العقل لا يدرك الله
فإذا أوضح لنا محيي الدين مكانة العلماء العارفين بالله، الذين يؤمنون بربهم إيمانا يقينيا، لا يعرف الشك ولا التأويل، أخذ يحدد وظائف العقل البشري، ثم أوضح أنه لا يستطيع إدراك صفات الله - تعالى - وما يتعلق بها؛ لأنه لا مشاركة بينه وبين خالقه. فقال: والعقل البشري لا يدرك الله - تعالى؛ لأن العقل البشري يعلم أو يدرك ما بينه مشاركة في النوع أو الجنس أو الطبيعة، وإنما يدرك الله بالقلب والكشف والوحي، فانظر إلى ما وصف الله به نفسه في كتابه، تعرف لباب التوحيد.
ثم يقول: «لقد نظرنا بقوة العقل، وما أعطاه العقل الكامل، بعد جده واجتهاده الممكن؛ فلم نصل إلى المعرفة به - سبحانه - إلا بالعجز عن معرفته؛ لأنا طلبنا أن نعرفه كما نطلب معرفة الأشياء كلها من جهة الحقيقة التي الأشياء عليها، فما عرفنا إلا أن ثم موجودا ليس له مثل، ولا يتصور في الذهن ولا يدرك، فكيف يضبطه العقل؟ وهذا مما لا يجوز مع ثبوت العلم بوجوده؛ فنحن عالمون بالوجود وهو العلم الذي طلب منا، ولما كان - تعالى - لا يشابه شيئا من المخلوقات، ولا يشبهه شيء منها؛ كان الواجب علينا أولا كما قيل لنا:
فاعلم أنه لا إله إلا الله ، أن نعلم ما العلم. قال - صلوات الله عليه: «إن الله احتجب عن الأبصار، وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم.» فأخبر
صلى الله عليه وسلم
أن العقل لم يدركه بفكره. ولا بعين بصيرته، كما لم يدركه البصر.
هكذا فليكن التنزيه ونفي المماثلة والتشبيه، وما ضل من ضل من المشبهة إلا بالتأويل، وحمل ما وردت به الآيات والأخبار على ما يسبق منها إلى الأفهام من غير نظر فيما يجب لله - تعالى - من التنزيه؛ فقادهم اعتمادهم على العقل إلى الجهل المحض والكفر الصراح، ولو طلبوا السلامة وتركوا الآيات والأخبار على ما جاءت من غير عدول منهم فيها إلى شيء ألبتة ووكلوا علم ذلك لله ورسوله، وقالوا: لا ندري؛ لكان يكفيهم قوله - تعالى:
ليس كمثله شيء ، فمتى جاءهم حديث فيه تشبيه، فقد أشبه الله شيئا وهو - سبحانه - قد نفى التشبيه عن نفسه، فما بقي إلا أن ذلك الخبر له وجه من وجوه التنزيه يعرفه الله - تعالى، فمن أول أو شبه؛ فقد تعدى على الله - سبحانه، قال - تعالى:
وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه . وما قدروا الله حق قدره لما يسبق إلى العقول الضعيفة من التشبيه والتجسيم عند ورود الآيات والأخبار، التي تعطي من وجه ما من وجوهها ذلك، ثم قال بعد هذا التنزيه الذي لا يعقله إلا العالمون:
والأرض جميعا قبضته ، عرفنا من اللسان العربي أن يقال: فلان في قبضتي، ويريد أنه تحت حكمي، وإن كان ليس في يدي منه شيء ألبتة، ولكن أمري فيه ماض وحكمي عليه قاض، مثل حكمي على ما ملكته حسا وقبضت عليه. ومن ذلك أيضا: التعجب والضحك والفرح والغضب، فالتعجب إنما يقع من موجود لا يعلم ذلك المتعجب منه ثم يعلمه فيتعجب، وهذا محال على الله.»
Shafi da ba'a sani ba