هنا القرآن - بحوث للعلامة اسماعيل الكبسي
هنا القرآن
قبس من نور آية
برنامج اذاعي يبحث في العبرة والتدبر في القرآن الكريم بما يكفل تصحيح الأفكار وتقويم الأفهام.
***
الشباب في القرآن
برنامج اذاعي بحثي ذو قراءة عصرية لكثير من القصص والموضوعات القرآنية بما يخدم قضايا الشباب في المجتمع .
***
المرأة والطفل في القرآن
برنامج اذاعي بحثي ذو قراءة عصرية لكثير من القصص والموضوعات القرآنية بحثا في موضوعات المرأة والطفل في القرآن الكريم .
Shafi da ba'a sani ba
***
ديوان الحمد والثناء
مجموعة شعرية متكاملة في الحمد والثناء تم نشرها من خلال البرنامج الاذاعي الرمضاني (في محراب الصيام ) على مدى عقد من الزمان خلال التسعينيات .
***
صوتيات
مجموعة من البرامج الاذاعية البحثية في القرآن الكريم التي تم تسجيلها بصوت فضيلة الاستاذ /اسماعيل حسين الكبسيهنا القرآن - بحوث للعلامة اسماعيل الكبسي ¶ هنا القرآن ¶ قبس من نور آية ¶ برنامج اذاعي يبحث في العبرة والتدبر في القرآن الكريم بما يكفل تصحيح الأفكار وتقويم الأفهام. ¶ *** ¶ الشباب في القرآن ¶ برنامج اذاعي بحثي ذو قراءة عصرية لكثير من القصص والموضوعات القرآنية بما يخدم قضايا الشباب في المجتمع . ¶ *** ¶ المرأة والطفل في القرآن ¶ برنامج اذاعي بحثي ذو قراءة عصرية لكثير من القصص والموضوعات القرآنية بحثا في موضوعات المرأة والطفل في القرآن الكريم . ¶ *** ¶ ديوان الحمد والثناء ¶ مجموعة شعرية متكاملة في الحمد والثناء تم نشرها من خلال البرنامج الاذاعي الرمضاني (في محراب الصيام ) على مدى عقد من الزمان خلال التسعينيات . ¶ *** ¶ صوتيات ¶ مجموعة من البرامج الاذاعية البحثية في القرآن الكريم التي تم تسجيلها بصوت فضيلة الاستاذ /اسماعيل حسين الكبسي
يدير هذا الموقع الالكتروني (هنا القرآن ) الاستاذ إسماعيل حسين الكبسي أستاذ البلاغة والتفسير في جامع صنعاء الكبير باليمن .
ولد في منطقة الجبي مركز قضا ريمة سابقا عاصمة محافظة ريمة حاليا وكان مولده عام 1360ه أي أن عمره الآن -لحظة كتابة هذا المقال- خمسة وستون عاما كان أبوه يعمل هناك كاتبا في المحكمة الشرعية وقد اعتنى به أبوه وعلمه مع إخوانه في مدرسة ابتدائية حكومية هناك حتى عام 1368ه الموافق 1958م حيث التحق بمدرسة علمية هناك أسسها عامل المنطقة في حينه بإذن من الإمام أحمد حميد الدين الذي أعتمد لها مرتبات المدرسين والطلاب وهم أبناء موظفي الحكومة وأعيان المنطقة، كانت المدرسة تعلم الطلاب علوم العربية والفقة والحديث والتفسير ثم انتقل صاحب الموقع إلى العاصمة صنعاء لاستكمال ما بدأه في مدرسة ريمة فالتحق بمدرسة دار العلوم العليا التي كانت مشهورة في عهد الحكومة المتوكلية بتخريج علماء الدين واللغة وعلماء الفقة والشريعة وعلماء التفسير واستمر في دار العلوم حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م.
لقد كان قيام الثورة إيذانا بإيقاف الدراسة في دار العلوم نظرا لتفرق الأساتذة والطلاب في حزمة الأحداث والحروب المتلاحقة التي استمرت حتى عام 1969م ومع أن الثورة اهتمت بالتعليم الثانوي والجامعي على غرار المنهج المصري إلا أن مدرسة دار العلوم لم تكن قادرة على الاستمرار لعدم الاهتمام بها في العهد الجديد.
في هذه الأحداث كانت وجهة صاحب الموقع هي الإذاعة اليمنية حيث كان معروفا بان له اهتمامات أدبية ونشاطات ثقافية في مجتمع شباب العاصمة والأساتذة والطلاب لهذا فإن زملائه الذين كانوا قد سبقوه إلى الإذاعة قبل الثورة قد فتحو له الأبواب ورحبوا به عنصرا فعالا وقدرة منتجة في مجال الإذاعة وبرامجها المتنوعة التي كانت تمثل صوت الثورة ومنبر العصر الجديد الداعي إلى التطوير والتحديث للمجتمع اليمني والدخول به إلى عصر التحولات الكبرى في العالم.
Shafi da ba'a sani ba
وهكذا عمل في الإذاعة من أول يوم مذيعا وكاتبا حتى عام 1964م حيث أهله نشاطه الإذاعي وتميزه الإنتاجي لأن يتولى إدارة البرامج في الإذاعة إلى جانب إسهامه الإبداعي في البرامج المتعددة الأغراض والأساليب والأهداف.ثم تولى في عام 1968م إدارة الإذاعة واستمر كذلك حتى أسندت إدارة الإذاعة إلى سواه ولكنه واصل مسيرته مذيعا وكاتبا متميزا للبرامج ولم يأبه بالمنصب لأن مهنته الإذاعية هي الأهم وشخصيته الأدبية هي الأبقى والأرقى في رأيه.لكنه مع ذلك عاد ليتولى في عام 1977م منصب وكيل وزارة الإعلام والثقافة لقطاع الإعلام حتى عام 1979م حيث تعين مستشارا في رئاسة الدولة لشئون الإعلام ثم انتدب عام 1987م للعمل في سفارة اليمن في القاهرة وزيرا مفوضا لشئون الإعلام وقد كان له نشاط ملموس في أوساط أجهزة الإعلام والثقافة المصرية واستطاع أن يطور العلاقات اليمنية المصرية في هذا المجال .
لقد اصدر في عام 1974م صحيفة أسبوعية خاصة كان رئيس تحريرها وصاحب الامتياز فيها وهي (التعاون) وهي الصحيفة المعبرة عن الحركة التعاونية اليمنية التي انطلقت في ذلك العام وحققت قفزات هامة في تطوير المجتمع اليمني في المدينة والريف .بعد ذلك اصدر مجلة (اتحاد التعاون اليمني) لكنه تخلى عنها أخيرا لاتحاد التعاون اليمني واتجه إلى إصدار مجلات خاصة تهتم بالشئون اليمنية بشكل عام فأسس (مجلة سبتمبر) وهي أول مجلة يمنية مصورة ملونة ثم (مجلة اليماني) وكان هو رئيس تحريرها وصاحب الامتياز لكن الأزمات المالية وشحة التمويل حال دون استمرار المجلتين ولكنهما قد أديا دورهما بشكل لا ينساه القارئ اليمني وبهذا فإنه كان من أهم الرواد في الصحافة التعاونية والصحافة العامة بل هو أول من أصدر مجلة يمنية مصورة ملونة. ولأنه اشتهر بذلك فقد كان عمله وكيلا في وزارة الإعلام أولا ثم نائبا لرئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون أخيرا مقترنا بإصدار مجلتين تولى فيهما موقفا قياديا ففي وزارة الإعلام اصدر مجلة (معين) وكان مدير تحريرها وفي مؤسسة الإذاعة اصدر (مجلة الإذاعة والتلفزيون) وكان رئيس تحريرها .
وحين أعيدت وحدة اليمن الكبرى عام 1990م استدعي إلى صنعاء ليكون له إسهام في هذا الحدث الهام وفي مسيرة الوحدة المباركة، اسند إليه منصب نائب رئيس مجلس الإدارة في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون واستمر كذلك حتى أحيل إلى التقاعد وذلك عام 2002م وبهذا يكون قد قضى في العمل الإعلامي أربعين عاما كاملة وبالإبداع والنشاط المتميز حافلة.على أن عمله ونشاطه الإعلامي لم يقتصر على الإذاعة والتلفزيون بل تعداه إلى الصحافة فكان له بروز في هذا المجال لا يخفى وإسهام واسع مشهور وآخر العطاء وكان نشاطه الإعلامي متزامنا ومواكبا لنشاطه الصحفي منذ وقت مبكر.
هو الآن متفرغ لعمله الجديد والهام والذي هو امتداد لدراسته في علوم اللغة والأدب والتفسير فهو يدرس البلاغة والتفسير في جامع صنعاء الكبير.كما أن له برامج معروفة في الإذاعة والتلفزيون اليمنية محورها القرآن الكريم فهي تدور حول فلكه ومكرسة لتفسيره للمشاهد والمستمع بأسلوب جديد مثير للأذهان مفيد للمستمع في كل مكان. ولا يزال عمله في اعداد وتقديم البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون مستمرا حتى يومنا هذا مثل : برنامج ( قبس من نور آبة ) الذي فاح ذكره في الآفاق ,, وبرنامج المسابقات الدينية (مسابقة القرآن الكريم الرمضانية ) ,, والبرنامج الشعري ( في محراب الصيام ) الذي يعنى بقصائد الحمد والثناء ,, وبرنامج ( الشباب في القرآن) ,, وبرنامج (المرأة والطفل في القرآن) وغيرها الكثير ,, ومن هذه البرامج وسواها تدفق هذا الموقع الالكتروني الهام (هنا القرآن) .السيرة الذاتية ¶ يدير هذا الموقع الالكتروني (هنا القرآن ) الاستاذ إسماعيل حسين الكبسي أستاذ البلاغة والتفسير في جامع صنعاء الكبير باليمن . ¶ ولد في منطقة الجبي مركز قضا ريمة سابقا عاصمة محافظة ريمة حاليا وكان مولده عام 1360ه أي أن عمره الآن -لحظة كتابة هذا المقال- خمسة وستون عاما كان أبوه يعمل هناك كاتبا في المحكمة الشرعية وقد اعتنى به أبوه وعلمه مع إخوانه في مدرسة ابتدائية حكومية هناك حتى عام 1368ه الموافق 1958م حيث التحق بمدرسة علمية هناك أسسها عامل المنطقة في حينه بإذن من الإمام أحمد حميد الدين الذي أعتمد لها مرتبات المدرسين والطلاب وهم أبناء موظفي الحكومة وأعيان المنطقة، كانت المدرسة تعلم الطلاب علوم العربية والفقة والحديث والتفسير ثم انتقل صاحب الموقع إلى العاصمة صنعاء لاستكمال ما بدأه في مدرسة ريمة فالتحق بمدرسة دار العلوم العليا التي كانت مشهورة في عهد الحكومة المتوكلية بتخريج علماء الدين واللغة وعلماء الفقة والشريعة وعلماء التفسير واستمر في دار العلوم حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م. ¶ لقد كان قيام الثورة إيذانا بإيقاف الدراسة في دار العلوم نظرا لتفرق الأساتذة والطلاب في حزمة الأحداث والحروب المتلاحقة التي استمرت حتى عام 1969م ومع أن الثورة اهتمت بالتعليم الثانوي والجامعي على غرار المنهج المصري إلا أن مدرسة دار العلوم لم تكن قادرة على الاستمرار لعدم الاهتمام بها في العهد الجديد. ¶ في هذه الأحداث كانت وجهة صاحب الموقع هي الإذاعة اليمنية حيث كان معروفا بان له اهتمامات أدبية ونشاطات ثقافية في مجتمع شباب العاصمة والأساتذة والطلاب لهذا فإن زملائه الذين كانوا قد سبقوه إلى الإذاعة قبل الثورة قد فتحو له الأبواب ورحبوا به عنصرا فعالا وقدرة منتجة في مجال الإذاعة وبرامجها المتنوعة التي كانت تمثل صوت الثورة ومنبر العصر الجديد الداعي إلى التطوير والتحديث للمجتمع اليمني والدخول به إلى عصر التحولات الكبرى في العالم. ¶ وهكذا عمل في الإذاعة من أول يوم مذيعا وكاتبا حتى عام 1964م حيث أهله نشاطه الإذاعي وتميزه الإنتاجي لأن يتولى إدارة البرامج في الإذاعة إلى جانب إسهامه الإبداعي في البرامج المتعددة الأغراض والأساليب والأهداف.ثم تولى في عام 1968م إدارة الإذاعة واستمر كذلك حتى أسندت إدارة الإذاعة إلى سواه ولكنه واصل مسيرته مذيعا وكاتبا متميزا للبرامج ولم يأبه بالمنصب لأن مهنته الإذاعية هي الأهم وشخصيته الأدبية هي الأبقى والأرقى في رأيه.لكنه مع ذلك عاد ليتولى في عام 1977م منصب وكيل وزارة الإعلام والثقافة لقطاع الإعلام حتى عام 1979م حيث تعين مستشارا في رئاسة الدولة لشئون الإعلام ثم انتدب عام 1987م للعمل في سفارة اليمن في القاهرة وزيرا مفوضا لشئون الإعلام وقد كان له نشاط ملموس في أوساط أجهزة الإعلام والثقافة المصرية واستطاع أن يطور العلاقات اليمنية المصرية في هذا المجال . ¶ لقد اصدر في عام 1974م صحيفة أسبوعية خاصة كان رئيس تحريرها وصاحب الامتياز فيها وهي (التعاون) وهي الصحيفة المعبرة عن الحركة التعاونية اليمنية التي انطلقت في ذلك العام وحققت قفزات هامة في تطوير المجتمع اليمني في المدينة والريف .بعد ذلك اصدر مجلة (اتحاد التعاون اليمني) لكنه تخلى عنها أخيرا لاتحاد التعاون اليمني واتجه إلى إصدار مجلات خاصة تهتم بالشئون اليمنية بشكل عام فأسس (مجلة سبتمبر) وهي أول مجلة يمنية مصورة ملونة ثم (مجلة اليماني) وكان هو رئيس تحريرها وصاحب الامتياز لكن الأزمات المالية وشحة التمويل حال دون استمرار المجلتين ولكنهما قد أديا دورهما بشكل لا ينساه القارئ اليمني وبهذا فإنه كان من أهم الرواد في الصحافة التعاونية والصحافة العامة بل هو أول من أصدر مجلة يمنية مصورة ملونة. ولأنه اشتهر بذلك فقد كان عمله وكيلا في وزارة الإعلام أولا ثم نائبا لرئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون أخيرا مقترنا بإصدار مجلتين تولى فيهما موقفا قياديا ففي وزارة الإعلام اصدر مجلة (معين) وكان مدير تحريرها وفي مؤسسة الإذاعة اصدر (مجلة الإذاعة والتلفزيون) وكان رئيس تحريرها . ¶ وحين أعيدت وحدة اليمن الكبرى عام 1990م استدعي إلى صنعاء ليكون له إسهام في هذا الحدث الهام وفي مسيرة الوحدة المباركة، اسند إليه منصب نائب رئيس مجلس الإدارة في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون واستمر كذلك حتى أحيل إلى التقاعد وذلك عام 2002م وبهذا يكون قد قضى في العمل الإعلامي أربعين عاما كاملة وبالإبداع والنشاط المتميز حافلة.على أن عمله ونشاطه الإعلامي لم يقتصر على الإذاعة والتلفزيون بل تعداه إلى الصحافة فكان له بروز في هذا المجال لا يخفى وإسهام واسع مشهور وآخر العطاء وكان نشاطه الإعلامي متزامنا ومواكبا لنشاطه الصحفي منذ وقت مبكر. ¶ هو الآن متفرغ لعمله الجديد والهام والذي هو امتداد لدراسته في علوم اللغة والأدب والتفسير فهو يدرس البلاغة والتفسير في جامع صنعاء الكبير.كما أن له برامج معروفة في الإذاعة والتلفزيون اليمنية محورها القرآن الكريم فهي تدور حول فلكه ومكرسة لتفسيره للمشاهد والمستمع بأسلوب جديد مثير للأذهان مفيد للمستمع في كل مكان. ولا يزال عمله في اعداد وتقديم البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون مستمرا حتى يومنا هذا مثل : برنامج ( قبس من نور آبة ) الذي فاح ذكره في الآفاق ,, وبرنامج المسابقات الدينية (مسابقة القرآن الكريم الرمضانية ) ,, والبرنامج الشعري ( في محراب الصيام ) الذي يعنى بقصائد الحمد والثناء ,, وبرنامج ( الشباب في القرآن) ,, وبرنامج (المرأة والطفل في القرآن) وغيرها الكثير ,, ومن هذه البرامج وسواها تدفق هذا الموقع الالكتروني الهام (هنا القرآن) .
بحوث قرآنية :: قبس من نور آية
هي مجموعة من البحوث القرآنية الموضوعية المعتمدة على الآيات الكريمة في تفسير بعضها البعض ، تدعو أولي الالباب إلى إعادة النظر في المنهجية التدبرية في كتاب الله الكريمبحوث قرآنية :: قبس من نور آية ¶ هي مجموعة من البحوث القرآنية الموضوعية المعتمدة على الآيات الكريمة في تفسير بعضها البعض ، تدعو أولي الالباب إلى إعادة النظر في المنهجية التدبرية في كتاب الله الكريم
الحج أشهر معلومات- الجزء الأول
أزف إلى علماء الإسلام ، وإلى علماء مكة الأعلام ، هذا الخبر الهام ، الحج أربع مرات في العام .. واليهم أوجه هذا البحث القرآني.
أخي القارئ أينما أنت في البحر والبر ، لا تسخر قبل أن تتدبر ، لا تستكبر قبل أن تتفكر ، حاول أن تقرأ أولا ، ثم أنظر متحليا متأملا ثم قل ما يحلو لك عن المقال ، فأنت مدعو معنا بصوت عال ، أنت مدعو للتفكر ، فإذا فكرت فقدر ، ثم أنظر ثم قرر ، واحذرثم احذر أن تكون كمن قال الله عنه (إنه فكر وقدر ?18? فقتل كيف قدر ?19? ثم قتل كيف قدر ?20? ثم نظر ?21? ثم عبس وبسر ?22? ثم أدبر واستكبر ?23?) المدثر 18-23
ألا إن القرآن يسير للمدكر ، واضح البيان للمتفكر (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر 17 ولقد قال الله فيه (الحج أشهر معلومات) وإنها لواضحة البيان وناصعة البينات ، إذا حسنت لدينا النيات ، إنها لحل واضح البيان ، يفتح للناس أبواب من الإحسان ، وتوسع للحج الزمان ، فإن بإمكان الناس أن يكون حجهم أربعة أشهر ، أي أن يكون الحج أربعة مواسم في العام ، أي في كل من الأشهر الحرام يفتح للناس الحج ويقام ، والأشهر الحرم رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم . هذه هي الأربعة الشهر الحرم ، التي أجمع عليها أهل العلم ،
Shafi da ba'a sani ba
نعم (الحج أشهر معلومات) هكذا قال الله ببيان عربي مبين ، وهل القرآن ينطق بغير العربية الفصحى (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) يوسف 2 . وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن لا نتهم القرآن بالقصور ، بل نحاول أن نفهم الآيات بلا إنحراف ولا تقصير ، الله يقول (الحج أشهر معلومات) فيجمع الأشهر جمع قلة ويصفها بأنها معلومات ،
كيف يقول مفسر أو أكثر أن المراد بالأشهر شهر ونصف أو شهر وعشرين يوما ، إن هذا كلام وتفسير لا يليق بحق الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، والذي بين في الكتاب كلما يهم الإنسان من الأحكام. إذا فالآية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن (الحج أشهر معلومات). يعني أن لكم أيها الناس أن تجعلوا للحج أربعة مواسم ، (رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم وهي الأشهر الحرم) ، فيكون الحج فيهن مفتوحا للناس ، ومسموحا للطائعين والعالمين والركع والسجود من الناس أجمعين بل للعالمين ، إن الله وسع الزمان في الحج وحدد المكان فعرفات محدود ، ومتى محدود ، والحرم بأكمله محدود . لكن الزمان مفتوح في هذه الأشهر الأربعة ، ومسموح فيها بلا حرج ولا تشديد. إن العلماء الذي قالوا أن المراد بالأشهر بعض ذي الحجة ومحرم ، أو بعض ذي الحجه وذي القعدة لم يفهموا أن القرآن منزل للعالمين ، للناس جميعا إلى يوم الدين ، فأخذوا الآية بمأخذ العصر الذي هم فيه ولم يدركوا أن وسائل المواصلات ستجعل الإنسان يصل إلى مكه من أقصى الأرض في يوم واحد ، وأنها ستستقبل من الحجاج الملايين في أسبوع واحد.
لكننا الآن وصلنا إلى هذه الحقيقة ، وأصبح الحج ممكنا للناس أجمعين وأصبح من الممكن أن يصل ملايين الناس إلى مكة في يوم واحد ، من كل فج عميق ، وعليه فإن مواجهة هذا الكم من الحجيج يتم بالعمل بالآية ، وينحل الإشكال وينكشف بالتطبيق للآية العددية ، بل تنفتح بها مجالات الحج لكل قادر بلا تحديد عدد لكل دولة ، فالناس مدعوون للحج من كل جنس ووطن ، ومن كل لون ودين ، فكيف يتم هذا ونحن محددون للحج بشهر واحد .
إن الحج كما يقول الله (أشهر معلومات) إنها الأربع الأشهر الحرم ، فكلها تصلح موسما للحج ، بدليل أنه سماها معلومات ، فلماذا سماها معلومات مع أنه قال في شهر الصيام (أياما معدودات)؟؟ إن هناك لا شك فرقا بين التعبيرين فالمعدود يعني أنه يحتاج إلى أن يعلم ، ولهذا سماه الله وقال : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) البقرة 185 . وإذا كان الله قد حدد شهر الصوم وسماه فذلك لنعرف عدد الأيام التي نصومها ، فكيف لم يحدد أشهر الحج ويقول مثلا :شهر ذي الحجة الذي تقام فيه المناسك ، لكنه عدل عن هذا وقال (أشهر معلومات) ومن المعروف بأنها الأربعة الحرم (فمن فرض فيهن الحج) وتأملوا الآية (فمن فرض فيهن الحج) إن الضمير في كلمة (فيهن) يؤكد أن المراد عودته إلى الأربعة الأشهر المعلومات ، فهن يصلحن جميعا لفرض ونية الحج ، فمن فرض منكم يأيها الناس فيهن أو في أحدهن الحج يكن مقبولا عند الله الذي يخاطبكم بلسان عربي مبين .
قد تقولون وكيف يكون الحج في هذه الأشهر الأربعة؟؟ ومتى يكون العيد؟؟ وكيف يكون النحر والناس قد تعودوا على موسم واحد ويوم للنحر واحد وعيد واحد؟؟ هو في ذي الحجة أي في العشر الأولى منه. نقول تلك عادة إعتادها الناس ، لأن النبي حج في هذا الشهر فاتخذ عادة ، ولم يدرك الناس أن الزمان سيتغير ويدور حتى يصبح من الواضح لهم أن للناس أن يحجوا في الأربعة الأشهر المعلومات.
قد تقولون .. أسلمنا بأن الحج أربعة أشهر فكيف نحدد الوقوف بعرفة ويوم النحر ؟؟ نقول أن التحديد وارد كما حدد في ذي الحجة ، فليكن يوم الوقوف هو اليوم التاسع من كل هذه الشهور ، وليكن يوم النحر هو اليوم العاشر من كل هذه الشهور ، تماما كما هو في شهر ذي الحجة الآن ، ولتأكيد هذا المعنى ولإبراز هذه المهمة التي تهتم بتحديد يوم الوقوف ويوم النحر نقرأ :جاء في سورة البقرة عقب آيات الصيام قول الله سبحانه وتعالى : (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) تأملوا ...يسألونك عن الأهلة أي عن سبب نقص القمر وتقديره منازل في النقص والإكتمال ، فقال الله مجيبا أن الحكمة هي أنه (مواقيت للناس) في كل شيء وفي كل مهمات وأمور الحياه ، وكان هذا يكفي لكنه خصص بعد التعميم فقال بعد ذلك (والحج) ليدل على الأهمية ، وإلا فلماذا تأتي كلمة (والحج) إذن فالأهلة هي الدليل العملي لتحديد أول يوم من الشهور الأربعة ليعرف بذلك اليوم التاسع واليوم العاشر ويتحدد برقم .
ثم أن موقع هذه الآية (يسألونك عن الأهلة) ومجيئها عقب آيات الصيام تدعونا للتأمل ، فالصيام جدير بأن يعرف أول أيام شهره ، فلماذا لم يذكر الصيام وذكر بدلا عنه الحج ، إن هذا إشعار لنا بأن الصيام يمكن تحديده بالهلال أو بإكمال العدة ، لأنه شهر واحد وأيامه معدوده ، كما وصفها الله ، ولم يقل كما قال في الحج معلومات ، فكان الحج هو الأهم بالذكر في آية الأهله ، لأنه لا بد أن يحدد أول كل شهر من شهوره بدقه ليعرف اليوم التاسع والعاشر بدقة ،
فالأشهر أربعة لابد أن يكون لها علامات تدل على بدايتها وإمارات واضحة الدلالة وتلك هي الأهله . إن كل شهر من الأربعة لا بد أن يرقب المسلمون هلاله ليعرفوا ببدايته موعد وقوفهم ونحرهم وأيام حجهم ، وعليه فإن يوم تاسع رجب هو يوم عرفه ، ويوم تاسع القعده هو يوم عرفه ، ويوم تاسع الحجة هو يوم عرفه ، ويوم تاسع محرم هو يوم عرفه .
كما أن يوم عاشر هذه الشهور إنما هو يوم النحر ، وما يليها هي أيام التشريق ، تماما كما هي في شهر ذو الحجة الذي إعتدنا عليه .وبعد هذا التقرير الذي أرجوا أنكم قد فهمتموه ، ألفت انتباهكم هنا إلى شيء هام ، هو قوله تعالى في آيات الحج وهو يعلمنا المناسك ويتحدث عن أيام التشريق قال : (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) البقرة 203 لماذا سماها معدودات ولم يقل معلومات؟؟ لأنها فعلا معدودة فهي ثلاثة أيام وهي أيام التشريق ، لكنه وصف أشهر الحج بأنها معلومات لأنها مسماه معلومه مشهورة ، بل موصوفه بأنها الأشهر الحرم ، فهي معلومه لكل الناس ، للمسلم والكافر ، والبادي والحاضر ، والمقيم والمسافر ، والأول والآخر ، بلا لبس ولا اختلاف ،
ولهذا كان الكفار يحتالون على حرمتها بالنسيء ، الذي وصفه الله بأنه زيادة في الكفر وبأنه ضلال مضر ، ثم أنه وعلى ضوء فهم الفرق بين معلوم ومعدود ألفت إنتباهكم إلى شيء هام آخر ، هو قوله تعالى في سورة الحج : (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ?27? ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) الحج 27/28 نعم إنها أيام معلومات ، معلومات بكونها تبدأ من يوم معلوم وتنتهي في يوم معلوم فهي أيام معلومة في الأشهر المعلومة ، تلك هي التاسع والعاشر وما يليها من أيام التشريق ، فهي معلومات في أشهرها المعلومات .
Shafi da ba'a sani ba
ثم تعالوا معي إلى دليل ثالث ، يؤكد أن الحج يصح في الأشهر الأربعة وهو قولة تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) التوبة 36 إن هذا يؤكد أن هذه الأشهر ازلية أبدية ، معلومة للملائكة وللأفلاك ولكل المخلوقات ، التي سبقت الإنسان ، ولا تزال معه مدى الزمان .
إنها مشهورة في السموات والأرض ، ومعروفة لمن وما بينهما من الخلق المدركين لما حولهم ، الموجودين قبل الناس ، فما بال الناس يظلمون أنفسهم فيهن ، وينسون حرمتها وجلالها ، ويجهلون معلوميتها.إن شهرتها وحرمتها وعددها معروفة عند كل خلق الله ، بل وقبل ذلك (عند الله) وهو الله أكبر من كل شيء ، وهو الله خالق كل شيء ، وهو الذي إختار لنا الدين القيم ، فكبروه ، واجعلوا الأشهر الحرم موسما لحجكم ، لتنالوا القرب عند ربكم ، وتزيحوا الظلم عن أنفسكم ، ثم (واعلموا أن الله مع المتقين) .
ثم تعالوا معي إلى سورة الفجر ، فإن شعاع الفجر هناك يكشف لنا سرا عن الحج ، وتشير لأيامه ولياليه بأسلوب بديع لنقرأ السورة من البداية : (والفجر) الكلمة جائت معرفة بالألف واللام (والفجر) ثم ماذا لنقرأ : (وليال عشر) إنها بدون ألف ولام ، إنها بدون تعريف كالأولى قبلها ، إنها بدون حرفي التعريف ( أل ) ثم إنها منكره (ليال) منكرة وصفتها (عشر) منكرة ، فالتنكير شمل الصفة والموصوف (وليال عشر) لماذا هذا؟؟ ... إنتظروا حتى نكمل المشوار ثم لنقرأ ما بعدها :(والشفع ) (والوتر) إنها مثل الأولى كلمة (والفجر) محلاة بأداة التعريف أي معرفة بالألف واللام ، ثم نأتي إلى الأخيرة وهي (والليل إذا يسر) الليل معرف كذلك بالألف واللام ، فلماذا.. لماذا هذا الأسلوب ؟؟
لماذا تعرفت الكلمة الأولى والأخيرات ، وتعرت الثانية عن التعريف ؟؟ إسألوا أنفسكم لماذا عرفت الكلمات المقسم بها كلها إلا كلمتي (وليال عشر)؟؟ لماذا عرفت التي قبلها والتي بعدها بالألف واللام؟؟ وهي لم تعرف مع أن الأسلوب الأمثل أن تعرف جميعا وهذا هو المناسب لقواعد البيان؟؟ لكن التنكير هو البيان ، فتنكيرها يعني أنها فعلا ليال عشر متكررة مع الشهور، وليست معهودة في شهر واحد ، فهي تتكرر في رجب وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي محرم ، وهي التي نعرفها بالأهلة التي هي مواقيت للناس والحج ، وما أشهر الحج إلا كل الأشهر الحرم الأربعة المعلومه عند الله وعند خلقة منذ خلق السموات والأرض ، ثم لنسأل أنفسنا من جديد ، لماذا لم يقل والليالي العشر ، بل قال وليال عشر؟؟ إن هذا لكي يخرجها من التخصيص لان الأشهر أربعة ، وليدلنا ويبين لنا أنها ليالي متكرره مع كل شهر حرام وهي موسم الحج العام.
وبعد ،،، هذه مجرد إشارات ، أصفها أمام المهتمين بشئون الحج في السعودية وسواها ، وأمام المسلمين في كل مكان من الأرض ، ولكل من عاصرنا فيها أو يأتي بعدنا عليها ، إن هذه قضية ستجعل الحج عاما للناس ميسورا ، وتجعل الزمن أمام الناس مفتوحا ، لا تضييق فيه ولا تقسير ، ولا تحديد للعدد ولا تقطير. إن الله قد حدد للحج المكان وعين حدود كل الشعائر والمواقع ، فعرفات له حدود ، ومنى ومزدلفه كذلك ، بل أن الحرم كله محدود بحدود ، ولكنه فتح للناس الزمن ووسع فيه ، لتظهر آيات الله ، فيكون الحج مفتوحا في الأشهر الأربعة ، فمن فرض فيهن الحج فمكانه محدود ، وسلوكه محدود (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).
إن الزمان متعدد والمكان محدود ليقبل الناس على الحج بعدد أكبر وليتعلموا القبول بالآخر ، وليحسنوا في التعامل مع من حضر (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).وبذلك يكون لهم عند الله العليم السميع ، مقام رفيع ، (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) ولكي نعمل الخير فلا بد من التزود بشيء هام ، وهو قوله تعالى (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) . أي لكي تحجوا وبعمل مقبول ، فإن زادكم هو التقوى ، وإنها فعلا خير زاد ، وكيفلا والله يقول في ختام الآية (واتقون يا أولي الألباب) وأولوا الألباب هم الذي يعرفون الله ويقدرونه حق قدرة ويعلمون أن الله يقول :(إنما يتقبل الله من المتقين) المائدة 27
ثم إذا جئنا إلى آية التوبة المذكورة سابقا وهي (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم) التوبة 36 ستجد أنه قد جاء بعدها مباشرة قوله تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) التوبة 37 نعم لو جئنا على هذه الآية والتي قبلها ، وفهمنا مرادها ، وتدبرنا مرماها لمسنا وجلا من الله وخوفا على غفلتنا وإغفالنا هذه الأشهر الحرم فلم تعد لدينا أشهر حرم ، ولم نعد نحرم فيها ما حرم الله ، إننا في حالة نسيء ، وإذا كان الجاهليون يحلونه عاما ويحرمونه عاما فإن النسيء عندنا أصبح دائما ، ولا ندري أننا قد نسينا أنفسنا ، وزين لنا عملنا ، وأضحينا بعيدين عما يريد ربنا ، وعن فهم آياته البينات. وليت شعري ما الذي دهانا ، ومن الذي زين لنا سوء عملنا ، إنه حب الدنيا ، واتباع الهوى ، واتخاذنا الدين لهوا ولعبا وذلك شأن الكافرين ، الذين يقول الله عنهم وهم في جهنم يتمنون شيئا من ماء الجنة (إن الله حرمهما على الكافرين ?50?) من هم (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) ثم ماذا بعد (وما كانوا بآياتنا يجحدون ?51?) الأعراف 50/51 وهذا هو بيت القصيد ، فإننا بالآيات نجحد ، وفي الدين نلهو ونلعب ، وللدنيا نسعى ونتعب ، وهذا هو الذي يسوق إلى نار ذات لهب فاستيقظوا أيها النائمون على الشهوات ، قبل أن يوقظكم الموت وتدبروا آيات ربكم ، واقبلوا عليها قبل أن تدبروا عن الدنيا وتساقوا للقاء ربكم وتحاسبوا عليها ، وتقولوا (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) الأنعام 27
قد يقول قائل أنت تقول أن أشهر الحج هي الأربعة الأشهر الحرم ، مع أن الله يقول في سورة المائدة :(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام) المائدة 2 فهو لم يقل الأشهر الحرم بل سماه شهرا فقال (الشهر الحرام) وقال في آية آخرى من السورة (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97فلم يسم الله إلا الشهر الحرام ، ولم يقل الأشهر الحرم ، وهذا يدل على أن الشهر الحرام واحد هو ذي الحجة .لكني أقول لكم أن هذا الفهم لا يتفق مع معرفة اللغة ، فالمفرد قد يطلق ويراد به الجمع ، ويقصد به غرض بلاغي هو جعل المجموع كالواحد في الفضل، وكأن التفرق والتعدد لا يعني التفاضل ، بل كلها كأنها واحد ، وهذا ورد مع كثير من الآيات فقد جاء في سورة الجن (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) 8 فقد جمع كلمة حرس وأفرد كلمة شديد ، مع أن المعلوم أن يقول (شدادا) لكنه وحد الصفة ليدلنا على أن تعدد الحرس لا يعني التفريط والغفلة ، بل كأنهم حارس واحد لا يحيد عن واجبه ، ولا يميل ، ثم جاء في الآية التي تليها (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) الجن 9 ... لقد أفرد كلمة (شهابا) وجمع الصفة فقال (رصدا) مع أن السياق يستدعي أن يقول (شهابا راصدا) لكن الإفراد للموصوف يوحي بأن كثرة الشهب لا تعني الفوضى ، ولكن تعني مزيدا من الحفظ ، فكان مجموع كل الشهب شهابا واحدا يرصد ، وهذا أبلغ في التعبير عن الحفظ والحراسة .
وكذلك كلمة الشهر الحرام. إن توحيد الشهر وإفراده يدل على أن كل شهر منها له الحرمه ، وله القيام ، وله ما لغيره بالتمام ، فكلها عند الله شهر واحد ، لها معنى واحد وهي أنها حرام ، ومحرم فيها كل ما حرمه الله من الأعمال ، والصيد والطعام ، كما هو معروف في آيات المائدة .ثم أن المفرد قد جاء محل الجمع في قوله تعالى (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) الفرقان 74 لماذا لم يقل (أئمة) وهو الأنسب للسياق؟!! لكن الإفراد هو الأنسب للسياق ، وللغرض البياني ، والهدف البلاغي ، فكأن كل الآباء والأبناء والذرية في التوحيد على الدين ، والتوحيد لرب العالمين ، واتباع سبيله المبين .. كأنهم جميعا في الناس إمام واحد ، لتوحد طريقهم واتحاد سبيلهم واستنارة قلوبهم بنور الله أجمعين ، أليس هذا أبلغ من أن يقول (واجعلنا للمتقين أئمة).
