ولن أطيل عليكم في شرح ما قال وما فعل، وفي إيضاح ما أدى وما حمل، بل أصل لكم معه إلى نهاية المطاف لنجده محاطا بحماية الله والألطاف رغم التهديد والوعيد الذي ينشر الرعب والإرجاف في قلب من يرهب الموت ويخاف.
وكيف لا والمرد إلى الله وهو الحاكم يوم الدين. وهو العليم بالمؤمنين والمسرفين. (وأن المسرفين هم أصحاب النار)
لكن المؤمنين هم الناجون ولهم عقبى الدار، بهذا اليقين يختم الحوار فيقول: (فستذكرون ما أقول لكم) ثم يطلق في بدايته عنانه والقياد، فيقول: (وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد) فماذا جرى بعد هذا يا ربي:
هل قتله فرعون أو تمكن؟ كلا، ولكنه عجز وخاب ونجى المؤمن وفاز (فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب)
أترون أن الله مع الصادقين، ينصر ويؤيد، وأنه معهم يحمي ويهدي، ويدمر من مكر ويردي، (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) .مفردة القرآن ¶ هذه المفردة تتكرر في النص القرآني بشكل ملحوظ، ولو تأملنا وضعها في سياق الآيات التي وردت فيها لوجدنا لها معنى جميلا ربما فات على كثير من المفسرين للقرآن الكريم. ¶ فالكلمة مصدر من قرن يقال قرن الشيء بالشيء أي ضمه إليه وعلى هذا فالقرآن يعني قرن آية بآية وسورة بسورة وضم بعضها إلى بعض بحيث تكون نصا مقروءا مفهوما لقوم يعقلون. ¶ أما الفرقان فيعني فرق سورة عن سورة في الإنزال فهو لم ينزل جملة واحدة ولكنه نزل مفرقا ومنجما كما هو معروف. ¶ وإن شئتم فاقرأوا الآية [32من سورة الفرقان](وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) هكذا هم يقترحون أن لا يكون القرآن مفرقا ولكن جملة واحدة لكن الله يرد عليهم بقوله: (كذلك) أي نزلناه مفرقا كذلك لماذا (لنثبت به فؤادك) (ورتلناه ترتيلا) أي أنزلناه على تمكث وتمهل وفرقناه على فترات ليكون أكثر أثرا وتثبيتا في قلبك وأحسن وقعا في قلوب الناس فلا تنزل السورة منه إلا على أرض من القبول المتعطشة للبيان فيكون أثره فيها كالماء للعطشان ولهذا قال الله: ¶ (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) [الإسراء:106]. ¶ فالقرآن فرق تفريقا، أو فرق فرقانا ليقرأ على الناس على مكث وتمهل ولذلك لزم أن يكون (ونزلناه تنزيلا) أي دفعة بعد دفعة لأن فعل نزل المضعف يعني تكرار الإنزال دفعة بعد دفعة وجملة وراء جملة أما أنزل المزيد فهو يعني الإنزال دفعة واحدة ومن هذا نفهم أن القرآن يختلف عن الكتب السابقة عليه بأنه نزل على دفعات بينما هي أنزلت دفعة واحدة ولهذا قال الله في سورة آل عمران (الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان) [آل عمران، الآيات:1و2و3و4] ¶ تأمل قوله: (نزل عليك الكتاب) وقوله: (وأنزل التوراة والإنجيل). ¶ وقال: (ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل) [النساء:136]، فإذا تأملنا الآيات كلها نلاحظ أن القرآن عامله نزل المصنف أما الكتب التي قبله فعاملها أنزل. ¶ ولو راجعنا فعل نزل في القرآن كله لوجدناه يقترن دائما بالقرآن ولا يقترن بسواه بينما فعل أنزل يقترن بالكتب الأخرى إلا في مواضع خاصة فإنه قد يأتي فعل أنزل سابقا للقرآن ولكن لفرض بلاغي وبياني ليس هذا مكان إيضاحه. ¶ وعلى أي حال فإن بحثنا هنا هو حول كلمة أو مفردة القرآن فهي تعني اقتران الآية بالآية والسورة بالسورة لتكون نصا متكاملا ولتأكيد هذا المعنى نقرأ قوله تعالى في سورة القيامة وهو يتحدث عن القرآن: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) [القيامة:16و17و18]. ¶ تأملوا الآية فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يحاول استجماع ما تنزل ويتابع الآيات ويتعجل حفظها فهو يحرك لسانه مع ما يتلى عليه ليساير لسانه ما يسمع فطمأنه ربه أن عليه الإصغاء والاستسلام لما يتلى من التنزيل وأن ربه هو الذي سيتولى جمعه في قلبه وقرن بعض الآيات ببعض في السورة التي تنزل عليه حتى يجدها قد طبعت في قلبه فلا ينسى الآيات إلا ما شاء الله وعليه فإن واجبه هو الإصغاء باطمئنان والاستماع بلا استعجال حتى يقضى إليه ما يوحى ليجده قد أصبح مكتمل الاقتران واضح البيان. ¶ إنه وعد أكيد من ربه المجيد الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد ولهذا فهو يقول لرسوله: (سنقرئك فلا تنسى) (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما)، وهكذا فإن القرآن يعني قرن الآية بالآية والسورة بالسورة في قلب رسول الله ليقرأها باطمئنان موقنا أنها وحي يوحى من ربه الذي يعلم السر وأخفى. ¶ وبعد: فلعلي قد أطلت ولكني قد أسمع سؤالا يقول: ماذا تريد من هذا وهو واضح؟. ¶ إني أريد من هذا أن أؤكد ما يلي: إن القرآن بالمعنى الذي فهمناه اسم يطلق على الكلمات والألفاظ المقترنة في نص هذا الكتاب الكريم. أعني أن (القرآن) يطلق على ألفاظ الكتاب المعروف لنا المقروء بيننا لا على المعاني.فإذا وردت كلمة (قرآن) في القرآن فإنها تعني الكلام المقروء المبين أما المعنى فهو رحلة ثانية لا يعلقه إلا من فهم الكلام، ولهذا يقول الله: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) [يوسف:2].(إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) [الزخرف:3]. ¶ فماذا يعني هذا؟ يعني أن الله تفضل وتكرم بأن صاغ هذه المعاني العلية الحكيمة وقرن الكلمات اقترانا مبينا ليعقله الناس في صياغة لفظية عربية.ولقد جاء في الآية الأولى بكلمة أنزلناه قرآنا عربيا وفي الثانية بكلمة إنا جعلناه قرآنا عربيا فلماذا اختار (أنزلناه) في يوسف، و(جعلناه) في الزخرف. ¶ إن جعل في اللغة تعني حول الشيء إلى شيء آخر، وعليه: فإن جعل هنا تعني أن النظام القائم عليه خلق الله والميزان الذي وضعه لكل شيء وحي في الخلق قد حوله الله إلى كلمات عربية تفصح وتبين لما يريده الله للإنسان من نظام وعلو وحكمة يتفق مع نظام الكون الذي لا يختل وينسجم مع ميزان الخلق الذي لا يطغى ولهذا قال الله بعد ذلك في سورة الزخرف : (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) [الزخرف:4]. ¶ إنه بدأ السورتين بكلمة كتاب مبين، ففي يوسف (الر * تلك آيات الكتاب المبين)، وفي الزخرف (حم * والكتاب المبين) والكتاب هو النظام المبين الواضح لمن تأمل الخلق ولكن الله حوله إلى كلمات مفصحة وألفاظ مبينة عنه فجعله قرآنا عربيا. ¶ لعلنا نفصل حكمة هذا النظام والميزان ونفهم عظمة هذا الإتقان فنسير عليه ونلتزم به وننسجم معه وينضم في موكبه العلي الحكيم المتزن المستقيم إذن فالقرآن كلمات وألفاظ عربية مبينة اختارها الله تفضلا لتكون مبينة عما أراده وليعقلوا ما يريده الله منهم وهذا هو السراط المستقيم إلى إقامة الميزان والقسطاس في حياة الناس في التعامل بين الكون والناس وبين الناس والناس، وعلى هذا الأساس فإن كلمة قرآن يطلق على مجمل الكتاب الذي بين أيدينا كما تطلق الكلمة على بعض منه، يقول الله: ¶ (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) الى آخر (الآية: 61من سورة يونس) فالضمير في منه يعود إلى مجمل القرآن وكلمة قرآن بعده تعني ما يتلوه من القرآن فقد أطلقت الكلمة على البعض كما أن قوله تعالى : (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) تفيد بأن كلمة القرآن تعني بعضه فإن ما يوحى إليه هو بعضه لكنه سمى البعض قرآنا. وكذلك قوله تعالى: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالإخرة حجابا مستورا) [الإسراء:45]. ¶ فإن كلمة القرآن هنا تعني بعض القرآن فهو لا يتلوه في كل حين كاملا، وهذا يؤكد لنا أن المراد بالقرآن هي الألفاظ والكلمات المقترن بعضها ببعض وهنا قد يبدر سؤال وهو إذا كانت كلمة القرآن تعني الألفاظ والكلمات في هذا الكتاب فما هي المفردة التي تعني المعاني التي في القرآن؟. ¶ الجواب هو أن الكلمة التي تعني ذلك هي كلمة (ذكر) أو (الذكر) فإذا وردت كلمة الذكر أو ذكر فهي تعني المعاني التي تحتويها هذه الألفاظ وتعني العلم الذي تفصح عنه تلك الكلمات. ¶ ولهذا جاء في سورة (يس) (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) [يس:69]. ¶ فقد جمع بين كلمتي ذكر وقرآن وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى لم يعلم رسوله إلا علما لكم أيها الناس ولكن هذا العلم جاء مصاغا في كلمات مبينة ليتضح لكم العلم المنزل من ربكم فهذه الكلمات تسمى قرآنا ولهذا وصف القرآن في الآية بأنه مبين. فقال (وقرآن مبين) قد يسأل سائل فيقول: ألا تعلم بأن السورة بدأت بقوله تعالى: (يس * والقرآن الحكيم) ¶ وهذا يعني أن القرآن هو المحتوي للحكمة فكيف تقول أنه اسم للألفاظ؟ لكن الجواب سهل فالألفاظ هي التي تدل على المعنى وإذا دلت فقد احتوت الحكمة فهو إطلاق مجازي أطلق المحل وأراد الحال. فالكلمات محل للحكمة لكن الحكمة ليست هي الكلمات بل الكلمات تفصح عنها وهذا هو الذي قصدناه بل قصده الله، بأن جعل حكمته وعلمه وكتابه في لفظ عربي يسمى قرآنا ليعقل الناس هذا العلم والحكمة وليعرفوا هذا النظام ويعلموه. ¶ وهنا قد يرد سؤال آخر، وهو أننا نراك تكرر كلمة نظام خلال تفسيرك الآيات فمن أين جئت بها؟ لكني أقول للسائل: تعال معي بعقل يحاول أن يفهم ولا تتهجم ولا تتجهم. ¶ إن كلمة كتب تعني في اللغة رتب ونظم وجمع وأحكم والكتابة لا تعني إلا جمع كلمة إلى كلمة وحرف إلى حرف وتنظيمها حتى يفهم منها من قرأ معنى لم يكن يفهمه لولا تنظيم هذه الكلمات والحروف ولهذا قيل للجماعة المنظمة كتيبة وللجيش المنظم الجماعات كتائب ويقال كتب الكتائب أي جمع ونظم. ¶ وعلى هذا الأساس يقول أصحاب أمهات الكتب في تأليف المواضيع والمعلومات: كتاب الصلاة، كتاب الطهارة، كتاب البيع، أي هذا نظام البيع والصلاة والطهارة وقواعدها التي بدونها لا تصح.فكتاب مصدر كتب أي نظم، نظاما، وتنظيما، ورتب ترتيبا الشيء: جعله مؤسسا على قواعد لا يصح الخروج عنها، فالخروج عنها يبطلها. ¶ وعلى هذا جاءت كلمة كتاب في القرآن.فهي تعني النظام، اقرأ معي أول سورة النمل: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين) إن الجمع بين كلمتي قرآن وكتاب يعني أن معناهما متغاير وإلا فكلمة قرآن حشو وعليه فإن كلمة الكتاب لا تعني القرآن ولكنها تعني النظام الذي تدل عليه كلمات القرآن وتدل عليه سائر الكتب المنزلة. ¶ وإلا فقل لي لماذا قال الله عن عيسى في سورة آل عمران: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) [48] فماذا يعني الكتاب؟ هل يعني التوراة والإنجيل إذا كان الكتاب هو التوراة والإنجيل فلماذا كررها الله؟ إن التكرار يعني الإطناب المخل وهو معيب في علم البلاغة والقرآن أعلا درجات البلاغة فهل يصح أن يكون فيه ما يخل؟ كلا، إذن فالكتاب له في الآيات معنى آخر، فما هو هذا المعنى يا ترى؟ ¶ إنه النظام والانسجام فكأن الله يقول لنا: هذا نظام أردنا أن تعرفوه فقربناه لكم في ألفاظ معروفة وجعلناه لكم بلسانكم العربي المبين لتعقلوه وتعملوا بمقتضاه وميزانه.فلا تخلوا به ولا تطغوا في ميزانه ولتقوموا بالقسط بموجب بيانه: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) [الحديد:25](والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) [الرحمن:7و8و9]. ¶ ثم لنتأكد أن الكتاب هو النظام وأن القرآن هو الكلام الدال عليه نقرأ قول الله تعالى في أول سورة فصلت: (حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) [الآيات:1و2و3] فالنظام الإلهي للخلق فصلت آياته قرآنا مصاغا باللغة العربية للناس الذين يريدون أن يعلموا هذا النظام ويقتدوا به ويقيموا حياتهم على ميزانه ولهذا قال: (فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) [فصلت:4]ثم ماذا؟ (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) أي أن عملهم سيظل على الانحراف والفوضى فلا يسمعوه ولا يعون ما يدعون إليه من النظام والاستقامة وهم قد حجبوا أنفسهم عما يراد لهم من العلم بهذا النظام والسلام. ثم تعال لنقرأ: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي) [فصلت:44]. ¶ إن هذه الآية تؤكد أن المراد بالقرآن هو الكلام ولهذا كان يمكن أن يكون أعجميا أي بلغة غير العربية ولكن الله أراده عربيا لنعقل، فالعربية هي لغة البيان لمن يعقلون، ولو أردنا أن نوضح سر بيانها لضاق المقام ولكنه معروف لمن أتقن علم البلاغة والبيان، وقرأ كتب الجرجاني ومن تلاه في بيان أسرار القرآن ودلائل الإعجاز. ¶ وإذن فالحكمة والعلم لا تتضح إلا بهذا القرآن والهدى إلى الصراط المستقيم لا يتم إلا بهذا القرآن. (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) فحكمة الله وعلمه صيغت رحمة للعالمين وذكرا للناس أجمعين في هذا القرآن المنزل من رب العالمين بلسان عربي مبين ليعقله العالمون. ¶ فلم يكن القرآن باللسان العربي المبين إلا ليعقله الناس ويفقهوا حكمة الله وعلمه ونظامه فيكونوا منسجمين مع موكب النظام المحكم وسائرين في حكمه . ثم إن هذه المعاني الربانية الرفيعة قد نزلت بلغات قوم آخرين: (وإنه لفي زبر الأولين) [الشعراء:196].(إن هذا لفي الصحف الإولى * صحف إبراهيم وموسى) [الأعلى:18و19]. ¶ ولكن الله اختار أن تنزل على الناس باللسان العربي المبين المفصح عما يريده رب العالمين للناس أجمعين من خير وسلام ومقام أمين، فكأن القرآن هو الصيغة التي تعجز وتبين: ¶ (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) ¶ وأعود لأؤكد فأقول: ¶ وبعد فإن القرآن اسم للكلمات والألفاظ أما الذكر فهو اسم للعلم الذي حواه القرآن ولنقرأ معا: (ص والقرآن ذي الذكر) [1]، (إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين)[ص:87و88].(وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) [الزخرف:44].فهل يسأل الإنسان إلا عن العلم فهو الذي يحمله الإنسان ويسأل عنه ولهذا قال: (وقد آتيناك من لدنا ذكرا(99)من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا)[طه:100].(لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) [الأنبياء:10].(ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) [الأنبياء:2].لقد أوردت بعض هذه الآيات للبيان وإلا فإن الموضوع قد استوفيناه في بحث (الذكر) فيلرجع إليه من شاء المزيد. ¶ وأخيرا فإذا كان القرآن يعني الكلمات والألفاظ فإنه مصاغ بأسلوب يعجز ويبين، وإنه لتنزيل من رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين. ¶ قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن القرآن يوصف بالحكمة وبالعلم وبالرحمة وبالنعمة فكيف يتفق هذا مع معناه هنا. لكني أقول أنه قد سبق أن أوضحت أنه تعبير مجازي وأن المقصود أنه يفصح عن هذه المعاني ويحتويها فهو مجاز مرسل علاقته المحلية. ¶ على أني سأنقل القارئ إلى معنى للقرآن لم يسمعه قبل الآن، إنه معنى أعم وأشمل لا يقتصر على اقتران الكلمات والألفاظ فقط بل على اقتران كل شيء وكل كائن حي. وربما يفاجأ القراء بهذا الذي سيقرأونه لأنهم سيسمعونه لأول مرة فلم يقله الأولون ولا تطرق إليه أحد من المفسرين. ¶ هل أنتم أيها القراء مستعدون لاستماع ما سأقول باستيعاب، والولوج في هذا الموضوع بروية تبحث عن الصواب، وبفهم يتصف به أولوا الألباب، (إنما يتذكر أولوا الألباب) هل أنتم مستعدون ياصحاب، لعلي أجد أن نعم هي الجواب. إذن فهيا معنا إلى سورة الرحمن. ¶ (الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان) [الآيات: 1و2و3و4]. ¶ كثير من المفسرين فهموا كلمة القرآن بأنها تعني هذا القرآن المقروء لكن السياق وترتيب الآيات يأبى هذا الفهم على الإطلاق فهل يمكن أن يعلم الله القرآن للإنسان قبل خلق الإنسان؟ كلا كلا. ¶ إذن فمن هو المعني بالتعليم في (علم القرآن)؟ ¶ أنظروا الفعل (علم) جاء مطلقا لم يذكر فيه المفعول الأول مع أنه يتعدى إلى مفعولين فأين المفعول الأول؟ لو قدرنا المفعول هو الإنسان سنقول الرحمن علم الإنسان القرآن خلق الإنسان علمه البيان. هل هذا الترتيب صحيح؟ هل هو يتفق مع فصاحة القرآن وإعجازه وإيجازه. كيف يعلم الله شيئا قبل خلقه؟ فلماذا أضاف علمه البيان؟ أليس القرآن هو البيان؟ فلماذا التكرار !! مع أنه كان يمكن أن يقول: ¶ الرحمن خلق الإنسان علمه القرآن وعلمه البيان. ¶ فلماذا أفرد القرآن وحده وبدأ به فقال: (علم القرآن) ثم قال: (خلق الإنسان)؟ لا بد أن هناك سرا عظيما، وأن هناك معنى لكلمة القرآن لا تعني هذا الكلام المقروء وإنما تعني معنى أعم وأشمل تدل عليه الكلمة في الأصل اللغوي. ¶ وهنا أنبه إلى قضية هامة هي أن القرآن قد يستعمل كثيرا من الكلمات يريد بها أصلها اللغوي لا معناها الاصطلاحي. وعليه: فلقد اصطلح على أن كلمة قرآن تدل على هذا الكلام المقروء المحتوي عليه المصحف. لكن الكلمة هنا استعملت أصلها اللغوي العام. لكن المفسرين كلهم لم يحاولوا أن يفهموا هذا المعنى العام. وإنما جعلوا الكلمة تدل على هذا القرآن المقروء بين أيدينا وإنه لوهم لا يتفق مع سياق الآيات ولا نوافق عليه، ولا ينسجم مع الترتيب الذي بنيت عليه الآيات. ولهم عذرهم فقد غاب عنهم أن القرآن كثيرا ما يستعمل الكلمات في معناها الأصلي لا الاصطلاحي، وهذا بحث سنفرد له بابا خاصا بإذن الله. ¶ وعلى أي حال فلنقرأ ما قاله الزمخشري شيخ المفسرين في هذا الموضوع في تفسير سورة الرحمن. ¶ عدد الله عز وعلا آلائه فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قد قاس ضروب آلائه وأصناف نعمائه وهي نعمة الدين فقدم من نعمة الدين ما هو أعلا مراتبها وأخص مراقيها وهو إنعامه (بالقرآن) وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم وحي الله رتبة وأعلاه منزلة وأحسنه في أبواب الدين أثرا وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها ؟؟ عليها)، ثم قال: ¶ (وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ثم أتبعه إياه ليعلم أنه إنما خلقه للدين وليحيط علما بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله وكأن الغرض من إنشائه كان مقدما عليه وسابقا له)، انتهى كلام الزمخشري وهو محاولة لتبرير تقديم الآية على خلق الإنسان لكنها محاولة غير مدركة للحقيقة الكبرى والأهم التي سنوضحها لاحقا لكنا قبل ذلك نعرج على تفسير سيد قطب في [ظلال القرآن] لنقرأ ما قال، لقد قال ضمن التعريف بالسورة كما هي عادته مع كل سورة ما نصه: ¶ [ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان فسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته وتعليمه البيان ] هكذا قال، وهي لمحة صغيرة بسطها في تفسير الآيات فقال بعد أن أورد نص الآيات الأولى من السورة: ¶ [هذا هو المقطع الأول في بيان آلاء الرحمن وهذا هو الخبر الأول بعد ذلك الإعلان، [علم القرآن] هذه النعمة الكبرى التي تتجلى فيها رحمة الرحمن بالإنسان [القرآن] الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود ومنهج السماء للأرض الذي يصل أهلها بناموس الوجود ويقيم عقيدتهم وتصوراتهم وموازينهم وقيمهم ونظمهم على الأساس الثابت الذي يقوم عليه الوجود فيمنحهم اليسر والطمأنينة والتفاهم والتجاوب مع الناموس) إلى أن يقول بعد كلام طويل لا يخرج عما نقلناه هنا: [ومن ثم قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان فيه يتحقق في هذا الكائن معنى الإنسان] انتهى كلام السيد قطب. ¶ وهو لا يخرج عما عناه الزمخشري إلا أنه أضاف شيئا آخر هو أن القرآن هو [الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود]، وهو يكاد يقترب مما نريد هنا إلا أنه عاد من جديد إلى ما عناه الزمخشري من قبله. ¶ أما [ابن كثير] فقال: [يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه فقال تعالى: (الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان) قال الحسن: يعني النطق وقال الضحاك: يعني الخير والشر [ثم رجح قول الحسن] فقال: وقول الحسن هاهنا أحسن وأقوى لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن وهو أداء تلاوته وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها على اختلاف مخارجها وأنواعها، انتهى. ¶ وهكذا يتجلى لنا أن أبرز المفسرين الأولين والمتأخرين قد وجهوا كلمة القرآن هنا إلى معناها الاصطلاحي ولم ينتبهوا إلى أنها مستعملة في معناها اللغوي الأصلي. ¶ وعلى أي حال فهم قد عملوا جهدهم في تبرير تقديم (علم القرآن) على (خلق الإنسان) في الآيات. ولكنها مبررات لا تتفق مع المنطق ولا مع جلال الله وحكمته ولا مع سياق الآيات وترتيبها البياني. قد تسألون في ضيق ونفاد صبر فتقولون: لقد أطلت الكلام وتطاولت على الكبار الأعلام، فماذا لديك من التفسير للكلمة أيها الهمام؟ وماذا تريد أن تحملها من المعاني؟ وأين تريد أن تذهب بها؟ لكني أدعوكم على مهل إلى المعنى الأشمل وأرجوكم التأني معي والإمعان لنصل معا إلى المعنى الأهم والأعم المتفق مع سياق الآيات وبيان الكلام. ¶ أيها الأعزاء: إن كلمة القرآن كلمة تطلق ويراد بها هذه الكلمات والألفاظ المكونة لنص الكتاب الكريم الموحى على محمد الخاتم الأمين. هذا هو المصطلح وهو المراد بها في كل آيات القرآن. إلا في سورة الرحمن فإن معناها أعم وأشمل. إنها تعني الاقتران بين الأشياء والتقارن بين المخلوقات في الأجرام والمواقع والمهمات ولهذا أطلقت فقال تعالى: (علم القرآن). ¶ فالألف واللام هنا للجنس أي علم كل شيء وكل مخلوق القرآن أي جنس الاقتران والتقارن فيما بينها بدون خلل ولا طغيان ولكنه اقتران بنظام واتزان. ولكي يتضح لكم المعنى بشكل أعمق وأنصع؛ تعالوا نتدبر الآيات ونتفهم معنى الكلمات من البداية فالسورة تبدأ بكلمة الرحمن. ¶ فماذا تعني هذه الكلمة: ¶ لا مانع أن تستعير هنا بدايات تفسير سيد قطب لهذه الكلمة فقد قال: (الرحمن) بهذا الرنين الذي تتجاوب أصدائه الطليقة المدوية في أرجاء هذا الكون وفي جنبات هذا الوجود. ¶ (الرحمن) بهذا الإيقاع الصاعد الذاهب إلى بعيد يجلجل في طبقات الوجود إلى أن يقول (الرحمن) ويسكت وينتهي ويصمت الوجود كله وينصت في ارتقاب الخبر العظيم بعد المطلع العظيم ثم يجيء الخبر المرتقب الذي يخفق له ضمير الوجود (علم القرآن) هكذا قال سيد قطب بعد كلمة الرحمن ونحن نقول معه: نعم، إنه رنين وإيقاع مدوي ومجلجل، ولكن لماذا؟ ¶ لم يوضح لماذا ولم يدرك ماذا تعني كلمة الرحمن!. ¶ أنا هنا لن أطيل الكلام حولها فلقد أفردت لها بحثا خاصا فليرجع إليه من شاء ففيه البيان والشفاء. ولكني هنا أقرب للقارئ الخطى والعناء فأقول: ¶ إن الرحمن اسم من أسماء الله تعالى وليس صفة مشتقة من الرحمة كما توهم المفسرون ولا تعجل أيها القارئ قبل أن أبين لك. ألم يقل الله في سورة الإسراء: ¶ (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) [110]. ¶ إذن فالرحمن اسم من أسمائه العظمى والهامة والكبرى. إن الرحمن اسم يشمل كل معاني وصفات الربوبية كما أن (الله) اسم يشمل كل معاني وصفات الألوهية. إذن فالرحمن يعني الرب المدبر المقدر المسير القريب الخبير المهيمن الذي له الخلق والأمر فتبارك الله رب العالمين.