فلماذا تشذ عندكم البغال في تسويمها.
فسأل التاجر: كيف إذن يسوم البغال في بلادكم؟
فقال البغل الزعيم: في بلادنا لا الزبد يذهب جفاء ولا ما ينفع الناس يمكث في الأرض، فليست تخدعنا الحقائق عن إدراك الظواهر، ولا يزيغ اللباب أبصارنا عن رؤية القشور؛ فلنا في تسويم البغال وسائل شتى، أكثرها شيوعا أن تتناسب قيمة البغل مع قيمة راكبه صعودا وهبوطا، فليس البغل يمتطيه الغني في حريره ونضاره، كالبغل يركبه الفقير في هلاهله وأسماله، وليس البغل يختال على صهوته صاحب الحول والطول، كالبغل يعلوه من ليست له سطوة وسلطان؛ وقد تعلو قيمة البغل لأن أباه كان مشدودا إلى عربة أمير أو وزير، فتكتسب العربة هيبة من هيبة الراكب، ويستمد البغل الوالد قيمة من قيمة العربة، ثم يأتي البغل الولد فيزداد قدرا لازدياد قدر أبيه.
ليس هذا المعيار في المفاضلة والتقويم بهين ولا ميسور؛ ففيه من الدقة ما يخفى على غير الخبير؛ إذ قد تغمض الفوارق بين الراكبين أحيانا، حتى ليتعذر على مثلك ومثلي أن يعلم في يقين أي الراكبين أرجح مثقالا، ليكون بغله أعلى منزلة ومقدارا؛ وكم من بغل أخطأ في ذلك الحساب فهوى نجمه وكان يحسبه إلى صعود؛ لهذا نشأت بيننا طائفة من الخبراء مهمتها أن توازن بين أقدار الراكبين ليعتدل بذلك ميزان التسعير بين البغال، وإنك لتدهش أن ترى حساب الخبراء قد يدق ويدق حتى يصبح معادلة جبرية يحتاج فك رموزها إلى مران طويل؛ خذ لذلك مثالا:
أي الراكبين أعز سلطانا؛ راكب سطوته في قومه وسط بين الضعف والقوة لكنها سطوة تدوم وتتصل، أم راكب جبار مكتسح غير أن قوته تظهر آنا وتختفي آنا؛ فلقد رأيت في ذلك بغلين اقتتلا أيهما أقوى سندا وأعز ظهيرا؛ أحدهما يقع راكبه في الناس بين بين ولكن قوته موصولة الحلقات لا تزول، والثاني راكبه يسطع ضوءه ويخبر كمصباح النار في الليلة الظلماء، فإن سطع خطف بريقه الأبصار، ولم يكن هذا الراكب في مجده حين اعترك البغلان؛ قال البغل الأول لزميله: أنا أفحل منك راكبا وأقوى مؤيدا، لأن نفوذا وسطا خير من لا نفوذ؛ فأجاب البغل الثاني قائلا: إن الفردوس المفقود يرجى له يوما أن يعود، ولا يخدعنك الركود القائم؛ فكم من نهوض يأتي بعد ركود؛ وللجبروت الفعال لما يريد - يظهر ويختفي - خير ألف مرة من نفوذ يدوم هينا لينا. ومضى البغلان في الجدل، لم يدريا كيف ينحسم الخلاف بينهما بغير خبير، وقصدا إلى الخبير فأفتاهما بأن الحكم في مثل ذلك الأمر وسيلته العد والحساب، فعلينا أن نعد من زادت قيمته في الأسواق من بغال الصنف الأول، ومن زادت قيمته من بغال الصنف الثاني، والرجحان لما تكون في جانبه الكثرة العددية؛ فإن دلت الأرقام على أن البغال التي ارتفع سعرها بسند من الظهراء الأوساط الدائمين أكثر عددا من التي ارتفع سعرها بسند من الظهراء الأقوياء المتقطعين، كان الحكم للأول، وإن كان العكس فالحكم للثاني؛ وإن لم تخني الذاكرة كان الرجحان في هذه المشكلة للبغل الثاني؛ إذ أثبت الإحصاء أن التيار القوي المتقطع يدفع الطافي دفعات أقوى وأبعد من التيار اللين وإن اتصل، ودع عنك بغلا ليس لظهره راكب، فذلك بين القوم سخرية الساخرين.