ذلك لأن التعبير بالجمع قد يوحي بتعدد الآراء واختلاف الطرق ، وتصرف السبل وهذا الوضع ، فهو الأمر المخل ، لكن الإفراد للكلمة أفاد مع الإيجاز ، توحد الرأي والدين والسبيل في كل العصور والأماكن ، وفي كل جيل.فكل إمام يخلف الأول ولا يبتعد عن الطريق وكل خلف يمد مهمة السلف بلا تفريق فهم موكب واحد لا يختلف وهم قلوب متوحده خلفا عن سلف ،وهم على سبيل سوية رغم تباعد العصور والأمكنة وهم متفقون ملتقون رغم توالي الأجيال والأزمنه وهكذا يتسع إفراد الكلمة في قوله (واجعلنا للمتقين إماما) ويدل على هذه الحقائق التي تذهل العقل إعجازا وبيانا .
Shafi da ba'a sani ba
ثم تعالوا إلى كلمة أخرى تدل على أجمل معنى هي قوله تعالى (ثم نخرجكم طفلا) من الآية الخامسة من سورة الحج ، لماذا لم يقل (أطفالا) ذلك ليؤكد لنا أن العالم كله مهما تكاثرت مواليده فهم عند الله طفل واحد ، وفي قدرته وتدبيره مولود واحد ، فلا يعني لله شيئا من اللغوب والإنشغال ولا قليلا من القلق والإهمال، بل كلهم برعاية الله في أحسن حال وكلهم بتدبيره ينمو ويصح ، من أقوى الرجال الى الضعيف والشيخ ولتأكيد هذا المعنى يقول الله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) لقمان 28 ولو أردنا إيراد الأمثلة لطالت العبارة ولكن الحر تكفيه الإشارة.وها نحن نواصل البحث في آيات الحج وكلماته بما يزيدنا إستنارة .
تذييل وبيان لمفردات الحج والمكان
كلمة البيت
هل المراد به تلك العمارة الصغيرة المربعة وسط المباني المستحدثة المحيطة بها؟؟ هذا ما يفهمه الناس ، وهذا ما شاع بين المفسرين ، ولكن هل هذا فهم صحيح يتفق مع القرآن المبين؟؟ تعالوا معي نتبين الآيات ولا بد أن نصل إلى معنى آخر يخالف فهم الأولين . البيت في اللغة أولا هو المكان الذي يؤمن للإنسان البيات في أمان ، والسكن باطمئنان ، فهو مأخوذ من البيات أي السكون ليلا فأطلق على كل مكان يؤمن الليل للإنسان بيتا ، فهو مصدر بات يبيت يقال بات يبيت بياتا ، ولهذا جاء قولة تعالى (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون) الأعراف 97 . ثم أطلق البيت بشكل موسع على كل مكان يضمن للإنسان الأمان والسلام في الأرض ولو في الليل أو النهار ولهذا قال الله لقوم صالح (وتنحتون الجبال بيوتا) الأعراف 74 (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) الشعراء 149 (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) النحل 80 ، ومع هذا التحول في معنى البيت فقد تحول إلى معنى أوسع هو المنطقة أو المدينة أو القرية التي يسكنها الإنسان ولهذا قال الله عن النحل (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) النحل 68 ، وليس المراد هنا إلا أن تتخذ الجبال والشجر بيوتا ومن ما يعمله لها الناس من المزارع والمواقع الواسعة ، إذن فليس المراد بالبيت هنا هو مكان الخلية الصغير للنحل ولكن مكان الإنطلاق والأمان والسلوك في الأماكن بإطمئنان . فالجبال الشامخة وما حولها قد تتخذها وتختارها لها بيوتا آمنه وقد تختار الأشجار والغابات الملتفة بيوتا تكون فيها منطلقة وكامنة وسالكة وآمنة .
وعلى هذا الأساس يقول الله لرسوله محمد وهو يخرج إلى بدر (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) الأنفال 5 ، فالمراد بالبيت هنا هو المدينة بأكملها لأنها أهله وأحبابه وأنصاره وأصحابه ولهذا قال له في آية أخرى عند خروجه إلى أحد (وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم) آل عمران 121، وهكذا أطلق البيت على الأهل ثم المدينة بأكملها لأنها محببة إليه كأهله ومأمنه كبيته وإذا كان هذا في شأن النبي وحده وفي شأن النحل وحدها فكيف يكون فهمنا لمعنى البيت الذي هو للناس أجمعين. إنه لا بد أن يكون معناه مكانا كبيرا واسع الأبعاد ، له حدود معروفه متباعدة ، وعلى هذا الأساس نفهم أن البيت حين يطلق في الآيات المتعلقة بمكة لا يعني إلا المنطقة الحرام كلها ولا يعني إلا كل المواقع التي تقام فيها المناسك وتؤدى ،
فالبيت يطلق على ما يقع داخل حدود مواقيت الإحرام المعروفة للشامي واليماني والعراقي وسواها والمحددة في كتب الفقه فالبيت هو مكة وما حولها من المناطق الحرام ومن مشاعر الحج والإحرام .هكذا يجب أن نفهم البيت وهكذا يجب أن يكون معلوما لذوي الأفهام . فهو لا يعني البناية والحجرة الصغيرة التي تتوسط المباني المعدة للصلاة (المسماة بالحرم) ولا يعني أيضا المباني المستحدثة المحيطة لأنها تستحدث وتتوسع في كل زمان فلو أطلقنا البيت عليها لكان المعنى أن من هدم جدارا ووسع فكأنما هدم البيت الحرام ، وهذا غير صحيح ولصار المعنى أن من صلى قبل التوسع في المباني الحالية لم يصل في البيت الحرام وهذا غير صحيح ، إن البيت الحرام هو كل المنطقة الحرام وكل المشاعر الحرام المحددة المعالم منذ أقدم الأيام ومنذ آلاف الأعوام .
قد تسألون عن الدليل على ما أقول ،، وأنا أسألكم أولا :هل أنت أيها الحاج تنحر الهدي في المبنى الصغير المسمى الكعبة أو تحمله إليه؟؟ كلا إنما تنحره في منى وتحمله وتنحره هناك وإذا كان الأمر كذلك فاسمع ما يقول الله "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق) الحج 33 ، أين هو البيت العتيق هل هو الكعبة الصغيرة إذن فقد سمى الله محل النحر وهو منى البيت العتيق ، يعني أنه من البيت العتيق.فللحاج أن ينتفع بالهدي ما دام سائر إلى مكة ثم إذا نحره فلا ينحره إلا في المحل المحدد للإحلال وهو منى والذي هو كائن بشكل جزء من (البيت) فإذا نحرت فيه فقد نحرت في البيت.. وبعد فهل في هذا بيان أم تريدون المزيد من البيان .ها أنذا أتلو عليكم قول الله على لسان إبراهيم عليه السلام (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) إبراهيم 37، فقل لي هل يريد إبراهيم بالإسكان لبعض ذريته عند البيت هذا المبنى الذي نراه الآن ؟؟ إذا كان يريد ذلك فلما قال (بواد غير ذي زرع) إذن فالإسكان كان في مكة كاملة التي هي محرمة ، بحدود معلمه ، وهي البيت المحرم الذي أراده إبراهيم. قد تقولون ألم يقل (عند بيتك) فمعنى هذا أن الإسكان كان عند أو قرب هذا المكان الصغير الذي نراه يتوسط العمران .ولكن كلمة عند لا تعني القرب ولكنها تعني الظرفية أي في بيتك المحرم لكنه استعمل كلمة عند ليؤكد اختلاطه بالمكان المحرم كله والتزامه به وحصر إقامته عليه (بواد غير ذي زرع) ولذلك فهو يسأل الله أن يرزق ذريته من الثمرات وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ثم يعلل الإقامة بأنها ليقيموا الصلاة والصلاة هي الطاعة والالتزام بحرمة المقام. فلا يعتدون ولا يصطادون ولا يفسدون ولا يطلمون .ولا يريدون إلحادا لظلم ولا يتجاوزون ما هو محرم بل يتقون ويشكرون المنعم ويتطهرون ويطهرون الحرم وهكذا عهد الله إليه بما يدل على أن المراد بالبيت هو الحرم كله (أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125، فهل المراد بالبيت هو المكان الصغير؟ أم المنطقة الحرام كلها إلى أطراف حدودها؟ إن الثاني هو المراد بلا شك والدليل عليه قوله للطائفين وهم الذي يطوفون عند الوصول إلى مكة والعاكفين وهم الذي يقفون في عرفات والركع والسجود وهما الذين يذكرون الله في منى أيام التشريق. وعلى هذا الأساس فإن علينا أن نفهم قول الله تعالى في سورة الحج (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) الحج 26 بأن المعنى : عرفنا لإبراهيم مكان البيت أو حددنا لإبراهيم مكان البيت لأن بوأ تعني أسكن لقوله تعالى (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) لكن حرف الجر "وهو اللام" في آية الحج (بوأنا لإبراهيم) ضمن الفعل معنى جديدا مضافا إلى معناه الأصلي ذلك المعنى الجديد هو(عرفنا أو حددنا) على أن الفعل قد يكون بمعنى مكناه إذا جاء بعده حرف الجر (في) مثل قوله تعالى لقوم صالح (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض) الأعراف 74. أي مكنه في الأرض وعليه فإن آية الحج تعني (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) أي عرفناه حدود هذا البيت بحيث يكون ما بين هذه الحدود هو البيت الحرام ولهذا جاء بعدها : (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج 26 ولا يمكن أن يكون المراد بالبيت هو المبنى الصغير لأن الطائفين والعاكفين والركع والسجود هم الذي يقودون مناسك الطواف والوقوف بعرفات والإقامة للصلاة والذكر والنحر في منى وهذه هي المشاعر الحرام ، أو هذه هي مكونات البيت الحرام .
وإذا تأكد هذا الفهم فإننا ندرك معنى آية البقرة التي يقول الله فيها : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125. فالمراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة لأنها هي المثابة وهي الأمن كاملة ، لا مجرد المبنى الصغير المربع المعروف ، وهو البناء الذي يتوسط المقامة حوله للصلاة والطواف.وإذا كنت يا أخي في ريب من هذا الفهم فاقرأ قوله تعالى بعده بقليل (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125 فهي تعني أن الأب وابنه قد عهد الله إليهما أن يطهرا المنطقة كاملة من كل ظلم وإلحاد ، إلا أنه استبدل بكلمة القائمين كلمة العاكفين وكلاهما تعني الواقفين بعرفات وإذا لم يكن كذلك فهو يعني والعاكفين والمقيمين في هذا البلد الأمين. ثم اقرأ بعد ذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 ، فلقد أطلق كلمة (بلد) على البيت ، وهذا يدل على ما قلناه من أن المراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة وإذا لم يكن كذلك فكيف يكون له أهل ولهم رزق وثمرات؟ هل يمكن أن يسكن الناس في المبنى الصغير (المكعب) وهل هم أهله وسكانه؟؟ ثم استمر معي في القراءة لنجد قوله تعالى في آية تدل على أن كلمة البيت أطلقت على المنطقة قبل رفع قواعد المبنى الصغير .. تلك الآية هي قوله تعالى : (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة 127 ، نعم إن إبراهيم بعد أن بوأ الله له مكان البيت وحدوده وعرفه بداية المنطقة الحرام ونهايتها من كل الجوانب . بدأ إبراهيم في بناء مركز يكون هو بعلم الله مركز الدائرة للبيت الحرام وللأرض كلها كما سيتضح ذلك فيما بعد.
فالمركز هذا أو مركز الدائرة هو الذي رفع إبراهيم قواعده لكنه ليس البيت ولكنه جزء من البيت ولهذا قال (القواعد من البيت) فأتى بحرف الجر (من) ولو كان هذا المبنى هو البيت لقال (قواعد البيت) بدون حرف من . وبعد فهل اقتنعت يا أخي أن المراد بالبيت في آيات القرآن الخاصة بمكة والحج هو المنطقة الحرام كاملة؟؟ لعلك قد اقتنعت أو قريب من الاقتناع وعلى هذا الأساس من الفهم لمعنى الكلمة أدعوك إلى الآية الهامة التي وردت في سورة آل عمران وهي قوله تعالى : (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) آل عمران 96
نعم إن أول بيت وضع للناس هو هذا الذي ببكة مباتا ومأمنا ومثابة وقياما .ولهذا قال وضع والوضع لا يعني إلا البسط والتمهيد والمد والتسخير ولهذا قال في سورة الرحمن (والأرض وضعها للأنام) 10. أي بسطها ومهد، إذن فالمنطقة التي بمكة هي أول بيت وضع للناس.
Shafi da ba'a sani ba
وهنا آخذك لمعنى جديد وهام وفهم جميل يدل على السلام؛ ذلك أن كلمة أول بيت تدل على أنه قد لحقه بيوت وبيوت للناس وقد تبعته مواقع ومناطق للسكن والاستئناس، هذا ما تدل عليه كلمة (أول) فما هي البيوت التي تلته ؟ إن هذا يجرنا إلى أن نفهم أن المعنى أن مكة أو بالأصح بكه هي أول منطقة أرضيه صلحت للإنسان ليسكن ويستقر بعد أن كانت الأرض مغمورة بالمياه والمحيطات المتأججة الحرارة لكن مكة أو بالأصح بكه هي أول بقعة في الأرض جفت وانحسر عنها الماء المضطرب الأمواج بشكل هائج .فأصبحت هذه المنطقة آمنة من الهياج وبيتا صالحا للإنسان القادم إلى الأرض خليفة بعد أن لم يكن له ذكر قبل ذلك من الأزمان.وللتدليل على هذا المعنى جاءت كلمة بكه ولم تأت كلمة مكه ، والبك هو المص والشفط والتجفيف فهي منطقة انبك عنها الماء وجف وأصبحت صالحة للإنسان المستخلف فهي أول بيت وضع ولا بد أن تليه بيوت وتوسع وهكذا استمر البك في مواقع أخرى وتوالى الانحسار المائي حتى أصبح للإنسان بيوتا ومواقع وقطع في الأرض صالحة للحياة والسكن وفيها له مأمن ومأوى من الماء الهائج الغامر لما تبقى ، وهكذا بقيت المحيطات والبحار الصغرى تحيط بالأرض الجافة الصالحة المرتفعة عن سطح الماء لتصلح للسكن ولتستمد من البحار الرطوبة والرخاء والبخار الذي يجعل الجو ناعما سلسلا طريا ، الهواء منعشا للحياة والأحياء ، وهكذا يتضح لنا أن مكة أو بكه هي أول أرض وضعت للإنسان بإذن الرحمن، وتلتها العديد من الأوطان ، لتصلح لنمو الناس وتكاثر السكان وعليه فلا غرو ولا غرابة أن يجعل الله في بكة هذه آية للناس ، ذلك هو هذا البيت الحرام الذي يستحق أن يحج إليه الناس بشكل عام وأن يجعلوه هو المثابة لهم والقيام وأن يكون أنموذجا للأمن والسلام ، ليصبح أنموذجه معمما في كل الأوطان ، فتكون بيوتا آمنة للخاص والعام ، على مدى الأيام. ولهذا كان البيت الأول أو أول بيت موصوفا بأنه (مباركا) ، (وهدى للعالمين)، وأن يوصف بأنه (فيه آيات بينات)، ثم أن يلزم الله الناس أن يجعلوه أبدا ، متسما بسمة هامة ، وعلامة عامة ، هي : (ومن دخله كان آمنا) ولأنه هكذا فهو (مقام إبراهيم) وما هو إبراهيم؟ إنه الإنسان الذي جعله ربه العلام ، للناس الإمام ، على مدى الأجيال والأعوام ، إلى يوم القيام .ولأن هذا البيت الأول المبارك ، والهدي الأمثل، له هذا الصفات التي لا تماثل ، فإن لله على الناس واجبا به تنصل هو قوله : (ولله على الناس حج البيت) فهل كلهم مدعو لهذا الحج بلا عذر كلا بل أن فضل الله تضاعف فقال (من استطاع إليه سبيلا) فمن استطاع فقد وجب عليه الحج ، وليس له أي عذر أو حجج ، فإذا تخلف فقد استغنى ، وعن فضل الله خرج ، ولهذا قال الله ببيان أبلج (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) نعم إنه إنما يدعونا لفضله وعطائه ولنتعلم بالحج من هداه ولننال من بركاته وآياته ما يرضاه ، فإذا أبينا ذلك الفضل المبين ، فإنما حرمنا أنفسنا وكنا لها ظالمين ، وكفرنا بالله ذي القوة المتين ، واعتمدنا على المتاع التافه المهين .أما الله فهو الذي لا يزيد في ملكه العظيم كل العباد العابدين ، ولا ينقصه كفر الكافرين (فإن الله غني عن العالمين) أليس هذا هو البيان التام الذي يدلنا على أن البيت هو المنطقة الحرام وليس هو المبنى الصغير الذي لقواعده إبراهيم رفع وأقام بل أنه جزء من البيت ومركز الدائرة الهام .
ثم هل أزيدكم تأكيدا على أن البيت هو المنطقة الحرام؟!اقرءوا معي من سورة قريش قوله تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت) 3 ، ثم قوله تعالى في سورة النمل ملقنا رسوله محمدا أن يقول : (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) 91 ، إذن فالبيت الذي في سورة قريش وفي سورة النمل هو البلد كاملا ورب ذلك وهذا هو الله الذي حرمها وله كل شيء والذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، ثم لنقرأ معا سورة التين :(والتين والزيتون ?1? وطور سينين ?2? وهذا البلد الأمين ?3?) 1-3 فالبلد الأمين هو البيت الأمين ، وهو الذي من دخله كان آمنا ، ثم لنقرأ سورة البلد : (لا أقسم بهذا البلد ?1? وأنت حل بهذا البلد ?2?) 1,2 فهل كان النبي حالا في البيت الذي يتعهدون أم في البلد الحرام الذي هو البيت الحرام ، أي الذي هو المنطقة الحرام . وهو الذي يقول الله عنه في سورة القصص (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) هكذا قال أهل مكة مدعين أنهم حماة أنفسهم لكن الله يجيب (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) القصص 57 فهل الثمرات تجنى إلى البيت بمعنى المبنى المحدد والمعروف؟ كلا . ولكن إلى البلد كلها وأهلها. ثم قال الله في سورة العنكبوت :(أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) 67. فالحرم الآمن هو البيت الآمن ، وهو المنطقة الحرام كلها فمن دخلها من أي اتجاه ومن أي زاوية ومن أي مكان كان آمنا ، ولهذا كان سوق عكاظ مكانا آمنا ، فمن دخله كان آمنا ولم يتعرض لأذى .
والآن وقد عرفنا أن هذا هو أول بيت وضع للناس بالمعنى الذي شرحناه أفليس من المتوقع أن يكون - بل من اليقين أن يكون (فيه آيات بينات) ولا بد أن تتضح للناس على السنوات لاسيما للباحثين في هذه الآيات والمسلحين بعلم الجيولوجيا وعلم ما في الأرض من طبقات. ولعلي بهذا أكتفي لأختم قولي بأن من المناسب جدا أن يسمى البيت العتيق ، أو أن يوصف بأنه (البيت العتيق) كما جاء مرتين في سورة الحج (ثم محلها إلى البيت العتيق) (وليطوفوا بالبيت العتيق) فهو العتيق أي القديم الأصيل ، الأول على سواه كما وصفه الله الجليل (إن أول بيت وضع
(الكعبة)
وبعد هذا أدعوكم الآن إلى كلمة أخرى هي (الكعبة) فلقد وردت في القرآن. فهل هي تعني هذا المبنى الذي رفع قواعده إبراهيم؟ وهل هي إذا وردت تطلق عليه؟ أم لها معنى آخر تدل عليه؟؟ لعلكم ستفاجئون إذا قلت لكم أن كلمة (الكعبة) لا تعني هذا المبنى الصغير أو المبنى الذي أقامه إبراهيم بل تعني شيئا آخرا. فما هو؟ انتظر الجواب يا أخي القارئ وتأمل الكلام تأمل أولى الألباب ، وأنا لا أسألك أن تستقبل كلامي بالترحاب ، حتى تتأكد من صحة القول وسلامة الأدلة وسأوردها من القرآن الذي هو علم الله .
لقد وردت الكعبة مرتين في القرآن ، أي في آيتين فقط وفي سورة المائدة فقط ، هي أولا قوله تعالى :(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97 ، أما الثانية فهي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) المائدة 95 .
إن المفسرين يقولون أن البيت الحرام في الآية الأولى رقم (97) هي عطف بيان للكعبة ، أو هي بدل على جهة المدح لا على جهة التوضيح ، لكن هذا التأويل غير مقنع لأن البيان أو البدل لا يأتي للمدح إلا قليلا أو نادرا ، لكن الواقع هو أن الكعبة هي نفسها البيت الحرام بمعناه العام الذي فهمناه فالبيت الحرام بدل أو عطف بيان للبيان لا للمدح ، فالأسلوب هنا يريد أن يقول لنا أن الكعبة اسم للبيت الحرام الذي يعني كل المنطقة الحرام ، بما يعني أن هذا البيت الحرام موصوف بأنه الكعبة. إذن فالكلام مبني على إشعارنا بمعنى جديد وحقيقة جديدة هي أن الكعبة قد بينت بأنها البيت الحرام ، فكلمة البيت الحرام عطف بيان أو بدل ، وهذا هو الفهم الأمثل ،
وإذا اردنا الدليل فإن الآية الثانية التي وردت فيها كلمة الكعبة تقدم الدليل الذي لا ينكر بل يدعم ما نقوله بشكل واضح وأمثل فاقرءوا معي الآية 95 لتتضح لكم القضية يقول الله مخاطبا المؤمنين : (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) إن الله يوجب على من قتل الصيد وهو حرم أن يكون جزاؤه حيوانا مقوما مثل الصيد المقتول ويكون من الأنعام يحكم به ذوا عدل من الناس أولى الأفهام ، فإذا تحدد هذا الجزاء فإنه سياق ينحر في مكان النحر المحدد وبالغا إليه بلا تردد ، ولهذا يقول موضحا هذا (هديا بالغ الكعبة) هذا هو الجزاء لمن صاد وهو حرم. وهنا أسأل هل الهدي الذي ينحر يساق إلى غير منى؟؟ فلماذا قال الله (هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة أو المبنى الصغير بالمعنى الذي تفهمونه من التفاسير؟ هل هذه الكعبة بهذا المعنى هي محل النحر للهدي؟؟ كلا. بل محل نحر الهدي هو منى ، كما هو معروف لنا ولمن قبلنا ، أليس هذا الواقع الذي يعرفه الناس على المدى؟ فلماذا قال (هديا بالغ الكعبة)؟؟
إذن فإن (الكعبة) هي اسم آخر للبيت الحرام وهي اسم أراده الله ليدلنا على أن معاني هذا البيت متنوعة وأسمائه وسماته متعددة ، كما أن آياته غير محدودة ، فهو البيت الحرام وهو الكعبة ، بل وله أسماء أخرى وأوصاف أخرى تدل على الاهتمام ، سيتضح لكم ذلك فيما سيأتي من الكلام. أكتفي هنا بشأن (الكعبة) ، بهذا الدليل الواضح البيان لكل ذي عقل وجنان ، وممن تدبر القرآن بإمعان..
قد يسأل سائل إذا كانت كلمة (الكعبة) لا تعني المبنى الصغير الذي رفعه إبراهيم وأنها تعني كل المنطقة الحرام ، فلماذا تسمى هذه المنطقة كلها (الكعبة) ؟ إنه سؤال جيد .ولهذا تعالوا معي إلى معرفة معنى كعب في اللغة العربية ، ولن نطوف في كتب المعجمات ولكن لنقرأ ما جاء في المنجد فقط ، فمما قال في وسط المادة كعب كعوبا (الجارية نهد ثديها) كعب الأناه ثلاثة ، كعب الشيء جعله مكعبا ، الكعب جمعه كعوب كلما ارتفع من الأرض ، الشرف والمجد ، بل وقال الكعب كل مفصل للعظام : العظم الناشئ ، العظم الذي يلعب به ، العقدة من عقد الرمح ، الكعب في علم الهندسة : المجسم الذي له ستة سطوح مربعه متساوية ، كل بيت مربع الغرفة ، أكعاب نصوص النرد ، الكعبة بكارة الجارية جمعه كعاب ، يقال جاء به كعاب وكعب إذا نهد ثديها ، ويقال وجه مكعب إذا كان جافيا ناتئا ، ثم قال أخيرا "وهذا شيء هام في الموضوع" المكعب المجسم الذي له ستة سطوح مربعة متساوية وما كان على هيئته. وختم المادة بقوله : وفي الحساب (مكعب العدد) هو الحاصل من ضربه بمربعة ، فثمانية هو مكعب اثنين.هذا هو أهم ما جاء في المادة كعب وقد جاء ضمنها (الكعبة البيت الحرام بمكة) وليس المهم ما قاله عن الكعبة أو أين وضعها من المادة لكن المهم هو معنى المادة واشتقاقاتها فلو رجعنا نستقرء المعاني والمشتقات لوجدنا (البكارة) التي تعني البداية ولوجدنا العلو والرفعة ولوجدنا الاستدارة والتسديس والتربيع ولوجدنا البروز والظهور ولوجدنا الجمال والحسن ولوجدنا القوة والجلادة والفتوه والجفاف والتجمع والانضمام ثم التضاعف والتزايد الذي يعني البركة والنماء .
Shafi da ba'a sani ba
فكل المعاني الجميلة التي أرادها الله لهذا البلد الحرام مجتمعة في كلمة الكعبة فهي البارزة الغير خافية وهي الناهده الغير جافية ، وهي مفصل الأرض ذات النجاح وعقدة اللقاء والانفراج وهي نقطة البداية للتكوير والانبعاج وهي مهد ونهد البسط والامتداد وهي معقد الشق والانشراق .وهي مركز الرتق والانفتاق وهي بكر الأرض (أول بيت وضع للناس) وهي مباركة وهدى للناس وهي قيام الناس ومثابة لأنها بارزة مشهورة رفيعة كاعبة. إن هذه الآثار والآيات الثاقبة ، وهي مهوى الناس قاطبة ، وهي مأمن لكل نفس راهبه ، وهي حاضرة في النفوس رغم أنها غائبة ، هذه بعض معاني الكعبة التي دلت عليها الكلمة ، ولها معاني تستظهر مع الأيام القادمة.
إذن أليس من الواضح أن تكون الكعبة في قوله تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام) هو المنطقة الحرام ولهذا قال تعالى بعدها البيت الحرام فهو عطف بيان أو بدل وهذا يعني بلا شك أن الكعبة اسم للمنطقة الحرام كلها وليس للمبنى الصغير الذي تعرض للهدم والإصلاح والتصدع وللانزواء في مساحته وللتوسع كما حكاه لنا التاريخ وكما يعرف ذلك المتتبع.
أليس بعد هذا البيان أيها الأخوان نصل معكم إلى إن اسم الكعبة اسم له سعة وشأن ونصل إلى أن المعنى الأصح للكعبة هو اسم يطلق على كل المنطقة الحرام الواضحة الحدود والأركان المعلومة الشعائر والمكان .أرجو أن تقتنعوا بلا ريب ولا تردد بل بترحاب للمعنى الذي تجسد ، لعلي إلى هنا أصل بكم وقد أجهدتكم ولكنه جهد مفيد لي ولكم ، وإنه لجهد محبوب ، مشكور بإذن الله من ربكم ، فهو يحب من تدبر الآيات بإمعان ، وتذكر المعاني باطمئنان ، لقد اعتمد على القرآن ، الذي فيه البيان.ولعلي قبل الوداع أعود بكم إلى الدليل الواضح من القرآن على إرادة المعنى الجديد للكلمة فلقد قال الله عن الذي يقتل الصيد متعمدا وهو حرم قال (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة بالمعنى المعهود لدينا ، هي التي يبلغها الهدي وينحر فيها ، كلا بل الهدي يبلغ إلى منى ، وهو محل النسك المعهود لنا ، والمعروف لمن نحر قبلنا.وهذا يعني أن منى جزء من الكعبة ، وعليه فالكعبة هي كل المنطقة التي ببكة الحرام ، ولهذا جاءت مبينة بعدها بلا انفصام بقول الله العلام: (البيت الحرام)
ثم وصف الجميع بقوله قياما للناس ثم عطف على الجميع قوله : (والشهر الحرام والهدي والقلائد) ثم بين لنا أن ذلك بعلم منه لأنه العليم بكلما خلق وعليم بما حكم به وأن حكمه هو المعمول به فقال : (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) 97. ثم أكد أن العمل بالتحريم لهذه الكعبة والبيت الحرام أمر هام فقال (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) المائدة 98 ، فلنكن حريصين على اجتناب العقاب الشديد الأليم ، ولنحاول التعرض للغفران والرحمة من الغفور الرحيم ، ولنكن على علم أن الله يعلم الظاهر والمكتوم ، ويجازي كل عبد بما يعمله فالرسول قد بلغنا بما أرسله وعلينا أن نتبع ما بلغ (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) المائدة 99
وختاما أقول : وإذا كان معنى (الكعبة) كما عرفنا فإن من المؤكد لهذا المعنى في الأفهام هو أن هذا المقام المكعب البارز ، المبتكر الناهد ، المعروف المشهور ، لكل عابد ، هو مهوى القلوب ، إليه تنهد وتكعب أرحال ، واليه تشد وتكعب الأحمال ، وإليه ترد وتكعب الرجال ، وإليه تأتي كل ضامر يشوق من كل فج عميق ، ويحمل عليها الناس والثمرات بلا تعويق ، فالكعبة كعبة للناس في كل زمان ومكان ، إليها يكعبون ويبرزون ، وإليها ينهدون ويبهزون ، وإليها تقطع الفيافي والحزون ، وإلى مكعبها تتبارك الثمرات وتتواكب الرحلات ، وتتراكب السنوات ، وتتناكب الخطوات ، وتتحرك الأهواء والرغبات ، وتتشارك الجماعات والثبات ، وتتسامك الأحاد والزرافات ، فهي الكعبة التي لا تخفى على الأمم ، وتحفى عنها القدم ، وتحتفي بها الهمم ، وتحف بها القلوب ، وتخف إليها منذ القدم ، وستبقى هكذا إلى يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وتخرج الذمم . بارك الله هذا المقام الأكرم ، وتبارك الله الذي جعلها كعبة ، وبهذا نسلم ، وقضى بأنها قيام للناس ومثابة وحرم ، وما حكم به وقضى فهو الحق لأنه بما في السموات والأرض يعلم ، ولأنه محيط علما بما يبدو وما يكتم ، وهو العليم بما يقضي ، والمحيط علما بكل شيء سماوي وأرضي ، ولقد فاز من لربه يرضي ولهداه يتبع باقتناع ، ولحكمه يسلم بحب بلا امتناع ، فالرسول قد بلغ و(ما على الرسول إلا البلاغ) وكل شيء سواه لغو وفراغ ، وكل حكم سوى حكم الله ضلال وظلام ، وكل قول سوى قول الله لباطل وحطام ، ألا إلى الله تصير الأمور ، وهو الرحيم الغفور.
(المسجد الحرام)
إن المسجد الحرام كلمة وردت كثيرا في القرآن وهي في مفهوم المفسرين تعني المكان الذي يطوف فيه الناس ويسجدون وفيه يتعبدون ويجتمعون ، أو فلقد كانوا يعنون بالمسجد الحرام هذا المبنى الذي يحيط بالصحن المعد للطواف ، والذي يتوسطه المبنى الأصغر الذي بناه إبراهيم ورفع قواعده فهل هذا الفهم صحيح ، تعالوا نقرأ القرآن : يقول الله (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء 1 ، لنتأمل الآيات بإمعان ولنسأل أولا هل الإسراء تم من المسجد الحرام المتعارف عليه بيننا بأنه المبنى المعد للصلاة والطواف؟؟ إن الجواب على السؤال بلا شك يؤكد أن الإسراء تم من مكة أو من بيت من بيوت مكة ، لا من المسجد الذي للصلاة المعهودة ثم هل كان المبنى الذي كان يجتمع فيه القرشيون حول الأصنام مسجدا لله؟ وهل كان فيه صلاة؟؟ كلا. بل الله يقول (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) الأنفال 35 إذن (المسجد الحرام) ليس المراد به إلا البلد الأمين بكامله ومحتواه ، ولا يقصد به إلا البيت الحرام بمعناه الذي عرفناه ، لقد أسري بالنبي من المنطقة التي هي مكة أو البلد المسمى بالمسجد الحرام ، قد تسألون ولماذا سمي بالمسجد الحرام ؟ وأنا أسأل هل وصف المسجد بأنه حرام يعني أن الحرم مقصور على المبنى؟؟ إذا كان المسجد هو المبنى فإن هذا يعني أن الحرم محدد به وهذا غير صحيح فالحرم هو البلد الكامل الشامل المناطق الحرام كلها ، التي يعرف الناس حدودها ، وبدايتها ونهايتها ، بلا لبس ولا خلاف ، وعليه فالمسجد المراد به كل المنطقة الحرام .
أما لماذا سمي مسجدا فهو لأنه محل للطاعة والخضوع والانقياد لله والخشوع والتزام سلوك معين معهود للناس مشروع ، فلا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال ولا خصام ولا اعتداء ولا قتال ، بل سلام واطمئنان لكل مقيد وباد. ومن يرد فيه بإلحاد ، فأن العذاب له بالمرصاد ، وهكذا سمي البلد مسجدا ، ووصف بأنه الحرام ، لأنه هكذا محكوم فيه بالطاعة والالتزام وهو معهود للناس بشكل عام ، سواء من كفر وغادر الإسلام ، ومن استجاب بعد ذلك للإسلام ، فهو المسجد الحرام ، الذي حكمه معروف ، والتحريم فيه مألوف ، والقتل فيه مكفوف ، وهو بالاحترام محفوف ، فالمسجد الحرام هو البلد بكله ، والمسجد الحرام هو المنطقة الحرام الكاملة.
ثم هل هناك حين أسري بالنبي مسجد في القدس ، كلا بل كان هناك كنائس وأديره لليهود والنصارى ، فلماذا سمي إذن المسجد الأقصى؟ لأنه مقام عبادة وطاعة لله ، ومحط سلام واطمئنان ، فالسجود يعني الخضوع والاستسلام والمسجد يعني موطن التمسك بذلك والالتزام ، فهو المسجد الأقصى ، أي المكان أو البلد الذي يحترم فيه الناس بعضهم بعضا. ثم إذا كان المراد بالمسجد الأقصى هو الكنائس والأديرة والبيع النصرانية فلماذا وصف بالأقصى؟
إن الأقصى لا يوصف إلا بلد كامل أو مقام واسع الأرجاء أو منطقة يسكنها الناس ويعيشون في سلام شامل وعطاء
Shafi da ba'a sani ba
ولهذا أضاف الله صفة أخرى فقال (الذي باركنا حوله) فالبركة منشورة على كل بقعة فيه وعلى ما حوله ولقد وصفها الله في آيات أخرى بقوله عن إبراهيم (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) الأنبياء 71 ويقول عن سبأ :(وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة)سبأ 18 ويقول عن سليمان وهو كان في القدس (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين) الأنبياء 81 إذن فهي أرض ، وسماها الله مسجدا فقال (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وعليه فالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة ، وهي التي حرمها الله ،
وبعد تعالوا إلى آية أخرى هي قولة تعالى : (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) الفتح 27 وقال (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 فهل المسجد الحرام هنا يعني المبنى الذي للطواف أم البلد والأرض الحرام كاملة لا شك أن المراد به مكة الأرض المحرمة المحددة المعروفة الطول والعرض ، وهكذا فإن المسجد الحرام هو البلد الحرام هو البيت الحرام هو الكعبة الحرام. فالرسول لم يرد دخول المسجد فقط الذي فيه يتعبد ، ولكن أراد الأرض والبلد الذي هو حرام ، وله حد محدد ، معروف من الأبد. إذا أردتم المزيد من الأدلة ، فاسمعوا هذه الآية :(كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) التوبة 7 والمراد بهذا العهد هو ما عقده النبي مع بعض القبائل القاطنة على حدود الأرض الحرام ، ويقول الله عن الحديبية التي تم فيها الصلح مع قريش (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا) الفتح 24 فسمى الحديبية بطن مكة ، أي أنها على حدود البلد الحرام. ثم أن هناك آية تؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو البلد أو الأرض المسكونة ضمن المنطقة الحرام ، يقول الله في سورة البقرة عن من حج متمتعا بالعمرة إلى الحج (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فهل الأهل يسكنون في المسجد المصلى أم في البلد الذي جعله الله للناس حراما. وقبلها يقول الله للمؤمنين (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) البقرة191 فهل القتال يكون عند الأرض التي تسكن فيها ، أم عند المسجد الذي يصلى فيه؟ إن المراد الأرض المسكونة. إذن فالمراد بالمسجد الحرام الأرض التي هي محرمة أو البلد الحرام . ثم تعالوا إلى سورة الحج .. يقول الله :(إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) ثم يصفه بقوله (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) ثم يقول (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) الحج 25 فهل العاكف والباد من الناس يسكن في المسجد المصلى ، أم في البلد الذي يسع الجميع ويكون للناس سواء؟ إن الوصف يؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة المسماة بالبيت الحرام ، الذي هو (أول بيت وضع للناس) وهو (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) فالمسجد الحرام هو البيت الحرام. ثم تعالوا أخيرا إلى سورة الأنفال :(وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أوليآؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون) الأنفال34 ، لا شك أن المراد هنا هو البلد الحرام بأكمله لا مجرد المسجد الصغير بداخله. وهكذا نصل إلى النهاية في هذا الموضوع عسى أن يكون مقبولا عندكم باقتناع.
