فاتحة خير
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
خاتمة
فاتحة خير
الفصل الأول
الفصل الثاني
Shafi da ba'a sani ba
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
خاتمة
إبليس
إبليس
تأليف
عباس محمود العقاد
فاتحة خير
يوم عرف الإنسان الشيطان كانت فاتحة خير.
Shafi da ba'a sani ba
وهي كلمة رائقة معجبة تروع المسامع وتستحق في بعض الأذواق أن تقال، ولو تسامح القائلون والسامعون في بعض الحقيقة طلبا لبلاغة المجاز.
ولكنها في الواقع هي الحقيقة في بساطتها الصادقة التي لا مجاز في لفظها ولا في معناها، ولا تسامح في مدلولها عند سامع ولا قائل، بل هي من قبيل الحقائق الرياضية التي تثبت بكل برهان، وتقوم الشواهد عليها في كل مكان.
فقد كانت معرفة الشيطان فاتحة التمييز بين الخير والشر، ولم يكن بين الخير والشر من تمييز قبل أن يعرف الشيطان بصفاته وأعماله، وضروب قدرته، وخفايا مقاصده ونياته.
كان ظلام لا تمييز فيه بين طيب وخبيث، ولا بين حسن وقبيح، فلما ميز الإنسان النور عرف الظلام، ولما استطاع إدراك الصباح استطاع أن يعارضه بالليل، وبالمساء.
كانت الدنيا أهلا لكل عمل يصدر منها، ولم يكن بين أعمالها الحسان وأعمالها القباح من فارق إلا أن هذا يسر وهذا يسوء، وإلا أن هذا يؤمن وهذا يخاف، أما أن هذا جائز وهذا غير جائز في ميزان الأخلاق، فلم يكن له مدلول في الكلام، ولم يكن له - من باب أولى - مدلول في الذهن والوجدان.
وكانت القدرة هي كل شيء.
فلما عرف الإنسان كيف يذم القدرة ويعيبها عرف القدرة التي تجمل بالرب المعبود، والقدرة التي لا تنسب إليه، ولكنها تنسب إلى ضده ونقيضه.
وهو الشيطان.
وكانت فاتحة خير لا شك فيه.
كانت فاتحة خير بغير مجاز وبغير تسامح في التعبير.
Shafi da ba'a sani ba
وكانت للإنسان عين يعرف بها الظلام؛ لأنها عرفت النور وخرجت من غيابة الظلمات التي كانت مطبقة عليه.
فتاريخ الإنسان في أخلاقه الحية لا ينفصل من تاريخ الشيطان.
وأوله هذا التمييز بين الخير والشر.
ولكنه الأول في طريق طويل لم يبلغ نهاية مطافه.
فبعد التمييز بين الخير والشر خطوة أخرى ألزم من تلك الخطوة الأولى في تاريخ الأخلاق الحية.
وتلك هي معرفة الخير في الصميم.
فقد كان على الإنسان أن يعرف حقيقة الخير ليعمله على علم وبصيرة.
فليس الخير خلوا من الشر وكفى.
وليس الخير ابتعادا من الشر وكفى.
وليس الخير عجزا عن الشر وكفى.
Shafi da ba'a sani ba
وليس الخير مخالفة للشر وكفى.
كلا، بل الخير شيء قائم بذاته، وليس قصاراه أنه امتناع من شيء سواه.
الخير هو القدرة على الحسن مع القدرة على القبيح، وهو الاختيار المطلوب بعد التمييز بين القدرتين.
ولهذا عرفنا من تاريخ الشيطان أنه سقط؛ لأنه أنف من تفضيل آدم عليه وعلى الجان والملائكة أجمعين.
وإنما فضل آدم عليه؛ لأنه عرضة للخير والشر، ولأنه مطالب بالخيرات وهو ممتحن بالشرور.
فضل على الملائكة الذين لا يصنعون الشر لأنهم بمنجاة من غوايته، وفضل على الجان الذين لا يختارون بين نقيضين.
ومن تلك الآونة عرفت وظيفة الشيطان في هذا العالم، وعرفت معها فضيلة الإنسان.
فإنما وظيفة الشيطان أن يثبت عجز الإنسان أمام الغواية والفتنة، وأن يمتحن مشيئته وهو يتردد بين الخير والشر، والمباح والحرام.
وإنما فضيلة الإنسان أن يصنع خيرا وللشر عنده غواية وله في نفسه فتنة، ولولا ذلك لما كان له فضل على الملائكة ولا على الجان.
لا جرم كان تاريخ الشيطان تاريخا للأخلاق الحية في وجدان آدم وبنيه. •••
Shafi da ba'a sani ba
وتمتحن الأخلاق الحية بمحنة المعرفة والجهل كما تمتحن بمحنة الخير والشر، والفضيلة والرذيلة.
فمهما نتخيل من مخلوق قابل لأن يعرف بعد جهل، ويدرك بعد قصور، فليس غير الإنسان مصداق لذلك المخلوق.
ليست الملائكة ولا الجان في صورتها الحية مخلوقات نامية في معرفتها، عالمة ما تعلمه بعد جهله، متقدمة من الطفولة إلى الرشد إلى غاية المدى المقدور لكل مخلوق.
ولكنها في صورتها تعلم ما تعلمه كأنه من خصائص معدنها التي لا تفارقها، فلا اجتهاد لها فيما تعلم، ولا فوات على اجتهادها فيما تجهل، وكل ما أوتيته من علم فلا حيلة لها ولا حول فيه؛ كلمعان النور، ووهجان النار ، ولألاء الجوهر الصافي، وجريان الماء، وخفقان الهواء.
ولا كذلك سليل التراب، إنه ليعلم حتى لتعجب كيف علم، وإنه ليجهل حتى لتعجب كيف جهل، ومن كان قابلا لأن يأتي بالعجب في علمه وجهله فهو مسئول عن هذا وذاك.
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون .
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين .
قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم .
قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون .
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين
Shafi da ba'a sani ba
فليست القداسة أن تكون نورا وأنت نور، وليس الفخار أن تكون نارا وأنت نار.
وإنما القداسة والفخار أن تكون نورا ونارا وأنت تراب، وأن تسبح وتقدس وأنت قادر على الفساد والعدوان.
وكلما ذكرت الأخلاق الحية فقد ذكر تاريخ الشيطان في ثوب الحياة، وقد ذكر تاريخ الغواية والحرية في المطاوعة والاعتصام، وتلك هي الأخلاق الحية كما تعيش في اللحم والدم، وفي القيم والمزايا، فأما الأخلاق في صفحات الورق وفي مصطلحات الباحثين فهي كلمات وحروف وأصداء.
ولم يوجد النوع البشري بصفاته وأخلاقه ليكتبها سطورا على صفحات، ويجمعها أطروحة في قاعة درس، أو سفرا على الرف إلى جانب أسفار.
ولكنه وجد بصفاته وأخلاقه ليحياها ويعيش بين حقائقها، ويعطيها الأسماء التي تدله على تلك الحقائق كما يستقبلها بحسه وشعوره، ويواجهها برجائه وخوفه، وبإقباله ونفوره، وينادى بالاسم من هذه الأسماء فلا يفهمه كما تفهم الكلمة عند المراجعة في القواميس، بل يفهمها حبا وبغضا، وغبطة وندما، ورضوانا وسخطا، وحركة تنبض بها العروق، وسرا يختلج في الأعماق.