Shafi da ba'a sani ba
ووسيلة أخرى لتسعير البغال عندنا: أن ينظر إلى نوع المذاود ومكانها، بغض النظر عما تحويه تلك المذاود من غذاء، أحنطة هو أم شعير؛ فبغل غلا سعرا وعلا قدرا لأنه أكل من مذود في بلد بعيد، فالمذود في هذه الحالة يكتسب قيمة من قيمة المكان الذي وضع فيه، ثم يكتسب البغل قيمة من قيمة مذوده الذي ربط إليه حينا؛ وإني لأذكر في ذلك أيضا أن بغلين اختلفا ذات يوم في قدريهما أيهما أقوم؟ أما أحدهما فاغتذى من مذود في بلاده؛ وأما الثاني فأرسلوه إلى بلد بعيد ليعلفوه، ولو عاد مليء الجوف لما كان بينهما خلاف؛ لكنه فيما روي عنه وما ثبت بالفحص الدقيق، لم يأكل هنالك شيئا إما لخلاء مذوده وإما لمرض في جوفه، وارتد إلينا خالي الأمعاء خاوي الأحشاء؛ ومهما يكن من أمر فقد اختلف البغلان واستفسرا خبيرا، لكن الأمر هذه المرة لم يحتج إلى عد وتقدير، فواضح لكل ذي بصر أنه بالمذود لا بالغذاء يكون التسويم والتسعير؛ فإن أردت أن تسوم بغلا فلا تسل ماذا أكل بل قل أين أكل؛ فإذا علمت أنه أكل من مذود في واق الواق بينك وبينه المحطات والبحار والفيافي والقفار، فذاك بغل متين مكين، أما إن علمت أنه أكل في حقل أبيه، لم يشرق ولم يغرب عن أرضه وذويه، فأهون به بغلا عند بائعه وشاريه، ثمنه بخس دراهم معدودة.
وطريقة ثالثة في تقويم البغال: قدرتها على الرفس، فأقواها رفسا أرقاها مقاما لأنه أصلحها في تنازع البقاء، وأحسبك لو سئلت في هذا لأجبت بهرائك الذي فهت به منذ حين، زاعما أن البغال لم تستخدم لترفس إنما استخدمت لتحمل الأثقال، فأعرضها ظهرا وأقواها عضلا هو أجدرها بالصعود في أسواق الشراء؛ لكن ذلك تفكير ملتو لا نسيغه في بلادنا، فقد خلق الله البغال بالظهور والحوافر، وليس سوى التجربة وحدها أن يقول هل يكون البغل بغلا بظهره أو بحوافره؛ فإن كانت الحوافر أنجح وسيلة وأقصر طريقا، كانت ميزانا عادلا للمفاضلة بين البغال.
على أننا نستخدم كذلك وسيلتكم في جس العضلات واختبار المفاصل؛ لكننا نقصرها على الطبقة الدنيا من البغال، فالدنيء منا لا السني هو الذي يمتحن امتحانا قاسيا قبل أن يدفع من ثمنه قرش واحد؛ فالفرق بيننا وبينكم هو أننا نفرق بين البغال في طريقة التسعير وأنتم لا تفرقون.
قال الرجل: إن كان هذا تسويمكم للبغال، فكيف تقويمكم للرجال؟
فقال البغل: ليس في بلادنا كبير فرق بين الرجال والبغال.
بيضة الفيل
قال الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض؛ والمشكلة المراد حلها هي هذه: لو كانت الفيلة لتبيض، فماذا يكون لون بيضها؟ في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء؛ يقول عمارة بن الحارث بن عمارة: تكون بيضاء. واستدل على صحة قوله بدليل من القياس ودليل من اللغة؛ أما دليل القياس فهو أن كافة مخلوقات الله التي تبيض بيضها أبيض، وليس في طبيعة الفيل ما يدل على أنه لو باض أخذت بيضته لونا آخر غير البياض؛ فإذا اختلف الفيل عن غيره من الحيوان فذلك في حجمه وقوته ونابه، وهذه صفات كلها لا تستلزم في البيضة لونا غير البياض، فقد يكون الحيوان صغيرا كالذبابة أو كبيرا كالنعامة، قويا كالعقاب أو ضعيفا كالحمامة، بناب كالتمساح أو بغيره كالدجاجة، والبيضة هي هي في لونها بيضاء لا تتغير؛ ومما يزيد هذه الحجة وزنا ورجحانا هو أن الخلائق تجري على اطراد وتشابه، فالكواكب متشابهة والبحار متشابهة والطير متشابه والحيوان متشابه؛ فلو قيل مثلا: إن حيوانا جديدا سيولد بعد ألف عام، جاز لنا أن نحكم في ترجيح يقرب من اليقين بأنه سيكون ذا أذنين وأنف واحد وعينين؛ وعلى هذا القياس نفسه نحكم بالبياض على بيضة الفيل لو باض. وأما دليل اللغة فهو أن البيضة مشتقة من البياض، وإذن فالبياض أصل والبيضة فرع منه، ولا يعقل أن يتفرع عن البياض حمرة أو زرقة؛ لأن الفرع شبيه دائما بأصله، ولذلك قيل: هذا الشبل من ذاك الأسد.