(مقام إبراهيم)
إن الناس يظنون كما قال المفسرون أن مقام إبراهيم هو المكان الذي يقع على يمين المبنى الذي بناه إبراهيم أو رفع قواعده. ولأن الناس يظنون هذا الظن فإنهم يزدحمون فيه عند الطواف ويشكلون أزمة تجعل الطواف عسيرا وهو سهل يسير. يا إخواني إن المراد بقوله تعالى (مقام إبراهيم) ليس إلا المنطقة كاملة فهي مقام ووطن لإبراهيم فيها أقام ، وفيها سكن ، بعضا من الزمن ، ولقد أشار الله إلى هذا بقوله حاكيا عن إبراهيم : (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة) إبراهيم 37 هذا يدل أن المسكن هو الوادي الواقع ضمن البيت الحرام ، إذن فالمنطقة كلها هي السكن وهي المقام ، ولقد علل إبراهيم إسكان بعض ذريته هنا في هذا الوادي الغير ذي زرع ، علل هذا الإسكان بقوله (ليقيموا الصلاة) فالإقامة ليست لمجرد العيش والعمران ، وليست لمجرد السعي والبحث عن المتاع ، كلا . بل المراد هو الطاعة لله واتباع هداه وتطهر البيت من الشرك والضلال ، ومن الظلم والإلحاد ، وإذا أقام الناس على هذا الطريق الجاد ، فإن الله يكفل لهم المعاش والزاد ، ولهذا جاء دعاء إبراهيم عقب التعليل فقال : (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) وهكذا أجاب الله دعاء إبراهيم وجعل البلد آمنا لكل باد ومقيم ،وجعله حرما آمنا ، وعلى هذا الأساس الذي علل به إبراهيم إسكان ذريته وهو إقامة الصلاة والطاعة والشكر لله ، جاءت آية البقرة ، جاءت الآية تؤكد هذه المعاني بشكل واضح البيان فاقرءوا بإمعان (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) إنه نفس ما دعا به إبراهيم ، فها هو البيت الحرام ، والبلد الحرام ، قد أصبح مثابة للناس ، فيتوبون إليه ، ويتعلمون منه ، ويقتدون بسلكه ومنسكه ، ثم هو مع المثابة آمن ، فمن دخله شكر وأقام الصلاة وهو في أمن لا يزول ، وسكون لا يتزلزل ، وسلوك جميل لا يتحول. إن كلمة (أمنا) في قوله (مثابة للناس وأمنا) تفصح بأن المنطقة كلها قد تجسد فيها الأمن وتجذر ، وتوارث الناس هذا السلوك فيه ، فهو بتغير حتى أصبح البلد كأنه هو الأمن بذاته ، وكأن كل ذرة فيه وكل شبر يشع بالأمن وكل شجرة وعشبة تثمر أمنا وكل نسائمه واحواشه تهب أمنا ، وفي هذا الحال والجو الجميل والأمن الأصيل والسكن الظليل لا بد أن يكون للناس فيه سلك جليل ، يليق بهذه الصفات التي لا تحول ، وعليه جاء الأمر المعجول.
وقبل أن تكمل الايات السياق وقبل أن يصل الوصف للبيت إلى نهاية المطاف انقطع السياق وانطلق الأثر بأجمل انطلاق ليؤكد أن الحال يستحق هذا أشد استحقاق فقال (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) أي اتخذوا من هذا البيت أي من هذا البلد أي من هذه المنطقة الحرام ، كما عرفنا ذلك من سياق الكلام ، اتخذوا من هذا البيت الذي هو مقام إبراهيم مصلى ، أي مقاما للعبادة والشكر والطاعة والذكر والتوحيد لله الواحد بلا شرك ولا زور. نعم هذا هو المراد ، إنه يعني أن تكون المنطقة كلها مصلى ، لكل الناس الذين جعل الله لهم البيت مثابة وأمنا ، أليس إبراهيم قد أسكن أهله هناك ليقيموا الصلاة ، إذن فهو القدوة ومثله فلنقم الصلاة ، ولنتخذ مقامه الواسع الكامل مصلى على الدوام تماما كما كان إبراهيم الإمام ، وإذن فليس المراد بمقام إبراهيم هو ذلك الموقع الذي نزدحم فيه بلا جدوى ، بل المراد به كل المنطقة الحرام التي أقام فيها إبراهيم واتخذها مصلى له ولذريته ، ولمن تبعه وبه اقتدى ،
ولهذا عاد السياق من جديد في الآية ليواصل البيان فيوضح لنا أن المقام مقام طاعة وإذعان وتوحيد وإيمان وطهر وتقوى وإحسان فجاء بعد الأمر (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قوله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) فالعهد هذا يؤكد أن المقام هو البيت بكله وبكامله المعروف الحدود (للطائفين والعاكفين والركع السجود) فهو مقام واسع الأرجاء يشمل المنطقة الحرام بلا مراء وليس ذلك المقام المعهود للملأ . ثم إني أسألكم سؤالا لو سلمنا أن المراد بمقام إبراهيم هو ذلك المكان الذي يقابل الحجر الأسود وأن إبراهيم كما قيل كان يقوم فيه ليبني المبنى الذي فيه الحجر الأسود ، ومنه كان يضع الأحجار على المدماك ويرفعه ، وابنه إسماعيل يمكنه الأحجار ويناوله ، إذا سلمنا بهذا فكم كان طول ذراع إبراهيم وكم كان طول قامته حتى يتمكن من البناء وهو على هذا البعد من المبنى ؟؟ إن هذا ينفي الظنون ويؤكد أن المقام المدعى وهم موروث ، لا يعتمد على اليقين ، قد يقال أن عمر بن الخطاب أزاح مقام إبراهيم من جوار مبنى الحجر الأسود عدة أمتار ، وإلا فالأصل أنه كان قريبا من الجدار بحيث يمكن العمار من وضع الأحجار ، وإذا صح هذا فلماذا أزاحه عمر وهو يعلم أن هذا المقام شعيرة لا تغير ، وأثر لا تحول عما يؤثر ، إن إزاحته تؤكد أن الموضع ليس مقام إبراهيم وإنما هو شعيرة توارثها الناس غابرا عن غابر ، حتى أصبحت من الشعائر ، قد يقال أن النبي صلى هناك حينما اعتمر وتلى الآية (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) لكن الحديث ليس متواتر السند بل هو أحادي ، والأحادي معروف أن عمله ظني ، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أراد الصلاة في محاذاة الحجر الأسود ، فكان المكان هو هذا المقام المدعى ، ثم أنه قد أراد بتلاوة الآية : أن مكة كلها تصلح مصلى ما دامت مقام إبراهيم المقتدى الذي اتخذها كلها له ولذريته مقاما لإقامة الصلاة فالنبي محمد به اقتدى لا لتحديد الصلاة في ذاك المكان ولكن ليذكر بإبراهيم الإمام ، وليؤكد أنه على ملته أتم الالتزام ، وبعد فهل نستطيع أن نبني على هذا ، إن مقام إبراهيم هو البلد الحرام كله وهو البيت الحرام بأكمله؟؟
لعلنا قد اتضح لنا أن هذا هو المراد وإذا أردتم المزيد من البرهان فها هو إبراهيم يأتي بالبيان في الآيات التي تلي فاقرءوا بإمعان: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 إن البلد هنا هو البيت وهو المقام ها هو إبراهيم يشير إلى المقام ويقول رب اجعل هذا بلدا آمنا ويدعو لأهله بالرزق ويشترط الإيمان بالله واليوم الآخر فهل يمكن أن للمقام الصغير أهل وهم يسكنون فيه ويأكلون وهل يمكن أن ترد الثمرات إلى ذلك المقام الصغير المضنون كلا بل الذي يسكنه أهل وتأتيه ثمرات إنما مكان واسع الأرجاء ، في البلاد يتسع للمقيم والباد وله حدود من دخلها كان في حرم آمن من كل ظلم وإلحاد ومن كل باغ وعاد ، وعلى هذا فإن المقام هو هذا الذي أراده إبراهيم ملاذا . فكان الله معه مجيبا وجعل البيت مثابة وأمنا وجعل المقام مصلى طاهرا وجعل البلد آمنا موفور الأرزاق والأثمار تجيء إليه من كل الأقطار رزقا من لدن الله الغفار .
والآن أكتفي بهذا المقال حول المقام وأرجو أن القارئ قد اقتنع بالبرهان وبالكلام وإني لأدعو لي وله أن يكون إبراهيم لنا هو الإمام وأن تكون ملته لنا هي الملة فهي الإسلام .الحج أشهر معلومات- الجزء الأول ¶ أزف إلى علماء الإسلام ، وإلى علماء مكة الأعلام ، هذا الخبر الهام ، الحج أربع مرات في العام .. واليهم أوجه هذا البحث القرآني. ¶ أخي القارئ أينما أنت في البحر والبر ، لا تسخر قبل أن تتدبر ، لا تستكبر قبل أن تتفكر ، حاول أن تقرأ أولا ، ثم أنظر متحليا متأملا ثم قل ما يحلو لك عن المقال ، فأنت مدعو معنا بصوت عال ، أنت مدعو للتفكر ، فإذا فكرت فقدر ، ثم أنظر ثم قرر ، واحذرثم احذر أن تكون كمن قال الله عنه (إنه فكر وقدر ?18? فقتل كيف قدر ?19? ثم قتل كيف قدر ?20? ثم نظر ?21? ثم عبس وبسر ?22? ثم أدبر واستكبر ?23?) المدثر 18-23 ¶ ألا إن القرآن يسير للمدكر ، واضح البيان للمتفكر (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر 17 ولقد قال الله فيه (الحج أشهر معلومات) وإنها لواضحة البيان وناصعة البينات ، إذا حسنت لدينا النيات ، إنها لحل واضح البيان ، يفتح للناس أبواب من الإحسان ، وتوسع للحج الزمان ، فإن بإمكان الناس أن يكون حجهم أربعة أشهر ، أي أن يكون الحج أربعة مواسم في العام ، أي في كل من الأشهر الحرام يفتح للناس الحج ويقام ، والأشهر الحرم رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم . هذه هي الأربعة الشهر الحرم ، التي أجمع عليها أهل العلم ، ¶ نعم (الحج أشهر معلومات) هكذا قال الله ببيان عربي مبين ، وهل القرآن ينطق بغير العربية الفصحى (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) يوسف 2 . وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن لا نتهم القرآن بالقصور ، بل نحاول أن نفهم الآيات بلا إنحراف ولا تقصير ، الله يقول (الحج أشهر معلومات) فيجمع الأشهر جمع قلة ويصفها بأنها معلومات ، ¶ كيف يقول مفسر أو أكثر أن المراد بالأشهر شهر ونصف أو شهر وعشرين يوما ، إن هذا كلام وتفسير لا يليق بحق الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، والذي بين في الكتاب كلما يهم الإنسان من الأحكام. إذا فالآية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن (الحج أشهر معلومات). يعني أن لكم أيها الناس أن تجعلوا للحج أربعة مواسم ، (رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم وهي الأشهر الحرم) ، فيكون الحج فيهن مفتوحا للناس ، ومسموحا للطائعين والعالمين والركع والسجود من الناس أجمعين بل للعالمين ، إن الله وسع الزمان في الحج وحدد المكان فعرفات محدود ، ومتى محدود ، والحرم بأكمله محدود . لكن الزمان مفتوح في هذه الأشهر الأربعة ، ومسموح فيها بلا حرج ولا تشديد. إن العلماء الذي قالوا أن المراد بالأشهر بعض ذي الحجة ومحرم ، أو بعض ذي الحجه وذي القعدة لم يفهموا أن القرآن منزل للعالمين ، للناس جميعا إلى يوم الدين ، فأخذوا الآية بمأخذ العصر الذي هم فيه ولم يدركوا أن وسائل المواصلات ستجعل الإنسان يصل إلى مكه من أقصى الأرض في يوم واحد ، وأنها ستستقبل من الحجاج الملايين في أسبوع واحد. ¶ لكننا الآن وصلنا إلى هذه الحقيقة ، وأصبح الحج ممكنا للناس أجمعين وأصبح من الممكن أن يصل ملايين الناس إلى مكة في يوم واحد ، من كل فج عميق ، وعليه فإن مواجهة هذا الكم من الحجيج يتم بالعمل بالآية ، وينحل الإشكال وينكشف بالتطبيق للآية العددية ، بل تنفتح بها مجالات الحج لكل قادر بلا تحديد عدد لكل دولة ، فالناس مدعوون للحج من كل جنس ووطن ، ومن كل لون ودين ، فكيف يتم هذا ونحن محددون للحج بشهر واحد . ¶ إن الحج كما يقول الله (أشهر معلومات) إنها الأربع الأشهر الحرم ، فكلها تصلح موسما للحج ، بدليل أنه سماها معلومات ، فلماذا سماها معلومات مع أنه قال في شهر الصيام (أياما معدودات)؟؟ إن هناك لا شك فرقا بين التعبيرين فالمعدود يعني أنه يحتاج إلى أن يعلم ، ولهذا سماه الله وقال : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) البقرة 185 . وإذا كان الله قد حدد شهر الصوم وسماه فذلك لنعرف عدد الأيام التي نصومها ، فكيف لم يحدد أشهر الحج ويقول مثلا :شهر ذي الحجة الذي تقام فيه المناسك ، لكنه عدل عن هذا وقال (أشهر معلومات) ومن المعروف بأنها الأربعة الحرم (فمن فرض فيهن الحج) وتأملوا الآية (فمن فرض فيهن الحج) إن الضمير في كلمة (فيهن) يؤكد أن المراد عودته إلى الأربعة الأشهر المعلومات ، فهن يصلحن جميعا لفرض ونية الحج ، فمن فرض منكم يأيها الناس فيهن أو في أحدهن الحج يكن مقبولا عند الله الذي يخاطبكم بلسان عربي مبين . ¶ قد تقولون وكيف يكون الحج في هذه الأشهر الأربعة؟؟ ومتى يكون العيد؟؟ وكيف يكون النحر والناس قد تعودوا على موسم واحد ويوم للنحر واحد وعيد واحد؟؟ هو في ذي الحجة أي في العشر الأولى منه. نقول تلك عادة إعتادها الناس ، لأن النبي حج في هذا الشهر فاتخذ عادة ، ولم يدرك الناس أن الزمان سيتغير ويدور حتى يصبح من الواضح لهم أن للناس أن يحجوا في الأربعة الأشهر المعلومات. ¶ قد تقولون .. أسلمنا بأن الحج أربعة أشهر فكيف نحدد الوقوف بعرفة ويوم النحر ؟؟ نقول أن التحديد وارد كما حدد في ذي الحجة ، فليكن يوم الوقوف هو اليوم التاسع من كل هذه الشهور ، وليكن يوم النحر هو اليوم العاشر من كل هذه الشهور ، تماما كما هو في شهر ذي الحجة الآن ، ولتأكيد هذا المعنى ولإبراز هذه المهمة التي تهتم بتحديد يوم الوقوف ويوم النحر نقرأ :جاء في سورة البقرة عقب آيات الصيام قول الله سبحانه وتعالى : (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) تأملوا ...يسألونك عن الأهلة أي عن سبب نقص القمر وتقديره منازل في النقص والإكتمال ، فقال الله مجيبا أن الحكمة هي أنه (مواقيت للناس) في كل شيء وفي كل مهمات وأمور الحياه ، وكان هذا يكفي لكنه خصص بعد التعميم فقال بعد ذلك (والحج) ليدل على الأهمية ، وإلا فلماذا تأتي كلمة (والحج) إذن فالأهلة هي الدليل العملي لتحديد أول يوم من الشهور الأربعة ليعرف بذلك اليوم التاسع واليوم العاشر ويتحدد برقم . ¶ ثم أن موقع هذه الآية (يسألونك عن الأهلة) ومجيئها عقب آيات الصيام تدعونا للتأمل ، فالصيام جدير بأن يعرف أول أيام شهره ، فلماذا لم يذكر الصيام وذكر بدلا عنه الحج ، إن هذا إشعار لنا بأن الصيام يمكن تحديده بالهلال أو بإكمال العدة ، لأنه شهر واحد وأيامه معدوده ، كما وصفها الله ، ولم يقل كما قال في الحج معلومات ، فكان الحج هو الأهم بالذكر في آية الأهله ، لأنه لا بد أن يحدد أول كل شهر من شهوره بدقه ليعرف اليوم التاسع والعاشر بدقة ، ¶ فالأشهر أربعة لابد أن يكون لها علامات تدل على بدايتها وإمارات واضحة الدلالة وتلك هي الأهله . إن كل شهر من الأربعة لا بد أن يرقب المسلمون هلاله ليعرفوا ببدايته موعد وقوفهم ونحرهم وأيام حجهم ، وعليه فإن يوم تاسع رجب هو يوم عرفه ، ويوم تاسع القعده هو يوم عرفه ، ويوم تاسع الحجة هو يوم عرفه ، ويوم تاسع محرم هو يوم عرفه . ¶ كما أن يوم عاشر هذه الشهور إنما هو يوم النحر ، وما يليها هي أيام التشريق ، تماما كما هي في شهر ذو الحجة الذي إعتدنا عليه .وبعد هذا التقرير الذي أرجوا أنكم قد فهمتموه ، ألفت انتباهكم هنا إلى شيء هام ، هو قوله تعالى في آيات الحج وهو يعلمنا المناسك ويتحدث عن أيام التشريق قال : (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) البقرة 203 لماذا سماها معدودات ولم يقل معلومات؟؟ لأنها فعلا معدودة فهي ثلاثة أيام وهي أيام التشريق ، لكنه وصف أشهر الحج بأنها معلومات لأنها مسماه معلومه مشهورة ، بل موصوفه بأنها الأشهر الحرم ، فهي معلومه لكل الناس ، للمسلم والكافر ، والبادي والحاضر ، والمقيم والمسافر ، والأول والآخر ، بلا لبس ولا اختلاف ، ¶ ولهذا كان الكفار يحتالون على حرمتها بالنسيء ، الذي وصفه الله بأنه زيادة في الكفر وبأنه ضلال مضر ، ثم أنه وعلى ضوء فهم الفرق بين معلوم ومعدود ألفت إنتباهكم إلى شيء هام آخر ، هو قوله تعالى في سورة الحج : (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ?27? ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) الحج 27/28 نعم إنها أيام معلومات ، معلومات بكونها تبدأ من يوم معلوم وتنتهي في يوم معلوم فهي أيام معلومة في الأشهر المعلومة ، تلك هي التاسع والعاشر وما يليها من أيام التشريق ، فهي معلومات في أشهرها المعلومات . ¶ ثم تعالوا معي إلى دليل ثالث ، يؤكد أن الحج يصح في الأشهر الأربعة وهو قولة تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) التوبة 36 إن هذا يؤكد أن هذه الأشهر ازلية أبدية ، معلومة للملائكة وللأفلاك ولكل المخلوقات ، التي سبقت الإنسان ، ولا تزال معه مدى الزمان . ¶ إنها مشهورة في السموات والأرض ، ومعروفة لمن وما بينهما من الخلق المدركين لما حولهم ، الموجودين قبل الناس ، فما بال الناس يظلمون أنفسهم فيهن ، وينسون حرمتها وجلالها ، ويجهلون معلوميتها.إن شهرتها وحرمتها وعددها معروفة عند كل خلق الله ، بل وقبل ذلك (عند الله) وهو الله أكبر من كل شيء ، وهو الله خالق كل شيء ، وهو الذي إختار لنا الدين القيم ، فكبروه ، واجعلوا الأشهر الحرم موسما لحجكم ، لتنالوا القرب عند ربكم ، وتزيحوا الظلم عن أنفسكم ، ثم (واعلموا أن الله مع المتقين) . ¶ ثم تعالوا معي إلى سورة الفجر ، فإن شعاع الفجر هناك يكشف لنا سرا عن الحج ، وتشير لأيامه ولياليه بأسلوب بديع لنقرأ السورة من البداية : (والفجر) الكلمة جائت معرفة بالألف واللام (والفجر) ثم ماذا لنقرأ : (وليال عشر) إنها بدون ألف ولام ، إنها بدون تعريف كالأولى قبلها ، إنها بدون حرفي التعريف ( أل ) ثم إنها منكره (ليال) منكرة وصفتها (عشر) منكرة ، فالتنكير شمل الصفة والموصوف (وليال عشر) لماذا هذا؟؟ ... إنتظروا حتى نكمل المشوار ثم لنقرأ ما بعدها :(والشفع ) (والوتر) إنها مثل الأولى كلمة (والفجر) محلاة بأداة التعريف أي معرفة بالألف واللام ، ثم نأتي إلى الأخيرة وهي (والليل إذا يسر) الليل معرف كذلك بالألف واللام ، فلماذا.. لماذا هذا الأسلوب ؟؟ ¶ لماذا تعرفت الكلمة الأولى والأخيرات ، وتعرت الثانية عن التعريف ؟؟ إسألوا أنفسكم لماذا عرفت الكلمات المقسم بها كلها إلا كلمتي (وليال عشر)؟؟ لماذا عرفت التي قبلها والتي بعدها بالألف واللام؟؟ وهي لم تعرف مع أن الأسلوب الأمثل أن تعرف جميعا وهذا هو المناسب لقواعد البيان؟؟ لكن التنكير هو البيان ، فتنكيرها يعني أنها فعلا ليال عشر متكررة مع الشهور، وليست معهودة في شهر واحد ، فهي تتكرر في رجب وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي محرم ، وهي التي نعرفها بالأهلة التي هي مواقيت للناس والحج ، وما أشهر الحج إلا كل الأشهر الحرم الأربعة المعلومه عند الله وعند خلقة منذ خلق السموات والأرض ، ثم لنسأل أنفسنا من جديد ، لماذا لم يقل والليالي العشر ، بل قال وليال عشر؟؟ إن هذا لكي يخرجها من التخصيص لان الأشهر أربعة ، وليدلنا ويبين لنا أنها ليالي متكرره مع كل شهر حرام وهي موسم الحج العام. ¶ وبعد ،،، هذه مجرد إشارات ، أصفها أمام المهتمين بشئون الحج في السعودية وسواها ، وأمام المسلمين في كل مكان من الأرض ، ولكل من عاصرنا فيها أو يأتي بعدنا عليها ، إن هذه قضية ستجعل الحج عاما للناس ميسورا ، وتجعل الزمن أمام الناس مفتوحا ، لا تضييق فيه ولا تقسير ، ولا تحديد للعدد ولا تقطير. إن الله قد حدد للحج المكان وعين حدود كل الشعائر والمواقع ، فعرفات له حدود ، ومنى ومزدلفه كذلك ، بل أن الحرم كله محدود بحدود ، ولكنه فتح للناس الزمن ووسع فيه ، لتظهر آيات الله ، فيكون الحج مفتوحا في الأشهر الأربعة ، فمن فرض فيهن الحج فمكانه محدود ، وسلوكه محدود (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج). ¶ إن الزمان متعدد والمكان محدود ليقبل الناس على الحج بعدد أكبر وليتعلموا القبول بالآخر ، وليحسنوا في التعامل مع من حضر (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).وبذلك يكون لهم عند الله العليم السميع ، مقام رفيع ، (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) ولكي نعمل الخير فلا بد من التزود بشيء هام ، وهو قوله تعالى (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) . أي لكي تحجوا وبعمل مقبول ، فإن زادكم هو التقوى ، وإنها فعلا خير زاد ، وكيفلا والله يقول في ختام الآية (واتقون يا أولي الألباب) وأولوا الألباب هم الذي يعرفون الله ويقدرونه حق قدرة ويعلمون أن الله يقول :(إنما يتقبل الله من المتقين) المائدة 27 ¶ ثم إذا جئنا إلى آية التوبة المذكورة سابقا وهي (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم) التوبة 36 ستجد أنه قد جاء بعدها مباشرة قوله تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) التوبة 37 نعم لو جئنا على هذه الآية والتي قبلها ، وفهمنا مرادها ، وتدبرنا مرماها لمسنا وجلا من الله وخوفا على غفلتنا وإغفالنا هذه الأشهر الحرم فلم تعد لدينا أشهر حرم ، ولم نعد نحرم فيها ما حرم الله ، إننا في حالة نسيء ، وإذا كان الجاهليون يحلونه عاما ويحرمونه عاما فإن النسيء عندنا أصبح دائما ، ولا ندري أننا قد نسينا أنفسنا ، وزين لنا عملنا ، وأضحينا بعيدين عما يريد ربنا ، وعن فهم آياته البينات. وليت شعري ما الذي دهانا ، ومن الذي زين لنا سوء عملنا ، إنه حب الدنيا ، واتباع الهوى ، واتخاذنا الدين لهوا ولعبا وذلك شأن الكافرين ، الذين يقول الله عنهم وهم في جهنم يتمنون شيئا من ماء الجنة (إن الله حرمهما على الكافرين ?50?) من هم (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) ثم ماذا بعد (وما كانوا بآياتنا يجحدون ?51?) الأعراف 50/51 وهذا هو بيت القصيد ، فإننا بالآيات نجحد ، وفي الدين نلهو ونلعب ، وللدنيا نسعى ونتعب ، وهذا هو الذي يسوق إلى نار ذات لهب فاستيقظوا أيها النائمون على الشهوات ، قبل أن يوقظكم الموت وتدبروا آيات ربكم ، واقبلوا عليها قبل أن تدبروا عن الدنيا وتساقوا للقاء ربكم وتحاسبوا عليها ، وتقولوا (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) الأنعام 27 ¶ قد يقول قائل أنت تقول أن أشهر الحج هي الأربعة الأشهر الحرم ، مع أن الله يقول في سورة المائدة :(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام) المائدة 2 فهو لم يقل الأشهر الحرم بل سماه شهرا فقال (الشهر الحرام) وقال في آية آخرى من السورة (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97فلم يسم الله إلا الشهر الحرام ، ولم يقل الأشهر الحرم ، وهذا يدل على أن الشهر الحرام واحد هو ذي الحجة .لكني أقول لكم أن هذا الفهم لا يتفق مع معرفة اللغة ، فالمفرد قد يطلق ويراد به الجمع ، ويقصد به غرض بلاغي هو جعل المجموع كالواحد في الفضل، وكأن التفرق والتعدد لا يعني التفاضل ، بل كلها كأنها واحد ، وهذا ورد مع كثير من الآيات فقد جاء في سورة الجن (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) 8 فقد جمع كلمة حرس وأفرد كلمة شديد ، مع أن المعلوم أن يقول (شدادا) لكنه وحد الصفة ليدلنا على أن تعدد الحرس لا يعني التفريط والغفلة ، بل كأنهم حارس واحد لا يحيد عن واجبه ، ولا يميل ، ثم جاء في الآية التي تليها (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) الجن 9 ... لقد أفرد كلمة (شهابا) وجمع الصفة فقال (رصدا) مع أن السياق يستدعي أن يقول (شهابا راصدا) لكن الإفراد للموصوف يوحي بأن كثرة الشهب لا تعني الفوضى ، ولكن تعني مزيدا من الحفظ ، فكان مجموع كل الشهب شهابا واحدا يرصد ، وهذا أبلغ في التعبير عن الحفظ والحراسة . ¶ وكذلك كلمة الشهر الحرام. إن توحيد الشهر وإفراده يدل على أن كل شهر منها له الحرمه ، وله القيام ، وله ما لغيره بالتمام ، فكلها عند الله شهر واحد ، لها معنى واحد وهي أنها حرام ، ومحرم فيها كل ما حرمه الله من الأعمال ، والصيد والطعام ، كما هو معروف في آيات المائدة .ثم أن المفرد قد جاء محل الجمع في قوله تعالى (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) الفرقان 74 لماذا لم يقل (أئمة) وهو الأنسب للسياق؟!! لكن الإفراد هو الأنسب للسياق ، وللغرض البياني ، والهدف البلاغي ، فكأن كل الآباء والأبناء والذرية في التوحيد على الدين ، والتوحيد لرب العالمين ، واتباع سبيله المبين .. كأنهم جميعا في الناس إمام واحد ، لتوحد طريقهم واتحاد سبيلهم واستنارة قلوبهم بنور الله أجمعين ، أليس هذا أبلغ من أن يقول (واجعلنا للمتقين أئمة). ¶ ذلك لأن التعبير بالجمع قد يوحي بتعدد الآراء واختلاف الطرق ، وتصرف السبل وهذا الوضع ، فهو الأمر المخل ، لكن الإفراد للكلمة أفاد مع الإيجاز ، توحد الرأي والدين والسبيل في كل العصور والأماكن ، وفي كل جيل.فكل إمام يخلف الأول ولا يبتعد عن الطريق وكل خلف يمد مهمة السلف بلا تفريق فهم موكب واحد لا يختلف وهم قلوب متوحده خلفا عن سلف ،وهم على سبيل سوية رغم تباعد العصور والأمكنة وهم متفقون ملتقون رغم توالي الأجيال والأزمنه وهكذا يتسع إفراد الكلمة في قوله (واجعلنا للمتقين إماما) ويدل على هذه الحقائق التي تذهل العقل إعجازا وبيانا . ¶ ثم تعالوا إلى كلمة أخرى تدل على أجمل معنى هي قوله تعالى (ثم نخرجكم طفلا) من الآية الخامسة من سورة الحج ، لماذا لم يقل (أطفالا) ذلك ليؤكد لنا أن العالم كله مهما تكاثرت مواليده فهم عند الله طفل واحد ، وفي قدرته وتدبيره مولود واحد ، فلا يعني لله شيئا من اللغوب والإنشغال ولا قليلا من القلق والإهمال، بل كلهم برعاية الله في أحسن حال وكلهم بتدبيره ينمو ويصح ، من أقوى الرجال الى الضعيف والشيخ ولتأكيد هذا المعنى يقول الله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) لقمان 28 ولو أردنا إيراد الأمثلة لطالت العبارة ولكن الحر تكفيه الإشارة.وها نحن نواصل البحث في آيات الحج وكلماته بما يزيدنا إستنارة . ¶ تذييل وبيان لمفردات الحج والمكان ¶ كلمة البيت ¶ هل المراد به تلك العمارة الصغيرة المربعة وسط المباني المستحدثة المحيطة بها؟؟ هذا ما يفهمه الناس ، وهذا ما شاع بين المفسرين ، ولكن هل هذا فهم صحيح يتفق مع القرآن المبين؟؟ تعالوا معي نتبين الآيات ولا بد أن نصل إلى معنى آخر يخالف فهم الأولين . البيت في اللغة أولا هو المكان الذي يؤمن للإنسان البيات في أمان ، والسكن باطمئنان ، فهو مأخوذ من البيات أي السكون ليلا فأطلق على كل مكان يؤمن الليل للإنسان بيتا ، فهو مصدر بات يبيت يقال بات يبيت بياتا ، ولهذا جاء قولة تعالى (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون) الأعراف 97 . ثم أطلق البيت بشكل موسع على كل مكان يضمن للإنسان الأمان والسلام في الأرض ولو في الليل أو النهار ولهذا قال الله لقوم صالح (وتنحتون الجبال بيوتا) الأعراف 74 (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) الشعراء 149 (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) النحل 80 ، ومع هذا التحول في معنى البيت فقد تحول إلى معنى أوسع هو المنطقة أو المدينة أو القرية التي يسكنها الإنسان ولهذا قال الله عن النحل (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) النحل 68 ، وليس المراد هنا إلا أن تتخذ الجبال والشجر بيوتا ومن ما يعمله لها الناس من المزارع والمواقع الواسعة ، إذن فليس المراد بالبيت هنا هو مكان الخلية الصغير للنحل ولكن مكان الإنطلاق والأمان والسلوك في الأماكن بإطمئنان . فالجبال الشامخة وما حولها قد تتخذها وتختارها لها بيوتا آمنه وقد تختار الأشجار والغابات الملتفة بيوتا تكون فيها منطلقة وكامنة وسالكة وآمنة . ¶ وعلى هذا الأساس يقول الله لرسوله محمد وهو يخرج إلى بدر (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) الأنفال 5 ، فالمراد بالبيت هنا هو المدينة بأكملها لأنها أهله وأحبابه وأنصاره وأصحابه ولهذا قال له في آية أخرى عند خروجه إلى أحد (وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم) آل عمران 121، وهكذا أطلق البيت على الأهل ثم المدينة بأكملها لأنها محببة إليه كأهله ومأمنه كبيته وإذا كان هذا في شأن النبي وحده وفي شأن النحل وحدها فكيف يكون فهمنا لمعنى البيت الذي هو للناس أجمعين. إنه لا بد أن يكون معناه مكانا كبيرا واسع الأبعاد ، له حدود معروفه متباعدة ، وعلى هذا الأساس نفهم أن البيت حين يطلق في الآيات المتعلقة بمكة لا يعني إلا المنطقة الحرام كلها ولا يعني إلا كل المواقع التي تقام فيها المناسك وتؤدى ، ¶ فالبيت يطلق على ما يقع داخل حدود مواقيت الإحرام المعروفة للشامي واليماني والعراقي وسواها والمحددة في كتب الفقه فالبيت هو مكة وما حولها من المناطق الحرام ومن مشاعر الحج والإحرام .هكذا يجب أن نفهم البيت وهكذا يجب أن يكون معلوما لذوي الأفهام . فهو لا يعني البناية والحجرة الصغيرة التي تتوسط المباني المعدة للصلاة (المسماة بالحرم) ولا يعني أيضا المباني المستحدثة المحيطة لأنها تستحدث وتتوسع في كل زمان فلو أطلقنا البيت عليها لكان المعنى أن من هدم جدارا ووسع فكأنما هدم البيت الحرام ، وهذا غير صحيح ولصار المعنى أن من صلى قبل التوسع في المباني الحالية لم يصل في البيت الحرام وهذا غير صحيح ، إن البيت الحرام هو كل المنطقة الحرام وكل المشاعر الحرام المحددة المعالم منذ أقدم الأيام ومنذ آلاف الأعوام . ¶ قد تسألون عن الدليل على ما أقول ،، وأنا أسألكم أولا :هل أنت أيها الحاج تنحر الهدي في المبنى الصغير المسمى الكعبة أو تحمله إليه؟؟ كلا إنما تنحره في منى وتحمله وتنحره هناك وإذا كان الأمر كذلك فاسمع ما يقول الله "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق) الحج 33 ، أين هو البيت العتيق هل هو الكعبة الصغيرة إذن فقد سمى الله محل النحر وهو منى البيت العتيق ، يعني أنه من البيت العتيق.فللحاج أن ينتفع بالهدي ما دام سائر إلى مكة ثم إذا نحره فلا ينحره إلا في المحل المحدد للإحلال وهو منى والذي هو كائن بشكل جزء من (البيت) فإذا نحرت فيه فقد نحرت في البيت.. وبعد فهل في هذا بيان أم تريدون المزيد من البيان .ها أنذا أتلو عليكم قول الله على لسان إبراهيم عليه السلام (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) إبراهيم 37، فقل لي هل يريد إبراهيم بالإسكان لبعض ذريته عند البيت هذا المبنى الذي نراه الآن ؟؟ إذا كان يريد ذلك فلما قال (بواد غير ذي زرع) إذن فالإسكان كان في مكة كاملة التي هي محرمة ، بحدود معلمه ، وهي البيت المحرم الذي أراده إبراهيم. قد تقولون ألم يقل (عند بيتك) فمعنى هذا أن الإسكان كان عند أو قرب هذا المكان الصغير الذي نراه يتوسط العمران .ولكن كلمة عند لا تعني القرب ولكنها تعني الظرفية أي في بيتك المحرم لكنه استعمل كلمة عند ليؤكد اختلاطه بالمكان المحرم كله والتزامه به وحصر إقامته عليه (بواد غير ذي زرع) ولذلك فهو يسأل الله أن يرزق ذريته من الثمرات وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ثم يعلل الإقامة بأنها ليقيموا الصلاة والصلاة هي الطاعة والالتزام بحرمة المقام. فلا يعتدون ولا يصطادون ولا يفسدون ولا يطلمون .ولا يريدون إلحادا لظلم ولا يتجاوزون ما هو محرم بل يتقون ويشكرون المنعم ويتطهرون ويطهرون الحرم وهكذا عهد الله إليه بما يدل على أن المراد بالبيت هو الحرم كله (أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125، فهل المراد بالبيت هو المكان الصغير؟ أم المنطقة الحرام كلها إلى أطراف حدودها؟ إن الثاني هو المراد بلا شك والدليل عليه قوله للطائفين وهم الذي يطوفون عند الوصول إلى مكة والعاكفين وهم الذي يقفون في عرفات والركع والسجود وهما الذين يذكرون الله في منى أيام التشريق. وعلى هذا الأساس فإن علينا أن نفهم قول الله تعالى في سورة الحج (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) الحج 26 بأن المعنى : عرفنا لإبراهيم مكان البيت أو حددنا لإبراهيم مكان البيت لأن بوأ تعني أسكن لقوله تعالى (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) لكن حرف الجر "وهو اللام" في آية الحج (بوأنا لإبراهيم) ضمن الفعل معنى جديدا مضافا إلى معناه الأصلي ذلك المعنى الجديد هو(عرفنا أو حددنا) على أن الفعل قد يكون بمعنى مكناه إذا جاء بعده حرف الجر (في) مثل قوله تعالى لقوم صالح (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض) الأعراف 74. أي مكنه في الأرض وعليه فإن آية الحج تعني (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) أي عرفناه حدود هذا البيت بحيث يكون ما بين هذه الحدود هو البيت الحرام ولهذا جاء بعدها : (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج 26 ولا يمكن أن يكون المراد بالبيت هو المبنى الصغير لأن الطائفين والعاكفين والركع والسجود هم الذي يقودون مناسك الطواف والوقوف بعرفات والإقامة للصلاة والذكر والنحر في منى وهذه هي المشاعر الحرام ، أو هذه هي مكونات البيت الحرام . ¶ وإذا تأكد هذا الفهم فإننا ندرك معنى آية البقرة التي يقول الله فيها : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125. فالمراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة لأنها هي المثابة وهي الأمن كاملة ، لا مجرد المبنى الصغير المربع المعروف ، وهو البناء الذي يتوسط المقامة حوله للصلاة والطواف.