وهكذا ينطبع الحي على صفاته وأخلاقه، وهكذا تتعارف عليها الأمم وهي تحيا وتعتلج بالحياة، وهكذا تضطرب بين الأكوان التي لا تحصرها الأوراق ، ولا تحدها الحروف، ولا تحتويها العقول، بل تجيء العقول طارئا عليها، وضيفا في رحابها، وقد مضى عليها في مكانها أدهار بعد أدهار، وأسماء بعد أسماء، ولغات بعد لغات.
الشيطان!
أي مجموعة من الأسفار تؤدي للضمير ما تؤديه هذه الكلمة بقارعة واحدة تنفذ من الآذان إلى الأعماق.
وإلى اليوم يكتب الباحثون ألف مذهب ومذهب، ويلحقون بها ألف «لوجي ولوجي» على غرار السيكولوجي، والبيولوجي، والميثولوجي، وغيرها من اللواحق في الأواخر على اختلاف الصيغ واللغات.
إلى اليوم يفرقون بين الصفات والأخلاق بهذه المصطلحات، فلا يبلغون بها في الحس ولا في الذهن ما بلغه المتكلمون بلغة الحياة ولغة الفطرة ولغة «الهيروغليفية» التي تسبق كل كتابة، وتلحق بكل كتابة إلى آخر الزمان.
Shafi da ba'a sani ba
وقد سمعنا عن الصفات الإلهية، والصفات الملكية، والصفات الشيطانية، والصفات الإنسانية، والصفات البهيمية، والصفات السبعية، فمن لم يفهم هذه العناوين بمدلولاتها الحية فما هو بفاهم شيئا من فوارق الأخلاق يشرحها له ألف عالم، ويسجلها له ألف كتاب.
ولمن شاء أن يرفع هذه الكلمات ويضع في مواضعها كلمات الاصطلاح اللغوي أو الفلسفي من قبيل الأخلاق المثالية، والأخلاق الاجتماعية، والأخلاق النفعية، وأخلاق التقدميين، وأخلاق المحافظين، وما أشبه هذه الكلمات والمصطلحات؛ فإنه لا يحس منها إلا أنها بطاقات معلقة على واجهات أو شواخص لا نبض فيها ولا دم ولا حراك.
ولكنه لأول وهلة يسمع الصفات الإلهية فيفهم أنها أعلى الصفات، ويحس أنه يرتفع بالاتجاه إليها والرجاء فيها إلى أعلى عليين، ويستشرف لها بقلبه، ويتفتح لها بمغاليق سريرته، ويعرفها حقيقة حية، ولا يكون قصاراه من معرفتها أنها مادة في معجم، أو عنوان على مذهب، أو إشارة مرور إلى حيث يسير أو لا يسير.
ولأول وهلة يسمع الصفات الملكية أو صفات الملائكة فيفهم أنها الطيبة والطهارة، والحب والسلامة، ويقابلها في الوقت نفسه بالحنين إليها؛ لسلامتها ووداعتها والعطف عليها؛ لخفاء الشر عليها، واحتجاب أساليب الكيد والخداع عنها.
ولأول وهلة يسمع الصفات الإنسانية فيعرف منها ما يناقض البهيمية والسبعية، ويقابل الإلهية والملكية، ويعرف في الوقت نفسه أن الإنسان قابل للطموح إلى ما يعلو عليه، والهبوط إلى ما ينحدر دونه من صفات الكائنات جمعاء.
ولأول وهلة يسمع الصفات الشيطانية فيفهم أنه في موقف احتراس وحذر، وإن لم يخل من تطلع في أحيان، ومن إعجاب في أحيان أخرى، ولا يضطر إلى مراجعة اللغة أو مراجعة الحكمة ليفهم ما يحذره من الشيطان، وما يستقبله منه بالفكر أو الوجدان؛ فإن هذه الكلمة تقع في موقعها عنده كأنها نقلت إليه الشيء نفسه محسوسا ملموسا، معقولا مدروسا، ولم تنقله منه بإشارة أو عنوان.
وقس على ذلك ما يفهمه من كلمات الصفات البهيمية أو الصفات السبعية، فإنها كذلك تنقل إليه أشياء وأحياء، ولا تنقل إليه حروفا وكلمات.
إن خالق الكون لم يرد بإعطاء الناس حياتهم أن يعطيهم قاموسا أو موسوعة من العناوين والمصطلحات، ففي وسعهم هم أن يعطوا أنفسهم هذه القواميس، وقد أعطوا أنفسهم هذه القواميس فعلا، فإذا هي أكثر الأشياء اختلافا بين قبيل وقبيل، وبين أمة وأمة، وإذا هي برج بابل يمتد على كرة الأرض ولا يزال أبدا في حاجة إلى ترجمان.
ولو كانت هذه المدلولات في اللغات هي الحقائق المقصودة لما كان للمدلول الواحد ألف كلمة في كل لسان.
ولكن هذا النوع الإنساني تلقى وجوده من خالقه حياة تجيش في ضمائره وفيما حوله بالحقائق الحية كائنا ما كانت أصداؤها في عالم الحروف والرموز والإشارات والكلمات والطلاسم، أو في «الهيروغليفية الكونية» على الإجمال.
Shafi da ba'a sani ba
ومن شاء فليبادل إن كانت له الجرأة!
من شاء واستطاع فليعد بالإنسان إلى أوله لينتزع من ذاكرته ووجدانه كل ما أحسه وتعلمه من كلمة الشيطان، أو كلمة الملك، أو كلمة الخطيئة، أو كلمة العصيان، وليضع في مكانها ما يقترحه في تصريف اللغة ومصطلحاتها مفسرة ميسرة، محكمة مقسمة، ولينظر ماذا صنع بالإنسان فيما مضى، وما يصنع به فيما بعد، فإنه قاتله وملقيه في مقبرة من قاموسه الجليل.
من كانت له الجرأة، وكانت لديه القدرة، فليبادل ولينظر فرق ما بين كلماته ومصطلحاته ومدلولاته، وبين هذه «الهيروغليفية» الكونية التي هي الكلام، وهي متكلموه، وهي المحسون به وفاهموه.
وليقف خاشعا مستعيذا «بالشيطان» من الغرور.
وليرجع في أمان هذه «المعوذة» إلى تاريخ الشيطان؛ ليعلم منه تاريخ الأخلاق الحية وتاريخ الإنسانية الخالدة.
فإذا كان لا يدرك تاريخ الأخلاق الإنسانية حقا وصدقا إلا من تاريخ الشيطان، فلا ينكرن هذا الاسم، ولا ينكرن وجوده من باب أولى.
إنه وجود أرسخ من وجود الإنسان.
ومن لم يكن في وسعه أن يدرك ما وراء هذه الحقيقة، فأحرى به ألا يتطفل على الوجود والعدم، والحياة والموت، والحق والباطل، والعلانية والخفاء، والظواهر والأسرار، فكل أولئك له معناه الذي لا يدركه ولا يدريه.
وسنكتب فيما يلي تاريخ الشيطان؛ لنستخرج منه تاريخ الأخلاق الإنسانية كما تشخصت في ثنية الحياة، ونركب عليها بعد ذلك ما يوافقها أو يلافقها من مصطلحات القاموس!
الفصل الأول
Shafi da ba'a sani ba
قبل الشيطان
قبل شيوع صورة الشيطان كانت بديهة الإنسان تملأ العالم بأشتات لا تحصى من الأرواح والأطياف.