ثم استطرد عمارة فتساءل عن حجم بيضة الفيل، وأجاب بأنها تكون قدر بيضة النعامة عشرين مرة، لا لأن الفيل يكبر النعامة حجما بهذا القدر كله؛ بل لأنه في قوته يوازي عشرين نعامة، والأساس في حجم البيضة هو قوة الحيوان البائض لا حجمه، فتصغر بيضة الحيوان أو تكبر بمقدار ما هو قوي أو ضعيف، لا بمقدار ما هو صغير أو كبير، على خلاف الرأي الشائع بين الناس، وقد أيد عمارة قوله هذا بأمثلة ساقها تدل على أن الحيوان ربما كان كبيرا وباض بيضا صغيرا، أو كان صغيرا وباض بيضا كبيرا.
ثم تساءل عمارة أيضا: هل كانت طبيعة الفيل لتتغير لو باض، فيكون ذا جناحين ليتخذ طبيعة الطير؟ وأجاب بأنه ليس في نواميس الكون ما يستلزم هذا الانقلاب في طبيعته، فالسمك يخرج من البيض وليس له أجنحة؛ بل له زعانف تساعده على السبح ولا تساعده على الطيران؛ وبيض الفراش وبيض الذباب وما إلى ذلك يخرج منه الدود ولا تخرج منه ذوات الجناح؛ وإذن فقد يخرج من بيضة الفيل فيل ذو أربع قوائم وليس له جناح.
وأخيرا تساءل عمارة: ما حكم الشرع في بيضة الفيل، أيحل أكلها للمسلمين أم يحرم عليهم؟ وهنا كذلك أجاب بدقته المعهودة أن بيضة الفيل حلال أكلها بشرط، حرام بشرط؛ فهي حلال إذا كانت لا تكسب الإنسان الآكل صفة الافتراس، وهي حرام إذا خيف أن تكسبه هذه الصفة، وإنما يكون الآكل بمنجى من عدوى الافتراس لو كان الفيل البائض هو الجيل العاشر من سلسلة أجيال استأنسها الإنسان. بمثل هذه الدقة العقلية والبراعة الذهنية أثار عمارة بن الحارث هذه المسائل عن بيضة الفيل وأجاب عنها، ولا عجب فهو الفقيه العالم الذي سارت بفتاواه الركبان فيما تعذر حله على غيره من العلماء.
Shafi da ba'a sani ba
وتصدى معسرة بن المنذر لتفنيد ما قاله عمارة بن الحارث في بيضة الفيل من حيث لونها، فقال عن دليل القياس الذي ساقه عمارة بأن كافة الحيوان الذي يبيض بيضه أبيض، ولذلك فبيضة الفيل لا بد أن تكون بيضاء اطرادا مع القاعدة: إنه دليل لا يقوم على سند من الواقع، فليس صحيحا أن كافة الحيوان الذي يبيض بيضه أبيض؛ فبيض البط فيه خضرة خفيفة، وبيض الدجاج في بعضه حمرة خفيفة، ومن الطير ما بيضه أرقط، ومنه ما بيضه أزرق. وأما دليل اللغة الذي ينبني على أن البيضة مشتقة من البياض ولذلك وجب أن تكون بيضاء، فهو استنتاج معكوس ومغلوط في آن معا؛ معكوس لأننا حتى لو فرضنا أن البيضة مشتقة من البياض، فليس هذا دليلا على أن البيضة بيضاء لأنها بيضة، بل هو دليل على أنها بيضة لأنها بيضاء. ولتوضيح المعنى المراد ضرب معسرة مثال الدقيق والخبز؛ فالدقيق أصل والخبز فرع، فإن جاز لنا أن نقول إنه خبز لأنه من دقيق، فلا يجوز أن نقول إنه من دقيق لأنه خبز. والدليل مغلوط؛ لأننا حتى إن رتبنا مراحل الاستنتاج ترتيبا صحيحا، وقلنا إن البيضة بيضة لأنها بيضاء كانت النتيجة خطأ، لأنه لا يكفي أن يكون الشيء أبيض لنحكم عليه بأنه بيضة، وإلا لجاز لنا أن نقول إن هذا الجدار بيضة لأنه أبيض، وهذا الدقيق بيضة لأنه أبيض، وهلم جرا.
