ولعل تلك الحادثة التي يرويها لنا في الفتوحات توضح لون الحياة ولون الأعمال التي يقوم بها في عمله الجديد.
يذكر لنا محيي الدين أن من الملائكة طائفة تطوف سائحة في الدنيا، تطلب مجالس الذكر في الأرض، فإذا وجدوا أهل الذكر وهم أهل القرآن، نادى بعضهم بعضا: هلموا إلى بغيتكم؛ فيحفون بالذاكرين، ويبسطون لهم أجنحة الرحمة، ويدعون لهم أطيب الدعاء وأرجاه في الإجابة.
وتلك المجالس القرآنية، هي رزق هؤلاء الملائكة، وبها يعيشون، وعليها وبها تقوم حياتهم.
ثم يقول: «وواجب الإمام أو الحاكم أن يقيم جماعة تتلو آيات الله بالليل والنهار؛ تقربا إلى الله واستجلابا لرحمته، ورزقا لتلك الطائفة من الملائكة.»
ثم يقول أيضا: «وقد كنا في بلاد المغرب، قد سلكنا هذا المسلك بموافقة أصحاب موفقين، كانوا لنا سامعين وطائعين، ففقدناهم ففقدنا بفقدهم هذا العمل الخالص، وهو أشرف الأرزاق وأعلاها.»
وهو هنا صريح في حديثه عن الأصحاب الموفقين، الذين كانوا لحديثه سامعين، وهي تكنية جميلة، فلم يرد أن يذكر اسم الملك في موقف العتاب؛ لأنه - كما سنرى - لا يزال يحمل له ودا خالصا، ويرجو آملا حار الأمل في العودة إليه.
كما نلمس أيضا أنه أشبه بمن أكره على مغادرة عمله؛ فهو ثائر العاطفة لمن فقدهم، ففقد بفقدهم النفوذ والقدرة على هذا العمل الخالص، وهو أشرف الأرزاق وأعلاها.
ثم يقول: «فأخذنا لما فقدنا مثل هؤلاء، في بث العلم من أجل الأرواح التي تتغذى بالذكر، ورأينا ألا نورد شيئا منه، إلا من أصل هو مطلوب لهذا الصنف الروحاني وهو القرآن.»
فجميع ما نتكلم فيه في مجالسي وتصانيفي، إنما هو من حضرة القرآن وخزائنه، أعطيت مفاتيح الفهم فيه، والإمداد منه؛ وذلك أرفع ما يمنح، ولا يعرف قدره إلا من ذاقه وشهد له.
ويذكر لنا محيي الدين أنه أخذ في مجالسه العلمية، وفي كتبه التي ابتدأ في تأليفها، يبث علما من نوع العلم الذي تتغذى به أرواح الملائكة، وهو العلم المستمد من حضرة القرآن وخزائنه؛ حتى لا ينقطع هذا العمل الطيب، الذي بدأه بمعاونة الملك وهو إقامة الذاكرين بالقرآن ليلا ونهارا.
Shafi da ba'a sani ba