ومن العجب: أن الله - تعالى - يخبر بشيء عن نفسه في كتابه المحكم، فيأتي الإنسان بعقله القاصر صاحب الآفات والعلل، فيقول: إن عقلي يرد ذلك، وفكري لا يحتمل ذلك؛ وإنما يجب التأويل! أليس قبول ما أخبر به الله عن نفسه، أولى من قبوله من فكره؟ وأليس عاقبة هذا التأويل المعتمد على الفكر والعقل، أن يصوغوا من خيالهم وتفكيرهم خالقا غير ما في كتاب الله؟»
ويتابع محيي الدين حملته القوية على المعتزلة، فيقول ناصحا وموجها: «اعلم أن من الأدب عدم تأويل آيات الصفات، ووجوب الإيمان بها مع عدم الكيف كما جاءت؛ فإنا لا ندري إذا أولنا: هل ذلك التأويل مراد الله فنعتمد عليه، أم ليس هو بمراد له فيرده علينا؟ فلهذا التزمنا التسليم في كل ما لم يكن عندنا فيه علم من الله - تعالى، فإذا قيل لنا: كيف يعجب ربنا، أو كيف يفرح مثلا، أو كيف يغضب، كما ورد في القرآن والأحاديث؟ قلنا: إنا مؤمنون بما جاء من عند الله على مراد الله، وإنا مؤمنون بما جاء من عند رسول الله على مراد رسول الله، ونكل علم الكيف في ذلك كله إلى الله وإلى رسوله، وهذه كانت طريقة السلف؛ فلا تأويل ولا تجسيم ولا تشبيه ؛ وإنما ليس كمثله شيء.»
ثم يقول: «اعلم أن جميع ما وصف الحق - تعالى - به نفسه من: خلق، وإحياء، وإماتة، ومنح وعطاء، ومكر واستهزاء، وفرح وتعجب، وغضب ورضا وتبشبش، وقدم ويد وعين وأعين، وغير ذلك، كله نعت صحيح لربنا؛ فإننا ما وصفناه به من عند أنفسنا؛ وإنما هو - تعالى - الذي وصف بذلك نفسه على ألسنة رسله قبل وجودنا؛ وهو - تعالى - الصادق وهم الصادقون بالأدلة العقلية. ولكن ذلك على حد ما يعلمه - سبحانه وتعالى - وعلى حد ما تقبله ذاته، وما يليق بجلاله، لا يجوز لنا رد شيء من ذلك، ولا نكيفه ولا نقول بنسبته إلى الله، إلا على الوجه الذي أراده، وعلى غير الوجه الذي ينسبه إلينا، ونعوذ بالله أن نضيف ذلك إلى الله على حد علمنا نحن به، فإنا جاهلون بذاته في هذه الدار، وفي الآخرة لا ندري كيف الحال.
وما جنح صاحب العقل إلى التأويل إلا لينصر جانب العقل والفكر على جانب الإيمان؛ فإنه ما أول حتى توقف عقله في القبول، فكأنه في حال تصديقه لله غير مصدق له، فإيمانه في حال تأويله؛ إنما هو إيمان بما أول، لا بما أتى به الخبر.»
صفات الله عند العارفين
يقول محيي الدين: «إن العقلاء وأصحاب الأفكار اختلفت مقالاتهم في الله - تعالى - على قدر نظرهم، فالله الذي يعبد بالعقل مجردا عن الإيمان كأنه - بل هو - إله موضوع؛ بحسب ما أعطاه نظر ذلك العقل؛ فاختلفت حقيقته بالنظر إلى كل عقل، وتفاوتت العقول، وكل طائفة من أهل العقول تجهل الأخرى بالله، وإن كانوا من النظار الإسلاميين المتأولين؛ فكل طائفة تكفر الأخرى، والرسل من عهد آدم إلى محمد - عليه السلام - ما نقل عنهم اختلاف فيما ينسبونه إلى الله من النعوت، بل كلهم على لسان واحد في ذلك، والكتب التي جاءوا بها، كلها تنطق في حق الله بلسان واحد ما اختلف فيها اثنان، بل يصدق بعضهم بعضا مع طول الأزمان وعدم الاجتماع.
وكذلك المؤمنون بهم على بصيرة؛ فهم المسلمون المصدقون الذين لم يدخلوا نفوسهم في تأويل، فهم أحد رجلين: إما رجل آمن وسلم، وجعل علم ذلك إليه إلى أن مات وهو المقلد، وإما رجل عمل بما علم من فروع الأحكام، واعتقد الإيمان بما جاء به الرسل؛ فكشف الله عن بصيرته، وصيره ذا بصيرة في شأنه، كما فعل بنبيه - عليه السلام - وأهل عنايته، فكاشف وأبصر ودعا إلى الله على بصيرة، كما قال في حق نبيه - صلوات الله عليه - مخبرا:
أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ؛ وهؤلاء هم العلماء بالله العارفون، وإن لم يكونوا رسلا ولا أنبياء، فهم على بينة من ربهم في علمهم به، وبما جاء من عنده، وكذلك وصف نفسه بكثير من صفات المخلوقين من المجيء والإتيان، والغضب والفرح، والتجلي للأشياء، والوجه واليد، والرضا والكراهة، في كل خبر صحيح ورد في كتاب أو سنة نبيه، والأخبار أكثر من أن تحصى، مما لا يقبلها إلا مؤمن بها من غير تأويل، أو بعض أرباب النظر من المؤمنين، بتأويل اضطره إليه إيمانه.
فانظر مرتبة المؤمن ما أعزها! ومرتبة أهل الكشف ما أعظمها! حيث لحق أصحابها بالرسل والأنبياء، فيما اختصوا به من العلم الإلهي الذي لا يدخله الشك ولا الريب؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، وما ورثوا دينارا ولا درهما، بل ورثوا العلم بقوله
صلى الله عليه وسلم : «إنما نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.»
Shafi da ba'a sani ba