وإذا كنت يا أخي في ريب من هذا الفهم فاقرأ قوله تعالى بعده بقليل (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125 فهي تعني أن الأب وابنه قد عهد الله إليهما أن يطهرا المنطقة كاملة من كل ظلم وإلحاد ، إلا أنه استبدل بكلمة القائمين كلمة العاكفين وكلاهما تعني الواقفين بعرفات وإذا لم يكن كذلك فهو يعني والعاكفين والمقيمين في هذا البلد الأمين. ثم اقرأ بعد ذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 ، فلقد أطلق كلمة (بلد) على البيت ، وهذا يدل على ما قلناه من أن المراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة وإذا لم يكن كذلك فكيف يكون له أهل ولهم رزق وثمرات؟ هل يمكن أن يسكن الناس في المبنى الصغير (المكعب) وهل هم أهله وسكانه؟؟ ثم استمر معي في القراءة لنجد قوله تعالى في آية تدل على أن كلمة البيت أطلقت على المنطقة قبل رفع قواعد المبنى الصغير .. تلك الآية هي قوله تعالى : (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة 127 ، نعم إن إبراهيم بعد أن بوأ الله له مكان البيت وحدوده وعرفه بداية المنطقة الحرام ونهايتها من كل الجوانب . بدأ إبراهيم في بناء مركز يكون هو بعلم الله مركز الدائرة للبيت الحرام وللأرض كلها كما سيتضح ذلك فيما بعد. ¶ فالمركز هذا أو مركز الدائرة هو الذي رفع إبراهيم قواعده لكنه ليس البيت ولكنه جزء من البيت ولهذا قال (القواعد من البيت) فأتى بحرف الجر (من) ولو كان هذا المبنى هو البيت لقال (قواعد البيت) بدون حرف من . وبعد فهل اقتنعت يا أخي أن المراد بالبيت في آيات القرآن الخاصة بمكة والحج هو المنطقة الحرام كاملة؟؟ لعلك قد اقتنعت أو قريب من الاقتناع وعلى هذا الأساس من الفهم لمعنى الكلمة أدعوك إلى الآية الهامة التي وردت في سورة آل عمران وهي قوله تعالى : (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) آل عمران 96 ¶ نعم إن أول بيت وضع للناس هو هذا الذي ببكة مباتا ومأمنا ومثابة وقياما .ولهذا قال وضع والوضع لا يعني إلا البسط والتمهيد والمد والتسخير ولهذا قال في سورة الرحمن (والأرض وضعها للأنام) 10. أي بسطها ومهد، إذن فالمنطقة التي بمكة هي أول بيت وضع للناس. ¶ وهنا آخذك لمعنى جديد وهام وفهم جميل يدل على السلام؛ ذلك أن كلمة أول بيت تدل على أنه قد لحقه بيوت وبيوت للناس وقد تبعته مواقع ومناطق للسكن والاستئناس، هذا ما تدل عليه كلمة (أول) فما هي البيوت التي تلته؟ إن هذا يجرنا إلى أن نفهم أن المعنى أن مكة أو بالأصح بكه هي أول منطقة أرضيه صلحت للإنسان ليسكن ويستقر بعد أن كانت الأرض مغمورة بالمياه والمحيطات المتأججة الحرارة لكن مكة أو بالأصح بكه هي أول بقعة في الأرض جفت وانحسر عنها الماء المضطرب الأمواج بشكل هائج .فأصبحت هذه المنطقة آمنة من الهياج وبيتا صالحا للإنسان القادم إلى الأرض خليفة بعد أن لم يكن له ذكر قبل ذلك من الأزمان.وللتدليل على هذا المعنى جاءت كلمة بكه ولم تأت كلمة مكه ، والبك هو المص والشفط والتجفيف فهي منطقة انبك عنها الماء وجف وأصبحت صالحة للإنسان المستخلف فهي أول بيت وضع ولا بد أن تليه بيوت وتوسع وهكذا استمر البك في مواقع أخرى وتوالى الانحسار المائي حتى أصبح للإنسان بيوتا ومواقع وقطع في الأرض صالحة للحياة والسكن وفيها له مأمن ومأوى من الماء الهائج الغامر لما تبقى ، وهكذا بقيت المحيطات والبحار الصغرى تحيط بالأرض الجافة الصالحة المرتفعة عن سطح الماء لتصلح للسكن ولتستمد من البحار الرطوبة والرخاء والبخار الذي يجعل الجو ناعما سلسلا طريا ، الهواء منعشا للحياة والأحياء ، وهكذا يتضح لنا أن مكة أو بكه هي أول أرض وضعت للإنسان بإذن الرحمن، وتلتها العديد من الأوطان ، لتصلح لنمو الناس وتكاثر السكان وعليه فلا غرو ولا غرابة أن يجعل الله في بكة هذه آية للناس ، ذلك هو هذا البيت الحرام الذي يستحق أن يحج إليه الناس بشكل عام وأن يجعلوه هو المثابة لهم والقيام وأن يكون أنموذجا للأمن والسلام ، ليصبح أنموذجه معمما في كل الأوطان ، فتكون بيوتا آمنة للخاص والعام ، على مدى الأيام. ولهذا كان البيت الأول أو أول بيت موصوفا بأنه (مباركا) ، (وهدى للعالمين)، وأن يوصف بأنه (فيه آيات بينات)، ثم أن يلزم الله الناس أن يجعلوه أبدا ، متسما بسمة هامة ، وعلامة عامة ، هي : (ومن دخله كان آمنا) ولأنه هكذا فهو (مقام إبراهيم) وما هو إبراهيم؟ إنه الإنسان الذي جعله ربه العلام ، للناس الإمام ، على مدى الأجيال والأعوام ، إلى يوم القيام .ولأن هذا البيت الأول المبارك ، والهدي الأمثل، له هذا الصفات التي لا تماثل ، فإن لله على الناس واجبا به تنصل هو قوله : (ولله على الناس حج البيت) فهل كلهم مدعو لهذا الحج بلا عذر كلا بل أن فضل الله تضاعف فقال (من استطاع إليه سبيلا) فمن استطاع فقد وجب عليه الحج ، وليس له أي عذر أو حجج ، فإذا تخلف فقد استغنى ، وعن فضل الله خرج ، ولهذا قال الله ببيان أبلج (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) نعم إنه إنما يدعونا لفضله وعطائه ولنتعلم بالحج من هداه ولننال من بركاته وآياته ما يرضاه ، فإذا أبينا ذلك الفضل المبين ، فإنما حرمنا أنفسنا وكنا لها ظالمين ، وكفرنا بالله ذي القوة المتين ، واعتمدنا على المتاع التافه المهين .أما الله فهو الذي لا يزيد في ملكه العظيم كل العباد العابدين ، ولا ينقصه كفر الكافرين (فإن الله غني عن العالمين) أليس هذا هو البيان التام الذي يدلنا على أن البيت هو المنطقة الحرام وليس هو المبنى الصغير الذي لقواعده إبراهيم رفع وأقام بل أنه جزء من البيت ومركز الدائرة الهام . ¶ ثم هل أزيدكم تأكيدا على أن البيت هو المنطقة الحرام؟!اقرءوا معي من سورة قريش قوله تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت) 3 ، ثم قوله تعالى في سورة النمل ملقنا رسوله محمدا أن يقول : (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) 91 ، إذن فالبيت الذي في سورة قريش وفي سورة النمل هو البلد كاملا ورب ذلك وهذا هو الله الذي حرمها وله كل شيء والذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، ثم لنقرأ معا سورة التين :(والتين والزيتون ?1? وطور سينين ?2? وهذا البلد الأمين ?3?) 1-3 فالبلد الأمين هو البيت الأمين ، وهو الذي من دخله كان آمنا ، ثم لنقرأ سورة البلد : (لا أقسم بهذا البلد ?1? وأنت حل بهذا البلد ?2?) 1,2 فهل كان النبي حالا في البيت الذي يتعهدون أم في البلد الحرام الذي هو البيت الحرام ، أي الذي هو المنطقة الحرام . وهو الذي يقول الله عنه في سورة القصص (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) هكذا قال أهل مكة مدعين أنهم حماة أنفسهم لكن الله يجيب (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) القصص 57 فهل الثمرات تجنى إلى البيت بمعنى المبنى المحدد والمعروف؟ كلا . ولكن إلى البلد كلها وأهلها. ثم قال الله في سورة العنكبوت :(أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) 67. فالحرم الآمن هو البيت الآمن ، وهو المنطقة الحرام كلها فمن دخلها من أي اتجاه ومن أي زاوية ومن أي مكان كان آمنا ، ولهذا كان سوق عكاظ مكانا آمنا ، فمن دخله كان آمنا ولم يتعرض لأذى . ¶ والآن وقد عرفنا أن هذا هو أول بيت وضع للناس بالمعنى الذي شرحناه أفليس من المتوقع أن يكون - بل من اليقين أن يكون (فيه آيات بينات) ولا بد أن تتضح للناس على السنوات لاسيما للباحثين في هذه الآيات والمسلحين بعلم الجيولوجيا وعلم ما في الأرض من طبقات. ولعلي بهذا أكتفي لأختم قولي بأن من المناسب جدا أن يسمى البيت العتيق ، أو أن يوصف بأنه (البيت العتيق) كما جاء مرتين في سورة الحج (ثم محلها إلى البيت العتيق) (وليطوفوا بالبيت العتيق) فهو العتيق أي القديم الأصيل ، الأول على سواه كما وصفه الله الجليل (إن أول بيت وضع ¶ (الكعبة) ¶ وبعد هذا أدعوكم الآن إلى كلمة أخرى هي (الكعبة) فلقد وردت في القرآن. فهل هي تعني هذا المبنى الذي رفع قواعده إبراهيم؟ وهل هي إذا وردت تطلق عليه؟ أم لها معنى آخر تدل عليه؟؟ لعلكم ستفاجئون إذا قلت لكم أن كلمة (الكعبة) لا تعني هذا المبنى الصغير أو المبنى الذي أقامه إبراهيم بل تعني شيئا آخرا. فما هو؟ انتظر الجواب يا أخي القارئ وتأمل الكلام تأمل أولى الألباب ، وأنا لا أسألك أن تستقبل كلامي بالترحاب ، حتى تتأكد من صحة القول وسلامة الأدلة وسأوردها من القرآن الذي هو علم الله . ¶ لقد وردت الكعبة مرتين في القرآن ، أي في آيتين فقط وفي سورة المائدة فقط ، هي أولا قوله تعالى :(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97 ، أما الثانية فهي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) المائدة 95 . ¶ إن المفسرين يقولون أن البيت الحرام في الآية الأولى رقم (97) هي عطف بيان للكعبة ، أو هي بدل على جهة المدح لا على جهة التوضيح ، لكن هذا التأويل غير مقنع لأن البيان أو البدل لا يأتي للمدح إلا قليلا أو نادرا ، لكن الواقع هو أن الكعبة هي نفسها البيت الحرام بمعناه العام الذي فهمناه فالبيت الحرام بدل أو عطف بيان للبيان لا للمدح ، فالأسلوب هنا يريد أن يقول لنا أن الكعبة اسم للبيت الحرام الذي يعني كل المنطقة الحرام ، بما يعني أن هذا البيت الحرام موصوف بأنه الكعبة. إذن فالكلام مبني على إشعارنا بمعنى جديد وحقيقة جديدة هي أن الكعبة قد بينت بأنها البيت الحرام ، فكلمة البيت الحرام عطف بيان أو بدل ، وهذا هو الفهم الأمثل ، ¶ وإذا اردنا الدليل فإن الآية الثانية التي وردت فيها كلمة الكعبة تقدم الدليل الذي لا ينكر بل يدعم ما نقوله بشكل واضح وأمثل فاقرءوا معي الآية 95 لتتضح لكم القضية يقول الله مخاطبا المؤمنين : (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) إن الله يوجب على من قتل الصيد وهو حرم أن يكون جزاؤه حيوانا مقوما مثل الصيد المقتول ويكون من الأنعام يحكم به ذوا عدل من الناس أولى الأفهام ، فإذا تحدد هذا الجزاء فإنه سياق ينحر في مكان النحر المحدد وبالغا إليه بلا تردد ، ولهذا يقول موضحا هذا (هديا بالغ الكعبة) هذا هو الجزاء لمن صاد وهو حرم. وهنا أسأل هل الهدي الذي ينحر يساق إلى غير منى؟؟ فلماذا قال الله (هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة أو المبنى الصغير بالمعنى الذي تفهمونه من التفاسير؟ هل هذه الكعبة بهذا المعنى هي محل النحر للهدي؟؟ كلا. بل محل نحر الهدي هو منى ، كما هو معروف لنا ولمن قبلنا ، أليس هذا الواقع الذي يعرفه الناس على المدى؟ فلماذا قال (هديا بالغ الكعبة)؟؟ ¶ إذن فإن (الكعبة) هي اسم آخر للبيت الحرام وهي اسم أراده الله ليدلنا على أن معاني هذا البيت متنوعة وأسمائه وسماته متعددة ، كما أن آياته غير محدودة ، فهو البيت الحرام وهو الكعبة ، بل وله أسماء أخرى وأوصاف أخرى تدل على الاهتمام ، سيتضح لكم ذلك فيما سيأتي من الكلام. أكتفي هنا بشأن (الكعبة) ، بهذا الدليل الواضح البيان لكل ذي عقل وجنان ، وممن تدبر القرآن بإمعان.. ¶ قد يسأل سائل إذا كانت كلمة (الكعبة) لا تعني المبنى الصغير الذي رفعه إبراهيم وأنها تعني كل المنطقة الحرام ، فلماذا تسمى هذه المنطقة كلها (الكعبة) ؟ إنه سؤال جيد .ولهذا تعالوا معي إلى معرفة معنى كعب في اللغة العربية ، ولن نطوف في كتب المعجمات ولكن لنقرأ ما جاء في المنجد فقط ، فمما قال في وسط المادة كعب كعوبا (الجارية نهد ثديها) كعب الأناه ثلاثة ، كعب الشيء جعله مكعبا ، الكعب جمعه كعوب كلما ارتفع من الأرض ، الشرف والمجد ، بل وقال الكعب كل مفصل للعظام : العظم الناشئ ، العظم الذي يلعب به ، العقدة من عقد الرمح ، الكعب في علم الهندسة : المجسم الذي له ستة سطوح مربعه متساوية ، كل بيت مربع الغرفة ، أكعاب نصوص النرد ، الكعبة بكارة الجارية جمعه كعاب ، يقال جاء به كعاب وكعب إذا نهد ثديها ، ويقال وجه مكعب إذا كان جافيا ناتئا ، ثم قال أخيرا "وهذا شيء هام في الموضوع" المكعب المجسم الذي له ستة سطوح مربعة متساوية وما كان على هيئته. وختم المادة بقوله : وفي الحساب (مكعب العدد) هو الحاصل من ضربه بمربعة ، فثمانية هو مكعب اثنين.هذا هو أهم ما جاء في المادة كعب وقد جاء ضمنها (الكعبة البيت الحرام بمكة) وليس المهم ما قاله عن الكعبة أو أين وضعها من المادة لكن المهم هو معنى المادة واشتقاقاتها فلو رجعنا نستقرء المعاني والمشتقات لوجدنا (البكارة) التي تعني البداية ولوجدنا العلو والرفعة ولوجدنا الاستدارة والتسديس والتربيع ولوجدنا البروز والظهور ولوجدنا الجمال والحسن ولوجدنا القوة والجلادة والفتوه والجفاف والتجمع والانضمام ثم التضاعف والتزايد الذي يعني البركة والنماء . ¶ فكل المعاني الجميلة التي أرادها الله لهذا البلد الحرام مجتمعة في كلمة الكعبة فهي البارزة الغير خافية وهي الناهده الغير جافية ، وهي مفصل الأرض ذات النجاح وعقدة اللقاء والانفراج وهي نقطة البداية للتكوير والانبعاج وهي مهد ونهد البسط والامتداد وهي معقد الشق والانشراق .وهي مركز الرتق والانفتاق وهي بكر الأرض (أول بيت وضع للناس) وهي مباركة وهدى للناس وهي قيام الناس ومثابة لأنها بارزة مشهورة رفيعة كاعبة. إن هذه الآثار والآيات الثاقبة ، وهي مهوى الناس قاطبة ، وهي مأمن لكل نفس راهبه ، وهي حاضرة في النفوس رغم أنها غائبة ، هذه بعض معاني الكعبة التي دلت عليها الكلمة ، ولها معاني تستظهر مع الأيام القادمة. ¶ إذن أليس من الواضح أن تكون الكعبة في قوله تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام) هو المنطقة الحرام ولهذا قال تعالى بعدها البيت الحرام فهو عطف بيان أو بدل وهذا يعني بلا شك أن الكعبة اسم للمنطقة الحرام كلها وليس للمبنى الصغير الذي تعرض للهدم والإصلاح والتصدع وللانزواء في مساحته وللتوسع كما حكاه لنا التاريخ وكما يعرف ذلك المتتبع. ¶ أليس بعد هذا البيان أيها الأخوان نصل معكم إلى إن اسم الكعبة اسم له سعة وشأن ونصل إلى أن المعنى الأصح للكعبة هو اسم يطلق على كل المنطقة الحرام الواضحة الحدود والأركان المعلومة الشعائر والمكان .أرجو أن تقتنعوا بلا ريب ولا تردد بل بترحاب للمعنى الذي تجسد ، لعلي إلى هنا أصل بكم وقد أجهدتكم ولكنه جهد مفيد لي ولكم ، وإنه لجهد محبوب ، مشكور بإذن الله من ربكم ، فهو يحب من تدبر الآيات بإمعان ، وتذكر المعاني باطمئنان ، لقد اعتمد على القرآن ، الذي فيه البيان.ولعلي قبل الوداع أعود بكم إلى الدليل الواضح من القرآن على إرادة المعنى الجديد للكلمة فلقد قال الله عن الذي يقتل الصيد متعمدا وهو حرم قال (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة بالمعنى المعهود لدينا ، هي التي يبلغها الهدي وينحر فيها ، كلا بل الهدي يبلغ إلى منى ، وهو محل النسك المعهود لنا ، والمعروف لمن نحر قبلنا.وهذا يعني أن منى جزء من الكعبة ، وعليه فالكعبة هي كل المنطقة التي ببكة الحرام ، ولهذا جاءت مبينة بعدها بلا انفصام بقول الله العلام: (البيت الحرام) ¶ ثم وصف الجميع بقوله قياما للناس ثم عطف على الجميع قوله : (والشهر الحرام والهدي والقلائد) ثم بين لنا أن ذلك بعلم منه لأنه العليم بكلما خلق وعليم بما حكم به وأن حكمه هو المعمول به فقال : (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) 97. ثم أكد أن العمل بالتحريم لهذه الكعبة والبيت الحرام أمر هام فقال (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) المائدة 98 ، فلنكن حريصين على اجتناب العقاب الشديد الأليم ، ولنحاول التعرض للغفران والرحمة من الغفور الرحيم ، ولنكن على علم أن الله يعلم الظاهر والمكتوم ، ويجازي كل عبد بما يعمله فالرسول قد بلغنا بما أرسله وعلينا أن نتبع ما بلغ (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) المائدة 99 ¶ وختاما أقول : وإذا كان معنى (الكعبة) كما عرفنا فإن من المؤكد لهذا المعنى في الأفهام هو أن هذا المقام المكعب البارز ، المبتكر الناهد ، المعروف المشهور ، لكل عابد ، هو مهوى القلوب ، إليه تنهد وتكعب أرحال ، واليه تشد وتكعب الأحمال ، وإليه ترد وتكعب الرجال ، وإليه تأتي كل ضامر يشوق من كل فج عميق ، ويحمل عليها الناس والثمرات بلا تعويق ، فالكعبة كعبة للناس في كل زمان ومكان ، إليها يكعبون ويبرزون ، وإليها ينهدون ويبهزون ، وإليها تقطع الفيافي والحزون ، وإلى مكعبها تتبارك الثمرات وتتواكب الرحلات ، وتتراكب السنوات ، وتتناكب الخطوات ، وتتحرك الأهواء والرغبات ، وتتشارك الجماعات والثبات ، وتتسامك الأحاد والزرافات ، فهي الكعبة التي لا تخفى على الأمم ، وتحفى عنها القدم ، وتحتفي بها الهمم ، وتحف بها القلوب ، وتخف إليها منذ القدم ، وستبقى هكذا إلى يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وتخرج الذمم . بارك الله هذا المقام الأكرم ، وتبارك الله الذي جعلها كعبة ، وبهذا نسلم ، وقضى بأنها قيام للناس ومثابة وحرم ، وما حكم به وقضى فهو الحق لأنه بما في السموات والأرض يعلم ، ولأنه محيط علما بما يبدو وما يكتم ، وهو العليم بما يقضي ، والمحيط علما بكل شيء سماوي وأرضي ، ولقد فاز من لربه يرضي ولهداه يتبع باقتناع ، ولحكمه يسلم بحب بلا امتناع ، فالرسول قد بلغ و (ما على الرسول إلا البلاغ) وكل شيء سواه لغو وفراغ ، وكل حكم سوى حكم الله ضلال وظلام ، وكل قول سوى قول الله لباطل وحطام ، ألا إلى الله تصير الأمور ، وهو الرحيم الغفور. ¶ (المسجد الحرام) ¶ إن المسجد الحرام كلمة وردت كثيرا في القرآن وهي في مفهوم المفسرين تعني المكان الذي يطوف فيه الناس ويسجدون وفيه يتعبدون ويجتمعون ، أو فلقد كانوا يعنون بالمسجد الحرام هذا المبنى الذي يحيط بالصحن المعد للطواف ، والذي يتوسطه المبنى الأصغر الذي بناه إبراهيم ورفع قواعده فهل هذا الفهم صحيح ، تعالوا نقرأ القرآن : يقول الله (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء 1 ، لنتأمل الآيات بإمعان ولنسأل أولا هل الإسراء تم من المسجد الحرام المتعارف عليه بيننا بأنه المبنى المعد للصلاة والطواف؟؟ إن الجواب على السؤال بلا شك يؤكد أن الإسراء تم من مكة أو من بيت من بيوت مكة ، لا من المسجد الذي للصلاة المعهودة ثم هل كان المبنى الذي كان يجتمع فيه القرشيون حول الأصنام مسجدا لله؟ وهل كان فيه صلاة؟؟ كلا. بل الله يقول (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) الأنفال 35 إذن (المسجد الحرام) ليس المراد به إلا البلد الأمين بكامله ومحتواه ، ولا يقصد به إلا البيت الحرام بمعناه الذي عرفناه ، لقد أسري بالنبي من المنطقة التي هي مكة أو البلد المسمى بالمسجد الحرام ، قد تسألون ولماذا سمي بالمسجد الحرام ؟ وأنا أسأل هل وصف المسجد بأنه حرام يعني أن الحرم مقصور على المبنى؟؟ إذا كان المسجد هو المبنى فإن هذا يعني أن الحرم محدد به وهذا غير صحيح فالحرم هو البلد الكامل الشامل المناطق الحرام كلها ، التي يعرف الناس حدودها ، وبدايتها ونهايتها ، بلا لبس ولا خلاف ، وعليه فالمسجد المراد به كل المنطقة الحرام . ¶ أما لماذا سمي مسجدا فهو لأنه محل للطاعة والخضوع والانقياد لله والخشوع والتزام سلوك معين معهود للناس مشروع ، فلا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال ولا خصام ولا اعتداء ولا قتال ، بل سلام واطمئنان لكل مقيد وباد. ومن يرد فيه بإلحاد ، فأن العذاب له بالمرصاد ، وهكذا سمي البلد مسجدا ، ووصف بأنه الحرام ، لأنه هكذا محكوم فيه بالطاعة والالتزام وهو معهود للناس بشكل عام ، سواء من كفر وغادر الإسلام ، ومن استجاب بعد ذلك للإسلام ، فهو المسجد الحرام ، الذي حكمه معروف ، والتحريم فيه مألوف ، والقتل فيه مكفوف ، وهو بالاحترام محفوف ، فالمسجد الحرام هو البلد بكله ، والمسجد الحرام هو المنطقة الحرام الكاملة. ¶ ثم هل هناك حين أسري بالنبي مسجد في القدس ، كلا بل كان هناك كنائس وأديره لليهود والنصارى ، فلماذا سمي إذن المسجد الأقصى؟ لأنه مقام عبادة وطاعة لله ، ومحط سلام واطمئنان ، فالسجود يعني الخضوع والاستسلام والمسجد يعني موطن التمسك بذلك والالتزام ، فهو المسجد الأقصى ، أي المكان أو البلد الذي يحترم فيه الناس بعضهم بعضا. ثم إذا كان المراد بالمسجد الأقصى هو الكنائس والأديرة والبيع النصرانية فلماذا وصف بالأقصى؟ ¶ إن الأقصى لا يوصف إلا بلد كامل أو مقام واسع الأرجاء أو منطقة يسكنها الناس ويعيشون في سلام شامل وعطاء ¶ ولهذا أضاف الله صفة أخرى فقال (الذي باركنا حوله) فالبركة منشورة على كل بقعة فيه وعلى ما حوله ولقد وصفها الله في آيات أخرى بقوله عن إبراهيم (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) الأنبياء 71 ويقول عن سبأ :(وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة)سبأ 18 ويقول عن سليمان وهو كان في القدس (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين) الأنبياء 81 إذن فهي أرض ، وسماها الله مسجدا فقال (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وعليه فالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة ، وهي التي حرمها الله ، ¶ وبعد تعالوا إلى آية أخرى هي قولة تعالى : (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) الفتح 27 وقال (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 فهل المسجد الحرام هنا يعني المبنى الذي للطواف أم البلد والأرض الحرام كاملة لا شك أن المراد به مكة الأرض المحرمة المحددة المعروفة الطول والعرض ، وهكذا فإن المسجد الحرام هو البلد الحرام هو البيت الحرام هو الكعبة الحرام. فالرسول لم يرد دخول المسجد فقط الذي فيه يتعبد ، ولكن أراد الأرض والبلد الذي هو حرام ، وله حد محدد ، معروف من الأبد. إذا أردتم المزيد من الأدلة ، فاسمعوا هذه الآية :(كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) التوبة 7 والمراد بهذا العهد هو ما عقده النبي مع بعض القبائل القاطنة على حدود الأرض الحرام ، ويقول الله عن الحديبية التي تم فيها الصلح مع قريش (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا) الفتح 24 فسمى الحديبية بطن مكة ، أي أنها على حدود البلد الحرام. ثم أن هناك آية تؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو البلد أو الأرض المسكونة ضمن المنطقة الحرام ، يقول الله في سورة البقرة عن من حج متمتعا بالعمرة إلى الحج (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فهل الأهل يسكنون في المسجد المصلى أم في البلد الذي جعله الله للناس حراما. وقبلها يقول الله للمؤمنين (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) البقرة191 فهل القتال يكون عند الأرض التي تسكن فيها ، أم عند المسجد الذي يصلى فيه؟ إن المراد الأرض المسكونة. إذن فالمراد بالمسجد الحرام الأرض التي هي محرمة أو البلد الحرام . ثم تعالوا إلى سورة الحج .. يقول الله :(إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) ثم يصفه بقوله (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) ثم يقول (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) الحج 25 فهل العاكف والباد من الناس يسكن في المسجد المصلى ، أم في البلد الذي يسع الجميع ويكون للناس سواء؟ إن الوصف يؤكد أن المراد بالمسجد الحرام هو الأرض الحرام كاملة المسماة بالبيت الحرام ، الذي هو (أول بيت وضع للناس) وهو (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) فالمسجد الحرام هو البيت الحرام. ثم تعالوا أخيرا إلى سورة الأنفال :(وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أوليآؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون) الأنفال34 ، لا شك أن المراد هنا هو البلد الحرام بأكمله لا مجرد المسجد الصغير بداخله. وهكذا نصل إلى النهاية في هذا الموضوع عسى أن يكون مقبولا عندكم باقتناع. ¶ (مقام إبراهيم) ¶ إن الناس يظنون كما قال المفسرون أن مقام إبراهيم هو المكان الذي يقع على يمين المبنى الذي بناه إبراهيم أو رفع قواعده. ولأن الناس يظنون هذا الظن فإنهم يزدحمون فيه عند الطواف ويشكلون أزمة تجعل الطواف عسيرا وهو سهل يسير. يا إخواني إن المراد بقوله تعالى (مقام إبراهيم) ليس إلا المنطقة كاملة فهي مقام ووطن لإبراهيم فيها أقام ، وفيها سكن ، بعضا من الزمن ، ولقد أشار الله إلى هذا بقوله حاكيا عن إبراهيم : (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة) إبراهيم 37 هذا يدل أن المسكن هو الوادي الواقع ضمن البيت الحرام ، إذن فالمنطقة كلها هي السكن وهي المقام ، ولقد علل إبراهيم إسكان بعض ذريته هنا في هذا الوادي الغير ذي زرع ، علل هذا الإسكان بقوله (ليقيموا الصلاة) فالإقامة ليست لمجرد العيش والعمران ، وليست لمجرد السعي والبحث عن المتاع ، كلا . بل المراد هو الطاعة لله واتباع هداه وتطهر البيت من الشرك والضلال ، ومن الظلم والإلحاد ، وإذا أقام الناس على هذا الطريق الجاد ، فإن الله يكفل لهم المعاش والزاد ، ولهذا جاء دعاء إبراهيم عقب التعليل فقال : (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) وهكذا أجاب الله دعاء إبراهيم وجعل البلد آمنا لكل باد ومقيم ،وجعله حرما آمنا ، وعلى هذا الأساس الذي علل به إبراهيم إسكان ذريته وهو إقامة الصلاة والطاعة والشكر لله ، جاءت آية البقرة ، جاءت الآية تؤكد هذه المعاني بشكل واضح البيان فاقرءوا بإمعان (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) إنه نفس ما دعا به إبراهيم ، فها هو البيت الحرام ، والبلد الحرام ، قد أصبح مثابة للناس ، فيتوبون إليه ، ويتعلمون منه ، ويقتدون بسلكه ومنسكه ، ثم هو مع المثابة آمن ، فمن دخله شكر وأقام الصلاة وهو في أمن لا يزول ، وسكون لا يتزلزل ، وسلوك جميل لا يتحول. إن كلمة (أمنا) في قوله (مثابة للناس وأمنا) تفصح بأن المنطقة كلها قد تجسد فيها الأمن وتجذر ، وتوارث الناس هذا السلوك فيه ، فهو بتغير حتى أصبح البلد كأنه هو الأمن بذاته ، وكأن كل ذرة فيه وكل شبر يشع بالأمن وكل شجرة وعشبة تثمر أمنا وكل نسائمه واحواشه تهب أمنا ، وفي هذا الحال والجو الجميل والأمن الأصيل والسكن الظليل لا بد أن يكون للناس فيه سلك جليل ، يليق بهذه الصفات التي لا تحول ، وعليه جاء الأمر المعجول. ¶ وقبل أن تكمل الايات السياق وقبل أن يصل الوصف للبيت إلى نهاية المطاف انقطع السياق وانطلق الأثر بأجمل انطلاق ليؤكد أن الحال يستحق هذا أشد استحقاق فقال (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) أي اتخذوا من هذا البيت أي من هذا البلد أي من هذه المنطقة الحرام ، كما عرفنا ذلك من سياق الكلام ، اتخذوا من هذا البيت الذي هو مقام إبراهيم مصلى ، أي مقاما للعبادة والشكر والطاعة والذكر والتوحيد لله الواحد بلا شرك ولا زور. نعم هذا هو المراد ، إنه يعني أن تكون المنطقة كلها مصلى ، لكل الناس الذين جعل الله لهم البيت مثابة وأمنا ، أليس إبراهيم قد أسكن أهله هناك ليقيموا الصلاة ، إذن فهو القدوة ومثله فلنقم الصلاة ، ولنتخذ مقامه الواسع الكامل مصلى على الدوام تماما كما كان إبراهيم الإمام ، وإذن فليس المراد بمقام إبراهيم هو ذلك الموقع الذي نزدحم فيه بلا جدوى ، بل المراد به كل المنطقة الحرام التي أقام فيها إبراهيم واتخذها مصلى له ولذريته ، ولمن تبعه وبه اقتدى ، ¶ ولهذا عاد السياق من جديد في الآية ليواصل البيان فيوضح لنا أن المقام مقام طاعة وإذعان وتوحيد وإيمان وطهر وتقوى وإحسان فجاء بعد الأمر (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قوله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) فالعهد هذا يؤكد أن المقام هو البيت بكله وبكامله المعروف الحدود (للطائفين والعاكفين والركع السجود) فهو مقام واسع الأرجاء يشمل المنطقة الحرام بلا مراء وليس ذلك المقام المعهود للملأ . ثم إني أسألكم سؤالا لو سلمنا أن المراد بمقام إبراهيم هو ذلك المكان الذي يقابل الحجر الأسود وأن إبراهيم كما قيل كان يقوم فيه ليبني المبنى الذي فيه الحجر الأسود ، ومنه كان يضع الأحجار على المدماك ويرفعه ، وابنه إسماعيل يمكنه الأحجار ويناوله ، إذا سلمنا بهذا فكم كان طول ذراع إبراهيم وكم كان طول قامته حتى يتمكن من البناء وهو على هذا البعد من المبنى ؟؟ إن هذا ينفي الظنون ويؤكد أن المقام المدعى وهم موروث ، لا يعتمد على اليقين ، قد يقال أن عمر بن الخطاب أزاح مقام إبراهيم من جوار مبنى الحجر الأسود عدة أمتار ، وإلا فالأصل أنه كان قريبا من الجدار بحيث يمكن العمار من وضع الأحجار ، وإذا صح هذا فلماذا أزاحه عمر وهو يعلم أن هذا المقام شعيرة لا تغير ، وأثر لا تحول عما يؤثر ، إن إزاحته تؤكد أن الموضع ليس مقام إبراهيم وإنما هو شعيرة توارثها الناس غابرا عن غابر ، حتى أصبحت من الشعائر ، قد يقال أن النبي صلى هناك حينما اعتمر وتلى الآية (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) لكن الحديث ليس متواتر السند بل هو أحادي ، والأحادي معروف أن عمله ظني ، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أراد الصلاة في محاذاة الحجر الأسود ، فكان المكان هو هذا المقام المدعى ، ثم أنه قد أراد بتلاوة الآية : أن مكة كلها تصلح مصلى ما دامت مقام إبراهيم المقتدى الذي اتخذها كلها له ولذريته مقاما لإقامة الصلاة فالنبي محمد به اقتدى لا لتحديد الصلاة في ذاك المكان ولكن ليذكر بإبراهيم الإمام ، وليؤكد أنه على ملته أتم الالتزام ، وبعد فهل نستطيع أن نبني على هذا ، إن مقام إبراهيم هو البلد الحرام كله وهو البيت الحرام بأكمله؟؟ ¶ لعلنا قد اتضح لنا أن هذا هو المراد وإذا أردتم المزيد من البرهان فها هو إبراهيم يأتي بالبيان في الآيات التي تلي فاقرءوا بإمعان: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 إن البلد هنا هو البيت وهو المقام ها هو إبراهيم يشير إلى المقام ويقول رب اجعل هذا بلدا آمنا ويدعو لأهله بالرزق ويشترط الإيمان بالله واليوم الآخر فهل يمكن أن للمقام الصغير أهل وهم يسكنون فيه ويأكلون وهل يمكن أن ترد الثمرات إلى ذلك المقام الصغير المضنون كلا بل الذي يسكنه أهل وتأتيه ثمرات إنما مكان واسع الأرجاء ، في البلاد يتسع للمقيم والباد وله حدود من دخلها كان في حرم آمن من كل ظلم وإلحاد ومن كل باغ وعاد ، وعلى هذا فإن المقام هو هذا الذي أراده إبراهيم ملاذا . فكان الله معه مجيبا وجعل البيت مثابة وأمنا وجعل المقام مصلى طاهرا وجعل البلد آمنا موفور الأرزاق والأثمار تجيء إليه من كل الأقطار رزقا من لدن الله الغفار . ¶ والآن أكتفي بهذا المقال حول المقام وأرجو أن القارئ قد اقتنع بالبرهان وبالكلام وإني لأدعو لي وله أن يكون إبراهيم لنا هو الإمام وأن تكون ملته لنا هي الملة فهي الإسلام .