الرحمن يعني المعيذ الحامي الكالئ الحافظ الممسك، الرحمن يعني القريب المجيب البصير القوي القادر القهار المعذب والمحاسب والمعاقب والرحيم والغفور والحكيم والغفار. إنه يشمل كل معاني الربوبية والتدبير والقرب والتسيير واللطف والتيسير والعقاب والحساب والتحذير وغيرها كثير. أنا لا أقول هذا جزافا لأن الآيات تؤكد ذلك في القرآن. لنقرا في سورة مريم قولها: ¶ (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) [18]. فهو المعيذ، وقول إبراهيم لأبيه: ¶ (ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) [مريم:45]. فهو معذب، وقوله تعالى: ¶ (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن) [الأنبياء:42] فهو الكالئ، وقوله تعالى: ¶ (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير) [الملك:19]. ¶ فهو الممسك والبصير والمدبر (الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) [الملك: 3]، فهو الخالق المنظم المدبر المسير. (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) [طه:108]. فهو المحاسب والمعاقب والمثيب والراحم. (رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا) [النبأ:37]، فهو المهيمن والمحاسب والمعاقب والمثيب والغافر والعليم بكل شيء وظاهر وهو الذي له الملك والحكم والكبرياء في الدنيا والآخرة ولن أزيد على هذا لشرح كلمة الرحمن، ولو راجعت كل الآيات التي وردت فيها الكلمة ستجد أنها تعني كل تلك المعاني وأكثر فهي ليست صفة كالرحيم ولكنها اسم قوي عظيم ولهذا ناسب أن يأتي بعدها صفة الرحيم في (بسم الله الرحمن الرحيم)، وفي (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم)، لأن اسم الرحمن يدل على الهيمنة والعزة، والقهر والقوة، والملك والتدبير والخلق والتسيير والسلطان الواسع القدير، الحاكم بما يشاء والفعال ما يريد، فإذا كان هذا هو المفهوم من الرحمن فإن الرحيم هو المناسب أن يليه ليؤكد للعباد أنه مع قدرته وقوته وهيمنته وطلاقة سلطته ومشيئته إنه مع ذلك رحيم واسع الرحمة باسطها لمن يستحقها فيدخل إلى النفوس الاطمئنان إليه والتعرض لرحمته والتوكل عليه. ¶ وإذا فهمنا الرحمن بهذه الصفات والدلالات، فإن الرنين الذي سمعه سيد قطب من الكلمة صحيح ومسموع لمن فهم. وإذن فإن الرحمن بهذه الصفات والقدرات وبهذه السمات والميزات وبهذه الهيمنة والسلطات وبهذه الحكمة والخبرات (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا) [الفرقان:59]. ¶ نعم إذا كان هذا هو شأن الرحمن فإنه لا سواه هو الذي علم القرآن [فالقرآن يعني اقتران كل خلقه ببعض وتزاحمها في السماء والأرض وتعدد مهماتها والأغراض ولكنها مع هذا التعدد والتكاثر والاقتران والتوافر والاختلاط والتزاحم والتوسع والتداخل والتباعد والتقارب، إنها رغم هذا ومع هذا متناغمة متعاونة متزنة ملتزمة بما قدر لها وحكم الرحمن متجاوبة مع بعضها في أداء مهماتها التي خلقت لها وهيأها له الرحمن فلا يطغى بعضها على بعض ولا يخل بعضها بعمل بعض بل كلها رغم تفاوت المهمات والأغراض تسير إلى غرض عام وهدف هام هو إقامة الحياة على نظام وانسجام فالله الرحمن خلق كل شيء بالحق، وعلم هذا الخلق علمه القرآن، أي علمه أن يقترن بسواه بنظام وباحتكام لأمر الرحمن فكل شيء يسجد وكل شيء يسبح وكل في فلك يسبحون. ¶ ولكي ندرك هذا التقارن والانسجام، ولكي نفهم هذا التوسع والاحتكام وهذا التعدد والالتزام، ولكي يتضح لك هذا التقدير الذي حكم به الرحمن كل خلقه ووضع له الميزان. لكي تدرك ذلك اقرأ في سورة الرحمن قبل سواها هذا المعنى واضحا كامل البيان (خلق الإنسان * علمه البيان * الشمس والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان * والسماء رفعها ووضع الميزان) [الآيات: من 3إلى 7]. ¶ إن هذه الآيات هي بيان لقوله (الرحمن * علم القرآن) هذا هو معناها وهذا هو الاقتران المنظم فهو بحسبان وميزان بدون فوضى ولا طغيان، وأكبر شيء وأصغره وأعلاه وأسفله يسجد للرحمن، محكوم بقدرته والسلطان، ملتزم بأمره وتقديره في كل آن ومكان. ثم (والأرض وضعها للأنام) وكم في الأرض من مخلوقات متعددة الألوان والأحجام، متفرعة المواد والأجسام، مختلفة الأغراض والمهام، ولكنها كلها متعاونة على الهدف العام مسخرة له بانسجام وهو الذي قدره الرحمن لصلاح الحياة على الأرض ولهذا فالأرض (فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام * والحب ذو العصف والريحان)، [الرحمن، الآيات:11و12]. ¶ إنها آلاؤه تدل على القوة والقدرة والحكمة والرحمة والسلطة والهيمنة وكلها تسير مقترنة إلى مهمة واحدة رغم تعدد النوع والشكل واللون والحجم. أليس هذا من آلاء الرحمن الذي علم القرآن (فبأي آلاء ربكما تكذبان) [الرحمن:13].ثم لنقرأ ما يدل على ذلك بشكل أوضح وفي نفس السورة (مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان) [الرحمن: 19و20].أليس هذا من آلاء الرحمن الذي (علم القرآن) تأملوا معي دلالة الاقتران، فالبحران مقترنان للعيان، متلازمان متجاوران، مختلطان لكنهما لا يبغيان، بل مع ذلك ورغم ذلك الاقتران، (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) [الرحمن:20] إنها آلاء تدل على الهيمنة والحكمة والسلطة والرحمة. ¶ والخلاصة أن السورة كلها تؤكد معنى (علم القرآن) فتأملها يا أخي وسيتضح لك المعنى بجلاء وبيان. ¶ ثم تعال معي إلى سواها من السور، واقرأ في سورة النساء: (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) [33].ولتقرأ في سورة يس (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون * وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. ومع كل هذا الاقتران والتقابل والتداخل (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار) نعم هكذا هو الملموس وهذا هو الواقع المحسوس (وكل في فلك يسبحون) [يس: الآيات من35-40]. ¶ ثم اقرأ في سورة الرعد: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون). ¶ هذا في السماء، فانزل إلى الأرض تجد الاقتران واضحا منظما متعددا منسجما وتجده متنوعا وله هدف أسمى، واقرأ معي: (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار) ألا تلاحظ الاقتران، ألا تشاهده، ولهذا يختم الآية بقوله: (إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون) فتفكر لتجد أن (الرحمن * علم القرآن) ¶ ثم استزد من مظاهر الاقتران العجيبة المنظمة واقرأ(وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الإكل) إنه الاقتران والقرآن بأجلى صوره وأبسطها وأوضحها، ولهذا يختم الآية بقوله: (إن في ذلك لايات لقوم يعقلون) [الرعد، الآيات: 2و3و4]. ¶ ثم لتقرأ في سورة الفرقان قوله: (ألم ترى إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) [الآيات:45و46]. ¶ أليس هذا هو الاقتران والقران الواضح بين السماء والأرض وبين الشمس والظل وبين السماء والأرض والشمس معا، ثم هناك اقتران آخر أقرب إلى الإنسان وأدنى: ¶ (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا * لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا) [الآيات:48و49]. ¶ أليس هذا هو الترجمة لقوله (علم القرآن) إنه الاقتران بين الرياح والسحاب والماء والأرض وبين هذا الإنسان ومعه كل ما على الأرض من شجر وتراب وحجر ورمل وحيوان، إنه الرحمن الذي علم القرآن فرغم تعدد الأشكال والمواقع وتنوع الأساليب والطبائع؛ إلا أن اقتران كل سبب بالآخر يؤدي إلى هدف للكل جامع، هو حياة الإنسان وجمالها وظهورها بشكل رائع ولا غرو فالرحمن هو المسيطر والمسير وهو الذي علم كل هذه الأشياء (القرآن) وكلها له تسجد وتسبح بإذعان، (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والإصال) [الرعد:15]. ¶ أكتفي بهذا القدر من البيان على (علم القرآن) فلعله قد اتضح أن الرحمن هو الذي دبر هذا الاقتران ونظم هذا التعدد والتنوع الواسع وجعل كل مخلوق ساجد راكع، مسبح ضارع، (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) [الإسراء:44]. ¶ وبعد فلنعد إلى (الرحمن * علم القرآن) ¶ نعم لقد تفضل الرحمن وعلم كل شيء من خلقه القران فهو يقترن بسواه بلا طغيان ولكن بحسبان واتزان وبطاعة وخضوع للرحمن ثم وبعد تدبير هذا النظام المتقن المحكوم الواسع المتباعد الموزون بعد هذا كله ماذا حدث؟ (خلق الإنسان * علمه البيان) لقد أعد المهد الصالح لخلق هذا الإنسان فخلقه وعلمه البيان، علمه البيان ليبين عما يريد وليستبين ما يراد منه، فهو مبين مستبين وهو سميع بصير. وعليه أن يتفهم ما يحيط به ويفقه ما يقوم به وما يؤمر به، ولهذا قال الله بعد أن بين أن كل شيء بحسبان وبميزان قال مخاطبا للإنسان في سورة الرحمن: ¶ (ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) [الآيات:8و9]. ¶ هل اتضح لكم الآن معنى كلمة (القرآن) في سورة الرحمن؟ ¶ إنها تعني الاقتران بين كل خلق الرحمن، ولكنه اقتران بحسبان وميزان، وما دام الإنسان جزء من هذا الخلق وطارئا على هذا النظام فعليه الانسجام معه والالتزام بما به يقوم الوجود وعليه استقام. ¶ فالخروج عن الحق فساد وفسوق وكل من اقترفه هالك ممحوق (والله لا يحب الفساد) ¶ إذن فكيف للإنسان أن ينسجم مع موكب هذا النظام وأن يقترن بما حوله من الخلق اقترانا بسلام، وأن يتعامل مع هذا الوسط باتزان واستسلام، وعدل واحتكام، وأن يسير مع السائرين بانتظام. ¶ نعم أنى له ذلك؟ وما دليله عليه؟ إن الدليل بين يديه، فهو القانون الذي يعول عليه، والنور الذي يحتاج إليه، فما هو يا ترى؟ إنه هذا القرآن المقروء الموحى إلى خاتم النبيين رحمة للعالمين ومن هنا نفهم سر اختيار هذا الاسم الجميل لهذا التنزيل الجليل. إنه إشارة عظيمة وعلامة وسيمة على أن تسميته بالقرآن تسمية مختارة بعناية ودراية، وأن التسمية بحد ذاتها آية.ومن هذه التسمية المختارة لهذا الكتاب الكريم، نفهم أن القرآن هو الطريق للسلام بين الإنسان وبين كل المخلوقات وهو الدليل للتعاون المثمر بينه وبين كل الموجودات وهو الهادي إلى التكامل بينه وبين كل الكائنات. ¶ إن هذه المخلوقات والكائنات متنوعة متعددة متباعدة متداخلة متباينة متقاربة. ¶ ولكنه تنوع بانسجام، وتعدد بالتزام، وتباعد بالتئام، وتباين باحتكام، وتقارن بسلام، واتزان وتعاون بحسبان، فمن اقترف مع قرينه من الأشياء أو الأحياء فسادا فقد خرج عن الصراط المستقيم ومن اجترح مع مقارنه طغيانا فقد فسق عن الموكب العظيم، المسبح الساجد لربه الكريم. إن على الإنسان أن يهتدي إلى الطريق الحق الذي يقوم عليه كل ما أبدع الله وخلق وإلا تعرض لأن يهلك ويمحق. وإن عليه أن يلتزم بنظام الاقتران القائم على السلام والميزان سواء بينه وبين أبناء جنسه أو بينه وبين سائر الأشياء والأحياء وإلا تعرض للعقاب والعذاب. ¶ إذن فما الذي يقيه الهلاك ويجنبه العذاب. ¶ لا واقي له إلا هذا الكتاب ولا هادي له إلا القرآن إلى الصواب، وكيف لا وقد عرفناه (تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا * الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) [طه:الآيات 4و5و6]. ¶ وما دام كذلك فهو الهدى الحق والدليل الأبلق. ¶ لأن من خلق وعلم، هو الذي يهدي إلى الطريق الأقوم. ¶ وإن من علم القرآن كل الأشياء، هو الذي به يهتدى، وكيف لا وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد فهو الذي يعلم ما يضر وما يفيد (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) [طه:7و8]. ¶ إن من يعلم سرك وأخفى هو يهديك إلى السواء ¶ وإن من له الأسماء الحسنى هو الذي يدلك على الحياة الحسنى، وهو الذي يطاع ويخشى، وعلمه هو الذي به يقتدى. وإلا فالمصير مهين في الأولى والأخرى. ¶ (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) [طه:124]. ¶ إن علم الرحمن هو الضمان لفوز الإنسان بالفلاح والأمان. ¶ ومن أراد علما سواه فقد هوى وغوى وخسر الدنيا والأخرى، ولقد جاءك هذا العلم من الرحمن في هذا القرآن إنه إسم يدل على أن القرآن يقرنك برحمة الله وعونه وهداه وإذا قرنت به نلت السعادة والاطمئنان. ¶ ويقرنك بالذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ¶ ويقرنك بالدرجات العلى في جنة المأوى. ويقرنك بالحياة الخالدة في جنات النعيم، ويقرنك بالقرب من ربك العلي العظيم. ¶ فيا له من مقام سامق رفيع، (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) ¶ نعم إن القرآن المقروء يقرن العامل به بكل خير وجمال وكمال لأن القرآن فيه علم غزير من علم الله ونور وفير من نور الله وهدى من الله (من يهد الله فهو المهتدي) نعم هو المهتدي محصور مقصور عليه الهدى ولسواه لا يتعدى ولهذا قال: (ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) [الكهف:15]. ¶ ولو أردنا مزيدا من التعمق في اسم القرآن نقول: ¶ إنه اسم يدل على المسمى، خبر اسم لخبر مسمى، وكيف لا وهو يقرن بين رب العالمين وعباده ويقرن بين الغيب والشهادة وبين الموت والحياة، وبين بداية خلق الإنسان