وبعد أن فند معسرة أقوال عمارة، بسط رأيه في لون بيضة الفيل، فقال: إن الفيل حيوان فيه شذوذ عن مستوى الحيوان، والشذوذ لا بد أن ينتج شذوذا، وإلا لما تكافأت المقدمات والنتائج؛ والشذوذ في البيض أن يكون أسود، ولذلك فإن كان الفيل ليبيض وجب أن تكون بيضته سوداء، إذ لو باض بيضة بيضاء، كنا بمثابة من يقول إن الحيوان الشاذ تتفرع عنه نتيجة لا شذوذ فيها، وهو قول فيه تناقض بين الصدر والعجز.
وكان بين تلاميذ ابن الحارث تلميذ نجيب، فتصدى للرد على نقد معسرة، فقال: إن معسرة وهو شيخ المناطقة في زمانه، قد زل زلة ما كان ينبغي أن يقع في مثلها رجل مثله؛ فبينا هو ينكر أن يكون للبيض لون خاص، ويزعم أن من البيض ما هو أزرق أو أرقط، تراه في الوقت نفسه يقول: إنه ما دام الفيل حيوانا شاذا وجب أن يكون بيضه شاذا في لونه كذلك، والشذوذ في البيض أن يكون أسود؛ فكيف يكون الشذوذ سوادا إذا لم تكن القاعدة بياضا؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى نحن نسائل هذا العالم المنطقي: أصحيح أن الشاذ لا ينتج إلا شاذا؟ أيظن معسرة أنه ما دامت الحية لا تلد إلا حية، فالأعرج لا يلد إلا الأعرج، والأعمى لا يلد إلا الأعمى؟ فإن كان الأعرج ينسل من يمشي على قدميه، كما ينسل الأعمى من يبصر بعينيه؛ فلماذا لا يبيض الحيوان الشاذ بيضة تجري مع الإلف والعادة؟
قال الشيخ: هكذا جرى النقاش بين العلماء. •••
وزلزلت الأرض زلزالها، وقال الشيخ: ما لها؟ فقيل: يا مولانا قنبلة ذرية، في لمحة تقضي على الأصل والذرية.
قيل: فعجب الشيخ أن كان في الدنيا علم غير علمه.
قصاصات الزجاج
بإحدى الكنائس في إنجلترا نافذة أبدعتها يد صناع، فجاءت آية من آيات الفن الروائع تحفة للزائرين؛ اتسقت ألوانها، وأتقنت تصاويرها، وبلغت في كل شيء حد الكمال؛ ويقص عليك الدليل أنه لما بنيت الكنيسة جيء لزخرفتها بفنان طبقت شهرته الخافقين في الفن الجميل، واستصحب الأستاذ صبيا كان يلازمه ليتلقى عنه أصول الفن، وأخذ الأستاذ الفنان في زخرفة النوافذ، ورصت أمامه ألواح الزجاج ألوانها شتى، يجذ من هذا مرة ومن ذلك مرة، ويرشد الغلام إلى قواعد الفن في صناعته كلما وضع في النافذة قطعة من زجاج؛ فهنا مربع أزرق وإلى جانبه حلقة حمراء، وصورة القديس هنا، وهنا صورة العذراء. وكان الأستاذ خلال ذلك يقذف بقصاصات الزجاج غير مبال بها، فينثرها يمينا ويسارا، والغلام من ورائه يجمع هذه القصاصات ليلقي بها حيث تؤتمن العواقب.