الحج أشهر معلومات- الجزء الثاني
حل رباني وبيان قرآني يقي حجاج البيت الحرام من الإرباك والزحام فاستمعوا وعوا أيها الأنام ويا أولي الألباب والأفهام،، ما يقول الله العلام الذي يعلم ما كان وما يكون والذي أنزل القرآن هدى للعالمين ، إنه يقول في سورة البقرة (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، ويقول في سورة التوبة :(إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع المتقين) التوبة 36، وعليه فإن الأشهر الحرم معلومة ، منذ خلق السموات والأرض ، ومكتوبة في كتاب الله ، ونظامه الكوني ، لا تتغير ولا تتبدل ، فهي أشهر حرم في كل زمان ، وإلى أن تقوم الساعة ، فلا يصح فيها إلا التقوى والسلام ، ولا فيها قتال ولا خصام ، ولا صيد ولا إيذاء للناس ولا للهوام ، بل عدل ونظام ، وحج وصيام ، وركوع وقيام ، وعطوف وإحرام ، ولهذا قال الله (ذلك الدين القيم) فهي محطة زمنية لتعظيم شعائر الله وحرماته ، كما أن الحرم محطة مكانيه لتعظيم الشعائر والحرمات ، فالناس فيها مكلفون بالحج والعمل الصالح ، وترك القلق والانشغال بالمصالح ، فإن ذلك ظلم للنفس ، وسعي جامح ، وحرمان لها من العمل الرابح ، الذي يحرص عليه المؤمن الفالح ، ولهذا قال الله عقب ذلك (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) وما الظلم إلا الانشغال بما ليس فيه خير باق ، وما الظلم إلا الاهتمام بالمتاع الفاني ، وما الظلم إلا الانطلاق إلى المطامع ، والاندفاع في الدنيا بلا تقوى ولا وازع . إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، يوم خلق السموات والأرض. فهي شهور معلومة للعالمين ، الأولين والآخرين ، ولا يختلف عليها أحد من السابقين واللاحقين ، ولا المؤمنين ولا الكافرين ، ومثل ذلك التقدير والتنظيم لعدة الشهور السنوية الدائمة ، كان التحديد والتقدير للأربعة الأشهر الدينية المحرمة ، فهي أربعة معلومة للجميع بلا ارتياب ، منذ أن عرف الإنسان نفسه وعرف الحساب.
Shafi da ba'a sani ba
وإذن فهي أربعة لها شأن متميز هو أنها أربعة حرم ، ودين قيم ، ولها موقع خاص هي أنها قيام للناس ومثابة وموسم للحج لله والإنابة له ولهذا فإن الله يعلنها لنا بوضوح ويقول (الحج أشهر معلومات) نعم معلومات فمن ذا الذي يجهل العلم بها ، إنها معلومة للناس كلها مسلمها وكافرها ، أولها وآخرها ، معلومة لكل الأنبياء والمرسلين وأممها ، ولهذا كان الجاهليون يتحايلون عليها وعلى حرماتها ويلجئون إلى النسيء وهو كفر وضلال وظلام ، ليواطئوا عدة ما حرم الله في الأشهر الحرم، فيحلوا بضلالهم ما حرم الله فيها على الأنام على مدى الأيام والأعوام ، زين لهم سوء عملهم ، فضلوا عن سبيل ربهم ، فتركهم الله لضلالهم (والله لا يهدي القوم الكافرين) التوبة 37 ، وإذن فنحن يجب أن نحترم هذه الأشهر المعلومة ، وأن نستمر على ما كتبه الله لها ، وبها علينا ، إن كنا أمة مسلمة. فإن إقامة الأشهر الحرم ، هو الدين القيم ، وما إقامتها إلا بأن نتبع ما كتب الله فيها وهو الحج ،
قد تسألون بانبهار: هل تعني أنها موسم للحج الأكبر؟ وأقول نعم إن الأشهر الحرم الأربعة هي موسم للحج ، وأن علينا أن نحج فيها ، وأن نقيم شعائر الحج ومناسكه فيها كلها بلا ارتياب ولا تردد ، وإلا كنا واقعين في الشك الذي وقع فيه الجاهليون ، وكنا لكتاب الله ناسين ، وفي آياته مرتابين ، ولنظامه الكوني مخالفين ، وعن إرادته منحرفين ، وعن نعمته مبتعدين ، وللضلال مقتربين ، والله لا يهدي إلا من اهتدى ، فلنهتد بهداه يزدنا هدى. إذن فالحج يصلح أن يقام وتؤدى مناسكه في الأشهر الأربعة :
]رجب الفرد[ و]ذي القعدة[ و]ذي الحجة[ و]محرم[
1 ................... 2 .......... 3 ..........4
إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وبراها وعادت الأشهر الحرم محددة معلومة ، لكل أهل الأرض والسماء ، وانمحى النسيء الذي ضل به الكافرون ، وأضلوا كثيرا ، وضلوا عن سواء السبيل ، وجاء الرسول الخاتم محمد الأمين صلى الله عليه وسلم ليعلن أن الأشهر الحرم هي تلك التي حددها الله العليم الحكيم ، وهذا هو الدين القيم ، وجعلها موسما للعمل الصالح السليم ، ومثابة للناس يتوبون فيها للحق والصراط المستقيم، وقياما للناس يقيمون فيها منارات التحريم لما حرم الله من الدماء والأعراض والأموال. ويرفعون فيها رايات ما شائه الله وارتضاه ، من صالح الأعمال ، ثم وليستمر التحريم في حياتهم طوال الأعوام ، ويستقيم العمل الصالح مدى الأيام ، فما الأشهر الحرم إلا محطات نموذجيه للتزود منها في مسيرة الناس ، إلى كل الأرض والأقطار والأوطان ، وإلى كل الأيام والشهور والأزمان ، فتبقى الأرض كلها حرما آمنا ، ويستمر الزمن كله أشهرا حرما ، ويستقيم الناس على العمل الصالح والتقوى ، متسلحين بذكر الله جل وعلا ، مستنيرين بهداه الذي من اتبعه فلا يضل ولا يشقى ، وهذا هو الذي يجعل الحج لله على الناس من استطاع إليه سبيلا ، ومن كفر فإن الله غني عنه أبدا.
ولهذا أقول مع احترامي لهؤلاء العلماء الأعلام ، والمجتهدين الكرام أنهم كلهم خرجوا عن النص ، وأبطلوا ما في الآية من المعاني ، وحملوا الآية معنى لا يتفق مع البيان القرآني ، ولا يقره اللسان العربي البياني ، فالله يقول وهو العليم الحكيم ، وهو الذي علمنا اللغة والكلام (الحج أشهر معلومات) إن (أشهر) جمع قله ، يدل على أنها أربعة ، ولهذا قال في آية التوبة (إن عدة الشهور) فأتى بجمع الكثرة ، فكيف تحول جمع أشهر إلى شهر وعشرة أيام؟ وكيف جاز أن يطلق الجمع على المفرد وجزء من المفرد؟؟ إن هذا لا يقول به أحد عربي ، بل حتى العجمي الذي لا يعرف اللسان العربي ، سينكر هذا التفسير العددي لكلمة (أشهر) فكيف بأئمة البيان العربي ، ومجتهدي الفقه الإسلامي.
لقد اجتهدوا وأخطئوا والمخطئ له أجر ، فلهم الأجر. ولكن ليس علينا أن نتبعهم في التفسير للأشهر بأنها شهر ، بل لا بد أن نفهم الآية على معناها الصحيح الواضح بأن (الحج أشهر معلومات) يعني أنها الأشهر المعلومة منذ خلق الله الأرض والسموات . وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم ، هذه هي الأشهر المعلومات لكل الناس ، لمن يأتي منهم ، ولمن مات وللرسالات والنبوءات ، بلا استثناء ولا تأويلات ، فكيف نجعل أشهر الحج المعلومات ، أقل مما تعنيه الكلمات؟!! إن هذا تقصير لا يرضاه إلا من لا يفهم البينات.
قد تقولون كيف تأتي في آخر الزمان ، وبعد مضي القرون من نزول القرآن ، لتقول لنا أن الحج يصح أن يقام في الأشهر الأربعة المعلومات؟ إن هذا مقال لم يقله أحد من أهل الفقه ، ولا أحد من علماء اللغة؟!!لكني أقول أن القرآن هو قمة اللغة ، بل هو أصل اللغة ، وهو البيان الذي يتعلم منه أهل البيان ، وهو الحكم الذي يحتكم إليه كل فقيه ، ممن تأخر أو تقدم ، وأنا قد فقهت من الآيات ما لم يفقه السابقون ، لأني جئت في زمن لم يدركوا ما فيه من تطورات . فهم كانوا يظنون أن السفر الطويل والمسافات المتطاولات يحتم على الناس أن يحجوا في شهر واحد ، وذلك مبلغ الاستطاعة ، ومنتهى الجهد لكل جماعة ، لكن الزمن الآن قد قرب المسافات وقصر السفر وجعل كل فج عميق ، قريبا من البيت العتيق ، وصير كل الناس قادرين على الفرض بلا معيق ، وسهل صعوبة الانتقال وسير الطريق ، فلم يعد السفر مرهقا ، ولم يعد الطريق شاقا ، ولم يعد بين المشرق والمغرب فارقا ، فالبعد الشاسع قد التفق ، والبون الواسع قد ارتتق ، والحلم الغامض قد تحقق . فأصبح العميق من الفجاج ، سهلا قريبا للحجاج ، وأصبح الأذان في الناس بالحج ، يصل إلى كل قمة وفج ، يحمله الأثير والأقمار ، وتستقبله الأسر والديار ، بلا تفريق بين عرب وعجم ، وبين الأفراد والأمم. فكيفلا يبادر الناس بالحج جماعات ووحدانا ،وكيفلا يأتون من كل فج عميق ، رجالا وركبانا ،
وكيفلا يأتون سراعا ، على كل ضامر ، في البر سائر ، أو للبحر ماخر ، أو في الجو طائر ، فالطائرات والسيارات والبواخر ، كلها يصح أن توصف بالمركب الضامر ، فالكلمة القرآنية دقيقة الدلالة ، تصلح لكل مركوب حيواني أو آله ، فالخيل والبغال ، والحمير والجمال الضوامر ، مثلها الطائرات والقطارات والسيارات والبواخر ، كلها ناقله للأثقال ، سريعة الانتقال ، ضامرة البطون والأطوال ، فالوصف شامل للجميع ، منطبق على الحي والمصنوع ، وكلها من خلق الله البديع .فالانتقال على المستحدث من الآلات ، أصبح يدفع الناس إلى الحج زرافات ، ومن كل القرى والقارات ، ومن البيوت والمؤسسات ،
وإذا كان الأمر كذلك ، فإن مكة لا بد أن تتسع للجميع ، ولا بد أن تستقبل الناس مهما كثرت الجموع ، لأن الفريضة واجبة ، فكيف نطلب من المستطيع أن يتراخى عن واجبه ، وكيف نطلب من المسلم أن ينتظر الأداء ، وهو لا يدري ماذا يكسب غدا ؟؟ إن هذا صد عن سبيل الله واعتداء ، بل وإلحاد وظلم عظيم يوردنا العذاب الأليم ، فما هو الحل أيها الناس العقلاء ، وما هو المخرج من هذه الظلماء ، إنه في القرآن الذي هو الحق والهدى للإنسان ، وفيه البينات والفرقان ، وفيه العلم الذي يهدي إلى الإحسان ، لقد قال الله (الحج أشهر معلومات) فاجعلوا الحج في هذه الأشهر المعلومات ، التي هي أربعة حرم منذ خلقت الأرض والسموات ، وذلك هو الدين القيم ، والطريق الأسلم ، والعمل الأقوم ، أوليس الله هو العليم الحكيم ، الهادي للصراط المستقيم ، أوليس هو المنزل للقرآن هدى للعالمين ، وبلسان عربي مبين ؟؟؟ بلى بلى .. إن هذا هو الحق الذي نزل به الروح الأمين ، على قلب خاتم النبيين .فإذن فلنفهم الكلمات كما اقتضت وأبانت ، ولنعمل بها كما جاءت ، بلا التواء ولا مراء ، فالبيان واضح الجلاء ، والأيام مشعة الضياء ، فلماذا الإنغماس بها في ظلماء ، ولماذا تفسيرها بما يخالف المعنى ، إن هذا هو الغباء ، والغفول الذي به الله لا يرضى ، وكيفلا وقد قال (الحج أشهر معلومات) إنها كلمات واضحة المعنى ، بينة الدلالات ، وإذا أردتم للمعنى وضوحا أوفر، وشئتم تأكيدا يكشف المعنى أكثر ، فاسمعوا ما قال الله بعد ذلك (فمن فرض فيهن الحج) أكرر (فمن فرض فيهن الحج) أكرر (فمن فرض فيهن الحج) أكررها ثلاث مرات لتتأكدوا من وضوح الدلالات فكلمة (فيهن) تعني أن للإنسان أن يفرض الحج في أي شهر (فيهن) في أي واحد من الأربعة الأشهر المعلومات (فمن فرض فيهن الحج).
Shafi da ba'a sani ba
أفهمتم أن هذا تأكيد لكم، وإيضاح لكم، وبيان يقضي على ارتيابكم وحكم يمسح كل شكوككم ، وقرار يبعد كل غموضكم ، فهل تحتكمون إلى القرآن والهدى ، أم إلى الهوى. إذن فافرضوا على أنفسكم الحج باطمئنان ، في أي شهر من الأشهر المعلومات ، وقرروا للناس أن يحجوا لله إلى البيت، في أي شهر من الأربعة المشهورات ، وثقوا بأن هذا هو حكم الله عالم الغيب والشهادة ، فهو العليم بأن الناس سيصلون إلى زمن تتقاصر فيه المسافات المتباعدة ، ويكثر فيه الناس التي للحج قاصدة ، وبأعداد متصاعدة ، بل أن الإسلام سيعم بلادا وأناسا متعددة ، بل وسيدخل الناس في دين الله أفواجا ، ويأتون لبيت الله حجاجا ، ولهذا فقد أفسح الله لهم الزمن والميعاد ، وجعل الحج أشهرا معلومات ، حتى لا يحرم منه من أراد ، أليس الله علام الغيوب ، أليس هو الذي جعل الحج لله على الناس ، فكيف يعلنه على العالمين؟ ولا يفسح لهم الزمن ليسعهم أجمعين؟؟ لنقرأ الآية من جديد : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، ومن هو الذي سيفرض فيهن الحج؟؟ إنهم كل الناس. ولنقرأ (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ?96? فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ?97?) آل عمران 96-97، إن كلمة الناس والعالمين تدلان على أن كل الناس المؤمنين ، من كل الملل مدعوون للحج ما داموا مؤمنين.ولكن الناس كفروا بما فيهم أهل الكتاب ، فكان الله غنيا عنهم وعن العالمين ، ولكنهم لو آمنوا لكانوا حجاجا لله ، وللبيت قاصدين ، ولهذا قال الله : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125، وقال (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) المائدة 97، وقال (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج 27، وقال (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) الحج 34، إن قوله ولكل أمة ، يشير إلى أن كل الملل التي لها كتب سماوية ، لها منسك في مكة ، ولهذا قال : فإلاهكم إله واحد. وأمام هذا النداء العام ، وهذا الواجب الهام ، لا بد أن يحصل الزحام ، وقد يؤدي توزيع الحصص ، إلى تأخر الكثير عن الحج وتقاعس الأكثر منهم عن الأداء ، بمختلف الحجج ، وأهم حجة هي تحديد عدد الحجاج ، وتضييق تدفق الأفواج ، وهذا أمر لا يرضاه الله ، الذي يقول (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج 27 ، فكيف يرضى الله بالتحديد ، وهو يدعوهم من كل فج بلا تحديد وكيف يرضى أن تحجب عنهم المنافع والاكرام وهو يقول :(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج 28، فالناس يجب أن يشهدوا المنافع الموعودة ، وأن يذكروا الله في الأماكن والأيام المعلومة ، ليعظموا حرمات الله ولينالوا خيره ويعلنوا تقواه .
إذن فإن فتح الباب للحج في الأشهر المعلومات ، واجب أعلنه رب الأرض والسموات ، وحدد ميعاد ومكان هذا الفرض ، يوم خلق السموات والأرض ، فالشهور إثنا عشر منذ القدم ، منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم . فهيا أيها الناس ، هيا أيها المسلمون ، فكروا في الموضوع وقرروا ، ولبيان الله تدبروا ، ولآياته تذكروا ، لتنالوا خير الله وتؤجروا ، فاقدموا على التنفيذ ولا تتحيروا ، فالبيان القرآني واضح كالصباح ، والحكم الرباني حق مشرق وضاح ، وعلينا أن ننطلق على نوره للعمل ، ولا حرج علينا ولا جناح. قد تقولون كيف يمكن أن يكون الحج في الأشهر الأربعة؟ وقد تحدد يوم عرفه بأنه يوم تاسع ذي الحجة؟ ويوم النحر بأنه يوم عاشر ذي الحجة؟ وتحددت أيام التشريق بأنها يوم11/12/13 من ذي الحجة؟ فكيف نستطيع أن نحدد مثلها في الأشهر الأخرى ؟؟ وكيف نخترع من عندنا مواعيد جديدة ونتجرى؟؟ وأقول لكم ليس هناك اختراع ، وليس هناك جرأة على الله ، بل هناك اتباع واستماع ، وتدبر لآيات الله . تدبروا معي قوله تعالى في آية البقرة ، هذه التي نبحثها ، يقول في هذه الآية : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، فهي معلومات معروفات ، ومشهورات لمن تقدم ولمن هو آت ، وتأملوا معي قوله في آية الحج :(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج 28، فهي أيضا أيام معلومات ، في أشهر معلومات ، لكنه لما تحدث عن أيام التشريق قال : (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون)البقرة 203، لقد وصفها بأنها معدودات ، نعم. لأنها ثلاثة أيام ، ولا إثم على من تعجل في يومين ، وهذا يؤكد لنا أن كلمة معلومات تعني شيئا غير المعدودوات ، فالمعلوم لا يتغير اسمه ولا يتبدل موعده ، لكن المعدود المراد به : معرفة العدد مع أنه معلوم موعده بالشهر الذي يكون فيه ، ثم أن الله في آيات الصيام يقول : (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ?183? أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون?184?) البقرة 183-184، ثم حدد هذه الأيام المعدودات للصيام بقوله :(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة 185، فأيام الصيام معدودة ، وشهرها معلوم ، هو شهر رمضان وبتسمية الشهر عرفنا عددها ، وعرفنا أن شهر الصوم معلوم بإسمه المحدد المعلوم ، فلو كان الحج في أيام معدودة ، وفي شهر واحد فقط كالصيام ، لقال الحج أيام معدودة ، ليكون معناه أنها يوم تسعة وعشره ، وهما يوم الوقوف ويوم النحر ، ثم ثلاثة أيام لرجم الجمرات والذكر ، لكنه لم يرد هذا. بل أراد أن الحج له أشهر معلومات ، وفي كل شهر لنا أيام معدودات ، نحددها نحن في بقية الشهور بنفس العدد ، وفي نفس الموقع ، الذي اعتدنا عليه في شهر ذي الحجة. فنجعل مثلا يوم 9 رجب و9 ذي القعدة و9 محرم يوم الوقوف بعرفه كما هو يوم 9 من ذي الحجة . ونجعل يوم 10رجب و10ذي القعدة و10محرم يوم النحر كما هو يوم 10 من ذي الحجة. وهكذا أيام التشريق ، نجعلها في الأيام التالية ، من الأشهر الثلاثة الباقية ، أي يوم 11/12/13 من كل من رجب وذي القعدة ومحرم .
قد يقول قائل هذا اختراع واجتراء ، بلا دليل ولا اقتداء ، وأنا أقول لكم تمهلوا قبل هذه الاتهامات ، وتعالوا معي إلى الآيات نتدبرها بثبات وبلا تشنجات ، لنقرأ معا قول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة ، وبعد آيات الصيام مباشرة إنه يقول : (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) البقرة 189، إنه يتحدث عن الأهلة فلماذا لم يقل إنها مواقيت للناس والصوم مع أنها جاءت بعد آيات الصوم؟؟لأن الصوم شهر محدد واحد ، فمعرفته سهلة ميسورة ، إما برؤية الهلال ، أو بإكمال عدة شعبان ، وليس هناك حرج في أن تصوم يوما من شعبان ، أو أن تزيد صيام يوم في شوال ، إذا غم عليك الهلال ، لتكمل عدة الأيام المعدودات ، التي هي ثلاثون نعم ذلك أمر سهل ميسور ، ولهذا يقول الله في آيات الصيام :(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة 185، فالمراد هو إكمال العدة ، سواء في صيام الشهر لمن شهد الشهر ، أو عند القضاء لمن أفطر ، عن مرض أو سفر . ذلك أن شهر الصيام شهر واحد معلوم معدود ليس له ثان . أما شهور الحج فهي تتكرر ، ولهذا كانت الأهلة مواقيت للناس في كل حياتهم ، ومواقيت للحج وهو الأهم ، ولهذا ذكره وخصه بالذكر ، للاهتمام بشأنه كما هي عادة البيان ، وأساليبه المعروفة لأهل العرفان ، نعم إن الأهلة مواقيت للناس ثم هي مواقيت للحج .لماذا ؟؟ لأن أشهر الحج تتكرر ، ولا بد أن يراقب فيها الهلال ، ليحدد في كل شهر منها مواعيد الحج ، أي أيامه التي هي التاسع والعاشر ، وما يليها من أيام التشريق كما ذكرنا سابقا.لا بد أن يكون الناس على يقين ، من أن يوم كذا في شهر كذا هو يوم الوقوف ، وأن يوم كذا هو يوم النحر ، وهكذا في كل شهر من الأشهر المعلومات. ولا بد أن يكون الناس على علم ، بأن بداية الشهر المعلوم من الأربعة ، هو يوم كذا ليتحدد على ضوئه يوم الحج بلا شك ، ولهذا قال (قل هي مواقيت للناس والحج) ، فخصصه دون سواه ليؤكد لنا أن الحج مكرر الشهور ، وأنه منتظر لكل الناس ، وهلال أشهره منظوره ، ليكونوا على بينة من يوم الحج الأكبر ، في كل واحد من الأربعة الأشهر ، وهكذا لا يمكن أن تأتي هذه الآية عبثا ، ولا يمكن أن تأتي بلا هدف ولا معنى ، بل لها هدف ومعنى ، لمن تدبر وأمعن النظر ، في آيات الله التي لا تخفى على أولى الحجى . إن الآية هذه واضحة الدليل لذي الفكر ، بينة السبيل لذي حجر وعلى ذكر الحجر ، فإني آخذكم إلى آية تشع كالفجر ، وللمراد تنصر ، لنقرأ أوائل سورة الفجر ، فإن النور من آفاقها يظهر ، يقول الله : (والفجر ?1? وليال عشر ?2? والشفع والوتر ?3? والليل إذا يسر ?4? هل في ذلك قسم لذي حجر ?5?) الفجر 1-5 ، إنها الخمس الآيات الأولى ، تأملوا معي الكلمات ، إن الله يقسم فيها بخمس من المخلوقات .اقرءوها مرة ثانية ، هل تلاحظون فرقا بينا بين واحدة وأخرى ؟ أم أنها جاءت بأسلوب واحد واستواء ؟؟ كلا كلا.لقد جاءت الأولى والثالثة والرابعة والخامسة معرفة بالألف واللام ، (والفجر - والشفع - والوتر - والليل إذا يسر) لكن الثانية جاءت بدون تعريف (وليال عشر) ، لم يقل (والليالي العشر)، لماذا؟؟ إنها إشارة لمن يفهم ويتدبر القرآن ، إن هذه الليالي العشر ليست محددة في ذي الحجة ، بل هي عشر ليال في كل شهر من الأشهر الأربعة. أي أن لكل شهر من الأشهر الأربعة ليال عشر، يجب أن تعرف بالأهلة ، التي هي مواقيت للحج ، ولا بد أن تعرف متى تبدأ ومتى تنتهي ، ليكون تاسعها هو يوم الحج الأكبر ، وعاشرها هو يوم النحر ، إنها عشر ليال تتكرر ، في كل الأربعة الأشهر ولهذا جاء ذكرها منكرا ، بدون أداة تعريف ، وأفردت وحدها بين أخواتها المعرفات بأداة التعريف. إن هذا التنكير لها، إنما هو تعريف لنا، بأنها ليال عشر متكررة ولهذا جاءت منكرة. فسبحان الذي جعل من التنكير تعريفا، ومن التنكير لها تشريفا. وجعل التنكير دليلا على التكرير ، لليالي العشر في الأشهر الأربعة بانتظام ، فهي تتكرر أربع مرات في العام ، وهي في كل شهر لها نفس المقام ، عند ربنا العلام ، ولمن أراد إحيائها بالذكر وبالحج والعمرة ، من أهل الإسلام ، فافهموا يا أولى الأفهام ، وافقهوها يا أولى الأحلام ، هل في ذلك غموض على الفكر ، وهل في ذلك ريب لذي حجر ؟؟
ثم أن يوم عاشوراء ، لا يزال مرتقبا معروفا محترما ، في الشهر الرابع وهو شهر محرم. إنه إشارة واضحة أن لكل شهر من الأشهر الأربعة يوم عاشر هام ، رفيع المقام ، وكأن أهمية هذا اليوم العاشر ، انمحت من الأشهر الأخرى مع مرور الأيام ، ولم يبق منها إلا هذه الإشارة الواضحة في الشهر الرابع وهو محرم.
وبعد فهل نستطيع أن نقول أن الآيتين ، أعني آيتي الأهلة والفجر قد أكدتا لنا أن الحج يصح في الأربعة الأشهر؟ يمكن أن يكون ذلك قد تأكد وأن من له حجر من الناس قد يوافق على أن الحج ليس في شهر ذي الحجة بشكل محدد ، بل أنه يصح في رجب المفرد ، وفي الثلاثة الأشهر المتوالية وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم . وإذا كنتم في ريب من ذلك فأني أسألكم متى كان صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش؟؟ بل أحدد السؤال أكثر فأقول متى سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية؟؟ إن المؤرخين يقولون :أذن الرسول في الناس بالحج في شهر ذي القعدة ، ركب الرسول ناقته القصوى ومعه أصحابه ، وساقوا هديهم سبعين بدنه. قد تقولون إنها عمرة ، وليست حجا. لكني أسأل ولماذا ساق النبي الهدي؟؟ إن الهدي لا يكون إلا مع الإهلال بالحج؟!! بل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه (من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة) وهذا الحديث رواه مسلم عن جابر في حديثه الطويل عن قصة حجة الوداع. إذن فإن قصد الرسول في عام الحديبية كان هو الحج لا العمرة وقد أكد هذا القرآن بقوله تعالى : (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 ، ولتأكيد أن القصد هو الحج ، نجد في حكاية الحديبية أنه لما انتهى الصلح ، تردد المسلمون في أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا الهدي ، ليتحللوا من الإحرام ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ، تقدم إلى هديه فنحره ، ودعا بالحلاق فحلق رأسه ، فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا. ومن المعروف أن الحلاقة لا تكون إلا بعد التحلل من الحج ، أما العمرة فهي التقصير فقط ، وهذا يعني أن الرسول قد أهل للحج في ذي القعدة ، لكنه لصد قريش له وللمسلمين لم يدخل مكة ، فنحر وحلق وعاد ، لكنه انتظر إلى العام التالي وكما وعده ربه (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون) الفتح 27 ، وفي الموعد المضروب ، قبيل بداية شهر الحجة ، سار الرسول في ألفين من الصحابة قاصدين مكة ، وبموجب الصلح ونزولا من قريش على صلح الحديبية ، دخل الرسول مكة المكرمة وأدى عمرة القضاء ، ومكث مع أصحابة فيها ثلاثة أيام يصلي بهم ويذكر الله ، ويؤذن بهم بلال رافعا اسم الله .لعلنا ندرك هنا أن الرسول أدى عمرة تسمى عمرة القضاء ، في شهر الحجة ولم ينو حجا ، فلو كان الحج لا يصح إلا في ذي الحجة لما تأخر النبي عن الإهلال بالحج في هذا الشهر ولاغتنمها فرصة لا تعوض لأداء الحج لاسيما وأن قريشا جلت عن مكة بمجرد دخوله ، ثم لم تأذن له بطول الإقامة في مكة ، فما كان أخره أن يستغل شهر ذي الحجة لأداء الحج لا للعمرة فقط .لكنه لم يفعل لعلمه أن الحج يصح في سوى هذا الشهر ، وأنه غير محدد بذي الحجة وهكذا خرج النبي من مكة ، وعاد إلى المدينة فرحا بتحقيق وعد الله وتصديق رؤياه بدخول المسجد الحرام.
ثم تعالوا بنا نراجع فتح مكة وهو في السنة الثامنة من الهجرة :لقد خرج النبي مع جيش الفتح في الحادي والعشرين من رمضان عام 8 من الهجرة ، ولقد تم له فتح مكة بسلام ، وبإسلام عدد كثير من الأقوام ، وتم تهديم الأصنام ، وتطهير البيت الحرام ، من أثر الشرك والآثام .وبعد إقامة الرسول في مكة أسبوعين ، توجه إلى ردع عدوان هوازن ، التي أرادت بالمسلمين سوءا بعد انتصارهم في فتح مكة وقررت أن تغزوا النبي وقومه ، لكن النبي سار لمواجهتهم وردعهم ، فكان ما كان من فشل المسلمين في حنين ، ثم ثباتهم بسكينة الله على الرسول وعلى المؤمنين ، ثم هزيمة هوازن ، ثم حصار الطائف وثقيف ، وقد استمر الحصار حتى نهاية شوال ، وكما آذن شهر ذي القعدة بالقدوم وهو من الأشهر الحرم ، عاد النبي من الطائف إلى الجعرانه ، فقسم الغنائم بين المؤلفة قلوبهم ، ثم غادرها إلى مكة معتمرا ، في شهر القعدة ، ثم عاد إلى المدينة مع أصحابة من المهاجرين والأنصار ، في أول شهر ذي الحجة .لقد سقت هذه الوقائع رغم عدم الحاجة إليها لنؤكد من جديد أنه لو كان شهر ذي الحجة محددا للحج لانتهز الرسول الوقت ولجعل تواجده في ضواحي مكة فرصة ؛ أو على مقربة منها فرصة لانتظار موعد الحج ، فلم يكن بينه وبين ذي الحجة إلا بقية من ذي القعدة ، فانتظاره كان فرصة ثمينة ، وكان محل ترحيب وحب الجميع ، لاسيما أنه الآن ظافر منتصر حتى لو أقام في مكة منتظرا ، فليست إقامته محددة كما كان في عمرة القضاء ، بل هو الآن مطلق للإقامة كيفما شاء ، وإلى متى شاء ، وفي محل ترحيب واحتفاء ، لكنه رغم هذا غادر مكة بعد العمرة ، ولم ينتظر الحج ، مع أنه على قاب قوسين من ذي الحجة. إن هذا يدلنا على أنه كان يدرك أن ذي الحجة ليس شهرا محددا خاصا بالحج بل أنه (الحج أشهر معلومات) كما قال الله فله أن يحج في أي شهر شاء والأيام أمامه تتوالى .
قد تقولون لكنه لما حج حجة الوداع كان حجة في شهر ذي الحجة ، وكذلك حج أبو بكر وعلي بن أبي طالب في السنة التاسعة ، حين كلف الرسول علي بن أبي طالب بتلاوة سورة براءة على المشركين ، لكني أقول لقد اختار الرسول هذا الشهر لأنه الشهر الأوسط في الأشهر الثلاثة السرد المتوالية ، وهو دائما كان يحب التوسط في كل أمره ، ولا يعني اختياره للشهر الأوسط من الثلاثة الأشهر المتوالية ، أنه الشهر المحدد الأوحد للحج بل هو اختيار جميل من الرسول وبه اجتهد مع علمه أنه ليس هو الشهر المحدد ، وكيفلا والقرآن يقول ويتلى بلسانه على الناس وفيه يقول الله (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) إنه لسان عربي والنبي أفصح العرب ، فكيفلا يفهم النص وكيفلا يفهم أن المراد تكرر الحج أربع مرات في العام كما حدد الله العلام ، إن هذا هو الحق وسواه أوهام .
هكذا أستدل بالحدث على أن الحج ليس محددا في شهر ذي الحجة ، بل وهناك دليل آخر من نفس الحدث ، وفي نفس العام الذي حج فيه النبي وفي نفس الشهر وهو ذو الحجة . هذا الدليل ينصر ما أقول ويؤكد أنه موافق للرسول ، فاستمعوا إلى الدليل القاطع والقول الفصل بلا منازع ، يقول المؤرخون : لقد خرج النبي من المدينة حاجا وحين وصل إلى (ذي الحليفه) ميقات إحرام أهل المدينة ، لبس مع أصحابه ملابس الإحرام ، ثم سار الموكب ملبيا ذاكرا حتى وصل الموكب إلى محلة (سرف) وهي منطقة بين مكة والمدينة ، وهنا أناخ الركب للراحة ، وعندها قال الرسول للصحابة ، وهو النبي المعلم المشرع لهم ، الذي يأخذ الناس منه مناسكهم . ماذا قال لهم ؟ لقد قال :
(من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا) هكذا حدد أن الحج يصح لمن له هدي ، وأن شهر ذي الحجة يصح أن لا يكون موسما للحج ، ولكن للعمرة فقط ، لمن لم يسق الهدي ، مع أنهم كلهم قد عرفوا الواجب وكلهم يصدق عليه قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) وكيفلا وهم مع رسول الله الذي تنزل عليه القرآن وهو المبلغ له من الله. ومن الجميل والمهم أن نعرف أن الرسول قد اختار هذا الشهر الأوسط ، من الأشهر الثلاثة الحرم المتوالية ، لأنه يتفق مع قدرة أكبر عدد معه من المسلمين والمسلمات، فهو يصادف أواخر أيام الشتاء وأوائل الربيع من الأشهر الشمسية ، إذ يؤكد الحاسبون أن هذا الشهر العاشر من العام العاشر للهجرة ، يتقابل مع شهر مارس ، من عام 632 ميلادية ، وهو شهر معتدل الجو رائق النسيم ، ناعم الهواء ، للمسافر والمقيم ، وللموكب العظيم ، الذي يتقدمه الرسول الكريم ، أليس هو الذي يصفه ربه بقولة للمؤمنين (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة 128 ، ولهذا اختار لهم هذا الشهر المتوسط بين الأشهر الحرام والمتوسط الهواء والأنسام ، ليكون أوعى للنشاط في الأسفار والمقام ، والوصول بسلام ، وأداء المناسك بيسر واهتمام ، فصلى الله عليه وعلى من سار معه من الأصحاب والأقوام ، وعليه وعليهم من ربهم السلام ، وعلينا معهم ، وعلى من اتبعهم باحسان إلى يوم القيام.