واستخلافه على الأرض، وبين نهاية حياته في هذه الأرض وحشره للحساب والعرض. ¶ بين النطفة الإنسانية المكنونة في الأرحام وبين الجثة الفانية المدفونة في الركام، بين الملائكة الذين هم عباد الرحمن وهم يستجيبون لأمر ربهم بالسجود للإنسان وبين جنود الشيطان الذي عصى الرحمن وأبى السجود للإنسان، وأعد نفسه للإغواء ونصب نفسه عدوا للإنسان مدى الزمان. ¶ إن القرآن يقرن بين نكد الدنيا وخلود الأخرى. ¶ إن القرآن يقرن بين الجنة وبين النار وبين نعيم الأبرار وجحيم الفجار. ¶ بين علم الأنبياء وجهادهم وبين جهل الأغبياء وعنادهم. ¶ بين صلاح المؤمنين وفساد المسرفين. ¶ بين استقامة التقاة واعوجاج الطغاة، بين المتبعين الأخرى واطمئنانهم وبين المحبين الدنيا وجنونهم، يقرن بين إخلاص المستجيبين لربهم وتربص المنافقين وريبهم، بين الحرب وبين السلام، وبين الكفر وبين الإسلام. ¶ بين الزلازل والاستقرار، وبين الإعمار والدمار، بين الفساد وبين الإصلاح، بين من زكى نفسه وبين من دساها، وبين الخسران. ¶ بين صبر الأوابين ومكر المرتابين. ¶ بين من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فيسره الله لليسرى وبين من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فيسره الله للعسرى. ¶ بين من طغى واتبع الهوى، ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. ¶ بين من يئس من رحمة ربه فتاه في ضلالات واعتمد على الأسباب فباء بالتباب، وبين من أحسن الظن بربه فنادى في الظلمات فنجاه ربه واستجاب. ¶ بين من اتبع الشهوات فلقي غيا وبين من نادى ربه نداء خفيا فكان به حفيا. ¶ هذه بعض المعاني المتقارنة المتقابلة في حياة الإسان وحالات نفسه ونتاجها وعقباها. ¶ ثم تعالوا إلى بعض المقارنات التي يحفل بها القرآن خارج النفس الإنسانية ولكنها متصلة بها ومقترنة بها ومؤثرة فيها. ¶ فالقرآن يقرن بين الرحمة والعذاب، بين سعادة المتقين وشقاء المكذبين، بين هلاك المستكبرين ونجاة المستجيبين، بين مصائر الغابرين ومآل اللاحقين، بين الماضي الذي لا يعلمه إلا الله وبين المستقبل الذي هو في علم الله، بين الأحكام المفروضة وبين العبرة والموعظة. ¶ بين فرض الشريعة المستقيمة العادلة وبين رفض البدعة المعوجة المائلة، بين الحث على صراط الحق المبين، وبين التحذير من انحطاط الباطل المهين، بين الذكر والأنثى، وبين الأزواج والنساء، بين الطيبة التي تخرج ثمارا رغدا، وبين الخبيثة التي لا تخرج إلا نكدا، بين الخير والشر، وبين السراء والضراء، وبين نمو الصدقات ومحق الربا. ¶ إنه يقرن بين الأرض وبين السماء، وبين الظاهر وبين الخفاء. ¶ بين ازدهار الشجر وبين اكتمال القمر. ¶ بين الصخر الرابض وبين الكوكب النابض. ¶ بين فلق الحبة في ظلمات الثرى، وفلق الإصباح في آفاق السماء. ¶ بين إيلاج الليل في النهار، وبين اختلاط المساء بالنهار. ¶ بين توالي الظلام والنور، وبين ما تخفي الصدور. ¶ بين إرسال الرياح المبشرة، وبين تسليط الريح المدمرة. ¶ بين السراب الكذاب، وبين السحاب السكاب. ¶ بين الظمأ والعراء، وبين الشبع والاكتساء. ¶ بين الخوف والشقاء، وبين الأمن والرخاء. ¶ بين البرق اللامع، وبين الطين الخاشع. ¶ بين السحاب الثقال، والرعد المسبح لذي الجلال. ¶ وبين السهول الطوال المهتزة بالثمار والجبال المتدفقة بالسيول. ¶ بين الريح المحرقة، والرياحين العبقة. ¶ بين الشمس وضحاها، وبين النهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها. ¶ بين السماء وما بناها وبين الأرض وما طحاها. ¶ بين النفس وما سواها، وبين فجورها وتقواها. ¶ بين أسباب الفجور والطغيان ، وأسباب التقوى والإيمان. ¶ إنها مقارنات تفترق وتلتقي، ومتقابلات يدركها الذكي. ¶ إنها تتضح لأولي الألباب، وتخفى على المسرف المرتاب. ¶ مقارنات تظنها متباعدة، وهي متساعدة. ¶ وتظنها متضادة، وهي متعاضدة. ¶ تظنها متعددة، وهي متوحدة. ¶ تظنها متناقضة، وهي متطابقة. ¶ هكذا هو القرآن المقروء متقارب تظنه متباعد وهو متقارب موحد، فهو ترجمة للقرآن الكوني. ¶ وانظر معي إلى بعض هذه المعاني: ¶ تظن أن الشمس تناقض الماء، وهي معه تتعاون على النماء. ¶ تظن أن البحر يختلف عن البر، وهما كفان يتعاونان على منح الإنسان العطاء أكثر. ¶ تحسب الشتاء يجافي الربيع، وهما وجهان للجمال البديع. ¶ تحسب الرمال ضد السيول، وهي تعاضدها على الوصول. ¶ تحسب الجبال تناقض السهول، وهي مخازن الخير والحطب والمحصول. ¶ تظن أن السماء والشموس والكواكب والأقمار بعيدة عن الأرض، وهي زينة ورجوم وبروج وحصون تحمي الأرض وتصون ومسخرة للإنسان بأمر الرحمن. ¶ وإذا عدنا إلى القرآن المقروء سنجد التقارن فيه كذلك. ¶ فأنت قد تظن أن الصلاة تعارض الشهوات وهي التي توصلك إلى ما تشتهي. ¶ تظن أن الجهاد يعارض الحياة، وهو في الحقيقة هو الحياة العزيزة. ¶ تظن التقوى تقف ضد الزينة والرخاء وهو الزينة الحقيقية من كل سوء، وهو اللباس الذي يستر كل سوآتك. ¶ تظن الإنفاق ينقص المال والبخل هو الأمان، مع أن الإنفاق هو النمو والأمان والبخل هو النقص والحرمان والخوف والأحزان. وهو العسرى، وهو الذي يردي في نار لظى، (لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى) ( ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) لأنه يحرم من عطاء الله في دنياه وأخراه. ¶ تظن أن الصدق يردي، وأن الكذب ينجي، ولكن الواقع هو أن الصدق هو الحصن الحصين، من كل خطر في الدنيا ويوم الدين. وأقرأ قول الله: ¶ (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) [المائدة:119]. ¶ ولو أردت المزيد لزدنا ولكن لعل هذا يكفي، أيها القارئ الذكي. ¶ فقد أريتك النجد وعليك سلوك الطريق إلى هذا المنوال لتجد الجمال والجلال. ¶ سبحان من أنزل القرآن ذكرا لأولي الألباب، وهاديا للحق والصواب، منيرا طريق الفوز العظيم. ¶ وسبحان من علم كل شيء القرآن، وعلم الإنسان البيان، ليستبين طريقه على هدى القرآن. ¶ (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) [الإسراء:9]. ¶ والآن هل لي أن أقول لكم إن القرآن يعلمنا القرآن؟! ¶ ولقد عرفتم أن معنى الكلمتين مختلف بمعنى أن القرآن الأولى تعني القرآن المقروء وأن الثانية تعني النظام. وعلى هذا فالقرآن المقروء المنزل من رب العالمين بلسان عربي مبين يعلمنا القرآن أي الاقتران بنظام وانسجام وصلاح وسلام مع كل المخلوقات من حولنا ومع بعضنا فلا نطغى في الميزان على شيء من الجماد والحيوان ولا على أحد من بني الإنسان بل لا بد أن نقيم الوزن بالقسط ولا نخسر الميزان. ¶ فلا نفسد في الأرض بعد إصلاحها ولا نعتدي على شيء منها إلا بالحق والقسط والإحسان ولا نفعل الفاحشة ولا نشيعها ولا نفعل المنكر ولا نسكت على فعله ولا نبغي على بعضنا ولا نرضى به بيننا ولا على غيرنا من الخلق والحيوان. ¶ هذا هو المطلوب من الإنسان وهذا هو واجب الإنسان أمام ربه الرحمن الذي علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والذي يقول: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)[النحل:90]. ¶ هذه الآية أجملت وأوجزت ما يأمر به الله في القرآن واختصرت ما يريده الله من الإنسان عبر الزمان وفي كل مكان، ولو أردنا التفصيل لطال المقال وتشعب المجال. ¶ ولكني أعود فأقول: إن القرآن يعلمنا القرآن. ¶ إننا حين نقول القرآن يعلمنا القرآن فإننا في نفس الوقت نعلم أن القرآن أنزله الله الرحمن الرحيم الذي له الأسماء الحسنى: (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) ¶ فهل تتصورون معي مدى عظمة هذا المصدر الذي جاء منه هذا القرآن؟ هل تدركون مدى علو شأن هذا الرب الذي أنزل هذا الكتاب للعالمين وأظهره للناس بلسان عربي مبين؛ إن أردتم إدراك ذلك فنحن لا نستطيع أن نصفه كما يستحق ولا نحصي ثناء عليه كما وصف هو نفسه وأثنى، فاستمعوا كيف قال وعوا: ¶ (سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم(1)له ملك السماوات والأرض يحي ويميت وهو على كل شيء قدير) ¶ أليس هذا يكفي؟ بلى، ولكن لديه المزيد (هو الأول والإخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) ¶ أتدركون عمق هذه الأسماء وإحاطة هذه الصفات؟ ثم ماذا؟ لنتابع معا: ¶ (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) ¶ هل تعرفون ما معنى استوى على العرش؟ هناك عدة آراء ولكن الله يحسم الموضوع فيقول مبينا: ¶ (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير) ¶ هذا هو بعض معنى الاستواء إنه استمرار علمه بكل شيء وإحاطته بكل حركة وسكون. ¶ وليس هذا فقط بل هناك المزيد فلنقرأ ولنتابع. ¶ (له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الإمور * يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور) ¶ هذه هي الآيات الأولى من سورة الحديد من 1-6. ¶ فتأملوا كيف أنه محيط علما بكل خفايا الأكوان وأسرار الإنسان وأنه المحرك والمدبر لما يدور ويجري في كل حال ومكان، أينما كان، وأنه الحاكم في كل أمر وشأن، ومنه تبدأ الأمور وإليه مرجعها والمصدر. ¶ ثم ألا تلاحظون أن الآيات تنبه الإنسان إلى أن لا يظن أنه بعيد مستثنى عن هذا العلم والتدبير فالله يذكره بأنه من أهم هذه الكائنات شأنا وأن الله معه أينما كان وأنه بما يعمل بصير، وأن الله كما يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل في جوف السماء الواسع وفضائها المثير، فهو المطلع على ما في جوف الإنسان الصغير وهو به خبير ولهذا قال، (وهو عليم بذات الصدور) ¶ فهل بعد هذا البيان من بيان لمن يريد أن يفهم مدى سعة وعمق العلم الذي يلقاه في القرآن؟ ¶ إنه علم من هذا العلم الواسع الذي يختص به الله العلي العظيم. ¶ وإذن فإن على الناس أن يوقنوا بأن هذا القرآن هو العلم الذي ينير وهو الحق الذي لا ريب فيه وهو الصراط المستقيم وهو الذي يعلمنا كيف نتعامل مع كل ما حولنا من الأشياء والمخلوقات الصغرى والكبرى بأسلوب سليم وبسلوك مستقيم لا عوج فيه ولا فساد ولا بغي ولا إحباط ولا انحراف ولا عناد، إنه طريق الانسجام مع كل الأنام، والهادي إلى إقامة الميزان بالقسط والنظام، وهو النور الذي يبدد الحيرة والظلام، ويصد الظلم والبغي على مدى الأيام، وينشر ظل الحب والوئام، والأمن والسلام فلا عدوان ولا طغيان، ولا جوع ولا حرمان، ولا مسكنة ولا يتم ولا إذعان، ولا خوف ولا أحزان، ولا حرب ولا أضغان، ولا عسر ولا خسران، ولكن سعادة واطمئنان ، وحب وأمان، وبركات من السماء والأرض مضاعفة مدى الأزمان. ¶ هو هذا القرآن يا أيها الإنسان الذي أنزله إليك ربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، فيه تتعلم وتعلم، وبه تسعد وتسلم، وتفوز وتغنم، وتكون في الدنيا والأخرى ممن رضي الله عنه وأكرم. ¶ فإن أعرضت عنه كانت حياتك ضنكا، وعلمك شكا، وطريقك معوجا، ومنطقك لججا، وعيشك نكدا، وعمرك كدا، ولن تفلح إذا أبدا. ¶ فماذا تعلم غير ما علمك ربك؟ هل تعلم ما تكسب في غدك، إنك لا ترى ماذا وراء إذنك، بل إن ما تحت جفنك وفوق خدك غيب عندك، وهو أقرب شيء إلى عينك، فما بالك بما بين يديك وما خلفك من السماء والأرض، وما فوقك وما تحتك من الأجرام الصغرى والعظمى، إنك لا تدري عن ذلك شيئا، ومع ذلك تدعي معرفة الأسرار وأنت عن ربك بعيد، وتريد نيل الخيرات وأنت عنه تحيد وتبغي أن تسخر لك القوى والطاقات وأنت تنس خالق الأرض والسماوات، وتركن إلى ظنونك الواهنات. ¶ وبعد: هل سلمت معي أنك ضعيف عاجز؟ وأنك بدون ربك وعلمه غير فائز. ¶ إذن فكيف تتغلب على ضعفك والعجز؟ وكيف تنال النجاح والفوز؟ ¶ ليس أمامك إلا هذا القرآن الذي يعلمك فيه الرحمن كيف تقترن بغيرك من الكائنات، وكيف تتعامل مع إمكانياتها والطاقات، وكيف تفتح لك منها البركات، وتنهال عليك الثروات، وتسهل لك الممتنعات، وتسخر لك العسيرات، وتلين لك القاسيات، وتسير إليك الراسيات، وتظهر لك الغائبات، وتستجيب لك المستحيلات، وتلبى آمالك ومطامحك النجوم والذرات البحار والمجرات. ¶ هل تظن أن ما أقوله أحلام وأمنيات؟ وأوهام وخيالات؟. ¶ كلا كلا، إن ذلك ممكن لو كنت لله عبدا، وجعلت هداه هو الهدى، فلقد تحقق المستحيل لإبراهيم وزكريا فأصبحت العاقر ولودا سويا، ولقد استجابت البحار العميقة وانجابت الظلمات الكثيفة ليونس ذي النون فكان من الناجحين لأنه من عباد الله المسلمين. ¶ ولقد ذللت الريح العاصفة واستسلمت الجان لعبد من عباد الله المخلصين المسمى سليمان. ¶ فهل يطمح إلى مثل هذا التمكين إنسان لكنه تمكن منه لأنه استسلم لربه الرحمن واتبع هداه بيقين واطمئنان فكانت القوى الصعبة الجامحة في يده طائعة سانحة، بل لقد انزوت له المسافات واختزلت له الأوقات فإذا به يحضر عرش ملكة سبأ في سرعة تفوق سرعة الضياء، فهل وصل إلى هذا الإنجاز العلمي الرائع أحد بعد سليمان النبي؟ ¶ قد تقولون إنه نبي من الله، وأنا أقول: كلا، ولكنه نال ذلك لأنه عبد الله ولقد وصفه الله بقوله: (نعم العبد إنه أواب) ونحن نستطيع أن نكون مثله، لا أريد أن أعدد الأمثلة، فهي في القرآن واضحة ماثلة. ¶ ألسنا نقرأ سورة [القدر] إنها مثل من الأمثلة الماثلة، وهي لكل قارئ متناولة، وفي الألسن متداولة. ¶ أسألكم هل الله في هذه السورة يتحدث عن القرآن أم عن الليلة؟ إنه يتحدث عن القرآن فهو يقول: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) أليس الضمير في أنزلناه إلى القرآن؟ بلى، ثم ماذا؟ ثم يتساءل عن دراية الإنسان بقدر هذه الليلة فيقول: (وما أدراك ما ليلة القدر) وهو تساؤل يفيد التعظيم والتشويق إلى الخبر الذي يحمله إلينا عنها، ثم يأتي الخبر لكل من تدبر، فاستمعوا: (ليلة القدر خير من ألف شهر) لعل هذا يكفي ولكن هناك المزيد من الصفات التي ترفع قدرها وتعلي، فما هي: ¶ (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر) ¶ هل عرفتم الآن قدر هذه الليلة؟ وهل أدركتم سرها؟ وهل علمتم أمرها؟ إن الآيات واضحة لمن تدبرها. ¶ ولكن هل يعني هذا أن نقف عند الليلة وننسى المحتوى الذي حوت والفحوى الذي إليه أشارت فما هما؟ إنها حوت إنزال القرآن، وهي بتلك الصفات والسمات ، هذا هو الذي حوت، فما هي الفحوى؟ ¶ هنا يكمن السر الذي لم يدركه الناس ولم يعوا، وهنا يقع المعنى العميق الذي غفل عنه المسلمون وفي عمقه وقعوا ولم يرتفعوا. ¶ إن هذه الغفلة أنستهم عظمة المحتوى وفضله وسمو الفحوى لمن عقله. ¶ إن فحوى السورة يؤكد لنا أن هذه الليلة إذا كانت بهذه الصفات العليات والسمات الساميات فإن ما حوته من الإنزال فيها لا بد أن يكون محتويا على تلك السمات ومتسما بتلك الصفات إن لم يكن أكثر وأوفر حظا. ¶ وكيف لا يكون كذلك وهو المحتوى والليلة الوعاء؟ ولا شك أن المحتوى لا بد أن يكون أغلى وأثمن وأنفع من الوعاء الذي حواه وإلا فإني أسألكم سؤالا بديهيا، هل يمكن أن تضع صدفا في حقيبة من ذهب أو حتى من فضة؟ كلا، ولكن قد تضع ذهبا في حقيبة من صدف أو خزف أو حتى فضة، لكن المحتوى لا بد أن يكون أغلى وأشرف. ¶ وإذن فإذا كانت الليلة لها تلك الصفات وقد حوت هذا التنزيل ؛ فإن المنزل فيها لا بد أن يتصف بما اتصفت به بلا شك. ¶ فهي مباركة وهو مبارك وهي سلام وهو سلام، وهي تنزل فيها الملائكة وهو تنزل به الملائكة وتنزل عل من تلاه. وهي خير من ألف شهر، وهو كذلك على مدى الدهر. ¶ لكن الغفلة قد أخذت المسلمين والتصور قد ران على المرتلين فاهتموا بالليلة ونسو الآيات المنزلة واهتموا بالوعاء ونسو المحتوى فإذا بهم ينتظرون هذه الليلة طيلة العام في كل عام، فإذا أهلت أو ظنوا أنها قد حلت أقاموا الصلوات ورفعوا الدعوات وأكثروا الأمنيات فإذا ذهبت الليلة ودعوها ورقدوا وظنوا أنهم قد ربحوا هذا على فرض أنهم قد عرفوا تحديد موعدها مع العلم أنهم مختلفون فيه فهي تدور بين الليالي العشر الآخرة بدون تحديد. ¶ لا سيما إذا ما عرفنا أن بعض الأقطار تبدأ الشهر قبل أو بعد سواها. ¶ وهذا يؤدي إلى اختلاف ليالي القدر فالليلة السابعة والعشرين في قطر هي الثامنة والعشرين في آخر أو السادسة وإذن فأين هي الحقيقة لموعد الليلة وأي التحديد أصح لها؟ لا ندري. ¶ وهكذا يصبح إدراكها لأحد الأقطار مشكوكا فيه إن لم يكن للجميع. ¶ وعليه: فما هو السبيل في إدراكها للجميع بدون فوات؟ إن السورة توضح ذلك وتحدده وتجعل إدراكها سهلا وممكنا باستمرار. ¶ قد تسألون كيف؟ ¶ والجواب يأتي في سؤال آخر أوجهه إليكم هو: ¶ هل تدركون ماذا يعني إنزال القرآن في ليلة القدر، هذه الليلة الموصوفة بأنها خير من ألف شهر وبأنها ليلة مباركة وغير ذلك من الصفات المعروفة؟ ¶ إن ذلك يعني أن صفاتها ليست مؤقتة بها وليست موقوفة عليها ولكنها دائمة الوجود ميسورة الظهور في كل يوم وحين في هذا القرآن المبين الذي أنزله رب العالمين. ¶ فكأن الله يقول: ¶ هل تريدون أن تكون حياتكم كلها ليلة قدر؟ هل تريدون أن تكون أيامكم كلها موصوفة بصفات ليلة القدر؟ هل تريدون أن تكون أعمالكم حكيمة مباركة وعلاقاتكم سلاما تنزل عليها الملائكة؟ ¶ هل تريدون أن تكون عيشتكم واسعة هنية بصورة سوية؟ ¶ هل تريدون ما لا يحلم به خيال من الجمال؟ ¶ هل تريدون ما تعجز عنه العقول من الكمال؟ ¶ هل تريدون حكمة الله معكم ، وعلمه ونوره بين أيديكم؟ ¶ هل؟ هل؟ هل؟ وإلى ما لا نهاية من الأحلام التي تتحقق والآمال التي تنال والسعادة والاطمئنان والعزة والأمان. ¶ هل تريدون الفلاح في الدنيا والأخرى والفوز برضى الله؟ نعم نعم يا رب. ¶ إذن عليكم بالقرآن إنه الحياة لكم من الموت، ونور يسعى بين أيديكم وبأيمانكم في ظلمات الجهل، (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) [الأنعام:123]. ¶ هذا أيها الأعزاء هو معنى (إنا أنزلناه في ليلة القدر. . الخ السورة). ¶ إنه إخبار لنا أن صفات ليلة القدر دائمة البقاء ظاهرة الأثر لمن عمل بالقرآن وتذكر والتزم به وتدبر. ¶ (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) [ص:29]. ¶ فهو للجمال الباب وهو للكمال اللباب وهو للخير والفلاح طريق الصواب، وهو النور لأولي الألباب. ¶ أما من كذب واستهزأ فليس له إلا الخسار والعذاب ولا يزيده إلا طغيانا وكفرا وتباب. ¶ إنه علم من الله علام الغيوب، ونور من الله نور السماوات والأرض وحكمة من الله العزيز الحكيم، إنه باختصار يشع بأجمل وأسمى آيات الله الحسنى ويكسو الناس وحياة الناس بمعانيها العظمى. ¶ فهل لكم بعد هذا أيها الناس من سبيل سواه ؟ وهل لديكم أيها الناس هدى غير هداه؟ كلا كلا فإنما هو العمى والأهواء. ¶ (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) [يوسف:108]. ¶ (قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) [البقرة:120]. ¶ (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) [الكهف:17]. ¶ وبعد فتعالوا معي نتأمل كيف أن صفات ليلة القدر قد وصف بها القرآن في كثير من الآيات البينات ولن أستقصي ولكني سأضرب أمثلة فقط أليست ليلة مباركة؟ والقرآن مبارك؟ واقرأوا الآية السابقة من سورة (ص) أليس يفرق فيها كل أمر حكيم؟ (يس * والقرآن الحكيم) (تبارك الذي نزل الفرقان) أليس تنزل فيها الملائكة والروح؟ اقرأوا صفات من يعمل بالقرآن: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون). ¶ أليست من كل أمر سلام؟ اقرأوا قوله تعالى: ¶ (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين(15)يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) [المائدة: 15و16]. ¶ أليست خير من ألف شهر في العطاء والبركات؟ اقرأوا قوله تعالى: ¶ (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهمبما كانوا يكسبون) [الأعراف:94]. ¶ (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) [الإسراء:9]. ¶ (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا)[الكهف: 2و3] ¶ ماذا تظنون بقوله تعالى: (أجرا كبيرا) إنه كبير من الله الكبير الغني الذي عنده خزائن كل شيء وما عنده باق لا يفنى. ¶ وماذا تظنون بقوله (أجرا حسنا)؟ إنه الحسن الذي لا يساويه حسن وليس سواه حسن ولا يأتي إلا من الله المحسن البديع الغني الوسيع ومع ذلك فهذا الأجر الحسن يحيط بكم ويبقى نزلا معدا لمكثكم أبدا أبدا إلا أنه العطاء الذي لا يقدر عليه أحد أبدا إلا الله. ¶ هذه مجرد مقارنة سريعة لتعرفوا أن سورة القدر ليس المراد بها الاهتمام بالليلة بل بما نزل فيها وليس المراد التماس الليلة ولكن التماس ما نزل فيها. ثم ولماذا ننتظر الليلة وهي لا تأتي إلا مرة في العام؟ ¶ وبين أيدينا ما احتوت عليه مستمر العطاء على الدوام. ¶ ولماذا نحضر نفوسنا في ليلة وبين أيدينا بركات وخيرات تملأ الدهر كله ولماذا نقنع بليلة وأمامنا كل الأيام ولياليها لتكون كلها مباركة وتنزل فيها الملائكة ونبسم بالخير والسلام ويطلع فيها الفجر البسام الذي يجلو كل ظلام والجمال الذي يمحو كل قبح وآلام. ¶ إن القرآن هو الباب لمن أراد ذلك العطاء المنهمر. ¶ وهو السبيل لمن يروم ذلك النور المستمر، وهو الهادي إلى السلام والخير المنتشر والنمو الكامل والأمان الشامل. ¶ إن عملا واحدا بهدى القرآن يساوي ألف عمل لسواه بل يفوق. وإن يوما واحدا في ظل العمل بالقرآن يساوي بل يفوق ألف شهر بل هو خير من ألفي شهر، ولتعلموا أن كلمة خير تعني وتشمل كل جوانب الجمال والكمال فكيف لو كان العمر كله؟ والزمن كله يمضى على هدى القرآن إذا لتضاعفت من الله البركات والخيرات والمنجزات والإبداعات ليصبح ما نناله في ليلة وضحاها يفوق ما نحلم به على مدى القرون مهما طال مداها ويصير ما ننجزه في يوم واحد حافل يفوق ما نحاوله في قرون بلا طائل، ذلك لأننا في ظل القرآن نمضي على هدى الله ونوره ونسعى بأعينه ووحيه وعونه لكنا مع الجهل والهوى نمضي في ظلمات بعضها فوق بعض (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) ¶ وكيف لا وهو علم من علم الله علام الغيوب؟ الذي لا يعزب عنه شيء في السماوات والأرض ولا يغيب ولا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير. ¶ ولكي ندرك هذا المعنى الجميل في القرآن وهذا المقام الجليل للقرآن فإني أدعوكم إلى تلاوة بعض الآيات التي تتحدث عن القرآن فماذا ستجدون في هذا المشوار من البيان؟ ¶ ستجدون أن الله حينما يتحدث عن هذا القرآن يتبعه غالبا بأسمائه التي تدل على العلم والقدرة والإحسان والإبداع والجمال والحكمة لكن صفة العلم مع ذلك غالبة مهما تعددت الأساليب واختلفت الكلمات والتعابير. ولكي أختصر لكم الطريق؛ فسأدخل معكم إلى المجال ليتضح لكم الجمال فلنبدأ على بركة الله ذي الجلال. ¶ لنبدأ بسورة طه، ولنقرأ من أولها إلى الآية: 8. ¶ (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا * الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) ¶ أنظر أخي القارئ كيف أوضح الله أن مصدر هذا التنزيل ممن خلق الأرض والسماوات العلى ثم قال: (الرحمن على العرش استوى) والرحمن يعني أسماء من أسمائه العظمى التي تدل على عدة من أسمائه الحسنى وأهمها العلم ولهذا قال (على العرش استوى) فالاستواء هو الاستمرار في العلم بما يجري في خلقه والإحاطة بما دق وجل وظهر واختفى ولهذا قال مؤكدا علمه وإحاطته بكل شيء: ¶ (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) ¶ ثم لم يترك الإنسان الذي هو شيء هام في هذه الكائنات فقال ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب إليه: ¶ (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) ¶ فالإنسان معني بهذا القرآن فإذا كان تنزيلا ممن تلك صفاته وممن يعلم سر الإنسان وأخفى منه؛ فإنه هو الذي يرجى ويدعى ويخشى وهو الذي يهدي إلى خير الهدى، (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) فسبحانه المنزل القرآن الكريم والهادي إلى صراط مستقيم وهداه هو الهدى. ¶ هذا عرض سريع لمعاني الآيات، ألا تلاحظون أن العلم هو أبرز معاني الصفات الواردة لله في هذه الآيات؟ فهو علم للإنسان من الرحمن، ثم إذا شئتم مزيدا فلنقرأ معا أول سورة السجدة إلى الآية9: ¶ (الم(1)تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين(2)أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون) ¶ نعم إنه تنزيل من رب العالمين وهو الحق من ربك، فما هو هذا الرب؟ ها هو البيان: ¶ ( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون * يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) صدق الله العظيم [السجدة: 1-9]. ¶ أرأيتم كيف أتبع الخبر بإنزال القرآن بأهم صفات العلم؟ فهو(من رب العالمين) ورب العالمين لا تعني إلا الإحاطة بكل شيء والقرب من كل مخلوق والتدبير لكل صغير وكبير ونجم وقطمير، ثم أوضح وبين ما أجمل في (رب العالمين) بقوله: ¶ (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش) ¶ فالخلق يعني الإبداع والابتكار على غير سابق مثال، وحفظ كل مخلوق وإمساكه عن الزوال، والقدرة على تسييره والهيمنة عليه في كل حين وحال. ¶ أما الاستواء على العرش فهو يعني الاستمرار في العلم بما خلق والإصلاح لكل ما جل ودق، والإجابة لكل من دعى وعلى الباب دق، ولهذا قال: (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون) ¶ فهو الولي الذي يدعى ويرجى ويخشى وهو الشفيع الذي بيده الأسباب وهو الذي يأذن لها بالنفع أو الضرر، وبدون ذلك ليس لها أثر، وهذا معلوم لمن تذكر (أفلا تتذكرون) فتدركون أن كل سبب وأثر بيد الله وأنه هو العليم بحال كل شيء، والرحيم بكل شيء وحي، وه والغني وإليه يفتقر الجميع (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) ومع علمه ورحمته وحكمه وقدرته فهو (الذي أحسن كل شيء خلقه) ثم خص الإنسان بما يميزه عن سواه، وفي حسن تقويمه سواه، وحسب الإنسان وكفاه تكريما أنه نفخ فيه من روحه وأعلا شأنه عنده، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، ألا أن هذا الذي أحسن الخلق وصور، لجدير بأن يشكر، وما الشكر إلا أن يعبد ويحمد ويرجى ويقصد وعلى هداه يعتمد، ألا وإن القرآن هو الهدى الذي جاء فيه علم الله وحكمته للإنسان، لينال به السلام والسعادة والأمان. ¶ ولكن الله العليم بما كان وما يكون يصفنا بقوله (قليلا ما تشكرون) ¶ وذلك هو الخسران وهو الحرمان من العلم الذي يأتيه من الرحمن إنها هذه الآيات دعوة للإنسان ليقبل على هذا العلم الذي خصه به عالم الغيب والشهادة تفضلا منه ورحمة بعباده وإلا فهو الغني عمن كفر والعزيز عن كل البشر. ¶ لكنه رحيم بهم وإن يشكروا يرضه لهم، بل ومن فضله يزيدهم. ¶ وبعد: فحسبي هذه الكلمة تعقيبا على الآيات فهي بينة لمن تذكر واضحة لمن تفكر فيا سعد من شكر واستجاب لربه الأكرم ومن علمه اغترف وتعلم، وبنفسه زكى وكرم. ¶ والآن: هل أزيدكم بعض البيان؟ وهل أقدم مزيدا من البرهان على أهمية وسمو العلم الذي جاءنا في القرآن. ¶ اقرأوا إن شئتم آخر سورة الحشر تجدوا ما هو أعظم. ¶ (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) ¶ هل قرأتم بإمعان؟ هل تفكرتم في هذه الأمثال الحسان؟ ¶ لو تفكرتم لخشعتم لله تصدعا، ولخشيتم الله تضرعا ولكن صبرا فإن ما سيأتي يدعو كل ذي لب إلى الخشوع منه إجلالا وإلى الخشية له امتثالا فاستمعوا كيف أوضح لنا مصدر التنزيل، إنه مصدر صاف جميل ومقام رفيع جليل ومنبع عذب سلسبيل، هل أنتم على استعداد للارتفاع معي إلى هذا المقام؟ إذن فلنقرأ معا ما يأتي باهتمام: ¶ (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون) ¶ أسمعتم بتدبر؟ أقرأتم بتفكر؟ أعلمتم بتذكر؟ ¶ لو كان ذلك قد حصل فإنه لا مفر لي ولكم من الوجل لله الأجل. ¶ ولا بد من التعظيم لمن أنزل، ولما نزل لنا وبه علينا تفضل، وكيف لا وهو من هذا المصدر الأسمى، وهو الله الذي له الأسماء الحسنى. ¶ إنه فضل وكرم عظيم، ونعمة ورحمة لكل عقل سليم. ¶ إنه قرآن منزل بالهدى وبالبينات، ممن له تلك الأسماء والصفات، فماذا يعني هذا؟ ¶ إنه يعني أن ننال من معاني تلك الأسماء ما به تسمو إلى المقام الأسنى، فننال الرحمة والعلم، والسلام والأمان والعز والإيمان، والبراءة من الشرك ومن الذل للطغيان، إنه يعني أن العمل بالقرآن والإقبال على تدبره بإمعان أن تكون من أولي الحكمة والعرفان (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) فلا يخفى علينا سر ولا يصعب علينا شيء فالله فالله لنا سخر، ولا يمسنا ضراء بل تصبح الحياة يسر وسراء. ¶ إنه يعني أن حياتنا تكون واسعة حسنى لا ضيقة ضنكا وأن لنا في كل حال وحين من الله خيرا وعونا، وأن نكون برعايته منتصرين على كل شيء، آمنين من كل ضر، موفقين لما ينفع ويسر، وكلنا على صراط الحق مستبصر، فلا يضل ولا يشقى ولا يخاف ولا يحزن أبدا ولا يخشى غير الله أحدا. ¶ إنه مقام المخلصين المسبحين الموقنين القانتين الصادقين الصديقين المصلحين الصالحين العلماء الراسخين الشهداء الشاهدين ومع النبيين في عليين. ¶ إنه مقام رفاقنا فيه النخبة الأبرار المتقون، والسابقون المقربون، الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين أولئك هم السعداء في الدنيا والأخرى، وهم الذين يرثون الفردوس الأعلى، وحسن أولئك رفيقا. ¶ فهل نحن نسموا إلى هذا المقام ؟ هل نطمح إلى هذا الفلاح والإكرام؟ ¶ لا شك أن كلنا يهوى الفوز العظيم والنعيم المقيم. فهل تدرون أن طريقه القويم هو هذا القرآن الحكيم. إنه هو لا سواه لأنه تنزيل العلي العظيم، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم. ¶ ومن يهدي ومن يعلي ويرفع سواه؟ ومن يعطي كعطاه؟ لا أحد لا أحد إلا هو الله أحد. ¶ فهيا إذن إلى القرآن نتدبر ونتذكر ونسمو إلى المقام العلي عند مليك مقتدر. ¶ وإذا أردنا مزيدا عن هذا القرآن لننقل النظر من الحشر إلى آل عمران، فماذا نقرأ في أول السورة والعنوان؟ (الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم) هل أدركتم هذا الاستهلال الجميل الجليل؟ ¶ فهو الله الذي لا يشاركه شيء في الألوهية، ثم هو الحي القيوم. ¶ فهو الحي الذي منه حياة كل شيء هو الحي الذي لا يموت وكل شيء هالك إلا وجهه، وهو القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو القائم على كل شيء بالقسط وبه يقوم كل شيء وبدونه يزول وهو الذي وهب للناس العقول ليقوم الناس بالقسط والميزان ويقيموا الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان . فكيف يمكن هذا للإنسان؟ إنه بهدى الله في القرآن. ¶ ولهذا جاء بعد تلك الآية العظيمة الاستهلالة الجميلة قوله تعالى: ¶ (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان) ¶ فالكل من مشكاة واحدة ومن مصدر عظيم واحد هو الحي القيوم الذي لا يموت ولا ينوم فهو الهادي وهداه هو الهدى الذي ينير للناس على المدى ويمنحهم الأمان والفوز في الدنيا والأخرى. ¶ وإذن فإن المخالف بهذا الهدى والمنحرف عن هذا الطريق هو الهاوي في مكان سحيق، وهكذا جاء للآية الختام فقال الله العلام، (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام ) ¶ وهذا هو الذي يستحقه من استهان بآيات الله العلي العظيم. لقد اتخذ إلهه هواه واتبع الشيطان الرجيم. ¶ ثم إن الله كما وصف نفسه بالعلم المحيط في الآيات التي أوردناها قبل هذه من السور فإنه هنا يؤكد نفس المحور فيقول: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) ¶ نعم نعم يارب هذا هو الحق الذي لا ريب فيه ولا مراء، وإنه لواضح في كل حال وحين، ألم يخلق الله الناس ويصورهم من ماء مهين فجعلهم بعلمه وقدرته سامعين مبصرين وفي أحسن تقويم معتدلين، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، وها هو الدليل يلي في الآيات بشكل مبين، فالله يقول للعالمين: ¶ (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) ¶ أليس هذا هو الواقع بلا مدافع، من ذا الذي يختار لنفسه الحجم والوزن واللون والصورة؟ ¶ من ذا الذي يعلم ماذا يجري في ظلمات الأرحام؟ من أطوار ومن خلق بعد خلق بدقة وانتظام. ¶ لا أحد يدري ولا يعلم ولا لأحد في ذلك مشاركة أو أسهم. ¶ بل هو الذي يصورنا كما يشاء وهو الذي يختار، (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) هكذا يختم الآية ويقرر وبهذه الحقيقة يجب أن نقر وله نعبد ونكبر. ¶ وبعد: فلا بد أن أشير في النهاية إلى قضية هامة وحقيقة ظاهرة ذلك أن كل الآيات التي أوردناها من مختلف السور والحافلة بصفات العلم لله لا بد أن نعرج على الإنسان. ¶ ونخبره أن العلم الذي عند ربه، متصل ويحيط به في كل حال وطور من أحواله وأطواره وفي مختلف تقلباته وجوانبه. ¶ فالله هو الذي يعلم عنه السر وأخفى وهو الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، بل هو الذي خلقه من طين ثم طوره إلى سلالة من ماء مهين. ¶ ثم رقاه إلى خلق آخر ذي سمع وبصر وفؤاد مبين. ¶ فواجبه أن يعبد ربه الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. ¶ فتلك هي المهمة التي خلق لها وهي الأمانة التي حملها وهذا هو الحق الذي به خلق الله الأرض والسماوات وما بينهما، وهو الذي يدعو إليه الإنسان، ومع كل الأنبياء والمرسلين، وفي كل الكتب وفي التوراة والإنجيل والقرآن. ¶ ألم يقل الله في هذه السورة (نزل عليك الكتاب بالحق) فالحق هو الذي يجب أن يقوم في حياة الإنسان، لأن كل شيء به محكوم، وعليه الأرض والسماوات تقوم، وتذعن للحي القيوم. ¶ وهكذا يكون القرآن، هو الهادي إلى الحق والميزان، الذي قامت به كل الأكوان. ¶ وبناء على هذه الحقيقة فإني اختم هذا المحور بأروع وثيقة. فلو تأملنا سور القرآن وتدبرنا الآيات بإمعان، لوجدنا أن فيه خمس سور تبدأ بالحمد لله. هي الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر. ثم ماذا؟ ¶ إن هناك أربعا منها تبدأ بالحمد لله على شيء عظيم فهو يحمد لأنه رب العالمين [في الفاتحة] ¶ وهو يحمد على أنه: (الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) [في الأنعام] ¶ وعلى أنه (الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الإخرة وهو الحكيم الخبير) [في سبأ]. ¶ ثم وبعدها: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا) [في فاطر]، فهو المحمود في الأربع لأنه خلق السماوات والأرض وأبدع وأقامها على الحق الذي به الباطل يزهق، فماذا بقي بعد ذلك؟ ¶ لكنا لو عدنا إلى الوسطى أي إلى واسطة العقد في الخمس السور وهي سورة الكهف، فماذا سنجد؟ ¶ (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) ¶ فالسورة تبدأ بالحمد لله، على ماذا ولماذا؟ إنها تنفرد بشيء دون سواها، إنه إنزال الكتاب، هل تدرون ماذا يعني هذا؟ ¶ إنه يعني أن إنزال الكتاب على عبد الله ورسوله إلى العالمين يساوي خلق السماوات والأرض ويساوي خلق كل العالمين. ¶ لماذا؟ لأنه نزل بالحق وكل شيء في السماوات والأرض وكل العالمين قائم بالحق ومخلوق بالحق. ¶ فليس لعبا ولا عبثا، ولا باطلا ولا سدى. (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) ¶ إذن فالإنسان لا يستطيع أن يسير في موكب الحق إلا بهذا القرآن وإلا فحياته باطل وبهتان وهكذا أصل بكم إلى هذه الحقيقة العظمى للقرآن وأختم هذا المحور الأول من مفردات القرآن التي كان أولها كلمة [قرآن]. ¶ والآن فإني أدعوكم للعودة إلى ما قررناه قبل الآن وهو أن القرآن يعلمنا القرآن. ¶ ألا تتذكرون هذه العبارة، القائمة كالمنارة؟ ¶ إنها حق لا ريب فيه وواقع لا جدال فيه، فالقرآن يعلمنا كيف نقترن مع هذه المخلوقات العظام، وكيف نسلك معها باتزان وانتظام، وكيف نتعامل معها بصلاح وسلام. ¶ ثم كيف نتعامل مع بعضنا البعض ومع أنفسنا بعدل واتزان، فلا نطغى في الميزان، ولا نخترق الاقتران، ولا نفجر الاطمئنان، ولا نتعدى نظام الرحمن، الذي علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان. ¶ إلا أن على الإنسان أن يفهم أن الخروج عن صراط القرآن هو الهم والغم وأن الانفلات من هدى ذي الجلال هو العمى والضلال وأن الفرار من حكمه هو الفساد والانحلال، وأن الاعتماد على الهوى هو الخسران والوبال، وأن عبادة المال هو الحروب والافتتال، وأن اتباع الطغاة هو الهلاك والوبال، وأن الجهل بعلم القرآن هو الذل الذي يطحن الجبال، ثم ماذا بعد؟ ثم وهو الأدهى والأمر لكل البشر، الحشر إلى جهنم ولبئس المستقر. وهذه سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير مع الحاضر ومن غبر، (ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الإخرين * كذلك نفعل بالمجرمين) [المرسلات: من16 إلى19]. ¶ إن لم تصدقوا كلامي فانظروا في حال العالم اليوم، إلا إن ملامح الهلاك على الأحوال واضحة، وأن أسواط العذاب على ظهور العالم جامحة، والرمضاء والبأساء والضراء تحت أقوالهم لافحة، وأن أظافر الفقر والجوع على جلودهم جارحة. ¶ هذا ملموس لكل ذي لب مستنير، رغم المال والثراء الكثير، نعم إن الثروات كثيرة، ولكن الكوارث مستطيرة، وإن الخيرات متدفقة، ولكن الخلافات منبثقة، والصناعات والزراعات والعمارات واسعة ولكن الجموع عارية جائعة. ¶ الإنسان يطور سلاح الدمار، ويطلق الصواريخ والأقمار، لكنه يعجز عن تضميد جراح المرضى وتوفير العقار، يرصد أجهزة التجسس على السائرين والنائمين، لكن الذعر يعتري قلوب الراصدين والمرصودين. ¶ مسكين هذا الإنسان يطور السلاح ويطلق الصواريخ والأقمار للحرب والدمار، وحماية الطغيان والاحتكار، لكنه يعجز عن تضميد جراح مظلوم ويبخل عن قيمة العقار، يرصد الملايين لأجهزة الرصد والتجسس على الساهرين والنائمين والقاعدين والسائرين، لكن الذعر يغتال الراصدين والمرصودين والساهرين والنائمين ويظن شركات التأمين هي الأمان المكين لأصحاب الملايين، لكن الخوف يعصف بالملايين وأصحاب الملايين. ¶ الإنسان يكنز في البنوك الأموال، ويخترع أبشع وسائل الاستغلال، ويوسع شركات الاحتكار في كال مجال يظنها الأرباح والنجاح للكانزين والمحتكرين لكن الهلع ينهش المستغلين والمستغلين، والفزع يرعش المستكبرين والمتسضعفين، والإنسان يظن سعة الملاعب وباذخ الملاهي وفاخر القصور، تجلب الفرح والسرور. ¶ لكن الحزن والضجر، يسكن الأكواخ وخيام النشئ وفاخرات الدور والخوف يخيم على الأفراد والجموع ويخترق الأفئدة التي في الصدور. ¶ إنه عذاب واصب وقلق دائم، ألم يسطر على العالم والخاسر والقائم؟ فهل من مهرب ينفع؟ هل من ملجأ يمنع؟ ¶ كلا إن المزيد من الجشع، يشعل نار الهلع والبغضاء والفزع، إلا أن المفر للإنسان هو في ظل القرآن، إنه في عبادة الرحمن، إنه هو السلام والأمان، هو الخير والاطمئنان، إنه هو المنجي والواقي والحامي من الآلام والكروب (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). ¶ وما هو ذكر الله المراد في هذه الآية؟ ¶ إن ذكر الله المراد هو العلم الذي جاء به القرآن وسيأتي لكم في هذا الكتاب ما يؤكد هذا المعنى للذكر ويكفي أن أدلل على ذلك هنا بقوله تعالى على لسان نوح عليه السلام لقومه وقد اتهموه بالضلالة: (قال ياقوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون) [الأعراف:61و62] ¶ وإذا كان يعلم من الله ما لا يعلمون؛ فإنه يواصل الحديث معهم فيقول: (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون) [الأعراف:63] ¶ بل إن هودا يؤكد نفس المعنى إذ يقول لقومه وقد رموه بالسفاهة (قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ) ¶ ثم يقول: (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) [الأعراف:67و68و69]. ¶ فماذا يعني لكم الذكر في قولي نوح وهود؟ ¶ إنها تعني العلم لا غير؛ ذلك أنهما أبلغا قومهما رسالات ربهما وما الرسالات إلا علم جديد من عند الله لم يكن هؤلاء الجهلاء يعلمونه إلا بواسطة الرسل. ¶ وهل هناك جهل أشد وأظلم من قول قوم هود وقد بلغهم أن لا يعبدوا إلا الله فماذا قالوا؟ استمعوا هذا الجهل المطبق: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) [الأعراف:70] ¶ إنهم يتمسكون بعادات آبائهم وضلالهم المهلك ويذرون عبادة الله وحده وهو الحق الذي يخرجهم من الخوف والذل ويمنحهم حياة مخلدة. ¶ أليس هذا هو الجهل بلا حدود؟ بلى بلى إنه البهتان والتمسك بما لم ينزل به الله من سلطان، وهذا هو العمى والضلال والهوان. ¶ إذن فالذكر الذي جاء به نوح وهود لم يكن إلا العلم الذي استنكره الجهلاء وارتضوه وكذبوا الرسول وضللوا الأول والثاني سفهوه، ألا إنهم هم الضالون وهم السفهاء ولكن لا يعلمون. ¶ ولكي نؤكد الموضوع أكثر فالله يقول في أول سورة (ص) (ص والقرآن ذي الذكر) أي: ذي العلم، وعلى هذا فالله يقول في آخر السورة نفسها (إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين) ¶ أي إنه علم للعالمين وسيعلمون نبأه وصدقه بعد حين بأنه العلم الحق وكذلك حين يقول الله: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) [الأنبياء: 10] لا يعني إلا كتابا فيه علم لكم من الله ربكم. ¶ ألم يبدأ السورة بقوله تعالى: ¶ (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون * ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) [الأنبياء:1و2] ¶ ويقول فيها أيضا: (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون) [الأنبياء:42] ¶ ويقول فيها عن موسى وهارون في الآية: 48 ¶ (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين) ¶ من هم المتقون؟ ¶ إنهم العلماء الذين يعلمون هذا الذكر فهم ¶ (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ) [49] ¶ ثم يقول في الآية الخمسين بعد ذلك: ¶ (وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون) [50] ¶ إذن فهو العلم كما رأينا وكما تضح لنا وهذا ليس إلا قليل من كثير سيأتي في بحث معنى كلمة [ذكر] بإذن الله. ¶ لكني لن أغادركم حتى أعود بكم إلى السورة التي قبل الأنبياء وهي سورة طه، حيث يقول الله بعد أن أخبر رسوله محمدا بأخبار موسى وفرعون وهي علوم لم يكن يعلمها ولا سواه، يقول الله: ¶ (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا) [طه:99/100] ¶ ثم وعن سجود الملائكة لآدم وإباء إبليس ثم وسوسته لآدم، ماذا يقول الله بعد ذلك في نفس السورة: ¶ (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) [123/124/125/126] ¶ أليس في هذا ما يدل على أن الذكر هو العلم فالآيات لا تحوي سوى العلم. ¶ والآن وقد عرفنا أن المراد بالذكر هو العلم، وأنه كما يقول الله (ذكر للعالمين)، فكيف يكون ذكرا للعالمين وهو لم يصل إلى العالمين؟ هل يقول ما لا يتحقق؟ هل يعد بما لا يصدق؟ كلا كلا، فلا بد أن يصل هذا الذكر للعالمين ولا بد أن يعلمه كل الناس، ولكن كيف والنبي قد مات؟ كيف يتم ذلك والناس متمسكون بما لديهم من الملل وبالديانات ؟ وما هي إلا أهواء وضلالات. ¶ إنه سؤال مهم ، والجواب أهم لمن يعقل ويفهم. ¶ لكن الجواب عليه واضح البيان، وهو موجود في القرآن، فأين من يقرأون؟ وأين من يفقهون؟ ليؤدوا ما يحملون، لنبدأ من قوله تعالى للمسلمين: ¶ (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) [آل عمران:144] ¶ نعم ما محمد إلا رسول بلغ ما أنزل إليه من العلم وأوصل ما كلف به من الذكر وصدع بما يؤمر وبشر وأنذر وعلم وذكر ولقد علم بالبلاغ كل من حضر، وللنبي والنبوة عاصر، وآمن به وصبر، واتبع الذكر وتذكر، ولكن هل بلغه إلى من يليه من الأجيال، هل حمله إلى من يجهله من النساء والرجال؟ ¶ نعم ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وماتت وهو سيموت وقد مات فهل نحمل ما حملناه من بعده إلى غيرنا؟ أم ننقلب على أعقابنا؟ إذا انقلبنا فإن الله غني عنا ولن يتضرر بالانقلاب غيرنا لأننا أهملنا ما حملنا. ¶ وسيكون الضرر عقاب في الدنيا والأخرى وذل لنا ولمن بعدنا، لكن الأوفياء بحمل الرسالة وتبليغ القرآن لكن الشاكرين الذاكرين المتذكرين المذكرين بالقرآن جزاؤهم على الله فإنه شكور وفي معين، وهو يزيد لمن شكر، وغني عمن كفر، ولهذا قال: (وسيجزي الله الشاكرين) وهو وعد مؤكد من أصدق القائلين، فأين الشاكرون؟ هل تدرون ما هو الشكر؟ هو الوفاء بالعهد والصدق في الوعد ولهذا سمى الله نفسه شكورا، أي: وفيا بما يعد الشاكرين، فأين أين الأوفياء بحمل الرسالة الكبرى ليجزوا من ربهم الجزاء الأوفى (ومن أوفى بعهده من الله) لا أحد إلا الله. ¶ لقد قال الله لرسوله ولنا وللمشركين في عصرنا وقبلنا وبعدنا (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) قالها في سورة التوبة 33، وقالها في سورة الصف9، وهو وعد لا بد أن يتحقق إذا لقي من يحمله وبه صدق، فأين الصادقون؟ أين المرابطون؟ أين الصابرون على الصعاب؟ أين المتذكرون؟ (إنما يتذكر أولوا الألباب) ¶ أيها المسلمون: ألم يقل ربكم لرسوله محمد ولكم(وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [سبأ:28] ¶ ويقول: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ¶ وإذا كان محمد قد مات؛ فكيف يكون للناس كافة بشيرا ونذيرا؟ ¶ وإذا كان محمد قد لحق برب العالمين مع غيره من المرسلين؛ فكيف يكون رحمة للعالمين؟ وكيف تصل الرحمة إليهم أجمعين؟ هل يخبر الله تعالى بما لا يكون؟ هل يقول الله سبحانه ما لا يتحقق؟ ¶ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (ومن أصدق من الله قيلا) ¶ إذن فما الوسيلة لوصول الإنذار إلى العالمين ؟ وما هو الطريق لنشر رحمة الله للعالمين بهذا الرسول الأمين؟ ¶ إن الوسيلة بيدكم وأنتم الوعاء الذي يحمل ما أنزل ربكم إلى من حولكم، وإن الواجب ملقى عليكم من بعد رسولكم. ¶ فهل تقومون بالواجب أم تتقاعسون؟ هل تنفرون للدعوة أم تتثاقلون بالشهوة؟ ¶ (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير) [التوبة:39] ¶ إنكم مكلفون بنص القرآن ما دمتم تدعون أنكم أتباع محمد رسول الله، (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) [يوسف:108] ¶ إن من الشرك أن تخالفوا أمر الله خوفا من سواه وتخلدوا إلى الأرض كمن أخلد إليها واتبع هواه، وتركنوا إلى الضالين، الذين يصدون عن سبيل الله ويغوون الدعاه بالمال والجاه. ¶ فإن فعلتم ذلك فأنتم من الطغاة الذين يمقتهم الله، إن المسلم الصحيح الإسلام هو من قال: ربي الله ثم استقام، وبالمهمة والدعوة قام، كما فعل محمد المرسل للأنام، والذي يقول له ربه ولكم معه على الدوام: ¶ (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) [هود:112و113] ¶ هل تريدون زادا وعونا للتوفيق؟ ها هو الزاد في القرآن يدلكم على الطريق. ¶ (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) [114و115] ¶ هذا هو الزاد للذاكرين المتذكرين، لكن المترفين المخلدين إلى الأرض المتثاقلين بالشهوات فهم سبب الفساد والهلاك لأنفسهم وللناس ولهذا يقول الله مخبرا عمن سبق: ¶ (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين) [116] ¶ فماذا كان مصير المجرمين؟ إنه الهلاك والعذاب المهين. ¶ فالله لا يعذب إلا من يستحق ومن ليس بالذكر يصدق. ¶ (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) [117] ¶ فالصلاح هو سبب البقاء والنماء والفلاح، أما الفساد فهو الطريق إلى الهلاك، فهل تنتظرون هذا المصير؟ ¶ هل تستهزئون بما أنزل وبالرسول الذي أرسل؟ ¶ (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون * وإن كل لما جميع لدينا محضرون) [يس:30و31و32] ¶ نعم إن لم تحملوا ما حملتم من القرآن، وإن لم تبلغوا ما ورثتم من الذكر والبيان إلى كل بني الإنسان؛ فأنتم أيها المسلمون مستهزئون بالرسول وبالقرآن وعاصون للرحمن وذلك هو الخسران وذلك هو الهوان (ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) [الحج:18] ¶ هل تريدون إيضاحا أكثر يؤكد لكم وجوب حمل القرآن إلى البشر؟ ها أنا أواصل السير والقرآن هو المصدر والله هو النصير. ¶ لنعد قليلا معكم إلى ما قبل الآية التي أوردناها في سورة يس، لقد وردت بعد أن ضرب لنا مثلا: ¶ (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين) الآيات: 13و14و15و16و17 ¶ نعم ما على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بلغوا وذلك واجبهم وكفى، وكيف لا وربهم يعلم أنهم مرسلون؟ وهو الذي يكافئ ويجزي فمنه الأجر لا من الناس وعليه الجزاء بقدر الإخلاص. ¶ (تنبيه) ¶ وقبل أن أصل بكم إلى نهاية المطاف أنبه هنا إلى قضية هامة، ذلك هو الخطأ الفادح الذي وقع فيه المفسرون، فلقد قالوا: (إن هؤلاء الرسل الثلاثة مرسلون من عيسى إلى هذه القرية) وهذه والله فرية يكذبها في النص القرآني كل آية أليس الله يقول: ¶ (إذ أرسلنا إليهم اثنين) ¶ فالإرسال منه لا من عيسى، ثم إن الرسل يقولون: (قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) فهم مرسلون من ربهم لا من عيسى. ¶ قد تسألون لماذا أنبه إلى هذا وبهذه الحدة؟ وأنا أقول لكم: إن هذه الروايات دخلت علينا من اليهود والنصارى الذين يجعلون من عيسى إلها مؤهلا ليرسل الرسل ويشارك الله في هذه الخصوصية التي اختص بها دون سواه. ¶ وعلى أي حال، فإن الرسل هؤلاء ليسوا من عيسى، ولكنهم من الله. ¶ وها نحن نراهم قد بلغوا وانتهت مهمتهم عند البلاغ الذي أمروا به (وما علينا إلا البلاغ المبين) والناس بعد هذا هم المسئولون ولا بد أن ينقسموا بين مكذب ومصدق، فالمكذب جزاؤه عند ربه، والمصدق عليه أن يحمل ما آمن به وأن يقوم بواجبه. ¶ وهذا ما حدث في هذه الآيات، ألا تلاحظون أن سياقها سكت عن الرسل نهائيا وانتقل، إلا الشيء المهم من بعدهم وهو حمل البلاغ عنهم. ¶ فإذا الرسل الثلاثة لم يخرجوا من مهمتهم إلا برجل واحد آمن بهم ولكن هذا يكفي لأنهم لا يريدون كثرة الأتباع ولكن المهم هو صدق الاتباع. ¶ ثم إن الله غني عمن كفر، ولا يزيد في ملكه من شكر، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر ويرضى لهم الشكر. ¶ وعلى هذا الأساس نرى الآيات تركز أكثر على دور الرجل الذي استجاب منفردا لربه وشكر واتبع الرسل ونصر. ¶ فانظروا كيف أن سياق الآيات جعل دوره أبرز إفصاحا وأكثر إيضاحا، لقد اهتم به الله وأفرده بالحديث وجعله هو المهم في المثل، ولنقرأ: ¶ (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) ¶ هكذا جعله منكرا ليدل على أن حمل الرسالات قد يفوز بها أي رجل مهما كان موقعه في ميزان الناس فهو عظيم في ميزان الله. ¶ إنه رجل ومن أقصى المدينة ليس من أعيانها ولا من الملأ المسرفين المترفين الذين يحبون الدنيا، كلا إنه رجل للخير يحب ويسعى، (قال ياقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) ¶ لقد فهم الرسالة وأحب لقومه اتباعها وعرف أن الرسل مهتدون ويهدون وللأجر لا يسألون وهذا دليل على صدقهم فيما إليه يدعون فكيف لا يتبعون، إن الخير كل الخير للقوم في اتباعهم لا في اتباع المسرفين الذين يضلونهم وهم يسلبون جهودهم ويأكلون أموالهم. ¶ وهذا هو شأن الناس مع طغاتهم يتبعون من يذلهم ويؤذي، ويكذبون من يعزهم ويهدي. ¶ أليس الرسل يدعون إلى عبادة الله الذي خلق الإنسان وفطره ورزقه وله ما في الأرض والسماء سخر، إنه بعبادة الله يسمو ويتحرر، ويكرم ويؤجر، وذنبه يغفر يوم يحشر، وذلك هو المقام العزيز والهدف الأكبر. ¶ (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) ¶ كيف لا أعبده وأرجوه وهو الذي أمري بيده وإليه مرجعي ومرجعكم جميعا (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا) ¶ ثم إن عبادتي لله هي التي تحمي وتصون، وتدفع عني كل خوف وحزن في الدنيا والدين وسوى الله فقراء عاجزون، لا يضرون ولا ينفعون، ولا حتى عن أنفسهم للضر يدفعون. ¶ (أأتخذ من دونه آلهة إن يردني الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون) ¶ أليس هذا هو الملموس في كل حين لمن يعقلون؟ إذن فمن عند غير الله فهو في ظلال وهوان، ولهذا يختم القول بقوله: (إني إذا لفي ضلال مبين) ¶ ثم يتبعه بالإعلان الساطع الرائع، يسمعه كل سامع، وليغيض به كل مكذب ممانع فيقول: (إني آمنت بربكم فاسمعون) إنه ربي وربكم فالمفروض أن تؤمنوا مثلي وتسمعوا قولي: وهكذا يحمل الرسالة شجاعا قويا لا يخاف أحدا ولا يخشى مسرفا، فالله ربه سوى، وهو حسبه وكفى. ¶ وهنا يأتي التعقيب على موقف الرجل السوي، وإيمانه القوي، وعقله الثاقب المضيء، فإذا به يفوز بالجنة عند ربه الأكرم، وفي المقام المكرم، فهو عند الله أكرم من القوم أجمعين، وأسمى من كل المسرفين، فهو في الجنة من المكرمين، يتمنى أن ينال ما نال: (ياليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) لكنهم لم يعلموا لأنهم أسرفوا فتلقوا (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) لقد أحبوا الدنيا فما بقيت لهم ولا بقوا لها وأحب هو الأخرى فبقيت له وبقي لها خالدا مكرما ناعما منعما وهكذا يكون مقام من حملوا الرسالات وبلغوا ما أنزل الله من الآيات. ¶ وهكذا يفوز الصادقون الذين يواصلون ما بلغه المرسلون، وهكذا يكرم الشاكرون الذين على أعقابهم لا ينقلبون، فإذا مات الرسل فهم صامدون صابرون مصابرون وإذا فرغ الرسل من مهمتهم استمروا مسلمين وعلى طريق الحق ثابتين مرابطين (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) ¶ إنه مثل ضربه الله للمكذبين وللمؤمنين بالرسل، ألم يقل في أول السورة(إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم) ¶ ثم بين موقف المكذبين ختم بقوله (لا يؤمنون) ثم قال (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم) فهما فريقان لا بد منهما مع كل الرسل، وللفريقين ضرب المثل ليتضح من صبر ومن كذب وكفر، ومقام من آمن وشكر، وليعرف المؤمنون أن واجبهم هو حمل الرسالة لينالوا التكريم وأن من اتبع الذكر عليه أن يبلغه ويدعو الناس إلى الصراط المستقيم ليفوز بالمغفرة وبجنات النعيم. وإلا فهو من المستهزئين بالآيات وبالمرسلين. ¶ فياحسرة على هذا لنوع من المسلمين الذين يزعمون أنهم أتباع محمد خاتم التبيين، وهم أتباع الهوى والشهوات والطغاة المسرفين، يريدون الإسلام، وهم نوام، ويريدون العزة، وهم عجزة. ويريدون المغفرة من ربهم وهم منقلبون على أعقابهم، مشتغلون بشهواتهم، راضون بالحياة الدنيا من الآخرة، مطمئنون إلى التافه القليل، وفي جمعه عباقرة. يخافون الطغاة، ويريدون أن يكونوا عباد الله، كلا لا يجتمع الشيطان والرحمن في مكان، ولا تجتمع الدنيا والدين في الجنان، ما جعل الله لرجل من قلبين في جوبه فهو قلب واحد. إما أن يسكنه الشيطان أو يسكنه الرحمن. إما أن يملؤه حب الله وإيثار الآخرة أو تكون الدنيا فيه هي المحبوبة المؤاثرة. فاختاروا أيها المسلمون إحدى الحالين، ولا تكونوا مذبذبين. ¶ أتخافون الموت؟ موتوا شهداء، ولا تموتوا أذلاء. ¶ أتخافون العذاب من الطغاة؟ تحملوا العذاب دعاة إلى الله، أحباء لله الصمد، ولا تعرضوا أنفسكم لعذاب الله الذي لا يعذب عذابه أحد. ¶ كونوا في إيمانكم صادقين، وفي الله مجاهدين، وإلى سبله داعين، لا تكونوا كما قال الله عن المؤمنين الكاذبين: ¶ (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين * وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) [العنكبوت:10و11] ¶ نعم إن الله يعلم سركم وجهركم، وإليه مصيركم ولن يسطيع أحد أن يدعي أنه دعى إلى الله وحمل رسالة الله وهو لم يعمل شيئا من ذلك بل اتبع هواه. ¶ إن يوم الحساب عسير، ولا تخفى على الله منكم خافية. ¶ ويومها سيقول: من أحب الدنيا والجاه والمال والسلطان واتبع الطاغية ما أغنى عني ماليه* هلك عني سلطانيه. ¶ لكن من صدق واتبع الحق وجاهد في الله وحمل إلى الناس آيات الله هو الفائز في دنياه ويوم يلقاه. ¶ لقد ضرب الله لنا مثلا في سورة يس بالرجل الذي مات في سبيل الله وآثر الحياة الأخرى على دنياه، فكان من المكرمين عند الله. ¶ فهل تريدون مثالا آخر ينجو فيه الحامل للرسالة من الموت ومن مكر الطغاة ويفوز برضاء الله؟ ¶ هل تريدون أن تبقوا للدنيا ولا تكونوا معرضين للأذى؟ ¶ ها هو المثال الثاني يأتي وبه يحتذى: ¶ قد تقولون لي هو هذا الفتى الذي حمل الرسالة بدون أن يؤذي، إنه رجل من أعماق الطغيان أطل، ومن ظلمات الضلال استهل، ومن صور الشرك بالله جاهد الشرك واستبسل. ¶ إن سألتم عن هذا الفتى فالجواب حاضر، فاقرأوا سورة غافر فالرجل هناك لكل متدبر للقرآن واضح ظاهر، إنه الشخصية التي استأثرت بالسورة، فلقد رسم الله له فيها أجمل وأسمى صورة، ليكون لمن بعده أسوة وقدوة مشهورة، وليكون آية للناس على أن جنود الله هي المنصورة. ¶ لعلكم قد عرفتم من أريد، ومن هو الفتى الذي نقصد. ¶ إنه مؤمن آل فرعون، والرجل الذي لم يخش المنون، أتدرون كيف برز للميدان؟ ¶ لقد برز في خضم الوعيد، وتحت بريق التهديد، بالقتل والتبديد، فبينما فرعون يقول مستكبرا متوعدا رسول الهدى: ¶ (ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) [غافر:26] ¶ نسمع موسى عليه السلام يرد التهديد ويردع التضليل بالاعتصام بربه الجليل فيقول: ¶ (إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) [غافر:27] ¶ وبهذا اليقين في رب العالمين يبرز الرجل كالشهاب اللامع، والنجم الساطع، والسيف القاطع، لتمزيق ظلام الكتمان عن إيمانه وليعلن أمام الملأ تسفيه الطاغية المستكبر ويدحض تضليله المسيطر وينبه الملأ الغافلين بأنهم في طريق الهلاك سائرون، ويضع أمامهم حجج الرسول بأسلوب سلس معقول وبيان ساطع في ليل التضليل. فاستمعوا الرجل المسئول كيف يقول: ¶ (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) [غافر:28] ¶ وهكذا يستمر مقارعا للطغيان ومدافعا عن الهدى والإيمان، وحاملا رسالة الحق بعزم قوي ما ضعف ولا استكان، يقاطع فرعون في الكلام، ويقف له ندا أمام الملأ النوام، ويشرح لهم قدرة الله العلام، ويوضح لهم مصير المكذبين وهلاك الغابرين، ويعلن خوفه على قومه والملأ من نفس المصير في الدنيا ، ومن السعير في الدار الأخرى، (وياقوم إني أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد) [32-33] ¶ أترون كيف حمل الرسالة، وأتقن القول أمام الجهالة، أتدركون كيف وقف أمام الاستكبار؟ بقوة وإصرار، وعزم لا يلين لجبار. ¶ هكذا تحمل الرسالات، وهكذا يكون موقف المؤمنين بالله وعلى هذا الطريق يجب أن يمضي من اتبع الرسل مؤمنا، وآمن بربه موقنا. ¶ إنه يحمل ما حملوا، ويواصلوا ما بدأوا، ويستمر على الطريق الذي شرعوا. ¶ لا يضعف ولا يستكين، ولا يتردد ولا يلين. ¶ بل يواصل المسير بعزم ويقين يدعو إلى صراط ربه المستقيم، مطمئنا إلى نصر ربه العظيم، وحمايته من كل مستكبر لئيم. ¶ ولن أطيل عليكم في شرح ما قال وما فعل، وفي إيضاح ما أدى وما حمل، بل أصل لكم معه إلى نهاية المطاف لنجده محاطا بحماية الله والألطاف رغم التهديد والوعيد الذي ينشر الرعب والإرجاف في قلب من يرهب الموت ويخاف. ¶ وكيف لا والمرد إلى الله وهو الحاكم يوم الدين. وهو العليم بالمؤمنين والمسرفين. (وأن المسرفين هم أصحاب النار) ¶ لكن المؤمنين هم الناجون ولهم عقبى الدار، بهذا اليقين يختم الحوار فيقول: (فستذكرون ما أقول لكم) ثم يطلق في بدايته عنانه والقياد، فيقول: (وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد) فماذا جرى بعد هذا يا ربي: ¶ هل قتله فرعون أو تمكن؟ كلا، ولكنه عجز وخاب ونجى المؤمن وفاز (فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب) ¶ أترون أن الله مع الصادقين، ينصر ويؤيد، وأنه معهم يحمي ويهدي، ويدمر من مكر ويردي، (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) .
مفردة الملك
هذه هي المفردة التي ربما تثير كثيرا من التساؤلات والاعتراض أو التردد أمام قبول ما سأقول.ذلك أن الناس اعتادوا على فهمها بالمفهوم الذي ألفوه وهو أن الملك يعني القيادة أو السيطرة والحكم للناس أو الاستيلاء في الأمارة، وهذا هو المفهوم الذي درج عليه الناس وفهموه ولكن هل هذا المفهوم صحيح في القرآن؟! وهل المراد بكلمة (ملك) أو (الملك) بضم الميم في القرآن هذه المعاني المذكورة؟
وهل المراد (بملك) بكسر اللام وبملوك جمع ملك أيضا هذا المفهوم؟.
لن أقطع معكم بقرار ولا برأي إلا بعد استعراض بعض الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة وهذه الكلمات.
وكذلك بعد أن نعرف معاني الآيات ومدلولها ونعرف ماذا يفيده السياق فيها من المعاني فهل يؤكد المفهوم المعروف للناس؟ أم أن لها معنى آخر لا يعرفه الناس؟
Shafi da ba'a sani ba