وسنحت الفرصة لاتهام الرجل المظلوم مع الشيطان؛ وهو الأسقف «جرانديه» عدو الكردينال ريشتيه ذي الحول والطول في بلاط باريس، فاتهم بالفسوق وتسليط الشيطان على الراهبات للتغرير بهن، وصدقت إحداهن أنها فريسة للشيطان بإغراء الأسقف الساحر، فرمته بالتهمة كما أوحي إليها، وقرر المحققون أنهم سمعوا اعتراف الشيطان وهو يتكلم بلسان تلك الفريسة، فتقررت إدانة الأسقف بشهادة الشيطان، وحكم عليه بالإحراق وهو بقيد الحياة.
ولما قيل لهم: إن الشيطان أبو الأكاذيب لم يعسر عليهم أن يبطلوا هذه الشبهة باضطرار الشيطان إلى الصدق بين يدي أصحاب العزيمة والبرهان من المحققين الصالحين.
وتمشي السخرية مع الفجيعة جنبا إلى جنب في هذه المهزلة الشيطانية، فيحدث في بعض محاضر التحقيق أن يقول الشيطان: إن السيد لوبردمان، رئيس لجنة التحقيق، ديوث تخونه امرأته مع الأسقف وغيره، ويكون لوبردمان غائبا عن الجلسة، ولا يلتفت إلى قراءته عند توقيعه، فيضع عليه اسمه بعد السطر المعهود الذي يقرر فيه اعتماد الصدق في كل ما جاء فيه، ويضحك ولاة الأمر ملء أفواههم ساعة يعرض المحضر عليهم، ولكن رئيس اللجنة يعود إلى التحقيق لتسخير ذلك الشيطان نفسه في تمليق الكاردينال، ويفتتح المحضر المحفوظ بتاريخ (20 مايو سنة 1634) سائلا: ما قولك في الكاردينال العظيم حامي حمى الديار الفرنسية؟ فيجيبه الشيطان مقسما باسم الله: إنه سوط عذاب على أصدقائي أجمعين، ويعود الرئيس سائلا: ومن هم أصدقاؤك؟ فيقول له الشيطان: إنهم زمرة الهراطقة، ويسأله الرئيس: وما هي مآثره الأخرى؟ فيجيبه الشيطان: إنها هي إنقاذه للشعب، وقدرته على الحكم هبة من الله، وحرصه على سلام المسيحية، وولاؤه للملك لويس ...
وبعد العناء المضني في جمع هذه الأوراق، والمضاهاة بين التحقيقات، يخرج الكاتب منها إلى سحرة العصر الحاضر الذين يسخرون أعنف شياطينه، وهو شيطان الجماعة المستفزة إلى الشر والعدوان باسم المذاهب أو الأوطان، فما تصنعه النازية حين تثور على أعداء الجنس الآري المطهر، وما تصنعه الفاشية حين تثور على أعداء المجد الروماني العريق، وما تصنعه الشيوعية حين تثور على أصحاب الأموال الأوغاد، كل أولئك ثورة لا تتورع عن اتهام الأبرياء، وإحراق الأحياء، والهبوط إلى الهاوية في أهبة الصعود إلى السماء. •••
ومن المفكرين الذين لهم خطر في كل بحث يدور على العقيدة والتفكير العصري كاتبان عالميان؛ هما: الدكتور لويس، صاحب كتاب المعجزات، وكتاب مسألة الشر، وكتاب ما وراء الشخصية وغيرها من الكتب في موضوعات الفلسفة الدينية، ويعتبرونه فيلسوف المذهب البروتستانتي في العصر الحاضر، والكاتب الآخر: جيوفاني بابيني، صاحب كتاب حياة المسيح، وأديب المذهب الكاثوليكي المرضي عنه بين المجددين وبين فريق غير صغير من المحافظين.
ألف الدكتور لويس رسائل الشيطان وجعلها على لسان أستاذ من الشياطين يعلم تلميذه أساليب الفتنة والدسيسة، وإقصاء بني آدم عن حظيرة الرضوان، ومعظم هذه الأساليب نفسية يرى العلماء النفسانيون مع المؤلف أنها بواعث شر وجهل في الطبيعة الإنسانية، ويرى العلماء الدينيون معه أنها مداخل الشيطان إلى سريرة الإنسان، فيقول الشيطان الأستاذ - مثلا - لتلميذه: إنه خليق أن يتنبه إلى خطأ جسيم يقع فيه ناشئة الشياطين، وهو اعتقادهم أن السرور حبالة الشيطان.
إذ الحقيقة أن الإنسان باق في الحظيرة الإلهية ما بقي في نفسه موضع للسرور، وعلى الشيطان أن يفرق بين السرور على أنواعه، وبين السرور المصطنع الذي يلحق باللغو والتهريج. وينبه الأستاذ تلميذه إلى الإقلال من العناية بإغوائه المتدينين الذين تساورهم الشكوك من جراء الحروب والنكبات؛ فإن المتدين الذي لا تصمد عقيدته لهذه الشدائد غني عن الإغواء، ولا حاجة بالشيطان إلى فرط العناية بإغوائه، وعلى الشيطان التلميذ ألا ييأس من أصحاب الفضائل الذين يعلمون بفضائلهم، ويفخرون بها مع أنفسهم ومع غيرهم؛ فإنها فضائل على مقربة من الرذائل الشيطانية قد تعمل على الرذيلة وهي في عنفوانها.
وليس من عمل الشيطان أن ينشر الإلحاد؛ لأن الذي ينكر وجود الله ينكر وجود الشيطان، وإنما عمله أن يصرف المؤمن بالله عن الأمل والعبادة، ورؤية المحاسن والمعجزات في خلائقه ومقاديره. وأقوى الحبائل في رأي الأستاذ الشيطان أن ينفصل الإنسان من حاضره، ويقبل على المستقبل بجملته؛ فإن المقبل على المستقبل منقطع عن الحاضر والماضي، متعلق بالأباطيل ودواعي القنوط والكراهية.
وعلى الشيطان الناشئ أن يذكر أن الكراهية هي المهمة في المذاهب «المستقبلية» دون عناوينها ودعاويها، فلا فرق بين الشيوعية والفاشية والإباحية على اختلافها ما بقيت نفس الإنسان خلوا من الحب، مفعمة بالنقمة والبغضاء. وآفة الآفات الكبرى على الدوام أن يصبح الكون في نظر الإنسان صفرا من العجائب، وشتيتا متشابها من المألوفات والمتكررات.
ولولا ضيق نظر يساور عقل المؤلف أحيانا كلما نظر إلى عقيدة غير عقيدته؛ لكان تفكيره في هذه الأمور مطابقا لتفكير المتدين في كل دين.
Shafi da ba'a sani ba