لكن الغلام فنان موهوب، فلم يلق بقصاصات الزجاج حيث تلقى سائر الفضلات؛ بل أخذ يلهو بها في سويعات فراغه حتى كانت له في النهاية نافذة رائعة بارعة هي التي يقف عندها الزائرون اليوم ليقص عليهم الدليل قصتها، ويحكي أنه لما فرغ الصبي من نافذته أطلع عليها أستاذه: ما هذا الذي أرى؟ - نافذة صنعتها. - وأنى لك الزجاج؟ - قصاصات جمعتها.
ورأى الأستاذ في نافذة الغلام فنا لا يقاس إليه فنه، وكبر عليه الأمر فانتحر.
Shafi da ba'a sani ba
ذكرت قصة هذا الغلام الفنان ونافذته، إذ كنت جالسا أمام مدفأتي ليلة أمس، وحيدا في غرفتي، والدنيا من حولي صامتة لا تسمع فيها صوتا ولا حركة؛ فاتخذت منها نقطة ابتداء وتركت خواطري تترى خاطرا في إثر خاطر.
فخطر على ذهني أول ما خطر مؤرخ فنان أقرب ما يكون شبها في كتابته للتاريخ بذلك الغلام في صناعته للنافذة ، فقد كانت نافذته التي صنعها قصصا تاريخيا هو أحلى ما جرت به يراعة على قرطاس، وكانت قصاصاته التي صنع منها نافذته نتفا من الأخبار والحوادث تساقطت من بين أصابع الذين احترفوا كتابة التاريخ، إذ قصر هؤلاء أنفسهم على الحوادث الضخمة والرجال الأعلام، ونفضوا عن أسنة أقلامهم عامة الناس يمينا وشمالا؛ فمن ذا تعنيه قصة حمال اعترك مرة مع جاره الحمال وساد بينهما الود مرة، بقدر ما تعنيه الرءوس المتوجة تختصم آنا وتتهادن آنا؟ من ذا تعنيه قصة امرأة عجوز أحبت قطتها أو كلبها، بقدر ما تعنيه الأميرة ملأت شغاف قلبها بحب الأمير؟ لكن صاحبنا المؤرخ الفنان لم يرضه أن يلقي بهذه القصاصات في تراب الرفوف، فنقاها وصفاها وسواها قصصا هي هذه التي تقرؤها فتمتعك وتفتنك؛ لم يبهره الملوك في قصورهم ولا القادة في حومات القتال إلا بمقدار ما يكون هؤلاء الملوك والقادة بشرا من البشر؛ وكان من رأيه أن صولجان الملك قد لا يثير الخيال بمقدار ما يثيره محراث الفلاح، ولذلك ترى مادته البشرية في قصصه هي هذا الزارع الصغير وهذا الصانع وهذا البائع وهذا الجندي وهذه الفتاة الريفية الساذجة؛ فمن هؤلاء تتكون لحمة الحياة وسداها. وإنه لمن فضل الله على عباده أن جعل بينهم قدرا مشتركا لا يملكون أن يخضعوه لهذا التفاوت الذي فرضوه على أنفسهم فرضا في شتى نواحي العيش؛ فالفتاة الريفية تحب فتاها كما تحب الأميرة أميرها، وتحزن زوجة الأجير على ولدها إذا أصابه الردى كما تحزن على ولدها زوجة الوزير؛ فالحمد لله الذي جعل الناس يضحكون ويبكون على غرار واحد، ويجوعون ويشبعون ويرضون ويسخطون على نسق واحد، ويفتقرون إلى الله ويعبدونه بأسلوب واحد؛ وأدرك مؤرخنا الفنان هذا القدر المشترك وعرف له وزنه وقيمته، فجمع قصاصاته التي ألقى بها بين المهملات، ومن هذه القصاصات صنع آياته الخالدات.
ومضى هذا الخاطر وجاء في إثره خاطر.