وكان من هذه الأرواح والأطياف ما يخفى ولا يظهر لأحد، ومنها ما يخفى على أناس ويظهر لآخرين بالرقى والعزائم، ومنها ما يتلبس أحيانا بالأجسام ويظهر لكل من لقيه في مأواه.
ولم يكن الإنسان يقسم هذه الأرواح إلى ذات خير وذات شر؛ لأنه لم يميز بين الخير والشر إلا بعد معرفته بصورة الشيطان كما تقدم.
وإنما كانت هذه الأرواح تنقسم عنده إلى أرواح مصادقة أو أرواح معادية، وإلى أرواح نافعة أو أرواح ضارة، وإلى أرواح سهلة أو أرواح عصية، فلا فارق بينها عنده غير درجة الصلح والعداوة، أو درجة الفائدة والأذى، وأما طبيعة الخير وطبيعة الشر فقد جاءت بعد مراحل كثيرة في طريق الإيمان بالأرواح.
والاختلاف بين الشر والضرر بعيد.
فالشر لا يصدر منه خير بإرادته، ولكن الضرر قد يصيب أناسا ولا يصيب آخرين، وقد يأتي من عمل ولا يأتي من عمل غيره، وقد يكون الضار بهذا نافعا لذاك، فليست هناك طبيعة تسوقه إلى الشر في جميع الأحوال، بل هناك أحوال متعددة، وأعمال منوعة، وشأن الأرواح في ذلك شأن الناس من حوله بين قوم من قبيلة وقوم من أعدائها ، أو بين قوم من خاصته في القبيلة، وقوم ينفر منهم وينفرون منه لأسباب عارضة أو باقية لا ترجع إلى أصالة في الطباع.
وقد يصح تشبيه عالم الأرواح عنده بعالم الغاب أو عالم السباع والحيوان.
فالغاب فيها النمر والثعبان، وفيها البلبل والعصفور، ومن حيوانها ما يأمنه ولا يخشاه، وقد يتألفه ويستخدمه في مصالحه ويشركه في مسكنه، وقد يكون عنده الكلب الأنيس، وفي الخلاء الكلب المستوحش العقور، وقد يكون عنده الحصان الداجن، وفي الخلاء الحصان الجامح الذي لا نفع منه ولا ضرر، وجملة الفوارق بينها مسألة أحوال وأحيان، أو أحوال رياضية واستعصاء.
وهكذا كان عالم الأرواح في الهمجية الأولى: كان عالم فائدة وضرر، أو عالم هوادة واستعصاء، أو عالم صداقة وعداوة، فأما عالم الخير الأصيل أو عالم الشر الأصيل فلا تتمثل له صورة في بديهة الإنسان قبل انقسام الطبائع، وتباين الأقيسة والموازين بين الأعمال والأخلاق.
Shafi da ba'a sani ba
ويدل على أصالة الإيمان بالأرواح في بديهة الإنسان أنها وجدت في كل سلالة بشرية من السلالات التي نشأت في القارات المتقاربة، فتعلم بعضها من بعض في مسائل الدنيا والدين، أو من السلالات التي وجدت في الأمريكتين منعزلة منذ أدهار لا تعرف لها بداءة، فهي لم تتعلم تلك العقائد من غيرها، ولم ترجع بها إلى مصدر معروف في العالم القديم.
ووجدت هذه العقيدة على أكثرها في الجزر الأسترالية المتباعدة، كما وجدت عند حوض الأمازون في أمريكا الجنوبية، أو وجدت في أفريقية الجنوبية أو الشرقية التي يقال إنها مهد الجنس البشري قبل سائر القارات، ويقال مع ذلك إنها تلقت أفواج المهاجرين من الجنس القفقازي قبل فجر التاريخ.
والمهم في هذا الشيوع أنه أصيل في البداهة الإنسانية، وأنه لم يكن من تدجيل الكهان والسحرة كما يخطر لمن يسهل عليهم أن يفسروا كل شيء بالدجل والخداع.
ويكاد الشبه بين الأرواح في القارات المتباعدة أن يكون أقرب من الشبه بين الآدميين أنفسهم في تلك القارات، فالكائن الروحي في الجزر الأسترالية أشبه بالكائن الروحي في أمريكا الجنوبية من الأمريكيين الأصلاء والأستراليين الأصلاء، وليس بين روح وروح في الأقطار المتنائية ذلك الاختلاف الذي يعتري الألوان والأشكال من فعل الجو والتربة والماء والهواء، فإنك قد تنقل الأسترالي من الجزر إلى أمريكا الجنوبية فيشعر فيها بالغربة، ويريبه من قومها ما يريبه من الغرباء، ولكنك إذا نقلت روحا من هناك إلى هنا أو من هنا إلى هناك لم تجده على غرابة في عالم الأرواح، ولم تكن بينه وبين العالم الذي انتقل إليه فجوة من الجنس واللون واللغة أبعد من الفجوة التي بينه وبين سائر الأرواح في وطنه الأصيل، وإنها لظاهرة جديرة بالتنبه لها والتوقف عندها في علم المقارنة بين الأديان؛ لأنها قد تفضي بنا إلى الوقوف على سليقة دينية شديدة التقارب بين الأجناس والأقوام، وليس مصدرها من الخيال وحده؛ لأن مخلوقات الخيال وحده بعيدة الفوارق بين أساطير الأمم في الإقليم الواحد، فضلا عن شتى الأقاليم.
وقد كتب الرحالون والبحاثون عن القبائل الفطرية التي وجدوها في القارات الخمس خلال رحلاتهم إليها منذ أوائل القرن الثامن عشر، الذي نشأت فيه علوم المقابلة بين العقائد والسلالات، فإذا قدرنا أنها تغيرت مع الزمن منذ النشأة الأولى قبل عشرات الألوف من السنين، ورأينا بعد هذا التغيير مقدار التشابه بينها في العصر الحاضر، كان هذا التشابه حقا أجدر شيء من الباحثين بالالتفات إليه؛ لأنه دليل على أن وحدة السليقة الدينية أقرب جدا من وحدة القريحة والخيال؛ إذ ليست أساطير الفنون على درجة من التشابه تقارب ذلك التشابه بين الأرواح والأطياف في الأديان والمعتقدات.
إن الدين أعمق في كيان الإنسان من الخيال الذي يولد الأساطير، ويخلق أشباح الفنون، وقد يكون التقارب بين الأصلاء من الأفريقيين والأمريكيين والأوروبيين والأستراليين ملحوظا في تقارب الأوصاف بين الأرواح والأطياف؛ حيث لا يلحظ التقارب بين المصنوعات اليدوية نفسها من الأدوات وآنية الفخار، وهي المصنوعات التي تقاس بها طبقات العصور، ويحسبها الكثيرون على مثال واحد في كل عصر من العصور الحجرية، أو عصور المرعى، أو العصور النحاسية، ولكنها على كونها محسوسة يحكمها النظر واللمس، وتوحي بها المنفعة والحاجة المتكررة، لم تبلغ من التقارب والتشابه ما قد بلغته ملامح الأرواح والأطياف.
وقد تخصص لكل إقليم من أقاليم القارات رحالون مستقلون في دراساتهم للأحياء، وتنقيبهم عن الآثار، فيكتب عن الجزر الأسترالية أناس غير الذين يكتبون عن القارة الأفريقية، ويكتب عن سهوب آسيا الشمالية طائفة غير هؤلاء، فهم لا ينقلون بعضهم من بعض، ولا يرجع بعضهم إلى بعض في تسجيل المشاهدات وإثبات الكشوف التاريخية، ولكنهم يعرفون المشابهة بين العقائد حين يرجعون إلى المقارنة والمقابلة، ويستخلصون منها ما يستخلصون من وحدة الأصول.
