وكان المرابطون - وهم فئة ثائرة بالسيف، غضوبة بالرمح - يعيثون بأمن المغرب الأقصى ويفسدون، وتسل سيوفهم عروش ملوكه وسادته.
وكان للعلماء ورجال التصوف خاصة هنا وهناك قوة رهيبة، تقود الجماهير وتوجهها، وتجلها الملوك وتتقرب إليها، ويتزلف إليها السادة والأمراء.
فلا عجب إذا رأينا ملك المغرب المهدد بثورة المرابطين، يسعى إلى محيي الدين، الذي بزغ نجمه، وأشرق أفقه، وعرف اسمه ومكانه في دنيا التصوف وعالم البيان واللسان، ولا عجب إذا سعى محيي الدين إليه، تدفئ صدره آمال كبار، في أن يوجه هذا الملك وجهة صوفية روحية، وبالتالي يوجه شعبه إلى تلك المناهل والينابيع.
وكانت رحلة محيي الدين الأولى إلى المغرب في مطلع عام تسعين وخمسمائة من التاريخ الهجري، أي: ومحيي الدين في الثلاثين من عمره.
وتقلد محيي الدين وهو في رونق الشباب وفورة الحياة عمله الجديد، موقعا على المراسيم ومنشئا للرسائل، ومربيا لأبناء البيت المالك.
وهي وظيفة أشبه بالوزارة، وإن كانت أرحب منها أفقا، وأعظم نفوذا، وألصق بالملك وأقرب، وهي مكانة تتصارع حولها الأهواء والغايات، وتنصب لها المكائد والشباك، ولقد اصطلاها محيي الدين وهو رجل الروح والدين، والطهارة والصفاء؛ فاصطلى جوا عجبا.
ولكن محيي الدين، وهو من نعرف كرامة وإباء، وعلما ربانيا، وهديا نبويا، ونهجا صوفيا، وهي صفات شديدة الخطورة في هذا الجو، شديدة الخطورة في بلاط الملوك، لم تطب له تلك الحياة أو لم يطب هو لها؛ فوقعت النفرة سريعا بينه وبين الملك، وبينه وبين رجال الحاشية، وظن به الملك الظنون، ولمزته البطانة وغمزته في نهجه وطريقته، ومذاهبه وتفكيره.
ويعود محيي الدين إلى إشبيلية بالأندلس، مقر نشأته ومرتع صباه، ويحلق في آفاق العلم والمعرفة ما شاء له الله.
ثم يطرق سمعه بعد أعوام دعوة إلى المغرب من جديد، بواسطة الشيخ الصوفي أبو عبد الله بن المرابط، صديق الملك ومرشده الروحي، وحبيب محيي الدين، المقدر له، والذي كان سببا مباشرا في رحلة محيي الدين الأولى.
وتمشي الريح رخاء طيبة بين الملك ومحيي الدين، فقد فطن محيي الدين إلى عبرة الحوادث الأولى؛ فطوى جوانحه على أعنف آرائه، وترفق أكثر الرفق بالبطانة والحاشية، وما إلى البطانة والحاشية من ذيول وأذناب، واطمأن الملك إليه؛ فأطلق يده في شئون مملكته، يقومها على النهج الصوفي، ويدفعها دفعا إلى التعاليم التي عرفت عن محيي الدين وعرف بها.
Shafi da ba'a sani ba