طافت بذهني عشرون عاما مضت على صديق لم يكد يخلو فيها إلى حياته أسبوعا واحدا، وأوشك ألا يمضي يوم خلالها دون قراءة وكتابة يثقف بهما نفسه ومن حوله من الناس، فكان إنتاجه بمثابة النافذة صنعها من قصاصات؛ هي سويعات الفراغ التي أبقتها له الدولة بعد أن استأجرت معظم وقته لقاء بضعة قروش رآها أولو الأمر ثمنا عادلا له في سوق البيع والشراء، وكأنما هاض صديقي هذا ذلك الجهد الثقيل فأقعده بينما كانت القافلة في مسير، أو رأى نفسه يمشي في طريق وقافلة الناس في طريق آخر؛ هي ماضية من جنوب الأرض إلى شمالها وهو سائر من الشمال إلى الجنوب، رأى نفسه هابطا وأنداده في صعود، وأوفى هؤلاء الأنداد صداقة من كان يلقي نظرة إشفاق وهو عابر مخلفا وراءه هذا الزميل المهيض. وذات صباح مشمس ضاح، حمل صاحبنا نافذته وقصد بها إلى أحد السادة رعاة الفن الجميل وهو كالليث في مربضه: ما هذا الذي جئتني به؟ - نافذة صنعتها. - وأنى لك الزجاج؟ - قصاصات جمعتها.
وضحك السيد الذي كان من رعاة الفن الجميل، وقال: يؤسفني يا بني أن أقول إننا في هذه الدار قد تواضعنا على ألا ننعت بالفن نافذة قوامها القصاصات، فها أنت ذا ترى النافذات التي وجدت طريقها إلى جدراننا ألواحا كاملة.
وحمل المسكين نافذته وعاد إلى مأواه، ولو رآه عندئذ رسام فنان لانتهزها فرصة سانحة أن يخرج للناس آية يكتب على إطارها «خيبة الأمل» ولأصبح ذلك الصديق بعدئذ عبرة لكل من تحدثه في أرض الكنانة نفسه أن يصنع نافذة من قصاصات الزجاج.
وكادت تشيع ذكرى صديقي اليأس في نفسي، لولا أن حانت مني التفاتة إلى صورة معلقة على جدار غرفتي؛ صورة «الأمل»: كوكب مظلم خلا من آهليه إلا فتاة شد على عينيها برباط فلا ترى، وعلى إحدى أذنيها فلا تسمع إلا ضئيلا، وفي يدها قيثارة تقطعت أوتارها إلا وترا؛ ومع ذلك كله أحنت الفتاة رأسها في ذلك العالم الموحش المظلم الصامت، لعلها تسمع نغما واحدا من ذلك الوتر الواحد!
إن حدث لك يا صديقي أن تقرأ هذه السطور، فنصحي إليك ألا توئسك أحكام السادة الذين هم في أرض العزيز رعاة الفن الجميل. إنهم لن يزهقوا أرواحهم يأسا حين يرون أنفسهم صغار الفكر بالقياس إلى فكرك، ضئال الهمة بالقياس إلى همتك، كما فعل أستاذ الفن مع صبيه الموهوب؛ بل هم سيسحقونك أنت سحقا وهم سينحرونك أنت نحرا، ليبدو قليلهم كثيرا وضحلهم غزيرا.
ومضى هذا الخاطر وجاء في إثره خاطر.
فتاة في خدرها، نئوم الضحى، تستيقظ لتزين، ثم تمحو زينتها لتنام! وهي في سويعات صحوها لا تجاوز ظليل خدرها، صونا للشرف؛ لأن الشرف من صفات الخفافيش، هو وضوء الشمس نقيضان لا يجتمعان؛ فالقهرمانة الآن في الردهة، والقهرمانة الآن في الغرفة، وساعة هي في البهو وساعة في الشرفة؛ وهكذا أخذت تتعاقب الأيام، ليل يتلوه النهار ونهار يأتي بعده الليل؛ شتاء يتلوه صيف وصيف يأتي بعده الشتاء؛ والوردة الأرجة ترسل عبقها في أرض بلقع يباب انتظارا لمن يكون لها قرينا؛ والقرين المرتقب دونه إليها الصعاب؛ فهذه ساحرة تلاقيه في الطريق وتخادعه حتى تخدعه، وتغازله فتصرعه؛ حتى إذا ما أفاق لنفسه وتبين فيها غش الساحرات تركها ومضى، ليصادفه بعدئذ شيخ هرم ملتح، سكن كهفا بعيدا عن العمران، وراح بالإكسير يخرج من النحاس الخسيس ذهبا إبريزا؛ فما إن رأى الشيخ فتانا حتى أغراه بالمكث إلى جواره حينا ينفخ له النار، وله من محصول الذهب مقدار، ولبث الفتى ينفخ النار عاما وعاما وثالثا بعده رابع وخامس، ورائحة الذهب تملأ أنفه وخياشيمه فلا يترك المنفاخ، والفتاة هنالك في ارتقابها له تستيقظ لتزين ثم تمحو زينتها لتنام. تلك الفتاة قصاصة بشرية قذفت بها الرحى بين المهملات.