ولهذه المشابهات يقرأ القارئ عن «أرواح» إقليم من الأقاليم فلا يضيره كثيرا أن يخطئ فيحسبها أرواح إقليم آخر؛ لأنها بمثابة النبات الذي يصح زرعه على طول السنة في جميع الأرضين، فيزرع في هذا الموسم أو ذاك، وفي هذه البقعة أو تلك، بغير اختلاف كبير في طريقة الفلاحة والحصاد.
يقول باريندر “Parrinder”
في كتابه عن النحل التقليدية في أفريقية: «إن الأرواح يمكن أن تتخذ مساكنها في كل شيء من أشياء الطبيعة؛ على كل قمة، وفي ظل كل شجرة خضراء، وأن التلال والصخور البارزة أحرى أن تكون مأوى للأرواح القوية ...
Shafi da ba'a sani ba
إلى أن يقول: وفي الآجام المتشابكة العميقة تسكن الأرواح والأطياف ذوات الخطر والأذى ... وحيوانات الغاب - أو سكان الأرض - كثير منها حرام على هذه القبيلة أو تلك ... فإذا قتل أحدها وجبت الترضية له، أو يظل في مطاردة القاتل طيفا لا يفر منه.»
ويقول شارل واجلي “Wagley”
في كتابه عن «بلدة الأمازون» من أمريكا الجنوبية: «إن بعض القردة تخاف في أعماق الغاب، وتحسب قردة الجريبة “Guariba”
آفة سحرية وبيلة، وبعضها له قدرة على اختلاس ظل الإنسان ... وأشهر أطياف الغاب وأرواحها الكاروبيرا التي تشبه إنسانا قزما، ويقال إن أقدامها ملتفتة إلى ورائها، وهي تعيش في أعماق الغاب، ومنها تسمع صرخاتها الطويلة المزعجة، ويقال إنها مغرمة بشراب الروم والتدخين ...
ثم يقول: وطيف آخر من الأطياف الخطرة يدعى «مات تابريرا» يظهر في المدن ولا يظهر كالأطياف الأخرى في الغابات والأنهار ... وأصل الاعتقاد فيه على ما يظهر منقول من الديار الأوروبية.»
ويتكلم مالنوسكي “Malinowsky” ، علامة الدراسات الإنسانية، عن الجزر الأسترالية فيروي قصة الروح التي تسمى عندهم «بلوما»، وتذهب بعد مفارقة الجسد إلى جزيرة أخرى كأنها العالم الآخر. وهم يعتقدون أن الأشياء لها أرواح تنتقل منها إلى حيث تسكن أرواح الموتى، فيزينون جسد الميت بكل ما كان يزدان به في الحياة؛ ليجرد منه روحه ويبقى بقيته المحسوسة. وقد يظهر للميت طيف يسمى «كوسى» يخاف لقاؤه، ولكنه يداعب الناس ولا يبالغ في إيذائهم، وحيثما سمع صياحه وجبت له الترضية والمبالاة.
وقد يخشى القوم هناك أطيافا أخرى لها علاقة بأرواح الموتى يتخيلونها دائما في صورة العجائز القباح، وقد يشيرون إلى عجوز حية معروفة فيقولون عنها: إنها قد أصبحت واحدة من تلك الأطياف ذات العلاقة بالموتى، وإنها تعاشرهم بقوة السحر وحيل التعاويذ.
وأفضل المراجع التي يعتمد عليها في فهم العقائد البدائية تلك الرحلات التي يكتبها طائفة من العلماء عاشوا بين القبائل، واختلطوا بها في جميع أطوار معيشتها، فعرفوا عاداتها بالمعاشرة على فطرتها، ولم يعرفوها بالسؤال والتحقيق على منوال الرحالين الذين يذهبون إليها لدراسة علم الأناس، أو تطبيقه عليها.
ومن هؤلاء العلماء الذين عاشوا زمنا بين القبائل في أفريقية الوسطى الطبيب المشهور «ألبيرت شويتزر»، صاحب جائزة نوبل منذ خمس سنوات، ويؤخذ من مذكراته أن أخوف المحظورات عندها هي التي ترتبط بأهم المراحل في حياة الإنسان؛ وهي: الولادة والمراهقة والموت، فقبل الولادة تطيف الأرواح بالأب وتلقنه في الرؤيا أو الإيحاء أسماء الأشياء التي ينبغي للوليد أن يتجنبها في حياته، وإلا أصابه الأذى من الأرواح المطيفة بالمكان، وعند المراهقة يحاط الصبية بالمراسم والعبادات التي تفرضها كل بيئة على حسبها. وأشق ما عاناه الطبيب من عادات القوم حذرهم من مقاربة أجساد الموتى، وهو محتاج في مستشفاه على الدوام إلى حمل هذه الأجساد ومواراتها.
ويؤخذ من مشاهدات هذا الطبيب في جواره أن المحظورات خاصة وعامة، فمنها ما يحرم على إنسان واحد ولا يحرم على غيره، حسبما جاءه الوحي من أبيه أو كاهنه، ومنها ما يعم القبيلة جميعا ولا يستثنى فيه أحد منها، ويقول الطبيب: إن بعض المنذورين لهذه المحرمات قد يأتي شفاؤهم من الوهم الذي غلب عليهم بعد إنذارهم بتحريم بعض المطاعم، واجتناب بعض الأدوات، فاجترءوا على مخالفة المحظور وسلموا من العاقبة، ولكنهم تخلصوا من عقيدة بعيدة، ورسخ في أخلادهم أن الروح الذي أطلقهم من عقال المحظور أقوى من الروح الذي حظره عليهم، فهو لا يستطيع أن يتعقبهم بالأذى وإن خالفوه جهرة؛ لأنهم دخلوا في حماية روح آخر أقوى وأعظم وأحرى بالمبالاة والاتباع.
Shafi da ba'a sani ba
وقد دخلت هذه الأرواح والمحظورات في حساب السياسة كما دخلت في حساب العلم، فقررت اللجنة البرلمانية التي أوفدتها الحكومة إلى أفريقية الشرقية لتحقيق أسباب الثورة فيها: أن «دراسة النفسية» التي تنطوي عليها عبادات جماعة الماو ضرورية لاستقصاء أسباب السخط وعوامل الثورة، وعقب الأستاذ ماكس جلكمان “Gluckman”
على هذا التقرير بفصل مجمل عن أصول العقيدة بين القبائل، فروى عنها أنها تؤمن بإله عظيم خلق العالم ثم تنحى عنه، وأنه سمع من أناس في قبيلة الباروتس “Barotse”
على نهر الزمبيزي الأعلى أن الإله تخلى عن الأرض، ولاذ بالسماء حيرة من كيد الناس وشطارتهم وأفانين احتيالهم، ولم يبق لهذا الإله الآن من عمل يستطيعه مع البشر غير مجرد العلم بأخبارهم، فهم يقولون كلما سألتهم عن مكان بعيد: إن الإله نيامبي “Nyambe”
أعلم وأدرى، ويدعي زعماء القبيلة أنهم ينتمون إلى هذا الإله من ذريته التي ولدتها له بنته قبل أحد عشر جيلا، فملكت على القوم في مكانه، وهذا سر من أسرار الطاعة للزعماء، والثورة على الأجانب والمستعمرين. •••
ويرى جلكمان أن المراسم والشعائر حلت بين القبائل الأفريقية محل الصلوات المكتوبة والفرائض المسجلة؛ لانعدام الكتابة في تلك القبائل، فكل علاقة لها شعائرها ومراسمها، وكل حركة تتحركها القبيلة كلها أو بعض أفرادها طلبا للصيد، أو انتجاعا للمرعى، أو زحفا للغارة على عدوها تتطلب منها الزلفى إلى بعض الأرواح، والحذر من بعض الأرواح الأخرى، وتلجئها إلى اتخاذ المراسم والشعائر المتوارثة في أجدادها.