وبعد ،، فقد يقال أن هذا التعليل لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم ، شهر ذي الحجة لأداء الحج (حجة الوداع) غير واقعي ولا علمي، بل وغير متفق مع مهمة النبي الذي ينفذ ما أمر به من ربه في أشق الظروف وأصعب المضايق بلا تخير لزمن الربيع والنسيم وبلا اعتبار للمشاق والعوائق ، ألا تذكر أنه سار بالمهاجرين والأنصار إلى تبوك في أشد القيض وفي ساعة العسرة ، رغم كراهتهم وتردد بعضهم ، ليكون لهم درسا هاما بالغا في المبادرة إلى الجهاد في كل حال ، وفي مختلف الأزمان ولهذا قال الله عنهم (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) التوبة 117 ، وأنا أقول أن الاعتراض متوقع من الكثير والقليل ، ردا على ما أوردته من التعليل ، ولكني أقول أن هناك فرقا بين مسير النبي بالمهاجرين والأنصار للحج ، وبين مسيره إلى تبوك ، لقد كان المسير إلى تبوك لردع المتآمرين ضد الدين ، فلقد لاحت علامات الكيد ، وظهرت دلائل المؤامرة على المسلمين ، فلا بد من ردعها بشكل عاجل ، وبلا انتظار ولا بد من المسير إلى أعماق الوديان لإظهار قوة الإسلام والمسلمين ، وقدرتهم على ردع العدوان ، من أي جهة جاء ، وفي أي مكان ، رغم العسر والحر ، فكان لا بد من المسير في أصعب الأزمان وأعسرها ، ليزداد المتآمرون يقينا بأن الصعاب أمام المسلمين تهون ، وأن العسرة عند المؤمنين هي السبيل إلى رضاء رب العالمين ، فالعسير: في طاعته يسير وسلام ، ألم يقل (فإن مع العسر يسرا ?5? إن مع العسر يسرا?6?) الشرح 5-6 ، وهي حقيقة لا يرتاب فيها المؤمنون ، بل تدعوهم إلى الإصرار على ركوب العسر ، لينالوا اليسر في الدنيا ويوم الدين ، ولينالوا أجر الله المحسنين ، ألم يقل الله معاتبا من تخلف من الموكب ، ومبشرا من بادر ورغب ، قال : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ?119? ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين?120?) التوبة 119-120 ، إنه وعد بجزاء يسموا إلى مقام المحسنين. بل أن الآيات تتوالى بالوعد الجميل وتتوغل في التبشير من الجليل على كل عمل وعطاء كثير وقليل فيقول الله : (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) التوبة 121 ، وعود تتوالى من الله الغني الحميد ، إلى هؤلاء المبادرين من العبيد وأي جزاء أحب وأبقى وأحسن من جزاء يكون من الله ، إن هذا هو الذي تهون في نيله النفوس والأموال والأولاد والأوطان ، لأن هذه كلها نافذة فانية ، وذلك باق خالد ومبارك متوال في الدنيا والآخرة ، فكيفلا يسير بهم النبي في ساعة العسرة لينالوا مع العسر يسرا ، ومع النصب حبا من الله العلي العظيم. وعليه فإن الدرس الذي أراده الله لعباده في تبوك ، والأجر الحسن الذي أراد أن يكتبه لهم لا بد أن يكون في ساعة العسرة ، ليتوب عليهم ، إنه بهم رءوف رحيم ، وهو التواب الرحيم . فذلك مسير : له عقبى حسنه للمؤمنين ، وإرهاب للمتآمرين والكائدين ، فكان لا بد من مسير يبهر ، وبه اليقين والصبر يظهر ، وبه الصادق يؤجر ، مسير به العدو يقهر ، والمتآمر يدحر ، وأحلامه تتلاشى وتتبخر ، أمام هذا الزحف النبوي الذي استسهل ما تعسر .فكان لهم جميعا الخير من الله والتوبة والرحمة وذلك خير ما يدخر ، وذلك هو الفوز الأكبر .وهكذا كان الفرق بين مسير الحج ومسير الجهاد . وهكذا كانت حجة الوداع في العام التالي لعام تبوك . كانت ذات مسير يفوح باليسر والعبير بينما كان السابق يفوح بالحر والهجير،، ولهم من الله أجر كبير .الحج أشهر معلومات- الجزء الثاني ¶ حل رباني و بيان قرآني يقي حجاج البيت الحرام من الإرباك والزحام فاستمعوا وعوا أيها الأنام ويا أولي الألباب والأفهام،، ما يقول الله العلام الذي يعلم ما كان وما يكون والذي أنزل القرآن هدى للعالمين ، إنه يقول في سورة البقرة (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، ويقول في سورة التوبة :(إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع المتقين) التوبة 36، وعليه فإن الأشهر الحرم معلومة ، منذ خلق السموات والأرض ، ومكتوبة في كتاب الله ، ونظامه الكوني ، لا تتغير ولا تتبدل ، فهي أشهر حرم في كل زمان ، وإلى أن تقوم الساعة ، فلا يصح فيها إلا التقوى والسلام ، ولا فيها قتال ولا خصام ، ولا صيد ولا إيذاء للناس ولا للهوام ، بل عدل ونظام ، وحج وصيام ، وركوع وقيام ، وعطوف وإحرام ، ولهذا قال الله (ذلك الدين القيم) فهي محطة زمنية لتعظيم شعائر الله وحرماته ، كما أن الحرم محطة مكانيه لتعظيم الشعائر والحرمات ، فالناس فيها مكلفون بالحج والعمل الصالح ، وترك القلق والانشغال بالمصالح ، فإن ذلك ظلم للنفس ، وسعي جامح ، وحرمان لها من العمل الرابح ، الذي يحرص عليه المؤمن الفالح ، ولهذا قال الله عقب ذلك (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) وما الظلم إلا الانشغال بما ليس فيه خير باق ، وما الظلم إلا الاهتمام بالمتاع الفاني ، وما الظلم إلا الانطلاق إلى المطامع ، والاندفاع في الدنيا بلا تقوى ولا وازع. إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، يوم خلق السموات والأرض. فهي شهور معلومة للعالمين ، الأولين والآخرين ، ولا يختلف عليها أحد من السابقين واللاحقين ، ولا المؤمنين ولا الكافرين ، ومثل ذلك التقدير والتنظيم لعدة الشهور السنوية الدائمة ، كان التحديد والتقدير للأربعة الأشهر الدينية المحرمة ، فهي أربعة معلومة للجميع بلا ارتياب ، منذ أن عرف الإنسان نفسه وعرف الحساب. ¶ وإذن فهي أربعة لها شأن متميز هو أنها أربعة حرم ، ودين قيم ، ولها موقع خاص هي أنها قيام للناس ومثابة وموسم للحج لله والإنابة له ولهذا فإن الله يعلنها لنا بوضوح ويقول (الحج أشهر معلومات) نعم معلومات فمن ذا الذي يجهل العلم بها ، إنها معلومة للناس كلها مسلمها وكافرها ، أولها وآخرها ، معلومة لكل الأنبياء والمرسلين وأممها ، ولهذا كان الجاهليون يتحايلون عليها وعلى حرماتها ويلجئون إلى النسيء وهو كفر وضلال وظلام ، ليواطئوا عدة ما حرم الله في الأشهر الحرم، فيحلوا بضلالهم ما حرم الله فيها على الأنام على مدى الأيام والأعوام ، زين لهم سوء عملهم ، فضلوا عن سبيل ربهم ، فتركهم الله لضلالهم (والله لا يهدي القوم الكافرين) التوبة 37 ، وإذن فنحن يجب أن نحترم هذه الأشهر المعلومة ، وأن نستمر على ما كتبه الله لها ، وبها علينا ، إن كنا أمة مسلمة. فإن إقامة الأشهر الحرم ، هو الدين القيم ، وما إقامتها إلا بأن نتبع ما كتب الله فيها وهو الحج ، ¶ قد تسألون بانبهار: هل تعني أنها موسم للحج الأكبر؟ وأقول نعم إن الأشهر الحرم الأربعة هي موسم للحج ، وأن علينا أن نحج فيها ، وأن نقيم شعائر الحج ومناسكه فيها كلها بلا ارتياب ولا تردد ، وإلا كنا واقعين في الشك الذي وقع فيه الجاهليون ، وكنا لكتاب الله ناسين ، وفي آياته مرتابين ، ولنظامه الكوني مخالفين ، وعن إرادته منحرفين ، وعن نعمته مبتعدين ، وللضلال مقتربين ، والله لا يهدي إلا من اهتدى ، فلنهتد بهداه يزدنا هدى. إذن فالحج يصلح أن يقام وتؤدى مناسكه في الأشهر الأربعة : ¶ ]رجب الفرد[ و ]ذي القعدة[ و ]ذي الحجة[ و ]محرم[ ¶ 1 ................... 2 .......... 3 ..........4 ¶ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وبراها وعادت الأشهر الحرم محددة معلومة ، لكل أهل الأرض والسماء ، وانمحى النسيء الذي ضل به الكافرون ، وأضلوا كثيرا ، وضلوا عن سواء السبيل ، وجاء الرسول الخاتم محمد الأمين صلى الله عليه وسلم ليعلن أن الأشهر الحرم هي تلك التي حددها الله العليم الحكيم ، وهذا هو الدين القيم ، وجعلها موسما للعمل الصالح السليم ، ومثابة للناس يتوبون فيها للحق والصراط المستقيم، وقياما للناس يقيمون فيها منارات التحريم لما حرم الله من الدماء والأعراض والأموال. ويرفعون فيها رايات ما شائه الله وارتضاه ، من صالح الأعمال ، ثم وليستمر التحريم في حياتهم طوال الأعوام ، ويستقيم العمل الصالح مدى الأيام ، فما الأشهر الحرم إلا محطات نموذجيه للتزود منها في مسيرة الناس ، إلى كل الأرض والأقطار والأوطان ، وإلى كل الأيام والشهور والأزمان ، فتبقى الأرض كلها حرما آمنا ، ويستمر الزمن كله أشهرا حرما ، ويستقيم الناس على العمل الصالح والتقوى ، متسلحين بذكر الله جل وعلا ، مستنيرين بهداه الذي من اتبعه فلا يضل ولا يشقى ، وهذا هو الذي يجعل الحج لله على الناس من استطاع إليه سبيلا ، ومن كفر فإن الله غني عنه أبدا. ¶ ولهذا أقول مع احترامي لهؤلاء العلماء الأعلام ، والمجتهدين الكرام أنهم كلهم خرجوا عن النص ، وأبطلوا ما في الآية من المعاني ، وحملوا الآية معنى لا يتفق مع البيان القرآني ، ولا يقره اللسان العربي البياني ، فالله يقول وهو العليم الحكيم ، وهو الذي علمنا اللغة والكلام (الحج أشهر معلومات) إن (أشهر) جمع قله ، يدل على أنها أربعة ، ولهذا قال في آية التوبة (إن عدة الشهور) فأتى بجمع الكثرة ، فكيف تحول جمع أشهر إلى شهر وعشرة أيام؟ وكيف جاز أن يطلق الجمع على المفرد وجزء من المفرد؟؟ إن هذا لا يقول به أحد عربي ، بل حتى العجمي الذي لا يعرف اللسان العربي ، سينكر هذا التفسير العددي لكلمة (أشهر) فكيف بأئمة البيان العربي ، ومجتهدي الفقه الإسلامي. ¶ لقد اجتهدوا وأخطئوا والمخطئ له أجر ، فلهم الأجر. ولكن ليس علينا أن نتبعهم في التفسير للأشهر بأنها شهر ، بل لا بد أن نفهم الآية على معناها الصحيح الواضح بأن (الحج أشهر معلومات) يعني أنها الأشهر المعلومة منذ خلق الله الأرض والسموات . وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم ، هذه هي الأشهر المعلومات لكل الناس ، لمن يأتي منهم ، ولمن مات وللرسالات والنبوءات ، بلا استثناء ولا تأويلات ، فكيف نجعل أشهر الحج المعلومات ، أقل مما تعنيه الكلمات؟!! إن هذا تقصير لا يرضاه إلا من لا يفهم البينات. ¶ قد تقولون كيف تأتي في آخر الزمان ، وبعد مضي القرون من نزول القرآن ، لتقول لنا أن الحج يصح أن يقام في الأشهر الأربعة المعلومات؟ إن هذا مقال لم يقله أحد من أهل الفقه ، ولا أحد من علماء اللغة؟!!لكني أقول أن القرآن هو قمة اللغة ، بل هو أصل اللغة ، وهو البيان الذي يتعلم منه أهل البيان ، وهو الحكم الذي يحتكم إليه كل فقيه ، ممن تأخر أو تقدم ، وأنا قد فقهت من الآيات ما لم يفقه السابقون ، لأني جئت في زمن لم يدركوا ما فيه من تطورات . فهم كانوا يظنون أن السفر الطويل والمسافات المتطاولات يحتم على الناس أن يحجوا في شهر واحد ، وذلك مبلغ الاستطاعة ، ومنتهى الجهد لكل جماعة ، لكن الزمن الآن قد قرب المسافات وقصر السفر وجعل كل فج عميق ، قريبا من البيت العتيق ، وصير كل الناس قادرين على الفرض بلا معيق ، وسهل صعوبة الانتقال وسير الطريق ، فلم يعد السفر مرهقا ، ولم يعد الطريق شاقا ، ولم يعد بين المشرق والمغرب فارقا ، فالبعد الشاسع قد التفق ، والبون الواسع قد ارتتق ، والحلم الغامض قد تحقق . فأصبح العميق من الفجاج ، سهلا قريبا للحجاج ، وأصبح الأذان في الناس بالحج ، يصل إلى كل قمة وفج ، يحمله الأثير والأقمار ، وتستقبله الأسر والديار ، بلا تفريق بين عرب وعجم ، وبين الأفراد والأمم. فكيفلا يبادر الناس بالحج جماعات ووحدانا ،وكيفلا يأتون من كل فج عميق ، رجالا وركبانا ، ¶ وكيفلا يأتون سراعا ، على كل ضامر ، في البر سائر ، أو للبحر ماخر ، أو في الجو طائر ، فالطائرات والسيارات والبواخر ، كلها يصح أن توصف بالمركب الضامر ، فالكلمة القرآنية دقيقة الدلالة ، تصلح لكل مركوب حيواني أو آله ، فالخيل والبغال ، والحمير والجمال الضوامر ، مثلها الطائرات والقطارات والسيارات والبواخر ، كلها ناقله للأثقال ، سريعة الانتقال ، ضامرة البطون والأطوال ، فالوصف شامل للجميع ، منطبق على الحي والمصنوع ، وكلها من خلق الله البديع .فالانتقال على المستحدث من الآلات ، أصبح يدفع الناس إلى الحج زرافات ، ومن كل القرى والقارات ، ومن البيوت والمؤسسات ، ¶ وإذا كان الأمر كذلك ، فإن مكة لا بد أن تتسع للجميع ، ولا بد أن تستقبل الناس مهما كثرت الجموع ، لأن الفريضة واجبة ، فكيف نطلب من المستطيع أن يتراخى عن واجبه ، وكيف نطلب من المسلم أن ينتظر الأداء ، وهو لا يدري ماذا يكسب غدا ؟؟ إن هذا صد عن سبيل الله واعتداء ، بل وإلحاد وظلم عظيم يوردنا العذاب الأليم ، فما هو الحل أيها الناس العقلاء ، وما هو المخرج من هذه الظلماء ، إنه في القرآن الذي هو الحق والهدى للإنسان ، وفيه البينات والفرقان ، وفيه العلم الذي يهدي إلى الإحسان ، لقد قال الله (الحج أشهر معلومات) فاجعلوا الحج في هذه الأشهر المعلومات ، التي هي أربعة حرم منذ خلقت الأرض والسموات ، وذلك هو الدين القيم ، والطريق الأسلم ، والعمل الأقوم ، أوليس الله هو العليم الحكيم ، الهادي للصراط المستقيم ، أوليس هو المنزل للقرآن هدى للعالمين ، وبلسان عربي مبين ؟؟؟ بلى بلى .. إن هذا هو الحق الذي نزل به الروح الأمين ، على قلب خاتم النبيين .فإذن فلنفهم الكلمات كما اقتضت وأبانت ، ولنعمل بها كما جاءت ، بلا التواء ولا مراء ، فالبيان واضح الجلاء ، والأيام مشعة الضياء ، فلماذا الإنغماس بها في ظلماء ، ولماذا تفسيرها بما يخالف المعنى ، إن هذا هو الغباء ، والغفول الذي به الله لا يرضى ، وكيفلا وقد قال (الحج أشهر معلومات) إنها كلمات واضحة المعنى ، بينة الدلالات ، وإذا أردتم للمعنى وضوحا أوفر، وشئتم تأكيدا يكشف المعنى أكثر ، فاسمعوا ما قال الله بعد ذلك (فمن فرض فيهن الحج) أكرر (فمن فرض فيهن الحج) أكرر (فمن فرض فيهن الحج) أكررها ثلاث مرات لتتأكدوا من وضوح الدلالات فكلمة (فيهن) تعني أن للإنسان أن يفرض الحج في أي شهر (فيهن) في أي واحد من الأربعة الأشهر المعلومات (فمن فرض فيهن الحج). ¶ أفهمتم أن هذا تأكيد لكم، وإيضاح لكم، وبيان يقضي على ارتيابكم وحكم يمسح كل شكوككم ، وقرار يبعد كل غموضكم ، فهل تحتكمون إلى القرآن والهدى ، أم إلى الهوى. إذن فافرضوا على أنفسكم الحج باطمئنان ، في أي شهر من الأشهر المعلومات ، وقرروا للناس أن يحجوا لله إلى البيت، في أي شهر من الأربعة المشهورات ، وثقوا بأن هذا هو حكم الله عالم الغيب والشهادة ، فهو العليم بأن الناس سيصلون إلى زمن تتقاصر فيه المسافات المتباعدة ، ويكثر فيه الناس التي للحج قاصدة ، وبأعداد متصاعدة ، بل أن الإسلام سيعم بلادا وأناسا متعددة ، بل وسيدخل الناس في دين الله أفواجا ، ويأتون لبيت الله حجاجا ، ولهذا فقد أفسح الله لهم الزمن والميعاد ، وجعل الحج أشهرا معلومات ، حتى لا يحرم منه من أراد ، أليس الله علام الغيوب ، أليس هو الذي جعل الحج لله على الناس ، فكيف يعلنه على العالمين؟ ولا يفسح لهم الزمن ليسعهم أجمعين؟؟ لنقرأ الآية من جديد : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، ومن هو الذي سيفرض فيهن الحج؟؟ إنهم كل الناس. ولنقرأ (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ?96? فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ?97?) آل عمران 96-97، إن كلمة الناس والعالمين تدلان على أن كل الناس المؤمنين ، من كل الملل مدعوون للحج ما داموا مؤمنين.ولكن الناس كفروا بما فيهم أهل الكتاب ، فكان الله غنيا عنهم وعن العالمين ، ولكنهم لو آمنوا لكانوا حجاجا لله ، وللبيت قاصدين ، ولهذا قال الله : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125، وقال (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) المائدة 97، وقال (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج 27، وقال (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) الحج 34، إن قوله ولكل أمة ، يشير إلى أن كل الملل التي لها كتب سماوية ، لها منسك في مكة ، ولهذا قال : فإلاهكم إله واحد. وأمام هذا النداء العام ، وهذا الواجب الهام ، لا بد أن يحصل الزحام ، وقد يؤدي توزيع الحصص ، إلى تأخر الكثير عن الحج وتقاعس الأكثر منهم عن الأداء ، بمختلف الحجج ، وأهم حجة هي تحديد عدد الحجاج ، وتضييق تدفق الأفواج ، وهذا أمر لا يرضاه الله ، الذي يقول (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج 27 ، فكيف يرضى الله بالتحديد ، وهو يدعوهم من كل فج بلا تحديد وكيف يرضى أن تحجب عنهم المنافع والاكرام وهو يقول :(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج 28، فالناس يجب أن يشهدوا المنافع الموعودة ، وأن يذكروا الله في الأماكن والأيام المعلومة ، ليعظموا حرمات الله ولينالوا خيره ويعلنوا تقواه . ¶ إذن فإن فتح الباب للحج في الأشهر المعلومات ، واجب أعلنه رب الأرض والسموات ، وحدد ميعاد ومكان هذا الفرض ، يوم خلق السموات والأرض ، فالشهور إثنا عشر منذ القدم ، منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم . فهيا أيها الناس ، هيا أيها المسلمون ، فكروا في الموضوع وقرروا ، ولبيان الله تدبروا ، ولآياته تذكروا ، لتنالوا خير الله وتؤجروا ، فاقدموا على التنفيذ ولا تتحيروا ، فالبيان القرآني واضح كالصباح ، والحكم الرباني حق مشرق وضاح ، وعلينا أن ننطلق على نوره للعمل ، ولا حرج علينا ولا جناح. قد تقولون كيف يمكن أن يكون الحج في الأشهر الأربعة؟ وقد تحدد يوم عرفه بأنه يوم تاسع ذي الحجة؟ ويوم النحر بأنه يوم عاشر ذي الحجة؟ وتحددت أيام التشريق بأنها يوم11/12/13 من ذي الحجة؟ فكيف نستطيع أن نحدد مثلها في الأشهر الأخرى ؟؟ وكيف نخترع من عندنا مواعيد جديدة ونتجرى؟؟ وأقول لكم ليس هناك اختراع ، وليس هناك جرأة على الله ، بل هناك اتباع واستماع ، وتدبر لآيات الله . تدبروا معي قوله تعالى في آية البقرة ، هذه التي نبحثها ، يقول في هذه الآية : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، فهي معلومات معروفات ، ومشهورات لمن تقدم ولمن هو آت ، وتأملوا معي قوله في آية الحج :(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج 28، فهي أيضا أيام معلومات ، في أشهر معلومات ، لكنه لما تحدث عن أيام التشريق قال : (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون)البقرة 203، لقد وصفها بأنها معدودات ، نعم. لأنها ثلاثة أيام ، ولا إثم على من تعجل في يومين ، وهذا يؤكد لنا أن كلمة معلومات تعني شيئا غير المعدودوات ، فالمعلوم لا يتغير اسمه ولا يتبدل موعده ، لكن المعدود المراد به : معرفة العدد مع أنه معلوم موعده بالشهر الذي يكون فيه ، ثم أن الله في آيات الصيام يقول : (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ?183? أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون?184?) البقرة 183-184، ثم حدد هذه الأيام المعدودات للصيام بقوله :(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة 185، فأيام الصيام معدودة ، وشهرها معلوم ، هو شهر رمضان وبتسمية الشهر عرفنا عددها ، وعرفنا أن شهر الصوم معلوم بإسمه المحدد المعلوم ، فلو كان الحج في أيام معدودة ، وفي شهر واحد فقط كالصيام ، لقال الحج أيام معدودة ، ليكون معناه أنها يوم تسعة وعشره ، وهما يوم الوقوف ويوم النحر ، ثم ثلاثة أيام لرجم الجمرات والذكر ، لكنه لم يرد هذا. بل أراد أن الحج له أشهر معلومات ، وفي كل شهر لنا أيام معدودات ، نحددها نحن في بقية الشهور بنفس العدد ، وفي نفس الموقع ، الذي اعتدنا عليه في شهر ذي الحجة. فنجعل مثلا يوم 9 رجب و9 ذي القعدة و9 محرم يوم الوقوف بعرفه كما هو يوم 9 من ذي الحجة . ونجعل يوم 10رجب و10ذي القعدة و10محرم يوم النحر كما هو يوم 10 من ذي الحجة. وهكذا أيام التشريق ، نجعلها في الأيام التالية ، من الأشهر الثلاثة الباقية ، أي يوم 11/12/13 من كل من رجب وذي القعدة ومحرم . ¶ قد يقول قائل هذا اختراع واجتراء ، بلا دليل ولا اقتداء ، وأنا أقول لكم تمهلوا قبل هذه الاتهامات ، وتعالوا معي إلى الآيات نتدبرها بثبات وبلا تشنجات ، لنقرأ معا قول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة ، وبعد آيات الصيام مباشرة إنه يقول : (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) البقرة 189، إنه يتحدث عن الأهلة فلماذا لم يقل إنها مواقيت للناس والصوم مع أنها جاءت بعد آيات الصوم؟؟لأن الصوم شهر محدد واحد ، فمعرفته سهلة ميسورة ، إما برؤية الهلال ، أو بإكمال عدة شعبان ، وليس هناك حرج في أن تصوم يوما من شعبان ، أو أن تزيد صيام يوم في شوال ، إذا غم عليك الهلال ، لتكمل عدة الأيام المعدودات ، التي هي ثلاثون نعم ذلك أمر سهل ميسور ، ولهذا يقول الله في آيات الصيام :(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة 185، فالمراد هو إكمال العدة ، سواء في صيام الشهر لمن شهد الشهر ، أو عند القضاء لمن أفطر ، عن مرض أو سفر . ذلك أن شهر الصيام شهر واحد معلوم معدود ليس له ثان . أما شهور الحج فهي تتكرر ، ولهذا كانت الأهلة مواقيت للناس في كل حياتهم ، ومواقيت للحج وهو الأهم ، ولهذا ذكره وخصه بالذكر ، للاهتمام بشأنه كما هي عادة البيان ، وأساليبه المعروفة لأهل العرفان ، نعم إن الأهلة مواقيت للناس ثم هي مواقيت للحج .لماذا ؟؟ لأن أشهر الحج تتكرر ، ولا بد أن يراقب فيها الهلال ، ليحدد في كل شهر منها مواعيد الحج ، أي أيامه التي هي التاسع والعاشر ، وما يليها من أيام التشريق كما ذكرنا سابقا.لا بد أن يكون الناس على يقين ، من أن يوم كذا في شهر كذا هو يوم الوقوف ، وأن يوم كذا هو يوم النحر ، وهكذا في كل شهر من الأشهر المعلومات. ولا بد أن يكون الناس على علم ، بأن بداية الشهر المعلوم من الأربعة ، هو يوم كذا ليتحدد على ضوئه يوم الحج بلا شك ، ولهذا قال (قل هي مواقيت للناس والحج) ، فخصصه دون سواه ليؤكد لنا أن الحج مكرر الشهور ، وأنه منتظر لكل الناس ، وهلال أشهره منظوره ، ليكونوا على بينة من يوم الحج الأكبر ، في كل واحد من الأربعة الأشهر ، وهكذا لا يمكن أن تأتي هذه الآية عبثا ، ولا يمكن أن تأتي بلا هدف ولا معنى ، بل لها هدف ومعنى ، لمن تدبر وأمعن النظر ، في آيات الله التي لا تخفى على أولى الحجى . إن الآية هذه واضحة الدليل لذي الفكر ، بينة السبيل لذي حجر وعلى ذكر الحجر ، فإني آخذكم إلى آية تشع كالفجر ، وللمراد تنصر ، لنقرأ أوائل سورة الفجر ، فإن النور من آفاقها يظهر ، يقول الله : (والفجر ?1? وليال عشر ?2? والشفع والوتر ?3? والليل إذا يسر ?4? هل في ذلك قسم لذي حجر ?5?) الفجر 1-5 ، إنها الخمس الآيات الأولى ، تأملوا معي الكلمات ، إن الله يقسم فيها بخمس من المخلوقات .اقرءوها مرة ثانية ، هل تلاحظون فرقا بينا بين واحدة وأخرى ؟ أم أنها جاءت بأسلوب واحد واستواء ؟؟ كلا كلا.لقد جاءت الأولى والثالثة والرابعة والخامسة معرفة بالألف واللام ، (والفجر - والشفع - والوتر - والليل إذا يسر) لكن الثانية جاءت بدون تعريف (و ليال عشر) ، لم يقل (والليالي العشر)، لماذا؟؟ إنها إشارة لمن يفهم ويتدبر القرآن ، إن هذه الليالي العشر ليست محددة في ذي الحجة ، بل هي عشر ليال في كل شهر من الأشهر الأربعة. أي أن لكل شهر من الأشهر الأربعة ليال عشر، يجب أن تعرف بالأهلة ، التي هي مواقيت للحج ، ولا بد أن تعرف متى تبدأ ومتى تنتهي ، ليكون تاسعها هو يوم الحج الأكبر ، وعاشرها هو يوم النحر ، إنها عشر ليال تتكرر ، في كل الأربعة الأشهر ولهذا جاء ذكرها منكرا ، بدون أداة تعريف ، وأفردت وحدها بين أخواتها المعرفات بأداة التعريف. إن هذا التنكير لها، إنما هو تعريف لنا، بأنها ليال عشر متكررة ولهذا جاءت منكرة. فسبحان الذي جعل من التنكير تعريفا، ومن التنكير لها تشريفا. وجعل التنكير دليلا على التكرير ، لليالي العشر في الأشهر الأربعة بانتظام ، فهي تتكرر أربع مرات في العام ، وهي في كل شهر لها نفس المقام ، عند ربنا العلام ، ولمن أراد إحيائها بالذكر وبالحج والعمرة ، من أهل الإسلام ، فافهموا يا أولى الأفهام ، وافقهوها يا أولى الأحلام ، هل في ذلك غموض على الفكر ، وهل في ذلك ريب لذي حجر ؟؟ ¶ ثم أن يوم عاشوراء ، لا يزال مرتقبا معروفا محترما ، في الشهر الرابع وهو شهر محرم. إنه إشارة واضحة أن لكل شهر من الأشهر الأربعة يوم عاشر هام ، رفيع المقام ، وكأن أهمية هذا اليوم العاشر ، انمحت من الأشهر الأخرى مع مرور الأيام ، ولم يبق منها إلا هذه الإشارة الواضحة في الشهر الرابع وهو محرم. ¶ وبعد فهل نستطيع أن نقول أن الآيتين ، أعني آيتي الأهلة والفجر قد أكدتا لنا أن الحج يصح في الأربعة الأشهر؟ يمكن أن يكون ذلك قد تأكد وأن من له حجر من الناس قد يوافق على أن الحج ليس في شهر ذي الحجة بشكل محدد ، بل أنه يصح في رجب المفرد ، وفي الثلاثة الأشهر المتوالية وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم . وإذا كنتم في ريب من ذلك فأني أسألكم متى كان صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش؟؟ بل أحدد السؤال أكثر فأقول متى سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية؟؟ إن المؤرخين يقولون :أذن الرسول في الناس بالحج في شهر ذي القعدة ، ركب الرسول ناقته القصوى ومعه أصحابه ، وساقوا هديهم سبعين بدنه. قد تقولون إنها عمرة ، وليست حجا. لكني أسأل ولماذا ساق النبي الهدي؟؟ إن الهدي لا يكون إلا مع الإهلال بالحج؟!! بل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه (من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة) وهذا الحديث رواه مسلم عن جابر في حديثه الطويل عن قصة حجة الوداع. إذن فإن قصد الرسول في عام الحديبية كان هو الحج لا العمرة وقد أكد هذا القرآن بقوله تعالى : (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 ، ولتأكيد أن القصد هو الحج ، نجد في حكاية الحديبية أنه لما انتهى الصلح ، تردد المسلمون في أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا الهدي ، ليتحللوا من الإحرام ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ، تقدم إلى هديه فنحره ، ودعا بالحلاق فحلق رأسه ، فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا. ومن المعروف أن الحلاقة لا تكون إلا بعد التحلل من الحج ، أما العمرة فهي التقصير فقط ، وهذا يعني أن الرسول قد أهل للحج في ذي القعدة ، لكنه لصد قريش له وللمسلمين لم يدخل مكة ، فنحر وحلق وعاد ، لكنه انتظر إلى العام التالي وكما وعده ربه (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون) الفتح 27 ، وفي الموعد المضروب ، قبيل بداية شهر الحجة ، سار الرسول في ألفين من الصحابة قاصدين مكة ، وبموجب الصلح ونزولا من قريش على صلح الحديبية ، دخل الرسول مكة المكرمة وأدى عمرة القضاء ، ومكث مع أصحابة فيها ثلاثة أيام يصلي بهم ويذكر الله ، ويؤذن بهم بلال رافعا اسم الله .لعلنا ندرك هنا أن الرسول أدى عمرة تسمى عمرة القضاء ، في شهر الحجة ولم ينو حجا ، فلو كان الحج لا يصح إلا في ذي الحجة لما تأخر النبي عن الإهلال بالحج في هذا الشهر ولاغتنمها فرصة لا تعوض لأداء الحج لاسيما وأن قريشا جلت عن مكة بمجرد دخوله ، ثم لم تأذن له بطول الإقامة في مكة ، فما كان أخره أن يستغل شهر ذي الحجة لأداء الحج لا للعمرة فقط .لكنه لم يفعل لعلمه أن الحج يصح في سوى هذا الشهر ، وأنه غير محدد بذي الحجة وهكذا خرج النبي من مكة ، وعاد إلى المدينة فرحا بتحقيق وعد الله وتصديق رؤياه بدخول المسجد الحرام. ¶ ثم تعالوا بنا نراجع فتح مكة وهو في السنة الثامنة من الهجرة :لقد خرج النبي مع جيش الفتح في الحادي والعشرين من رمضان عام 8 من الهجرة ، ولقد تم له فتح مكة بسلام ، وبإسلام عدد كثير من الأقوام ، وتم تهديم الأصنام ، وتطهير البيت الحرام ، من أثر الشرك والآثام .وبعد إقامة الرسول في مكة أسبوعين ، توجه إلى ردع عدوان هوازن ، التي أرادت بالمسلمين سوءا بعد انتصارهم في فتح مكة وقررت أن تغزوا النبي وقومه ، لكن النبي سار لمواجهتهم وردعهم ، فكان ما كان من فشل المسلمين في حنين ، ثم ثباتهم بسكينة الله على الرسول وعلى المؤمنين ، ثم هزيمة هوازن ، ثم حصار الطائف وثقيف ، وقد استمر الحصار حتى نهاية شوال ، وكما آذن شهر ذي القعدة بالقدوم وهو من الأشهر الحرم ، عاد النبي من الطائف إلى الجعرانه ، فقسم الغنائم بين المؤلفة قلوبهم ، ثم غادرها إلى مكة معتمرا ، في شهر القعدة ، ثم عاد إلى المدينة مع أصحابة من المهاجرين والأنصار ، في أول شهر ذي الحجة .لقد سقت هذه الوقائع رغم عدم الحاجة إليها لنؤكد من جديد أنه لو كان شهر ذي الحجة محددا للحج لانتهز الرسول الوقت ولجعل تواجده في ضواحي مكة فرصة ؛ أو على مقربة منها فرصة لانتظار موعد الحج ، فلم يكن بينه وبين ذي الحجة إلا بقية من ذي القعدة ، فانتظاره كان فرصة ثمينة ، وكان محل ترحيب وحب الجميع ، لاسيما أنه الآن ظافر منتصر حتى لو أقام في مكة منتظرا ، فليست إقامته محددة كما كان في عمرة القضاء ، بل هو الآن مطلق للإقامة كيفما شاء ، وإلى متى شاء ، وفي محل ترحيب واحتفاء ، لكنه رغم هذا غادر مكة بعد العمرة ، ولم ينتظر الحج ، مع أنه على قاب قوسين من ذي الحجة. إن هذا يدلنا على أنه كان يدرك أن ذي الحجة ليس شهرا محددا خاصا بالحج بل أنه (الحج أشهر معلومات) كما قال الله فله أن يحج في أي شهر شاء والأيام أمامه تتوالى . ¶ قد تقولون لكنه لما حج حجة الوداع كان حجة في شهر ذي الحجة ، وكذلك حج أبو بكر وعلي بن أبي طالب في السنة التاسعة ، حين كلف الرسول علي بن أبي طالب بتلاوة سورة براءة على المشركين ، لكني أقول لقد اختار الرسول هذا الشهر لأنه الشهر الأوسط في الأشهر الثلاثة السرد المتوالية ، وهو دائما كان يحب التوسط في كل أمره ، ولا يعني اختياره للشهر الأوسط من الثلاثة الأشهر المتوالية ، أنه الشهر المحدد الأوحد للحج بل هو اختيار جميل من الرسول وبه اجتهد مع علمه أنه ليس هو الشهر المحدد ، وكيفلا والقرآن يقول ويتلى بلسانه على الناس وفيه يقول الله (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) إنه لسان عربي والنبي أفصح العرب ، فكيفلا يفهم النص وكيفلا يفهم أن المراد تكرر الحج أربع مرات في العام كما حدد الله العلام ، إن هذا هو الحق وسواه أوهام . ¶ هكذا أستدل بالحدث على أن الحج ليس محددا في شهر ذي الحجة ، بل وهناك دليل آخر من نفس الحدث ، وفي نفس العام الذي حج فيه النبي وفي نفس الشهر وهو ذو الحجة . هذا الدليل ينصر ما أقول ويؤكد أنه موافق للرسول ، فاستمعوا إلى الدليل القاطع والقول الفصل بلا منازع ، يقول المؤرخون : لقد خرج النبي من المدينة حاجا وحين وصل إلى (ذي الحليفه) ميقات إحرام أهل المدينة ، لبس مع أصحابه ملابس الإحرام ، ثم سار الموكب ملبيا ذاكرا حتى وصل الموكب إلى محلة (سرف) وهي منطقة بين مكة والمدينة ، وهنا أناخ الركب للراحة ، وعندها قال الرسول للصحابة ، وهو النبي المعلم المشرع لهم ، الذي يأخذ الناس منه مناسكهم . ماذا قال لهم ؟ لقد قال : ¶ (من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا) هكذا حدد أن الحج يصح لمن له هدي ، وأن شهر ذي الحجة يصح أن لا يكون موسما للحج ، ولكن للعمرة فقط ، لمن لم يسق الهدي ، مع أنهم كلهم قد عرفوا الواجب وكلهم يصدق عليه قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) وكيفلا وهم مع رسول الله الذي تنزل عليه القرآن وهو المبلغ له من الله. ومن الجميل والمهم أن نعرف أن الرسول قد اختار هذا الشهر الأوسط ، من الأشهر الثلاثة الحرم المتوالية ، لأنه يتفق مع قدرة أكبر عدد معه من المسلمين والمسلمات، فهو يصادف أواخر أيام الشتاء وأوائل الربيع من الأشهر الشمسية ، إذ يؤكد الحاسبون أن هذا الشهر العاشر من العام العاشر للهجرة ، يتقابل مع شهر مارس ، من عام 632 ميلادية ، وهو شهر معتدل الجو رائق النسيم ، ناعم الهواء ، للمسافر والمقيم ، وللموكب العظيم ، الذي يتقدمه الرسول الكريم ، أليس هو الذي يصفه ربه بقولة للمؤمنين (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة 128 ، ولهذا اختار لهم هذا الشهر المتوسط بين الأشهر الحرام والمتوسط الهواء والأنسام ، ليكون أوعى للنشاط في الأسفار والمقام ، والوصول بسلام ، وأداء المناسك بيسر واهتمام ، فصلى الله عليه وعلى من سار معه من الأصحاب والأقوام ، وعليه وعليهم من ربهم السلام ، وعلينا معهم ، وعلى من اتبعهم باحسان إلى يوم القيام. ¶ وبعد ،، فقد يقال أن هذا التعليل لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم ، شهر ذي الحجة لأداء الحج (حجة الوداع) غير واقعي ولا علمي، بل وغير متفق مع مهمة النبي الذي ينفذ ما أمر به من ربه في أشق الظروف وأصعب المضايق بلا تخير لزمن الربيع والنسيم وبلا اعتبار للمشاق والعوائق ، ألا تذكر أنه سار بالمهاجرين والأنصار إلى تبوك في أشد القيض وفي ساعة العسرة ، رغم كراهتهم وتردد بعضهم ، ليكون لهم درسا هاما بالغا في المبادرة إلى الجهاد في كل حال ، وفي مختلف الأزمان ولهذا قال الله عنهم (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) التوبة 117 ، وأنا أقول أن الاعتراض متوقع من الكثير والقليل ، ردا على ما أوردته من التعليل ، ولكني أقول أن هناك فرقا بين مسير النبي بالمهاجرين والأنصار للحج ، وبين مسيره إلى تبوك ، لقد كان المسير إلى تبوك لردع المتآمرين ضد الدين ، فلقد لاحت علامات الكيد ، وظهرت دلائل المؤامرة على المسلمين ، فلا بد من ردعها بشكل عاجل ، وبلا انتظار ولا بد من المسير إلى أعماق الوديان لإظهار قوة الإسلام والمسلمين ، وقدرتهم على ردع العدوان ، من أي جهة جاء ، وفي أي مكان ، رغم العسر والحر ، فكان لا بد من المسير في أصعب الأزمان وأعسرها ، ليزداد المتآمرون يقينا بأن الصعاب أمام المسلمين تهون ، وأن العسرة عند المؤمنين هي السبيل إلى رضاء رب العالمين ، فالعسير: في طاعته يسير وسلام ، ألم يقل (فإن مع العسر يسرا ?5? إن مع العسر يسرا?6?) الشرح 5-6 ، وهي حقيقة لا يرتاب فيها المؤمنون ، بل تدعوهم إلى الإصرار على ركوب العسر ، لينالوا اليسر في الدنيا ويوم الدين ، ولينالوا أجر الله المحسنين ، ألم يقل الله معاتبا من تخلف من الموكب ، ومبشرا من بادر ورغب ، قال : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ?119? ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين?120?) التوبة 119-120 ، إنه وعد بجزاء يسموا إلى مقام المحسنين. بل أن الآيات تتوالى بالوعد الجميل وتتوغل في التبشير من الجليل على كل عمل وعطاء كثير وقليل فيقول الله : (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) التوبة 121 ، وعود تتوالى من الله الغني الحميد ، إلى هؤلاء المبادرين من العبيد وأي جزاء أحب وأبقى وأحسن من جزاء يكون من الله ، إن هذا هو الذي تهون في نيله النفوس والأموال والأولاد والأوطان ، لأن هذه كلها نافذة فانية ، وذلك باق خالد ومبارك متوال في الدنيا والآخرة ، فكيفلا يسير بهم النبي في ساعة العسرة لينالوا مع العسر يسرا ، ومع النصب حبا من الله العلي العظيم. وعليه فإن الدرس الذي أراده الله لعباده في تبوك ، والأجر الحسن الذي أراد أن يكتبه لهم لا بد أن يكون في ساعة العسرة ، ليتوب عليهم ، إنه بهم رءوف رحيم ، وهو التواب الرحيم . فذلك مسير : له عقبى حسنه للمؤمنين ، وإرهاب للمتآمرين والكائدين ، فكان لا بد من مسير يبهر ، وبه اليقين والصبر يظهر ، وبه الصادق يؤجر ، مسير به العدو يقهر ، والمتآمر يدحر ، وأحلامه تتلاشى وتتبخر ، أمام هذا الزحف النبوي الذي استسهل ما تعسر .فكان لهم جميعا الخير من الله والتوبة والرحمة وذلك خير ما يدخر ، وذلك هو الفوز الأكبر .وهكذا كان الفرق بين مسير الحج ومسير الجهاد . وهكذا كانت حجة الوداع في العام التالي لعام تبوك . كانت ذات مسير يفوح باليسر والعبير بينما كان السابق يفوح بالحر والهجير،، ولهم من الله أجر كبير .