Shafi da ba'a sani ba
ومضى هذا الخاطر وجاء في إثره خاطر، بل سلسلة من الخواطر جاءت في تتابع سريع؛ فالفتاة التي تعطلت في دارها عن غير ضعف إلا ضعفا في إدراك ذويها، دعت إلى الذهن ألوف الألوف من الناس الذين انتشروا في أرجاء البلاد مدائنها والقرى، لا يعملون أو يعملون وكأنهم لا يعملون؛ فهم أقرب الناس شبها بمدينة ضاقت بأهلها سبل العيش، فاتفق الجيران على أن يتبادلوا الخدمات، فكل يغسل لجاره ثيابه، وكل تكنس لجارتها بيتها؛ ثم دهش أهل المدينة أن رأوا أنفسهم كادحين والبطون لم تزل على حالها خاوية! إن السادة إذ أعدوا لأنفسهم حياة ترضي فيهم الغرائز والشهوات، نثروا حولهم عن غير وعي هذه القصاصات.
وصاح صائح: كيف السبيل إلى الإصلاح؟
الإصلاح سبيله أن تعرف لكل قصاصة قيمتها، وأن تجد كل قصاصة مكانها من نافذة المجتمع، فمن لهذه القصاصات البشرية بمن ينسقها أمة منتجة عاملة؟ من لهذه القصاصات البشرية بمثل ذلك الصبي الفنان؟
الدقة الثالثة عشرة
إذا دقت ساعتك ثلاث عشرة دقة، كانت الدقة الثالثة عشرة خطأ في ذاتها أولا، وداعيا إلى الشك في صدق الدقات السوالف ثانيا، ثم كانت ثالثا بمثابة النذير الذي يعلن لك في صوت جهير أن الآلة كلها فاسدة لا مندوحة لها عن إصلاح وتغيير.
وقد دقت ساعتي ذات ليلة ثلاث عشرة دقة، إذ كنت بين يقظة ونعاس، ولبثت الدقة الثالثة عشرة حينا في الهواء تجر وراءها ذنبا من رنين يرتعش مائجا فيهز مسمعي بأصداء خافتة أخذ يتداخل بعضها في بعض، حتى صارت في الأذن طنينا موصولا ودارت في نفسي معانيها مضطربة غامضة كما تدور في النفس أوائل الأحلام عند من ينسحب من يقظة النهار شيئا فشيئا ليأخذ في رقدة الليل؛ حتى إذا ما أخذ مني الكرى بمعاقد الجفنين، رأيتني في بهو فسيح كتب على بابه «بهو الفراعنة»، رصت إزاء جدرانه ثلاثة عشر تابوتا نقشت على ظهورها رموز ورسوم مما تراه على توابيت الفراعنة الأجداد؛ لكنها كانت تدق كأنها الساعات، كل منها يدق ثلاث عشرة دقة، حتى إذا ما فرغت الواحدة من دقاتها بدأت الأخرى.
كان البهو فسيحا معتما لا تتبين فيه حدود الأشياء واضحة إلا إن دنوت منها ونظرت إليها عن كثب، فرشت أرضه بمنثور من الرمل يبعث صوتا أجش كلما داست على حصبائه قدم؛ وكان يضيء في وسطه قنديل ضئيل استقامت في ذبالته شعلة النار، لا تموج يمنة ولا يسرة، لسكون الهواء، أو قل لانعدامه؛ فما يسع القادم إلى «بهو الفراعنة» إلا إحساس عميق بأنه إنما أقبل من المكان على مقبرة كل ما فيها يوحي بركود الموت وجموده؛ ولأول مرة أدركت في وضوح أن الضوء إذا خفت كان في طبيعته أقرب إلى الظلام منه إلى الضياء؛ لأنه يزيد من الأشباح التي تتراءى لناظريك ولا يكاد يعينك على الإبصار، فكأنما هو ظلام منظور، أو نار بغير نور.