وكل ما يصيب الإنسان فهو من كيد روح، أو دسيسة ساحر، أو من عالم «وراء الطبيعة» على الإجمال؛ فإذا وطئ فيل إنسانا فقتله، فالأفريقي يفهم أن قوة الفيل أكبر من قوة الإنسان ولهذا استطاع قتله، ولكنه يسأل بعد ذلك: لماذا كان هذا الإنسان هو المقتول ولم يكن إنسانا غيره؟ أليس هناك سر يرجع إلى تدبير ساحر، أو نقمة روح غاضب، أو مشيئة كائن مما وراء الطبيعة؟ وهكذا تلتقي الأسباب الطبيعية المعروفة بالأسباب المجهولة مما وراء الطبيعة، ولا يحس الإنسان السلامة من الكائنات المحجوبة بحال من الأحوال.
وقد تزول العقائد بانقضاء الزمن عليها، ولا يزول السحر وأسالبيه الموافقة والمضادة التي تلجئ الأفريقي من ساحر إلى ساحر؛ ليبطل رقيته، ويفسد مكيدته، فلا ملاذ عندهم من السحر إلا إلى سحر مثله أو أشد منه، ولا تعليل عندهم لمصيبة يبتلون بها إلا أن تكون من كراهية عدو يستعين بالسحرة، ويستمد قدرته على النكاية من الأرواح.
1 •••
وقد حاول الرحالون والباحثون في الأجناس البشرية أن يرجعوا بالاعتقاد في الأرواح إلى مصدر مفهوم، فلم يتفقوا على مصدر واحد، ولم يصلوا إلى قول متفق عليه يصلح لتفسير كل حالة، وتعليل كل عقيدة.
فمنهم من يرجع بعقيدة الأرواح إلى الأطياف التي يراها الهمجي في منامه، وإلى الأحلام التي يرى فيها أنه انتقل إلى مكان بعيد وهو لم يبرح مرقده في بيته، فيخيل إليه أن الأطياف تتحرك في الظلام، وتترك الأجساد إذا هدأت حركتها لتجول هنا وهناك حيث تشاء، وأن الذي يحدث في حالة النوم يحدث في حالة الموت، فيسكن الجسد ويبلى، ويتحرك الروح الذي فارقه بفراق الحياة.
Shafi da ba'a sani ba
ومنهم من يرجع بهذه العقيدة إلى طبيعة الاستحياء، أي إلى الطبيعة التي تخيل إلى الهمجي أن الأشياء ذات حياة مثله، فيعاملها كما يعامل الأحياء، ويرضى عنها أو يغضب عليها كالطفل الذي يضرب الأرض إذا صدمته حين يسقط عليها، أو يشعر بالراحة حين نضرب الأرض أمامه ونعاقبها بجريرة سقوطه عليها، وإصابته من صدمتها.
وتتمكن هذه العقيدة في خيال الهمجي مع نقص اللغة، وخلطه بين الحقيقة والمجاز في تعبيراتها، فإذا سمع أن الأرض ولدت عيون الماء، وأن أباها انحدر من سحاب السماء لم تزل هذه الصورة تتجسم مع الزمن حتى تنشأ منها أسرة لها أب وأم وأبناء، ولها مشيئة يلقاها بالتوسل والرجاء، أو بالسخط والإعراض.
ومنهم من يرجع بعقيدة الأرواح إلى عبادة الأسلاف بعد الموت، وقد يحدث أن يسمى السلف باسم حيوان كالأسد أو النمر أو الثعلب أو النسر أو الصقر، فيحسب أبناؤه مع طول الزمن أنهم تحدروا من ذلك الحيوان، ويجعلون له قداسة مرعية توجب عليهم أن يحرموا قتله، وأن يتوقعوا الضرر والسقم إذا قتله أحد منهم أو من غيرهم ولم يأخذوا بثأره.
ويكاد علماء الأجناس والعادات البشرية أن يجمعوا على إيمان القبائل الفطرية بإله واحد أكبر من هذه الأرواح المتعددة، وأخفى منها في ظواهر الطبيعة.
وقد تقدم من كلام جلكمان أن القبائل في أفريقية الشرقية تؤمن بالإله نيامبي، الذي ارتقى إلى السماء حيرة من كيد الناس وشطارتهم وأفانين احتيالهم، وهذه العقيدة على الأرجح من بقايا عبادة الأسلاف التي يختلط فيها التاريخ بالخرافة، وأصلها على هذا الظن متصل بوحدة القبائل في جدها الأعلى، فهو ربها جميعا حيثما اختلفت أربابها، وتعددت الأرواح المسيطرة عليها، وقد جردوه من القدرة، وتركوا له صفة العلم والدراية كأنه الأب الشيخ الذي اعتزل العمل والقتال فلا طاقة له بمنع العداوة بين ذريته من القبائل المختلفة.
ولم ينفرد جلكمان بقصة هذا الإله الواحد الذي تشترك فيه القبائل المختلفة في أفريقية الشرقية؛ فإن الرحالين جميعا متفقون على إيمان القبائل الأسترالية برب فوق الأرباب يسمى «نانا»، أو يسمى بأبي الجميع “All father”
على مثال نيامبي في القبائل الأفريقية.
ويتفق الرحالون كذلك على إيمان الأقزام الأفريقيين برب فوق الأرباب، تشترك فيه القبائل وإن تعذر عليها الوفاق فيما بينها. ولم يجد علماء الأجناس قبيلة فطرية بلغت من ارتقاء الإدراك أن تؤمن بالتوحيد على صورته المثلى، ولكنها تقترب من هذه الصورة كلما ارتقت من فوضى العقيدة إلى مرتبة أعلى وأجمع من مراتب النظام. •••
وليس الهمجي جبانا؛ فإن الجبن بين الأخطار المحدقة به أضر به من الشجاعة، وقد عودته مواجهة السباع والحياة أن يواجهها علانية، وأن يصارعها وينصب لها الأحابيل، ويستخدم السلاح المستطاع فيما يعييه أن يتغلب عليه بالمصارعة، ولكنه بين الأرواح والأطياف أمام خطر مستور لا يدري من أين يأتيه، ولا تكون الغلبة عليه بقوة البدن والسلاح، ولعله لا يريد أن يتغلب عليه؛ لأنه عنده في حكم الأب أو الرئيس المطاع، ورياضته بالحيلة أولى من التصدي له بالأسلحة والفخاخ.
ولا بد من مواجهة تلك الأرواح والأطياف بما يكف غضبها، ويدفع أذاها، ويستجلب رضاها.
Shafi da ba'a sani ba
ولا بد مما ليس منه بد في النهاية، فأما السكوت عنها فلا يطاق، وأما الصراع معها فلا يجدي فيه البأس، ولا تصلح له الشجاعة، فكانت حيلة السحر هي الحيلة التي انتهى إليها، ولم يكن له بد منها بحال.
وتخصص السحرة لرياضة هذه القوى التي لا ترضى بالأيدي والهراوات أو الحراب.