Shafi da ba'a sani ba
هل القرآن تنزل سورا أم آيات متفرقات- الجزء الاول
لعل من المهم أن نحدد من خلال القرآن كيف تنزل القرآن هل كان يتنزل آيات متفرقة ومع قضايا الأفراد متفقة؟ لعل هذا الرأي لا يتفق مع صريح آيات القرآن ولا يليق بجلال الرحمن الذي يعلم ما يكون وما كان ويعلم حاضر وماضي ومستقبل الإنسان. نعم إن من يعلم السر وأخفى، وما يأتي وما مضى، ويعلم ما في الأرض وما في السماء، وما تحت الثرى، لا يصح أن يعامل معاملة عاقل الحي الذي يفني السكان بحكمه فيما يطرأ من الأعمال ويواجه كل حدث بانفعال ويغير موقفه مع الأحوال. كلا إن معاملة الله بهذا الأسلوب محال فهو الله ذو الكمال المطلق والجلال، وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)، فسبحان الله عما يصفون، هو (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم)، وبه كل شيء يقوم وعلى هذا فإن القرآن لا بد أن ينزل بطريقة تليق بالعليم الحكيم، ولا بد أن يلقى على الرسول بأسلوب أسمى مما يتوهمه الواهمون وما يتصورون، (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون).
أليس هو الذي يصف نفسه بقوله: (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور* ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) [الملك: 13-14]. (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء* هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل عمران: 5-6].(وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) [الأنعام:3].وعليه فهو يعلم ما سيكون كما علم ما كان، وبالتالي فهو بعلمه ينزل القرآن، ولا يتوقف إنزال الآيات على حركة الإنسان ولا على أحداث الزمان؛ كيف وهو خالق الإنسان والزمان. وهكذا تكون هذه الصفات لله سبحانه وتعالى تالية لكل حديث عن القرآن في سور القرآن فهو يقول في أول سورة آل عمران: (الم(1)الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2)نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) [آل عمران: 1-4].ثم تأتي الآيات التي أوردناها أولا وهي: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء* هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ويقول في أول سورة طه: (طه(1)ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى(2)إلا تذكرة لمن يخشى(3)تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) [طه: 1-8].وكذلك جاء في آخر سورة الحشر، فبعد الحديث عن القرآن يورد عددا من أسمائه الحسنى التي تدل على العلم والتدبير فقال تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم) .. إلى آخر السورة. وهكذا هو الحال في أول سورة الرعد، وأول سورة السجدة، وأول سورة غافر، وأول سورة الشورى وفي آخرها، وأول سورة هود، وأول سورة يونس، وأول سورة آل عمران وكذلك سواها، ولكي لا أطيل السرد للسور فقد قال تعالى في سورة النمل مخاطبا النبي المرسل: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) [النمل:6]، وختمها بقوله: (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) [النمل:93].
لا أريد من سرد هذه الآيات ولا من تعداد هذه السور أن تمر عليها أيها القارئ مرور العابر، ولكن أن تقرأنها قراءة المتدبر المتذكر؛ حتى لا تكون ممن قال الله عنهم: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) [محمد:24]، (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء:82].وبعد؛ فماذا عساه أن يقول القارئ بعد هذه المقدمة الطويلة؟! لعله سيقول: ماذا تريد بهذا الكلام أمام هذا "موضوع إنزال آيات القرآن"؟ لكني أريد أن أقول إن الله الذي هذه صفاته، وذلك شأنه، وهو الله العليم بكل شيء وخالق كل شيء، والقدير على كل شيء ، إن من هذا شأنه لا يصح أن تقول أمام قرآنه - سبحانه سبحانه وتعالى علوا كبيرا - أن يثيره شيء أو حدث ليلقي علينا الآيات، وحاشاه أن يملي عليه إنسان وهذا هو الذي يجرده من العلم والقدرة، وينكر اختصاصه بالعزة والحكمة وباللطف والخبرة، وبتدبير كل مجرة وذرة وإحاطته علما بكل شيء وإحصائه علما لعمل كل حي، وكيف لا وهو الحي الذي لا يموت، ولا يعجزه شيء ولا يفوت (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) [سبأ:3]. فأين تذهبون؟، وكيف تجعلون القرآن عضين؟ ها أنذا دعوتكم إلى الذهاب إلى صراط يليق بالله ذي الجلال، ينزه الله ربكم عن الانفعال، ويقدره حق قدره، ويفرده وحده بالعلم والقدرة. كيف وقد أوضح لنا هو في القرآن كيف أنزل القرآن، وبين ذلك بأوضح بيان، ولم يدع مجالا للشك والظنون، بل وضع الأدلة التي تقود إلى اليقين. وها هي الأدلة أضعها بين يديكم وعلى مختلف الدلالات الصريحة.
ولنبدأ المشوار من أول السور الكبار، إنها سورة البقرة، ففيها الدليل والبرهان الذي يدلنا كيف أنزل القرآن. يقول الله تعالى في الآية 23: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) [البقرة:23]. أسمعتم ماذا قال الله؟. لقد طلب من الناس أن يأتوا بسورة، ولم يقل بآية. إذن فالقرآن كان يتنزل سورا وليس آيات.لا تتعجلوا ولا تنزعجوا فالمشوار ابتدأ فتريثوا حتى نصل إلى المنتهى. تعالوا معي إلى سورة أخرى لنجد أن إنزال القرآن سورا كان قضية معروفة معهودة بين النبي ومن معه من المؤمنين بل ومن يعاصره من المنافقين فكلهم كانوا للسور ينتظرون، ولإنزالها كاملة يعهدون، وبهذا كانوا يتحدون، في جدهم أو في سخريتهم بما يسمعون. وفي سورة التوبة الدليل الذي يقطع كل ريبة، فلنسمع كيف يسجل الله كلام المنافقين المستهترين وكيف يرد عليهم ويصفهم بالكافرين، يقول تعالى: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون) [التوبة:64]. ماذا قالوا؟ ماذا حذروا؟ ماذا حددوا؟ لقد قالوا وحذروا وحددوا تنزل سورة، نعم سورة، هكذا قال المنافقون. ومعنى هذا أن المعنى أن المعهود بين النبي وبين الناس أن القرآن إنما كان يتنزل سورا وليس هناك أسلوب سوى هذا ظاهرا. ثم قد يقال: إن هذا بحسب الغالب ولكن الأغلب أن الإنزال كان بالآيات..
ولكن لا تتعجلوا فلنتأمل ولنواصل وإلى منتصف السورة ننتقل لنجد إنزال السور ثانيا بشكل متأصل، يقول الله في الآية 86 وهو حديث عن المنافقين (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين) [التوبة:86].أسمعتم ما يقوله الله؟؟ لقد سجل هنا عادته وسنته في إنزال القرآن، فقال (وإذا أنزلت سورة). إذن فهي سنة وعادة استنها الله وثبتها في إنزاله القرآن، ولهذا عهدها الناس أجمعون حتى المنافقون، فإذا هم بإنزال السور يتحدثون، ومنها يحذرون. إذن فهي سنة لم تختلف، وطريقة مألوفة لم تنحرف، ولهذا فسنجدها تلوح في آخر السورة واضحة لمن بالحق يعترف، فلنقرأ: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) [التوبة:124-125].لنتأمل الآيتين نجد أن العبارات يلوح منها أن الناس كانوا يعتادون إنزال السور، وينتظرون منها ما يجد من الخبر، فالمؤمن يستبشر والكافر يسخر، فإذا المؤمن يزداد بالسورة إيمانا ، وإذا الكافر يزداد بها خسرانا، وهكذا كانت كل سورة تحدث أثرا واضحا في الفريقين المتضادين، وكلاهما كان ينتظر ما يستجد من الذكر المبين.
وعلى هذا نستطيع أن نؤكد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان كلما نزلت سورة عليه من ربه يزداد بها اطمئنان قلبه، ثم يهب لإبلاغها على الناس باهتمام ورغبة فيجمعهم إليه متسع بالرغبة والرهبة، ويتلوا عليهم ما تلقاه ويفيض عليهم بحبه، فإذا هم فريقان منهم من يسخر، ومنهم من يستبشر، منهم من يستنير، ومنهم من يلج في الكفور. بل إن الفريق المريض ينسحب من الاجتماع، وينصرف عن الاستماع، ويفر إلى دنيا اللهو والمتاع. وهذا ما توضحه الآية التالية بكل وضوح وتصور حالة المنافقين في الاجتماع، فلنقرأ: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد). أنظروا إلى هذا التصوير الدقيق. إنه يرسم لنا حالة فريق من المرضى ينظر بعضهم إلى بعض في زحمة الاجتماع، في قلق يشير بعضهم إلى بعض إشارات الضيق والحزن متسائلا (هل يراكم من أحد) فإذا تأكدوا أن المؤمنين مشغولين عنهم بالاستماع والخشوع للقرآن، قرروا الخروج من الاجتماع وانصروفا إلى شأن آخر غير القرآن، وهذا ما يخبرنا الله به بقوله بعد ذلك: (ثم انصرفوا) ثم ماذا؟ ها هو يدعو عليهم ويدفعهم بما يستحقون فيختم الآية بقوله: (صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) [التوبة:127].
إذن فهكذا كان حال الناس عند إنزال القرآن وهكذا أسلوب إنزاله في كل آن، إنه يتنزل سورا والنبي يدعو الناس لإبلاغهم ما نزل وعليهم يقرأ، فإذا فرغ من التلاوة انفض الاجتماع وقد ترك أثرين مختلفين: أثر من النور والإيمان للمؤمنين، وأثر من الكفر والخسران للمنافقين. بل إن منهم من ينفض قبل أن تقضى تلاوة السورة ويتسلل بأشنع صورة، فإذا هم فعلا أولوا قلوب مصروفة عن الحق مختوم عليها بختم النفاق، وبهذا كانوا واستمروا قوم لا يفقهون، إن المنافقين هم الفاسقون. وبهذا تدرك أن القرآن يسجل الحالة بأدق صورة، وتوقن أن القرآن كان يتنزل سورة سورة، ويجمع إليه كل حاضر من المؤمنين ليستمع جديد التنزيل ليزداد إيمانا ويستنير له السبيل.
وإذا كان نزول القرآن سورا أمرا معهودا للمنافقين كما عرفنا من الآيات فإنه كذلك، أو معهود للمؤمنين. وها هو يتضح جليا في حديثهم فيما بينهم وفي معرض تمنياتهم اليومية، فنجدهم يرجون من الله ما يزيدهم ثباتا، فلنسمع حديثهم كما يحكيه الله: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم) [محمد:20].أليس في حديث المؤمنين الذي ينقله إلينا رب العالمين ما يؤكد لنا أن القرآن كان يتنزل سورا؟ وأن هذا أمر معهود للنبي وللمؤمنين، بل ولكل المعاصرين للوحي وللنبوة من المنافقين والكافرين؟ إنه أمر عهدوه من الله وعليه عودهم الله فهم لا يتحدثون إلا عن سور تتنزل، ولا يرجون إلا سورا توحى وترتل، ولا يحذر المنافقون إلا سورة تكشف ما في قلوبهم. إذن فالأمر واضح بين الجميع، والقضية معهودة لدى المعرض والسميع، ولدى المنافق والمطيع.
هذا وللعلم فإن السورتين التي أخذنا منها الآيات الدالة على دعوانا هما سورة التوبة وسورة محمد، وهما سورتان مدنيتان، والمدينة هي التي بدأ فيها التشريع والأحكام التي تخص العلاقات بين الناس وتنظيم الحياة على أقوى الأساس. وهذا حال يدعو إلى التساؤلات وإلى إيضاح مختلف القضايا والحالات من خلال إنزال عدد بسيط من الآيات تخص قضية معينة أو بعض التساؤلات ولكن الأمر لم يكن كذلك، بل إنه رغم ذلك الداعي إلى إنزال آيات ظل القرآن يتنزل سورا تحيط بكل القضايا بدون انتظار لما يحدث من أحوال وبدون انفعال بما يتجدد من الأفعال أو ما يتردد من سؤال.
Shafi da ba'a sani ba
كيف لا والله يعلم كل حال؟ وفعل وسؤال، ويدري بما نخفي وما نعلن من الأعمال، وما ننطق به أو نكتمه من الأقوال، فلا يحتاج إلى من ينبهه إلى الإنزال، ولا هو محتاج ما يدعوه لإيضاح أمر أو إشكال، هو هو المحيط بكل شيء علما، والحفيظ على كل شيء والأحسن حكما، وبهذه الصفات والأسماء الحسنى، أنزل القرآن المبين، الذي هو ذكر للعالمين، فيه بيان لكل شيء، وبه يسعد كل حي. فكل سورة تحمل إلى الناس علما شاملا، وبيانا كاملا، وتجيب من كان سائلا، وتوضح السبيل لمن كان عاملا، فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء. (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين)
وبعد: ألم يتقرر لديكم أيها القراء أن القرآن كان يتنزل سورا؟. بلى، فإن أردتم أن نزيد الموضوع يقينا ونورا، فلنقرأ ما ورد في سورة يونس: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [يونس:37]). فهو منزل من رب العالمين الذي لا يخفى عليه منا شيء أينما نكون، فهو المنزل القرآن المبين، وهو خير الحاكمين، فكيف يرتاب المفسدون؟ (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [يونس:38])لقد أكد هنا أن الافتراء محال، ورد على المفترين بأوضح المقال، فقال: (فأتوا بسورة مثله) لقد أكد أن الإنزال إنما هو سور كاملة ولذلك فهو يتحداهم أن يأتوا بسورة مثله كاملة البيان بلا إيهام، واضحة البداية والختام، تسرد الأحداث والأحكام، بإتقان وإحكام، بلا اختلاف ولا تقصير، ولا خفاء ولا اضطراب مثير، كلا لا يمكن أن يكون ذلك الكمال إلا من الله العليم الخبير. ولهذا فإن الله يفتتح سورة هود بهذا الافتتاح المثير المنير: (الر .. كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [هود:1]). فهو كتاب منزل بإحكام، مفصل السور بالتمام واهتمام، وهو يتنزل بآيات متعددة لا بآية واحدة، وكيف لا وهو (من لدن حكيم خبير)، فهو الذي لا يقول ولا يفعل إلا الحكمة والكمال، وهو الخبير الذي يعلم ما يحتاج الخلق قبل السؤال. فكيف يحتاج إلى من ينبهه إلى ما يقال؟ كلا إن هذا هو الخبال، الذي لا يليق بذي الجلال، ولهذا كأنه يفند المكذبين ويندد بالمفترين، ويعرض أقوالهم المرتابة بأسلوب مهين، فيقول: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [هود:13]). إن المدعين على النبي أنه افترى القرآن، مدعوون للإتيان بمثله ، بعشر سور مثله في الكمال والجمال والإحكام، وبالتفصيل والتبيين الذي يزيل الإبهام، هل تستطيعون؟ ؟ كلا لا يقدرون حتى ولو دعوا كل أنصارهم من الخلق وافتروا جميعا على الحق، إنهم غير قادرين، فهم لا يستجيبون. وكيف يستجيبون وهم عاجزون؟ ولهذا فإن القرآن هو الحق الذي أنزله الله، وهو الله الحق بالحق، وهو يقول الحق، ويهدي إلى الحق، فمن ذا الذي يستطيع أن يتسجيب لأن يقول مثل قول الله الحق؟ لم يستجب أحد، ولا أحد نطق، ولهذا قال الله مخاطبا كل مؤمن في كل زمان: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون [هود:14]).
وهكذا يتأكد أن القرآن نزل سورا، وأن المعهود لدى الجميع أنه يتنزل من الله سورا مرتلة، ، لا كلمات منفصلة، كلا فالله الحكيم الخبير هو الذي أنزله. والآن وقد اتضح الدليل القطعي الذي يدل دلالة مطابقة على ما أردناه فإن لنا دليلا آخرا يدل دلالة ضمنية على ما أوردناه، ذلك هو قوله تعالى في سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأناه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه) [القيامة:19].أربع آيات تدل دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرك لسانه بالقرآن عند تنزله، لعله يحفظ ما يتلى عليه، ولعله يستجمع ما يلقى عليه.إن في هذا دليلا على أن القرآن كان يتنزل سورا عليه فهو يحاول أن يلحق التلاوة بتحريك لسانه، أما لو كان يتنزل آيات معدودة أو آية واحدة لما احتاج إلى هذا العناء والمكابدة، ولما دعاه الله إلى هذا السلوك وأرشده؛ لأن المعروف أن الآيات أو الآية تحفظ بسرعة ولا تحتاج إلى متابعة ومسارعة، ولقد عهدنا العرب في زمن النبي وفي قبله يحفظون القصائد الكاملة والمقاطع والأبيات المتعددة بلا عسر، ويروونها على الناس بيسر فكيف لا يحفظ النبي وهو العربي الفصيح اللسان، المتمرس بالبيان؟ فكيف بالفتى القرشي الذي فاق على الأقران؟
إذن فالقرآن كان يتنزل سورا كاملة، ولهذا كان النبي يحرك لسانه ليمسك بالآيات المتواصلة، ويجمع الفواصل المرتلة، فنهاه ربه عن هذه المحاولة وطمأنه بأن ربه الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، سيتولى جمع القرآن في قلب رسوله المكرم وسيقرن بين آياته في قلبه حتى تستقر السورة وتطبع فيه بقدرة ربه، (إن علينا جمعه وقرآنه) عليه وحده الجمع والقرن بين الآيات التي تكون السور، فإذا انتهت تلاوة السورة، وقرنت الآية بالآية، وأصبحت كاملة وبلغت النهاية، فما على النبي إلا أن يتبع هذا القرآن الذي قرنه الله في قلبه بإتقان (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) وهكذا لا ينتهي النبي من غمرة الوحي حتى تكون السورة قد حلت في قلبه كاملة الآيات، محفوظة الجمل والكلمات، مرسومة الحروف والشكلات، واضحة الدلالات. فما عليه إلا اتباع ما أملي، وإلا تبليغ ما ملي، بشكل مبين جلي. وكيف لا والله يعطف على ذلك بثم للدلالة على علو مرتبة ما يليها من الشأن، فيقول: (ثم إن علينا بيانه). نعم إن على الله وحده البيان لمحمد ولمن استمع القرآن، فإذا هو نور يتلألأ للقلوب، وإذا هو ينير أولي الألباب. وإذن فإن الحقيقة تشع من آيات سورة القيامة بأوضح الدلالة، وتعلن أن القرآن كان ينزل سورا كاملة. ولقد تأكد هذا في سورة طه، حيث يقول الله: (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) [طه: 113]. فهو عربي مبين، وهو متنوع التصريف والتلوين، ليكون هاديا للمتقين، وعلما للمتذكرين، ولا يمكن أن يكون القرآن هكذا إلا إذا تنزل بما يبين، وهذا لا يتم إلا بسور كاملة تحتوي على البيان الكامل، وتفصح عن الكلام الحافل، بكامل البيان، وشامل العرفان، أما أن يقطع إلى آيات متباعدة، أو يمزق التنزيل على آية واحدة، فهذا لا يليق بأصحاب البيان، ولا يتفق مع أساليبه المتعاهدة.
فكيف نسلم لشاعر جاهلي أنه لا يمكن أن يمزق القصيدة ولا يفرق أبياتها؛ لأن هذا أمر معيب عليه، ثم نلصق هذا العيب بالله وندعي أن القرآن تنزل ممزقا من لديه ، إن القول بأن القرآن تنزل ممزق الآيات والفواصل متباعد البيان مقطع الكلام غير متواصل، إن هذا لا يليق بالله الكامل. ولهذا فإنه يعلن تعاليه عن هذا الواهم الغافل فيقول عقب الآية السابقة: (فتعالى الله الملك الحق). نعم إنه يتعالى عن الخلق، فهو العالم الحق والملك الحق، فلا يمكن أن ينزل القرآن إلا بما هو أليق، ولا يمكن أن يمزق. ولهذا يكمل الآية فيقول: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) [طه:114].إنه تكرير للنهي الموجه الجانبي وتحديد للوحي بأنه قرآن متكامل البنيان، متتابع الفواصل، يتنزل سورا كاملة تتلى من البداية إلى النهاية بشكل متواصل.
وإذن فعلى الرسول أن يتلقى القرآن الذي يملى غير عجول وعليه الإقبال على القرآن وأن يصغي باستسلام حتى يقضى ما يتلى عليه وأن يسأل الاستزادة من علم الله الوسيع، ويستنير به وينير كل من تلقاه بقلب سميع ففيه البيان والعلم للمتقين ولن يكون في القرآن علما من علم رب العالمين، إلا إذا كان منزلا سورا تبين. فلننزه القرآن من أن يكون عضين، وليتنزه الله من أن ينزل ما لا يستبين، سبحان الله عما يصفون.
وبعد: فإذا أردتم أن نستدل على ما ذهبنا إليه بطريق آخر، فلنعد إلى نفس السور فإن نصوصها تفصح عن الدليل بنور يبهر. إنه نور يسطع، ومن سورة النور يطلع النور، فلتقرأنها من أولها لتستنير: بسم الله الرحمن الرحيم (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) أسمعتم الخبير؟ إن الله نور السماوات والأرض يعلن الخبر فيقول: (سورة أنزلناها وفرضناها)، فهل بعد هذا البيان من عالم الغيب والشهادة تقولون أن القرآن مقطع الإنزال على آية آية؟؟ كلا إن النص يعلن أن القرآن أنزل سورا فيها الآيات بنور الله متكاملة البيان، من البداية حتى النهاية.
فالسورة تبدأ ولا يتوقف تدفقها حتى تنتهي، وهكذا كان يتلقاها النبي من الرحمن فنجد أن ما يتلى عليه قط طبع في قلبه بشكل لا يقبل النسيان. ثم لنقرأ قوله تعالى بعد ذلك: (وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). وهذا هو الحق فالبيان لا يأتي في كل حال، من كلام مقطع الأوصال بلا اتصال، بل بآيات تتواصل بلا انفصال، حتى تفي بالغرض الذي يريده ذو الجلال. كما أن التذكر لا يتوفر بكلام مقطع مبتور، بل بكلام متواصل الألفاظ والمعاني يليق بالله العليم القدير.
وبعد: فلعل سورة النور قد أنارت لنا الطريق بأقوى دليل، وقطعت كل قول في أسلوب التنزيل، وكيف لا وهو من الله العظيم الجليل؟! ولهذا؛ فلأنه يصف نفسه في السورة (الله نور السماوات والأرض)؛ فهل في النور انقطاع؟؟ كلا بل هو متصل يملأ الأصقاع. ثم إن الله يصف نوره بقوله: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) [النور:35]. إن النور متكامل شامل، ولكل ذرة في الوجود واصل، وكل الخلق من منهله ناهل. وهو من القوة والوضوح، بحيث يصل الأعماق قبل السطوح، ويتخلخل في الباطن قبل الظاهر، وينير الأبصار والبصائر، ويضيء العزير قبل البصير، ويبهج العيون ويشرح الصدور، إنه باختصار كما يقول الله: (نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء). ومشيئته تبع علمه، فمن علم الله أنه مؤمن متذكر، وأنه مسبح مستغفر، هداه إلى نوره، وجعله من عباده المهتدين الناعمين بخيره. ومن علم الله أنه أعمى مستكبر، مستغن عن ربه مستنفر، صرف عنه الهدى والنور وجعله في (ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها). إنه منقطع عن الله نور السماوات والأرض، بعيد عن ربه مشغول بالقرض، فكيف يصله النور؟! وهو في الضلال مغمور، وكيف يجعل الله له سبيلا إلى النور؟! كلا: لقد علم الله أنه نافر كفور، فلم يجعل له نصيبا من عطاء ربه الغزير، (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)، وأنى يكون له نور وقد انفصل عن نور السماوات والأرض.
وهكذا فإن الله العليم، يهدي إلى نوره القلب السليم، ويصرفه عن الكفور الأثيم، (ويضرب الله الأمثال للناس). فلقد ضرب لنا المثل على نوره، وأعلمنا أنه يصل إلى كل شيء وإلى كل ذرة، بصورة واضحة منيرة. وهكذا جاء القرآن واضح النور، ساطع الضوء يشرح الصدور، ويبدد الديجور، وينير سبيل كل المستجيبين لله العليم القدير، وأنه بالاستجابة لجدير، والطاعة والاتباع لهداه خير كثير. إن العلم كله له، والهدى هداه، ومن اهتدى بسوى الله تاه. ولهذا يختم الآية بقوله: (والله بكل شيء عليم). ومن هذا شأنه وهذه صفته فهو الهادي إلى الصراط المستقيم، وهداه هو الهدى وعلمه هو العلم الذي به الحياة تصلح وتستقيم، ويسعد به كل قلب سليم، وكل سمع وسامع كريم.
Shafi da ba'a sani ba
وبعد: أليس الآيات تنزل كاملة متوالية في كل سورة من البداية حتى النهاية بلا انقطاع؟؟ بلى بلى هذا هو الحق بلا نزاع. ولأجل هذا جاء من الله التأكيد على أن السورة هذه آيات متوالية حتى النهاية، فقال في الآية 34 منها: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين)، وكرر هذا التأكيد في الآية 46 منها فقال: (لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). فهل الهدى إلى صراط مستقيم يتم بآيات مقطعة الإنزال؟، وهل البيان في الكلام العام يتم بكلمات مقطعة الأوصال؟، فكيف بكلام الله العلام!!
وهل التقطع إلا لغو لا ترضاه الأفهام ولا يليق بالعقول؟، فكيف ترضاه لربنا الجليل؟، إنه الحق والحق يقول: (فتعالى الله) عن القول الغامض العي، وقد لقب الآيات في كل شيء، وكان القرآن هو قمة البيان الذي يعجز كل ناطق حي، فلتكن على يقين بأنه تنزل سورا كاملة لها بداية ولها نهاية تحيط بموضوعها، وتفصح عن أغراضها، بما لا يدع مجالا للغواية، وبما يزيد الناس علما ودراية، ويهديهم إلى أسمى غاية.وبعد فإن سورة النور قد أنارت لنا السبيل، وقطعت كل قول بأقوى دليل، وبالنص الذي لا يحمل التأويل.
هل تريدون المزيد من الأدلة؟، على أن السور كانت تتنزل كاملة؟.لنقرأ بعضها فإن البعض يدل على الكل ويكشف عن الصور، وينسف كل ارتياب، ويسترشد به أولوا الألباب. لنبدأ من البقرة، فإن الدلالة فيها واضحة مقررة. ولنقرأ: (الم(1)ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين(2)الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون(3)والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون(4)أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) [البقرة:1-5].ماذا أفادت الآيات؟. أفادت أن المتقين هم الذين يؤمنون بالغيب، ويؤمنون بما أنزل على محمد وبما أنزل على الأنبياء من قبله. وإذن فهم لهم صفات خاصة، منها الإيمان بكل ما أنزل، ولكل من أرسل. أليس هذا هو بعض ما تقرر هنا؟.بلى.
انتقلوا إلى آخر السورة تجدوا آخرها يتصل بأولها، ومنتهاها يؤكد مبتدأها، وأن الموضوع متصل الآيات، متتابع الدلالات، لا ينفصل ولا يتمزق، ولكن يتوالى ويوثق. ولنقرأ الختام، ففيه القول الفصل الذي يقطع كل الأوهام: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) [البقرة:286].ألم يؤكد هنا ما أثبته هناك؟، ألم يعلن هنا ما أعلنه هناك؟. بلى.
وها هم المؤمنون يتبعون الرسول في الإيمان بما أنزل الله، وها هم كلهم يؤمنون بالله وملائكته "إنه الإيمان بالغيب"، وهي صفة هامة كما كانت هناك هي الصفة الهامة الأولى من صفات المتقين. ثم مع الإيمان بالله وملائكته كأنهم يؤمنون بكتب الله ورسله إيمانا بالتساوي مع الإيمان بالرسول الخاتم، لا فرق بين أحد من الرسل سواء تأخر أو تقدم. وبعد الإخبار من الله بأن الرسول آمن والمؤمنون آمنوا بذلك، ها هم يعلنون بلسان واحد الاستماع لما أنزل الله والطاعة (وقالوا سمعنا وأطعنا)، وإذا كان هذا هو شأنهم وهذا هو سبيلهم، فماذا يريدون به؟.إنهم يريدون المغفرة من ربهم لا سوى، فإن هذا هو المطلب الهام والأثير، لدى المؤمنين بالحق المنير. وكيف لا يطلبون هذا المطلب من ربهم العليم القدير؟، وهو الذي إليه وحده المصير (وإليك المصير)، فهو محاسبهم على العمل الصغير والكبير، فهو لا يخفى عليه شيء ولو تضمير، وهو العليم بذات الصدور، فالمصير إليه خطير، إذا لم يكن بالإيمان بالله ورسله هو الشفيع للعبد الصغير، وهو النور في لقاء ربه الكبير. وهكذا يكون هؤلاء هم الذين يهديهم كما وصفهم الله في الآيات الأولى بقوله: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) [البقرة:5].
إذن فالموضوع واحد، والبداية والختام تنطلق من غرض واحد، وعلى الإيمان تؤكد، وللطريق الحق تحدد، وهو تكليف لا يصعب على المؤمن الموحد؛ لأنه تكليف من الله الذي يدعو إلى دار السلام، ويعلم قدرة العباد في كل المهام، فلا يكلف إلا بما يستطيعه الإنسان، في كل زمان وفي كل مكان. ولهذا قال: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) [البقرة:286].وهي حقيقة لا تشك فيها ولا ترتاب؛ لأنه قول الله الغفور الوهاب (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، ومع أن المؤمنين يعلمون هذه الحقيقة فإنهم يتوجهون إلى ربهم داعين مستعيين، ولمولاهم خاشعين مستسلمين، فيقولون: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [البقرة:286].وهكذا تنتهي السورة بهذا الدعاء العميق الذي يعلن فيه المؤمنون عجزهم عن الوفاء إلا بعون ربهم، ويرجون فيه أن يجنبهم ما وقع فيه المنافقون بكذبهم، ولا ما وقع فيه أهل الكتاب من قبل من عدم التمسك بكتاب ربهم.ثم وأخيرا يعلن المؤمنون أن الله ربهم ومولاهم وبالتالي فإنه المدعو بنصرهم على القوم الكافرون، وإنه لدعاء يعيدنا إلى بدايات السورة التي وصفت المؤمنين مع هؤلاء الأنواع من الناس بالتفصيل، فالكافرون لا يؤمنون، فقلوبهم عليها وعلى أسماعهم ختم وأبصارهم عليها غشاوة، فهم معادون للإيمان بصورة واضحة بلا غشاوة، أما المنافقون من أهل الكتاب ومن الأعراب فهم موصوفون بصفات الكذب والخداع، والادعاء الذي يدعو إلى الاقتناع، ولكنه ادعاء يكذبه الله ويفضح، وعن طواياهم يكشف ويفصح، فإذا هم يشترون الضلالة بالهدى فهو شراء لا يربح، وهم في ظلمات من كل اتجاه تحيط بهم، وهم صم بكم عمي في دينهم، فلا يرجعون إلى الصواب، ولا يسلكون مع أولي الألباب. بل يستمرون في طريق الهلاك والتباب، ويتمسكون بالارتياب، لكن الله بهم عليم خبير، ولو شاء لذهب بكل مداركهم فهو على كل شيء قدير، وإذن فإن الناس مدعوون إلى طريق الخير والسلام، والارتفاع إلى أعلا مقام، إنهم مدعوون إلى قوله تعالى: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة:21].فعبادة الله الخالق هي ميثاق الخلق للإنسان، وهي مهمته في كل زمان ومكان، وبالعبادة يرتقي إلى التقوى التي تجعله في مصاف عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا.