وقفت ذاهلا أنصت إلى الدقات التي كانت أدنى إلى حشرجة الموت منها إلى الرنين الصافي، وقد امتلأت أرجاء المكان بأصدائها حتى خيل إلي أن موجات الصوت تتراكم بعضها فوق بعض، وأنني مغموس منها في بركة من صوت؛ ولأول مرة كذلك أدركت في وضوح أن الصوت إذا انبعث من وادي الموت، كان في طبيعته أقرب إلى الصمت منه إلى الصيات؛ فقد أحسست حولي بصمت عميق رغم هذه الأصداء التي تملأ أرجاء المكان، وخشيت أن أحرك قدما فيصيت الرمل تحت قدمي، ويعلن بصوته عن وجودي في مكان أريد به في أغلب الظن أن يرمز للموت لا أن يكون مضطربا للحياة والأحياء؛ لكني لما سكتت ساعة عن دقها وبدأت ساعة، أحسست بدافع يجذبني إلى الساعة الدقاقة ولم أملك الوقوف، فخطوت نحوها خطو الخائف الوجل، جف في حلقه الريق وارتعدت منه الفرائص، وود لو استطاع أن يحقق رجاء أبي العلاء، فنسير في الهواء رويدا حتى لا يحرك حصباء الأرض بقدميه.
دنوت من الساعة الدقاقة فإذا بوجه التابوت فيها قد تبدل شيئا عجيبا تكاد تخر لرؤيته صريعا؛ انقلب وجه التابوت في ثلاثة أرباعه السفلى لوحا من زجاج وفي ربعه الأعلى مربعا من الخشب فيه ثقب مستدير؛ وكان البندول إنسانا مخنوقا أخذ جثمانه يتأرجح خلف الغلاف الزجاجي يمنة ويسرة، مشدود الذراعين موثق القدمين، وتدلى رأسه من الثقب في أعلى الإطار؛ يغطيه طربوش قديم بال مجعد السقف والجوانب، طال «زره» وطال حتى لف حول عنقه ثلاث عشرة حلقة، وجحظت عيناه وانفتح فمه وتدلى لسانه وأخذ يهتز في اتجاه معاكس لحركة جسده؛ فإن تأرجح الجسد يمينا مال لسانه نحو اليسار، وإن تأرجح الجسد يسارا مال لسانه نحو اليمين، أو خيل إلي أنه يفعل.
لم يفتني بين هذه المفازع كلها أن أعجب للقدر كيف كان في سخريته حكيما وفي حكمته ساخرا؛ فقد مات الرجل مختنقا بما اتخذه في حياته دليلا على أنه حي بين الأحياء! مات مختنقا بالذي اصطنعه رمزا لعزته! أكان السم الزعاف إذن يكمن له في خيوط هذا الإرث المجيد؟ وقع في وهمه أن تراث أجداده باعثه على الحياة والنشاط، فإذا تراث الأجداد ينحدر به إلى مهوى الموت والهلاك! مات المسكين مختنقا في أغلال وأصفاد من نسج الآباء والأجداد، ولو أخلص له النصيحة ناصح قبل أن يختنق لأشار عليه أن ينسلخ من جلده انسلاخا، لأن في جلده الضر والوباء؛ لو أخلص له النصيحة ناصح قبل أن يختنق لأشار عليه أن يلقي عن نفسه هذا الموت الرابض، وأن يحطم هذه الأغلال وهذه الأصفاد ليكون بين سائر الناس خفيفا نشيطا؛ لكن علموه فتعلم أن أصفاده سلاسل من ذهب، وهل يطرح الذهب النضار إلا أحمق مجنون؟ علموه فتعلم أن في الدنيا شرقا وغربا، وأن للشرق هذا البريق الذي تلمع به تلك السلاسل الذهبية؛ ولو أخلص له النصيحة ناصح قبل أن يختنق لأفهمه أن ليس في الدنيا شرق وغرب، لكن في الدنيا إنسانا يحيا ويتقدم فيقال له غرب، ويتدهور ويموت فيقال له شرق، وله بعد ذلك أن يختار بين الحياة والموت. لكن مات المسكين - وا أسفا - مغلول اليدين موثق القدمين؛ غلوه بسلسلة ذرعها خمسة آلاف عام تمتد إلى حيث كان أجداده عن الحياة في شغل يبنون الأهرام الشوامخ استعدادا للموت والفناء، ومن يدري؟ لعله مات بعد أن بذر في أبنائه بذور الرجاء.
Shafi da ba'a sani ba