وظهرت البداهة الإنسانية في هذا التخصص كما تظهر عند الاضطرار إليها في توزيع جمع الأعمال.
فلم يكن السحرة المتخصصون لرياضة الأرواح والأطياف أناسا ممتلئين بالحياة، صالحين للكر والفر والصيد، واقتناء النسوة، وإنجاب الأولاد، بل كانوا على نقيض ذلك أمساخا عزلتهم الحياة، أو انعزلوا بعد اليأس من مجاراتها في مطالبها، ولاح بينهم وبين عالم الخفاء شبه مناسب يعقد بينهما العلاقات الغامضة، ويقرب لهما وسائل التفاهم، ويوقع في النفوس أثرا واحدا من التوجس والتساؤل والريب فيما وراء الظواهر والمألوفات.
وقد شهد الدكتور شويتزر “Schweitzer”
ترشيح بعض السحرة، وقال في مذكراته الأفريقية: «إن الدميم السيئ لا مطمح له في الحصول على امرأة يتزوجها، فإن كبراءه لا يشترون له امرأة لنفورهم منه، ويكون أبوه قد مات فيمتلئ بالمرارة، ويتحول إلى السحر للانتقام من قومه.»
وقالت الدكتورة روث فلتون بنديكت “Benedict” : إن بعض قبائل كليفورنيا من الهنود الحمر يتطلبون علم الغيب ممن يصابون بالصرع، ويتعرضون للغيبوبة في بعض نوباته، وأنهم يفضلون النسوة المصروعات، ولكنهم لا يقصرون الكهانة عليهن، وقد يكون الرجل المختار متأنثا بطبعه لا يصلح للزواج، ويلبس لباس النساء مدى الحياة.
2
ووصف الأب هنري كلوي “Callawey”
برنامج إعداد الساحر لوظيفته فقال: إنه قد يبدو في أول الأمر قويا سليما، ولكنه يهزل شيئا فشيئا، ويصبح في عرف القوم «ناعما»، ويعنون بذلك أنه يصبح عرضة للانفعال والتأثر، ويصوم عن بعض الأطعمة ويتأذى ببعضها، وتطرقه الأرواح والأطياف في منامه، ويهدده بعضها بالموت، ويقول العرافون: إنه يوشك أن يملكه روح تتصرف به على حكم الأرواح، وفي هذه الحالة يصاب أهل القرية بالأرق ويتساءلون عما أصابهم؛ لأن وصول الساحر إلى منزلة «الأنيانجا»، أي الملهم المكشوف عنه الحجاب، حالة لا تمر في المكان بسلام.
Shafi da ba'a sani ba
3
ولا تنفصل وظيفة الكاهن ووظيفة الساحر في مبدأ الأمر، فالكاهن الذي يقوم بمراسم العبادة، هو الساحر الذي يدفع أذى الأرواح والأطياف ويستجلب رضاها، ويسخرها في المآرب التي يختارها، ثم ينفصلان شيئا فشيئا، فيصبح عمل الكاهن غير عمل الساحر، أو يجمع الرجل الواحد بين الوظيفتين، ولكنهم يقصدونه لكهانته في أغراض معلومة، ويقصدونه لسحره في غير تلك الأغراض.
والغالب أن السحر يراد لمصلحة خاصة أو لإلحاق الضرر ببعض الأعداء، ويعمد فيه الساحر إلى الوسائل الخبيثة، ولا يكون عاما شامل النفع في جميع الأحوال، وتستخدم فيه أرواح منقطعة للأذى والضرر تعودت أن تتآمر على النكاية والنقمة، وأن تستجيب لمن يؤدي لها الأجر، ويتقدم لها بمراسم الشعوذة والأعمال الخفية.
ويلاحظ أن الكاهن قد يكون رئيسا للقوم وكاهنا يؤمهم في الصلاة والعبادة في وقت واحد، ولكن الساحر لا يصل إلى هذه المكانة إلا أن يكون السحر عملا مضافا إلى الكهانة، أو فرعا من فروعها التي لا ترتقي إلى مرتبة الصدارة.
ويلاحظ كذلك أن السحرة مشوهون أو مصابون بالآفات، وأن أدوار النساء العجائز بينهم شائعة غير مهملة، وكلهم بين رجال ونساء غير أهل لحياة القوة والصلابة والمتعة والظهور، وكأنما السحر لديهم عوض عن نصيب مفقود.
وليست الكهانة على الجملة من هذا القبيل، فإن الكاهن قد يكون من أقدر الناس على الجد والوجاهة والمتعة بالرغد والملذات.
ويسبق إلى الظن أن السحر والكهانة كلها خداع في خداع من تلفيق السحرة والكهان، ولكنه ظن خاطئ غير معقول؛ لأن السحرة والكهان على اتصافهم بالذكاء والدهاء قد نشئوا بين أقوام توارثوا العقائد، واحتفظوا بكثير من العادات التي توهموا أنها كانت نافعة لمن قبلهم وأنها تنفعهم اليوم إذا أحاطوا بعلمها وحذقوا تجاربها، وربما لام الساحر نفسه إذا قصر في بلوغ ما يطلبونه منه، واجتهد في علاج ذلك القصور بتكرار التجربة أو سؤال الأقدمين الذين سبقوه في الصناعة، وهو بطبيعة عمله لا يستغني عن الخداع والتلبيس في معاملة قومه، ولكنه لم يكن قط خادعا في كل شيء، ولا يزال خادعا مخدوعا في جوهر السحر كله، وهو الإيمان بفعل الطلاسم وقوة الأرواح.
وكلما انفرجت المسافة بين وظيفة الدين ووظيفة السحر ترقى الإنسان الفطري من فوضى الأرواح والأرباب، ونبذ التسوية بينها، وتعود التفرقة بينها فيما يطلبه منها؛ فمنها ما يقصده للنفع كما يقصده جميع أبناء القبيلة، ومنها ما يقصده ليتواطأ معه على الإجرام والنكاية كأنه بعض الشطار الذين يعيشون اليوم بتأجير أنفسهم للنكاية والعدوان.
ويحدث في هذا الطور من التمييز بين الأرواح والأطياف أن تعرف بأسماء، وتوسم بملامح، وتتلبس «بشخصيات»، وتتخصص كل «شخصية» منها لرسالة تتجرد لها، وتقدر عليها حيث لا يقدر سواها.
وفي هذا الطور أو هذه المرحلة يتهيأ الذهن للتمييز بين عمل الإله وعمل الشيطان.
Shafi da ba'a sani ba
أنواع ودرجات في الحرام والمحظور
تكاد المحرمات في القبائل البدائية أن تربي على المباحات والمحللات؛ لأن المحرمات تشمل القداسة والنجاسة والعصيان والاحتقار والاستقذار، فهناك أمور محرمة لأنها عظيمة مبجلة، وأمور محرمة لأنها نجسة أو مشئومة، وأمور محرمة لأن إتيانها عصيان لرب معبود أو روح قدير، وأمور محرمة لأنها تحتقر وتعاف.
وعدد هذه المحرمات في جملتها كثير يكاد يشمل كل عمل يزاوله الإنسان الفطري، بل ربما كان المباح نفسه داخلا في التحريم على وجه من الوجوه؛ لأنه لا يباح إلا بصلوات وشعائر يعرفها الخبراء، ولا تعم معرفتها كل أحد؛ كالصيد والزرع والحصاد وما شابهها من أعمال الجماعة أو الفرد؛ فإن الخوف من الإقدام عليها بغير صلواتها ورسومها يجعلها في حساب المحظورات.
وقد ترقى الإنسان وترقت معه اللغة، ولم تزل في تعبيراته آثار للتقابل بين القداسة والنجاسة في الممنوعات، فكلمة الحرمة في اللغة العربية تدل على الشيء العزيز العظيم الذي يصان ويحمى بالأرواح والأموال، وقد يشمل الحرام كل إثم يعاب أو يعاف.
وكلمة المنيع أو الممنوع تدل على القوة والرعاية، كما تدل على الرذيلة التي يجب على المرء أن يمتنع عنها ولا يقترب منها.
وكلمة القديسين والقديسات كانت تطلق عند البابليين والكنعانيين على الذكور والإناث الذين ينصبون أنفسهم للبغاء في حرم الربة «عشتروت» أو السارية، وقد ترجمت هذه الكلمة في كتب العهد القديم بكلمة المأبونين والزانيات، وهي في الأصل من القديس أو المقدس، ويقال عن الربة نفسها: إنها كانت خليلة الأرباب ولدت منهم سبعين إلها «إيليم».
وفي القبائل البدائية ثلاثة أنواع من المحرمات المقدسة؛ وهي: «الطوطم»، والوثن أو التعويذة، والتابو أو الحرام الممنوع.
فالطوطم “Totem”
هو الحيوان الذي تحرم القبيلة قتله وصيده لاعتقادها أنها تناسلت منه، أو لأنها ترمز به إلى معبودها وأصل وجودها.
والوثن أو التعويذة - وهو الذي اصطلح علماء الأجناس على تسميته بالفتيش “Fetish” - شيء جامد مصنوع أو طبيعي يحمل في أطوائه روحا لها حق الرعاية والتوقير، ومنها يستمد المرء حماية ومنعة ما دام على شرعتها في المباحات والمحظورات. وقد يكون الوثن صورة أو حجرا أو حصاة أو قطعة من جذع شجرة، أو ألفافا من الشعر وعروق الشجر وما إليها، يصنعها السحرة أو يصنعها الكبار للصغار.
Shafi da ba'a sani ba
والمحظور التابي أقل درجة من الطواطم والأوثان؛ لأنه قد يتفرق ويتخصص فيكون حراما عند بعض الناس حلالا لغيرهم في البيئة الواحدة، بل قد يكون مستحبا مطلوبا لمئات من الناس ولا تحريم فيه على غير آحاد معدودين. وقد روى الدكتور شويتزر ضروبا من هذه المحظورات لا مرجع لها غير التحكم من بعض الأرواح المزعومة التي تكشف عن إرادتها قبل وضع الجنين، فتخبر أباه في الرؤيا باسم «التابو» الممنوع على الوليد.
فمن هذه المحظورات أكل بعض الطلح أو البذور، ومنها ضرب الوليد على ظهره، ومنها حمل المكنسة أو بعض الآنية. ولا تكذب النبوءات في شأن «التابو»، بل يصدقها القوم كل التصديق حتى لتقبل عقولهم أن الوليد يولد ذكرا ثم يتحول إلى أنثى إذا خولفت نبوءة أو علامة مرصودة، ويفعل الوهم هنا فعله القاتل الذي لا تجدي فيه النصيحة ولا الإقناع، ففي ناحية «سمكينا» رأى الطبيب صبيا في مدرسة البعثة أنبأه رفاقه أنه أكل من إناء طبخ فيه الطلح قبل ذلك ولم يغسل، وكان الطلح محظورا على الصبي بنبوءة آبائه، فلم يكد الصبي يسمع الخبر حتى تشنجت عضلاته ولزمه التشنج إلى أن مات بعد ساعات.
وتحيط هذه التابوات كثيرا بعلاقات الجنسين وبلوغ سن المراهقة في الذكور والإناث، فيندر بين قبائل الأرض البدائية أن ترى قبيلة خلت من مراسم المراهقة ومحظوراتها الكثيرة، فتعزل الفتاة ولا تكلم أحدا غير أمها، أو لا تكلمها إلا بصوت خفيض، ويؤخذ الصبي بعيدا من بيته ليغسل في العيون المقدسة من روائح الأنوثة التي لصقت به من مصاحبة أمه، ويجري له الكهان أو كبراء السن شعائر الفطام، ومنها في بعض قبائل الهنود الحمر أن يفارق أمه زمنا، أو يدخل الكوخ وهي مستلقية على بابه فيطأ على بطنها علامة الانفصال في موضع حمله حيث اختلط بجوف الأنثى وهو جنين.
وتدل الشعائر الموروثة منذ القدم على جهل مطبق بأسرار الجنس والولادة، وربما تبين من تلك الشعائر أنهم ينوطون نسبة الابن إلى أبيه بالمراسم والشعائر، ولا يعتقدون أن مجرد الاتصال بين ذكر وأنثى يحقق الولادة والنسبة إلى الآباء؛ ففي بعض القبائل يفرض العرف على الرجل أن يقدم زوجته لضيفه الغريب، ولا يمنعه ذلك أن ينسب أبناءها جميعا إليه؛ لأنه هو الذي جرت بينه وبينها مراسم الزواج.
ولا يعجبن أبناء هذا العصر من تلك الخرافات التي تحيط بالجنس ومراسم النسبة بين الأبناء والآباء، ففي عصرنا هذا من يعتقد أن الولد من نسل الشيطان إذا ولد من غير زواج مشروع. وقد صدرت المنشورات من رجال الدولة ورجال الدين بعد كشف أمريكا الجنوبية وشيوع الأمراض الزهرية في العائدين منها، فكان فحواها جميعا أنها عقوبة على خطايا الشيطان. ولما انتشرت عدواه بين المتزوجين والمتزوجات في أواخر القرن الخامس عشر؛ أصدر الإمبراطور مكسميليان منشورا ندد فيه بالحضارة، وأنذرهم بالتوبة أو تدوم هذه الضربة السماوية عقوبة لهم على العصيان.
4 •••
وتتفق جميع المحرمات البدائية على تفنيد مذهب المؤرخين الذين يقولون عن الديانات ومحرماتها ومباحاتها إنها حيطة اجتماعية، تهتدي إليها بديهة المجتمع لمنع الجرائم ومعاقبة المجرمين، وحماية الأبرياء من عدوان المجرم والإجرام؛ فكل هذه المحرمات إنما ترجع إلى شيء واحد؛ وهو إغضاب رب أو روح، وتخطي الحدود التي تمنعها الأرباب أو الأرواح، ولها كلها علاقة بعالم الخفايا والأسرار وما نسميه اليوم بعالم ما وراء المادة؛ لأنه لا ينحصر في المحسوسات المادية.
وأما الجرائم وعقوباتها فهي أعمال مفهومة مقصودة ترجع إلى الأسباب الطبيعية التي يحيط بها علم الإنسان كما تحيط بها إرادته، وهي تعالج بالقصاص المقدر وبالثأر والانتقام وأداء الغرامة والدية، بل يستمد الثأر قوته أحيانا من عالم الروح، كما يقال عن روح القتيل في قبائل الجاهلية العربية إنها لا تزال هائمة مقيدة بجانب القتيل تنادي العابرين بها: «اسقوني اسقوني»، حتى يؤخذ بالثأر فتشعر بالري وتستريح، فليست المحرمات الدينية هي التي تتوقف على مطالب القصاص وقوانين الجزاء، بل هذه المطالب هي التي تتوقف أحيانا على عالم الأسرار والأرواح.
وقد ثبت من أطوار المحرمات في القبائل عامة أنها تتقدم مع تقدم الإنسان في ثلاثة أدوار متشابهة.
فالطور الأول أن تترقى من الحدود المحلية إلى حدود عالمية أو كونية تشمل السماوات والأرضين، فبعد الرب الذي يسيطر على ينبوع ماء، أو شجرة في غابة، أو بقعة في جهة من جهات الإقليم، يترقى الإنسان إلى فهم الرب الذي يسيطر على السحب والأنهار وأفلاك السماء، وكلما أدرك القوانين التي تربط الطبيعة بنظام واحد ترقى إدراكه لقدرة الرب الذي يملك زمامها، ويصلي له المصلون لإجرائها في مجراها المطلوب، وتحويلها عن المجرى الذي يحذرون عقباه.
Shafi da ba'a sani ba
ويقترن بهذا الطور، أو يأتي بعده، طور التمييز الواضح بين عمل الدين والعبادة، وعمل السحر والطلاسم السحرية، فلا يستطيع الساحر ما يستطيعه الكاهن، ولا يقصد الكهان عامة فيما يقصد فيه السحرة عامة، وربما تولى الوظيفتين رجل واحد، ولكنه وهو كاهن إنما يتوسل إلى الآلهة ويتحرى رضاها بالصلوات التي يحسنها دون غيره، أما وهو ساحر فهو يسخر الأرواح أو يعاملها على أساس التواطؤ والتعاون على العمل الكريه، الذي ينفر منه المشتركون فيه ولا يجهرون بسره عن رضى واختيار.
وكلما اتضح التمييز بين العبادة والسحر اقترب الإنسان من الطور الآخر الذي يستقل فيه بمشيئته بين الوظيفتين.
ففي الحياة البدائية يظل الإنسان رهينا بمشيئة الأرواح التي تنفع وتضر، وتنطوي على الصداقة أو على العداء، وكلها في رأيه تعمل ما يحلو لها، ولا يحق لأحد أن يحاسبها عليه، ولكنه كلما ترقى في التمييز بينها ملك الميزان الذي يزن به أعمالها وأقدارها، فيدين بعضها ويحمد بعضها، ويعرف منها مرءوسين ورؤساء يحق لهم أن يشرفوا عليها ويحاسبوها على أعمالها، وأحس في طويته أن يطيع بعضها ضرورة وغصبا، ويطيع بعضها حبا واختيارا؛ لأنه أهل للطاعة والرجاء.
ومن هنا تصبح الأرواح نفسها مطيعة أو عاصية، وماضية على السنن القويم أو منحرفة عن هذا السنن إلى الخطة العوجاء التي ينكرها كبار الأرباب.
ومتى أتيح للإنسان مقياس يقيس به الأرواح والأرباب، ويقيس به أعمالها وحقوقها، فهو إذن أهل للمشيئة والتبعة، وأهل للتمييز بين الخير والشر، وبين سلطان الإله وسلطان الشيطان.
أنواع الشيطنة
ما هي أنواع الشيطنة في العالم؟
سؤال غريب، ولكنه يبدو طبيعيا، بل ضروريا إذا وضع في صيغة أخرى فسألنا: ما هو موقف الشر بالنسبة إلى القوة الكونية الكبرى؟
وهنا أيضا نتبين أن فكرة الشيطان أعمق جدا مما يخطر للمتعجل الذي يحسب أنه يحل كل مشكلة بكلمة الوهم أو التلفيق، أو يحل كل مشكلة بإحالتها إلى جهل الأقدمين وضلالهم في الحس والتفكير.
فهناك صور للشيطنة بمقدار ما في الذهن البشري من فكرة عن الشر في هذا الكون: هل الشر قوة أصيلة؟ هل هو قوة إيجابية عاملة؟ هل هو قوة سلبية؟ هل هو عدم الخير؟ هل هو نقص الخير؟ هل هو عقبة في طريق الخير؟ هل هو عقبة تريد وتعمل ما تريد؟ هل هو عقبة لا إرادة لها، ولكنها تضاعف جهود الخير وتستدعيه إلى مزيد من الحركة والثبات؟
Shafi da ba'a sani ba
كل فكرة عن الشر يمكن أن تخطر على الذهن البشري قد تمثلت في صورة من صور الشيطان، وهذا سبب من الأسباب الكثيرة التي تدعو المفكر الذي يحترم عقله أن يفهم الصور الدينية على حقيقتها، وحقيقتها أنها لغة حية تصور الوجود الحقيقي تصويرا صادقا على أسلوبها الذي يستحق الفهم والتعمق، والنظر إلى ما وراء الظواهر والألفاظ.
كان الشر أرواحا ضارة متفرقة في اعتقاد الإنسان على الفطرة الهمجية، فلما أصبح مسألة كونية عامة تمثلت صورته في حدودها الكونية على شكل معقول، وسبقت المذاهب الفلسفية بمراحل بعيدة في هذا المضمار.
كان الشر في تقدير الديانة المجوسية القديمة قوة فعالة معادلة لقوة الخير: كان في الوجود خير وشر كما فيه نهار وليل، وكان الليل حقيقة قائمة بذاتها، ولم يكن مجرد غياب النهار.
كان الليل ضد النهار كما كان النهار ضد الليل، فإذا غاب النهار فهناك ليل، وإذا غاب الليل فهناك نهار.
كان للنور دولة وللظلام دولة، وكان لهذه جنود ولتلك جنود، فهما قوتان متقابلتان متعادلتان أو كالمتعادلتين، ولكل منهما وجود قائم قابل لأن ينفرد بنفسه في معزل من القوة الأخرى؛ فلا يتوقف وجود الشر على وجود الخير، ولا يتوقف وجود الخير على وجود الشر، بل كلاهما موجود بحقه وبقدرته وبعمله كما يوجد الضدان الصالحان للحياة وللبقاء.
كان الظلام يصنع مخلوقاته كما كان للنور مخلوقاته التي يصنعها، وكل منها حسن في نظر نفسه، محمود بمقياسه لا يبالي مقياس غيره ولا يتمناه.
ثم تراجحت الكفتان فرجحت كفة النور على كفة الظلام، وظل المعسكران متقابلين، ولكن إلى حين ينتهي آخر الأمر بهزيمة الظلام وغلبة النور، ثم يبقى الظلام شيئا يلوذ به أنصاره فيختفون فيه ولا يظهرون للأبصار، وإنما هزيمتهم اختفاء، وليست بالفناء ولا بالزوال.
وعظم التفاوت بين القوتين شيئا فشيئا حتى أصبحت قوة الشر كقوة الأمير التابع مع السلطان المتبوع، فهو يستطيع شيئا إلى جانب سلطانه، ولكنه لا يستطيع جميع الأشياء، ولا طاقة له على طول المدى أن يجاريه في كل شيء.
ومن إلهين متعادلين تحول الخير والشر إلى إله كبير وإله صغير، وقد تظل الحرب بينهما سجالا؛ فينتصر الإله الصغير وينهزم الإله الكبير، وقد يئول الأمر بينهما إلى معركة حاسمة، أو يظل العراك بينهما سجالا إلى أن تزول الأرض والسماء.
ثم آمن الناس بإله واحد هو الخالق المبدع القائم بذاته، لا وجود معه للشر إلا بمشيئته وتقديره، فلا يقوم الشر في هذه الدنيا بذاته مستقلا عن الله.
Shafi da ba'a sani ba