ولكن كيف يهتدي إلى هذا المقام؟. إن السبيل إلى ذلك هو ما أنزله الله على عبده من الكتاب والإيمان بما فيه بلا ارتياب، فذلك مرتقى أولي الألباب، وإلا فإن النار للكافرين المآب، وهكذا تكون الآيات من البداية إلى النهاية، فالسورة تدور حول هذا الموضوع الهام، الذي يرفع الإنسان إلى أعلى مقام، ولهذا كانت السورة حافلة بمختلف آيات الأحكام، لتنظيم حياة الناس على أحسن نظام، ولتدلهم على الطريق الحق المبين، الذي يدخلهم في اسلم كافة في الدنيا ويوم الدين، ويوصلهم إلى الفوز برضوان رب العالمين، فهل بعد هذا يقال أن السورة نزلت مقطعة الأوصال؟، موزعة الآيات بلا اتصال؟. كلا: بل السورة نزلت كاملة وبأحكام مفصلة متصلة، وآيات متواصلة. وكيف لا والله علام الغيوب يعلم ما كان وما يكون، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو معنا أينما كنا، ولهذا فهو في السورة يسأل الناس سؤال استعجاب، ليؤكد غفلة الناس عن ربهم واتخاذهم من دونه الأرباب، فيقول: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) [البقرة:28].فالأرض هو سخرها وهو لنا عليها سبر، وهو الذي للأمر دبر، ولكل خلق هدى وقدر، وللأرزاق بسط وقدر، وإليه الخلق كله يضطر، وهو يجيب المضطر، بل ويعلم سؤال كل مخلوق قبل السؤال، فيأتيه الرزق في كل حال، من ربه ذي الجلال، فهو المحيط بكل شيء علما، وهو الذي يصورنا في الأرحام كيف يشاء.وبهذه الصفات العظيمة لله العليم، تنزل القرآن الحكيم، وتوالت أحكام السورة بتواصل مستقيم، بلا تفريق ولا تقسيم.
فمن ذا يستبعد ذلك على الله!! وهو الذي يصف نفسه بقوله: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم) [البقرة:255].هكذا هو الله ذو العلم والقدرة، فلتقدره حق قدره، ولنوقن أن القرآن تنزل بالأسلوب الذي يليق بمن أنزل، وأن سوره كانت كاملة تنزل. ولنعد إلى سورة البقرة لنستوضح هذه الحقيقة المقررة ولنبدأ من أول السورة: إن الله يأمر الناس في الآية 21 بقوله: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة:21].إن هنا يبدأ سؤال وهو: هل يمكن أن يأمر الله الناس أن يعبدوا ربهم دون أن يوضح لهم كيف يعبدون؟ وماذا يعملون حتى يكونوا من المتقين؟. كلا وحاشا. إذن: فإن السورة قد بينت وأوضحت، وبالأحكام والشعائر والمعاملات حفلت، ولقد توالت فيها الآيات بأسلوب جميل منير، يستسغي ويشرح الصدور، ويصلح ويزكي الناس مدى الدهور، ويحدد لهم معالم السلام في المسير.
ولو أردنا أن نستعرض ما ورد في السورة من الأحكام والواجبات، وشعائر الدين والمعاملات الدنيوية لطال المقال، ولكنا سنشير إليها باقتضاب، ونتلمس تواصلها بدون إسهاب، ولنبدأ من حيث الأمر بالعبادة، فلقد أعقب الأمر للناس بعابدة ربهم، استبعاد أن يكون ما أنزل الله على عبده يواجه بارتيابهم، فإذا أصروا على الارتياب فليأتوا بسورة من مثل القرآن، فيها الوضوح والبيان، إنهم لا يستطيعون، فهم إذن لن يفعلوا، وإذن فإن عليهم أن يكونوا بالقرآن مؤمنين، وإلا فليتقوا النار التي أعدت للكافرين، كما أن الجنة أعدت للمؤمنين، وتتواصل الآيات حتى تنتهي بالآية 29 التي سبقت هنا والتي تذكرنا بأنه خلق لنا الأرض والسماوات، وهنا كان من المناسب أن يذكرنا ببداية الإنسان على الأرض، ولنعرف أن الإنسان طارئ عليها مخلوق لغرض، فكانت آيات الخليفة وحوارها مع الملائكة، ثم آيات أمرهم بالسجود لآدم وامتثالهم للأمر في حين استكبر إبليس وكفر فإذا هو يعلن نفسه عدوا لآدم من البداية وسيظل معه حتى النهاية يغوي ويضل ويردي ويزل، ولقد كانت البداية في الجنة الأولى التي أبيح لآدم فيها أن يأكل رغدا ولما زل خرج من الجنة وهبط من مقام الحياة الآمنة إلى مستقر الحياة المؤقتة إلى حين المقدرة المتاع للبشر أجمعين فلهم فيها الحياة والموت وهم فيها بعضهم لبعض عدو مدى الزمان، وهم في خوف وأحزان، ولا ينجو من هذا إلا من اتقى وعمل صالحا بإيمان، ولا يكون هذا إلا بهدى من الله الذي كتب على نفسه أن يرسل الرسل وينزل البيان، (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون* والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة :38-39].
وهكذا بدأت المسيرة وجاء الهدى وجاءت الرسل بالبينات المنيرة ولهذا كان من المناسب أن ترد الآيات التي تذكر بني إسرائيل بعهودهم مع الله وتدعوهم إلى الإيمان بما أنزل الله على محمد عبد الله وهو مصدق لما مهعم وجاءهم مع موسى وعيسى من عند الله، وتذكرهم بالرجوع إلى الله ، ولعل في هذا إنذارا لنا لنكون على وفاء مع الله وتقوى وإلا كنا مثل بني إسرائيل، ألم يكن الله قد فضلهم على العالمين بحمل رسالة الدين، وها هو الله يحملنا حمل القرآن للعالمين، فلنكن في حمله جادين ومجاهدين، وفي إبلاغه مخلصين، وفي العمل به صادقين، لنكون من الصالحين، وإلا كنا مع الذين غضب الله عليهم وكانوا من الخاسرين ، وحلت بهم لعنة اللاعنين، فلنحذر ولنعمل صالحا ولنف بالعهد ليكون عملنا مفلحا، ولتضح لنا التحذير والنذير توالت آيات بني إسرائيل حتى تصل إىل الآية (150) من السورة. وكلها تفصح عناد بني إسرائيل مع المرسلين وتكذيبهم بالآيات والارتياب في الدين، واللجاج في كل حجاج، وتحريف الآيات النازلة عليهم وكتابة الكتاب بأيديهم بما يتفق مع هواهم وادعائهم بأن هذا كتاب ربهم، واتباعهم الشياطين في تعلم السحر ونسبة ذلك إلى سليمان، ثم تعلمهم ما يتفرق به الزوجان، واستمرارهم في اتباع ما يضر الإنسان ولا يرضي الله الرحمن، فكانوا بذلك مستحقين الذلة والغضب والهوان، والعذاب في الدنيا ويم الدين، وخلودهم في لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ومع ذلك فهم يدعون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، ويفترون على الله أن الجنة لهم محدودة، وأن الدخول لهم دون الناس، وأنهم أولياء لله دون الناس، لكن الله يكذبهم ويدفع زورهم، ويدفعهم بأن ملتهم هي أهوائهم، ويفند دعواهم أنهم أتباع إبراهيم ، ويؤكد أن إبراهيم ليس يهوديا ولا نصرانيا ولكنه إمام المسلمين وأنه لم يكن من المشركين، وكلهم يكابرون وهم يعلمون، أو هم لا يعلمون؛ لأنهم يجهلون ما عندهم من الكتاب المبين، بل لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون، وهكذا يؤكد الله أن المسلمين هم المتبعون لكل المرسلين والمؤمنون بما أنزله الله عليهم أجمعين، وأن من لم يؤمن بذلك فإنه كافر أثيم، ولا ينفعه أنه من نسل إبراهيم، فالأنساب لا تنفع ولا ترفع ولكن المهتدي هو من آمن واتبع، وإذن فلكل إنسان مع عمل وعليه يسأل (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) [البقرة:141].وهكذا تبين الآيات بأن بني إسرائيل عاطلون من العلم رغم الادعاء ، بعيدون عن الهدى ، ضالون عن سبيل الأنبياء، متبعون للهوى. وبهذا حرفوا الكتاب ولا يزالون منه في ارتياب، ولهم الذلة والعذاب.
Shafi da ba'a sani ba
فهل بعد هذا يسير المؤمنون بالقرآن، على هذا الأسلوب المهان؟! لا بد لمن يقرأ القرآن ويؤمن بما فيه أن يتبع هدى الله ولا يرتاب فيه وأن يجاهده في الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وينفق في سبيل الله ليكون على الطريق الحق سائر، وعلى هدى من الله مستنير البصاير. وعلى هذا الأساس بدأت الآيات تتوالى بالأحكام والواجبات، وتوضح سبيل الله الحق في الشعائر والمعاملات، وتضع المعالم الواضحة للأعمال الصالحات، وتعد من استقام برحمة الله وبالنصر والثبات، ثم بالنعيم والجنات، وذلك هو الفوز العظيم، الذي يعمل له العاملون، وعلى هذا الأمل الحق الجميل، والوعد الصادق من الله الجليل.. [اقرأ الآيات من 105 إلى 140].
إن حملة الدين من المسلمين هم أمة الأنبياء والمرسلين، والإسلام دين الله الحق، الذي يدين به كل الخلق، ولقد خسر من عنه فسق، فليسر المسلمون عليه في ثبات، وها هي الطريق واضحة المعالم بالأحكام والآيات، المنظمة للعلاقات أحسن نظام، الهادية إلى السلام. ولذلك بدأت الأحكام تتوالى وتتلألأ على الطريق، فإذا بالقبلة التي ارتضاها الله تحدد، ويرضاها الرسول محمد، ومن اتبع محمد، وما هذه القبلة إلا المسجد الحرام الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل، وهما يدعوان الله بأن يستقيما على الإسلام، وأن تكون ذريتهما ومن اتبعهما على الإسلام، وأن يبعث فيهم رسولا يعلمهم ويخرجهم من الظلام، وإذن فهي القبلة التي توحد الاتجاه، وتلم الشمل إلى الله، وهي التي تتجه إليها الصلاة من كل اتجاه، ولا يشذ عنها إلا الغواه، لا حجة له إلا اتباع هواه، ولهذا يؤكد الله على هذا الاتجاه الذي ارتضاه فقال للمرة الثالثة: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) [البقرة:150].
فالقبلة هذه إتمام للنعمة واتباع هدى الله هو الهدى الذي به تتم النعمة، وكيف لا وهي وجهة يعلم الله أنها الحق، والجدير بها هو الدين الحق، ومن به آمن وصدق؟؟وكما أنعم الله على الناس بالدين أنعم عليهم بالقبلة التي توحد وجهة الموحدين ولتأكيد هذا فإن الله يسوي بينها وبين إرسال الرسول فيقول: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) [البقرة:151].وهكذا يتواصل التعليم والتزكية وتأتي الآيات للمؤمنين بعلم من الله لم يكونوا به يعلمون من قبل هذه، وما العلم إلا هذه الأحكام والواجبات التي تتواصل في الآيات حتى نهاية السورة.
وكما توحدت القبلة والاتجاه في الصلاة فإنه لا بد أن تتوحد الوجهة في الحياة لتكون كلها صلاة ويكون للناس إمام يؤمهم إلى النجاة، إنه لهو الرسول والكتاب، فالرسول هو الباب والكتاب، والرسول هو الطريق السليم والنور والصواب، السائر إلى غير المآب، فليبادر إلى بيانه أولوا الألباب، وإلا كانوا سائرين إلى العذاب، كما يقول الله منزلا للكتاب: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون*إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ) [البقرة:159-160].ولكي يبين العلماء الكتاب للناس فلا بد من معرفة الله حق معرفته وتقديره حق قدره فلا يجعلون له شريكا في ملكه ولا في حكمه فهو الإله الحق والرب الذي خلق: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم) [البقرة:163].ولتأكيد هذه الحقيقة فإن الذين يعقلون يتفكرون في خلق الله رب العالمين وتدبيره لكل المخلوقين: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) [البقرة:164].
وإذا كان الله هو الخالق المدبر والمصرف لكل شيء والمسير والهادي والمقدر والممسك والمسخر فإنه هو الرب الذي لا يشاركه أحد في تدبيره وعلمه، وهو الذي يحب ويعبد ويجاب ويحمد ويهاب ويقصد، فمن ادعى أنه ند لله أو اتخذ له ندا فقد ضل وفي العذاب تردى، وعلى هذا الأساس فإن على الناس أن لا يتبعوا المضلين، وليكونوا في الأرض مهتدين بهدى الله، آكلين مما سخره حلالا طيبا، حامدين شاكرين ما أعطاه، ولا يتبعوا الشيطان فإنه العدو المبين، الداعي إلى الفحشاء والطغيان، والجهل بما أنزل الرحمن، وذلك هو الخسران، الذي يجعل الإنسان أضل من الحيوان.
وأمام هذه الدعوة للناس فإن على المؤمنين العابدين لله أن يعرفوا الحرام والحلال، وها هو البيان يأتيهم من ذي الجلال، (ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون* إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) [البقرة:172-173].وعلى هذا الطريق الواضح فليمض موكب العلم والإيمان، ويهتدى بهدى الرحمن، ولا يكتم ما أنزله الله من البيان، فإن فعل المؤمنون ذلك واشتروا متاع الدنيا والسلطان، فإن الذي اشتروه إنما هو النار والخسران، لقد علموا بالحق فآثروا الباطل والبوار، فما أصبرهم على النار، (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) [البقرة:176].
إن ورود الكتاب هنا بالألف واللام يدل على أنها للعهد فالمراد ذلك الكتاب الذي بدأت به السورة، إذن فالآيات متواصلة يلي بعضها بعضا حتى النهاية، وهكذا تستمر الآيات من هنا متوالية، فتبدأ أولا بالآية 177 والتي تجمل ما ينفصل بعدها من الأحكام وتوجز ما يأتي بعدها من المهام، فإذا هي تشير إلى أهم منابع البر عند الله العلام. يقول الله: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب). ليس الدين بالمظاهر الفارغة والشعارات الجوفاء وليس الاتجاه إلى جهة معينة هو التقوى، فالله هو المقصود لا سوى، ولهذا يواصل بيان البر بقوله: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) إن الإيمان بهذه هو البداية ولكن يجب أن تجسد بأعمال صادقة صالحة النية ولهذا قال الحق: (وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) [البقرة:177]. وهكذا تجمل الآية أهم الأحكام والواجبات والمهمات الصالحات، المنطلقة من الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبوات، وبهذا تصبح مسيرة المؤمن متصلة بميسر المرسلين فالأنبياء هم أمة المؤمن والله هو رب الجميع وهم له عابدون، والصالحات من الأعمال هي سمة الجميع، فهم أمة واحدة والله ربهم وهم له تقاة هم الصادقون.
وبهذه الروح المؤمنة والعزيمة الموقنة والقلوب الذاكرة لله وبه مطمئنة، تمضي المسيرة إلى حياة السلام والأمن في الدنيا وإلى رحمة الله ثم الجنة من خلال الأحكام والواجبات، والفروض والمهمات، التي تجملها وتبينها ما يلي من الآيات حتى آخر السورة المختومة بتلك الدعوات المعروفات، التي يلهج بها كل مؤمن في كل الحالات، إنها الآية التي تختم بقوله تعالى: (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ).إنها الآية الأخيرة من السورة [286]، إن هذا هو نتاج الأعمال، ومرتجى النساء والرجال، فالعفو والمغفرة والرحمة، هي الغاية الهامة، والمطمح الأسمى لكل مؤمن ومؤمنة، وعلى هذا الأمل، والمطمح الأجل، تتوالى آيات الأحكام والعمل بعد الآية [177] السابقة، فإذا بنا أمام آيات الديات في القتلى (ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب) ثم آيات الوصية للوالدين والأقربين، والإصلاح بين الخائفين من الجانفين، ثم تبدأ آيات الصيام وأحكامه، وصفة الصيام وأيامه، ورخصة الإفطار في المرض والسفر والوفاء بالقضاء والتزامه، وبيان شأن ليل الصيام وقيامه، والعكوف في المساجد وحرامه، ثم بيان أحكام التعامل في الأموال، وتحريم أكلها بالباطل في كل حال، وتحريم استخدامها في كل أموال الناس، فذلك من أسوأ الأعمال، ثم عودة إلى بيان البر من جديد باقتضاب، والأمر بإتيان البيوت من الأبواب، وفي كل ذلك تكون التقوى هي الغاية لأولي الألباب، وقد عرفنا في أول السورة أن التقوى هي الصفة التي يتصف بها من يهتدون بهذا الكتاب، وتستمر هذه الصفة مع ما يلي الأحكام حتى في القتال التي تأتي أحكامه هنا بصفة تجعل المؤمن ينتصر لله لا لنفسه ويقاتل لرد العدوان لا للانتقام ولإقامة الدين لا لاقتناء المغانم والأموال بل إن المال ينفقه المؤمن المحسن في سبيل الله، فإن لم ينفق فقد ألقى بماله إلى التهلكه وبلا ثمن لأنه أنفقه بغير وجه الله: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) [البقرة:195].وهل هناك أسمى للمؤمن من أن ينال بالمال حب الله ذي الجلال، إن ذلك أروع المطامح والآمال، إن الله هو الباقي وكل شيء هالك، وإليه الرجوع وهو ليوم الدين المالك. ومن أهم سبل الإنفاق الحج فهو جهاد بالمال والنفس والجهد بالإقبال من كل فج، ولهذا تأتي هنا آيات الحج والتقوى هي السمة لكل من فرض الحج، والمتبقي هو (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ).وأما من لم يذكر الله وأراد الدنيا فإنه جيفة عفنة تفسد في الأرض، إنه خاسر المعاد، فالله لا يحب الفساد، ولكنه مع ذلك يحب من يشري نفسه بمرضاته فالله رؤوف بالعباد، وبهذا الحب والرأفة للعباد فإن الله يدعوهم إلى السلام. (ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة). ثم ينذرهم باقتراب الساعة فما ذا ينتظرون بعد البيات إلا أن تأتيهم المذهلات يوم لا ينفع مال ولا بنون (وإلى الله ترجع الأمور) [البقرة:210].
وتتواصل الآيات منذرة ضاربة الأمثال لمن سبق، مؤكدة أن هدى الله هو الحق، وأن الجنة لمن صبر وصدق، ولم ينهزم ولم يرتب، بل صمد حتى جاء نصر الله (إن نصر الله قريب) [البقرة:214].ثم تعود الآيات لبيان الأحكام فتبين نوع ومجال الإنفاق، ثم تعود مرة أخرى إلى القتال، وتؤكد أنه مكتوب على المؤمنين وهو كره لهم ولكن الله يعلم ما لا يعلمون، فليقاتلوا وليثبتوا على الدين ومن يرتد عن دينه (فإنهم في النار خالدون) فالكفر والكفار مستمرون على قتال المؤمنين حتى يردوهم عن الدين، فكيف لا يجاهدون ولرحمة الله راجين، ولكي يكون المؤمن صابرا مجاهدا فلا بد أن يتطهر من بعض الآثام والعادات التي بها يردى، ولهذا بين الله أن الخمر والميسر إثم كبير، ثم أكد أن الإنفاق في سبيل الله خير من الإنفاق في الشهوات والآثام، وأن حماية الأيتام من أجل المهام وإصلاحهم من أصول الإسلام ، فليكن مال المؤمن في الصرف والإنفاق طاهرا، وليكن في كل حياته مجاهدا صابرا، ومثلما يلزم التطهر في المال فإنه واجب في النكاح والاتصال والتزاوج بين النساء والرجال، فالمشركات والمشركون يدعون إلى النار، وزواجهم لا يليق بالمؤمنين الأطهار، وإن العبيد من المؤمنين والمؤمنات خير من الأحرار، وكما يكون من الشرك طاهرا فإن الاتصال الحلال يجب أن يكون ظاهرا، ولهذا فاعتزال النساء في المحيض طهر يحبه الله، وإتيان النساء للحرث واجب فرضه الله، أما إتيانها للشهوة فإنه عبث لا يرضاه الله. وهنا تعرض الآيات للإيمان في كل الأمور، ولليمين في الزواج، فتبينه الآيات بوضوح، وعلى إثر الإيلاء من الأزواج تأتي آيات الطلاق بين الأزواج موضحة أحكامه وتفاصيله بلا اعوجاج مبينة كل أحواله بما لا يدع مجالا للجاج، ثم وقد ينفصل الزوجان بسبب غير الطلاق وهو الوفاة فحكم ذلك مفصل واضح مبين لكل احتمال.
حتى ينتهي أخيرا بإعادة الوصية بالرفق بالمطلقات والإحسان إليهن بلا إعنات فيقول: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) إنه حق على المتقين وهم الذين هذا الكتاب هدى لهم، فإنه تذكير لهم بأول السورة ليستمروا على طاعة الله والإيمان بما أنزله من الحق ويبقى حكم الله هو المرجع في أي عمل مهما دق والاعتماد عليه هو لمن شاء أن يسبق، ولتأكيد هذا نأتي إلى قصة طالوت الذي بعثه الله ملكا لبني إسرائيل فإذا هو لم يثبت معه إلا الذين يظنون أنهم ملاقوا الله فكان الله معهم وهزموا جالوت رغم قلتهم (والله مع الصابرين)، وهنا تعود السورة لتذكرنا بالآيات وبالرسول والكتاب (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) إن هذا تذكير بقوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا..) الخ الآية، فالموضوع متصل متواصل والآيات تترى بلا فاصل. بلى إن الله يذكرنا بأن الرسل متواصلة الإرسال متتالية الآجال على مختلف الأجيال وكل له شأن وله آية وعليه فإن المسيرة واحدة مهما تباعدت العصور والأزمان.
Shafi da ba'a sani ba
وتعود الآيات إلى الإنفاق وينادي الله المؤمنين أن يغتنموا الفرصة قبل أن يكونوا ظالمين، فالله هو الرزاق وهم مستخلفون، (أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) [البقرة:254].إن عدم الإنفاق كفر وظلم للنفس مبين، وإن عدم الإنفاق يعني عدم اليقين برب العالمين، ولهذا كان من المناسب أن تأتي هنا آية الكرسي بما فيها من وصف لله العلي العظيم، ثم يعقبها التأكيد على أن الدين اختيار لا إكراه، ومن اختار الطاغوت وهي الدنيا كان في ضلال وظلمات، ثم النار مصيره والمبات، لأنه نسي الله الباقي الذي يحيي ويميت وكل شيء سواه فاني، ولذلك يؤكد هذه الحقيقة في حكاية الذي أماته الله مائة عام فأيقن بعد بعثه أن الله على كل شيء قدير، ثم حكاية إبراهيم عن إحياء الموتى حتى علم أن الله عزيز حكيم، وعلى حرارة هذا الإيمان وصدق هذا اليقين تعود الآيات إلى وصف الإنفاق والمنفقين في سبيل الله، وهي غير الإنفاق في مجال الصدقة التي سبقت. إن هذه الآيات تتناول موضوع الإنفاق الذي يشغل الأيدي العاملة وينقذ المساكين والفقراء من الحاجة والمسكن ، فالإنفاق ينمو ويتضاعف والمجتمع يسعد وبرحمة الله يحف، فمثلهم (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) وهذا أقل صورة المضاعفة بل إن الله يضاعف لمن يشاء بحسب نيته وصدقه، والله واسع عليم، فلا يخفى عليه شيء ولا يظلم المنفق أي شيء بل يضاعف ويفي وله أضعاف ما أنفق في الدنيا والأخرى، فهو كجنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين أما المنافق الذي يمن ويؤذي فإنه كصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا، وتستمر الأمثال للمتق المحسن والمنافق الذي يمن حتى تصل الآيات إلى قوله: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [البقرة:274].
من هو الذي ينفق بالليل والنهار وسرا وعلانية؟. إنما هو الذي ينفق أمواله في سبيل الله فيقيم المشاريع الصناعية والزراعية والعلاجية والتعليمية يفيد الناس ويبيع لهم بأسعار مناسبة وبأرباح غير مبالغة، وهو يقدم لهم السلعة الجيدة والمتقنة الزكية والنقية من كل غش أو نقصان أو سوء ومع ذلك فهو يشغل الأيدي العاملة وينصفهم في الأجور ويرعاهم في كل حال ولا يمن عليهم ولا يكلفهم بما لا يجوز من الأعمال ولا يطلب منهم منافع تخرج عن نطاق المهمات، وتتجاوز نصوص العقد والاختصاصات، كالتصويت في الانتخابات، أو الشهادة له زورا في الخصومات، كلا فهو يتعامل معهم كمتعاقدين يفي لهم ويفون له في حدود ما تعاقدوا عليه كل في مجال عمله، بلا مجاملة ولا مماطلة فلا يأكل من خلالهم أموالا باطلة ولا يحملهم ما لا يطيقون احتماله، إنهم في أمن معه وسرور وهو معهم سعيد مجبور، وربحه موفور، وحقه وحقهم مضمون وهدفهم جميعا (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
ولتأكيد هذا المعنى الذي أوضحته لكم والذي توضحه الآيات وبه تحكم؛ تأتي الآيات التي تصور النقيض من هذا المسلك وتصف الطريق المهلك، وهي آيات الربا فإذا بها تعلن (وأحل الله البيع وحرم الربا)، وإن آكل الربا لا ينمو حتى ينتكس كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وكيف لا والله يقول: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) فآكل الربا مكروه وفاعل الصدقات محبوب، وشتان ما بين الاثنين فذلك كفار أثيم، وهذا مؤمن بالله العظيم، ولهذا فإن الله يؤذن آكلي الربا بحرب من الله ورسوله، وينصحهم بالتوبة بل بالتيسير بل بالعفو عن المعسر، واحتساب ذلك صدقة تنفعه حين لا ينفع مال ولا بنون، ولهذا يختم الآيات بقوله: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) [البقرة:281].وهنا تنتهي آيات الأموال المتبادلة، والأموال التي تنفق لتشغيل الأيدي العاملة، لتبدأ آيات تنظيم الدنيا بين الناس وتنظيم التجارة التي تدار بين الناس حاضرة، فتؤكد أن الشهادة لازمة والكتابة واجبة، وأن الشهود والكتاب محروسون من الضرر والتخويف المهين فإن فعل المؤمنون ذلك فإنه فسق عن الدين وعن هدى الله الذي علمهم والله بكل شيء عليم. فليحذر المؤمنون من الانحراف عن الحق والانجراف للهوى وليتقوا الله وليتبعوا الهدى، والله يعلم السر وأخفى، وكيف لا وهو يقول: (لله ما في السماوات وما في الأرض) فله تدبير كل شيء وحي، والناس أهم شيء، فهل يتركهم الله القادر؟ كل بل هو يخص الأعمال والخواطر. (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير) [البقرة:284].وإذن فالإيمان بالله وبما أنزل هو السبيل الآمن للمؤمن الذي يذكر الله فيوجل.
وبهذا فإن الله يعلن أن هذا هو شأن الرسول، وشأن من اتبعه وآمن معه، وعلى سبيل الله استمر فيها يعمل ويقول. إنها الآيات التي تؤكد البدايات، وتعلن أن السورة متواصلة الأحكام متتالية الآيات، بلا انفصام، لأنها من الله العالم: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) [البقرة:285]. لقد سمعوا الكتاب والأحكام وأعلنوا الطاعة والالتزام، وطلبوا الغفران من ربهم الغفور، وكيف لا وإليه المصير وهو العليم بهم والبصير، بل هو اللطيف الخبير؛ لأنه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) ورغم ذلك فإنهم يواصلون الدعاء ويعلنون الافتقار إلى الله لأنه المولى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [البقرة: 286].إن هذا هو غاية الأمل لمن اتقى ولمن بهذا الكتاب اهتدى، وهذا هو أسمى المطمح لمن آمن بالله مع الرسول واستقام على نفس السبيل، وهذا هو المآب الذي يتطلع إليه أولوا الألباب فالله مولاهم في الدارين وهو الناصر في الدنيا ويوم الدين إنه الله رب العالمين.
وبعد: هل اتضح بعد هذا العرض الطويل والبيان الكامل عن أسلوب التنزيل؟ هل اتضح لكم أن القرآن تنزل سورا وأن كل سورة كانت تتلى على الرسول كاملة، وأن آياتها متواصلة بلا انقطاع، وأن البيان فيها كامل الشعاع، لعل ذلك قد اتضح، وعن المراد أفصح، لقد حاولت الإيضاح بقدر الإمكان، ولقد أطلت مع أن الإطالة مملولة لدى أهل البيان. لكني إن أطلت في البقرة، فسوف تكون الأمثلة في بقية السور مختصرة، لقد أردت هنا أن أضع الأنموذج الأمثل، ليكون نبراسا لما يتلوه، وليكون دليلا لما يقفوه.
عسى أن ننال جميعا بذلك العلم بأسلوب تنزيل القرآن، ونكون على بينة من الأمر وبرهان، فإن ذلك شأن الباحث في كل زمان ومكان، فهو يميل للإتقان وينجذب للإحسان، ويجب أن يفيد الإنسان، ويفوز برخاء ربه الرحمن، وبقبول ما يعمله مهما كثر أو هان، وأن قبول القليل هو الفوز بالكثير، وأن الكثير المحيط هو البوار المبير، فنقول كما قال إبراهيم: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).هل القرآن تنزل سورا أم آيات متفرقات- الجزء الاول ¶ لعل من المهم أن نحدد من خلال القرآن كيف تنزل القرآن هل كان يتنزل آيات متفرقة ومع قضايا الأفراد متفقة؟ لعل هذا الرأي لا يتفق مع صريح آيات القرآن ولا يليق بجلال الرحمن الذي يعلم ما يكون وما كان ويعلم حاضر وماضي ومستقبل الإنسان. نعم إن من يعلم السر وأخفى، وما يأتي وما مضى، ويعلم ما في الأرض وما في السماء، وما تحت الثرى، لا يصح أن يعامل معاملة عاقل الحي الذي يفني السكان بحكمه فيما يطرأ من الأعمال ويواجه كل حدث بانفعال ويغير موقفه مع الأحوال. كلا إن معاملة الله بهذا الأسلوب محال فهو الله ذو الكمال المطلق والجلال، وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)، فسبحان الله عما يصفون، هو (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم)، وبه كل شيء يقوم وعلى هذا فإن القرآن لا بد أن ينزل بطريقة تليق بالعليم الحكيم، ولا بد أن يلقى على الرسول بأسلوب أسمى مما يتوهمه الواهمون وما يتصورون، (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون). ¶ أليس هو الذي يصف نفسه بقوله: (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور* ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) [الملك: 13-14]. (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء* هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل عمران: 5-6].(وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) [الأنعام:3].وعليه فهو يعلم ما سيكون كما علم ما كان، وبالتالي فهو بعلمه ينزل القرآن، ولا يتوقف إنزال الآيات على حركة الإنسان ولا على أحداث الزمان؛ كيف وهو خالق الإنسان والزمان. وهكذا تكون هذه الصفات لله سبحانه وتعالى تالية لكل حديث عن القرآن في سور القرآن فهو يقول في أول سورة آل عمران: (الم(1)الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2)نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) [آل عمران: 1-4].ثم تأتي الآيات التي أوردناها أولا وهي: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء* هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ويقول في أول سورة طه: (طه(1)ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى(2)إلا تذكرة لمن يخشى(3)تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) [طه: 1-8].وكذلك جاء في آخر سورة الحشر، فبعد الحديث عن القرآن يورد عددا من أسمائه الحسنى التي تدل على العلم والتدبير فقال تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم) .. إلى آخر السورة. وهكذا هو الحال في أول سورة الرعد، وأول سورة السجدة، وأول سورة غافر، وأول سورة الشورى وفي آخرها، وأول سورة هود، وأول سورة يونس، وأول سورة آل عمران وكذلك سواها، ولكي لا أطيل السرد للسور فقد قال تعالى في سورة النمل مخاطبا النبي المرسل: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) [النمل:6]، وختمها بقوله: (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) [النمل:93]. ¶ لا أريد من سرد هذه الآيات ولا من تعداد هذه السور أن تمر عليها أيها القارئ مرور العابر، ولكن أن تقرأنها قراءة المتدبر المتذكر؛ حتى لا تكون ممن قال الله عنهم: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) [محمد:24]، (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء:82].وبعد؛ فماذا عساه أن يقول القارئ بعد هذه المقدمة الطويلة؟! لعله سيقول: ماذا تريد بهذا الكلام أمام هذا "موضوع إنزال آيات القرآن"؟ لكني أريد أن أقول إن الله الذي هذه صفاته، وذلك شأنه، وهو الله العليم بكل شيء وخالق كل شيء، والقدير على كل شيء ، إن من هذا شأنه لا يصح أن تقول أمام قرآنه - سبحانه سبحانه وتعالى علوا كبيرا - أن يثيره شيء أو حدث ليلقي علينا الآيات، وحاشاه أن يملي عليه إنسان وهذا هو الذي يجرده من العلم والقدرة، وينكر اختصاصه بالعزة والحكمة وباللطف والخبرة، وبتدبير كل مجرة وذرة وإحاطته علما بكل شيء وإحصائه علما لعمل كل حي، وكيف لا وهو الحي الذي لا يموت، ولا يعجزه شيء ولا يفوت (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) [سبأ:3]. فأين تذهبون؟، وكيف تجعلون القرآن عضين؟ ها أنذا دعوتكم إلى الذهاب إلى صراط يليق بالله ذي الجلال، ينزه الله ربكم عن الانفعال، ويقدره حق قدره، ويفرده وحده بالعلم والقدرة. كيف وقد أوضح لنا هو في القرآن كيف أنزل القرآن، وبين ذلك بأوضح بيان، ولم يدع مجالا للشك والظنون، بل وضع الأدلة التي تقود إلى اليقين. وها هي الأدلة أضعها بين يديكم وعلى مختلف الدلالات الصريحة. ¶ ولنبدأ المشوار من أول السور الكبار، إنها سورة البقرة، ففيها الدليل والبرهان الذي يدلنا كيف أنزل القرآن. يقول الله تعالى في الآية 23: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) [البقرة:23]. أسمعتم ماذا قال الله؟. لقد طلب من الناس أن يأتوا بسورة، ولم يقل بآية. إذن فالقرآن كان يتنزل سورا وليس آيات.لا تتعجلوا ولا تنزعجوا فالمشوار ابتدأ فتريثوا حتى نصل إلى المنتهى. تعالوا معي إلى سورة أخرى لنجد أن إنزال القرآن سورا كان قضية معروفة معهودة بين النبي ومن معه من المؤمنين بل ومن يعاصره من المنافقين فكلهم كانوا للسور ينتظرون، ولإنزالها كاملة يعهدون، وبهذا كانوا يتحدون، في جدهم أو في سخريتهم بما يسمعون. وفي سورة التوبة الدليل الذي يقطع كل ريبة، فلنسمع كيف يسجل الله كلام المنافقين المستهترين وكيف يرد عليهم ويصفهم بالكافرين، يقول تعالى: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون) [التوبة:64]. ماذا قالوا؟ ماذا حذروا؟ ماذا حددوا؟ لقد قالوا وحذروا وحددوا تنزل سورة، نعم سورة، هكذا قال المنافقون. ومعنى هذا أن المعنى أن المعهود بين النبي وبين الناس أن القرآن إنما كان يتنزل سورا وليس هناك أسلوب سوى هذا ظاهرا. ثم قد يقال: إن هذا بحسب الغالب ولكن الأغلب أن الإنزال كان بالآيات.. ¶ ولكن لا تتعجلوا فلنتأمل ولنواصل وإلى منتصف السورة ننتقل لنجد إنزال السور ثانيا بشكل متأصل، يقول الله في الآية 86 وهو حديث عن المنافقين (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين) [التوبة:86].أسمعتم ما يقوله الله؟؟ لقد سجل هنا عادته وسنته في إنزال القرآن، فقال (وإذا أنزلت سورة). إذن فهي سنة وعادة استنها الله وثبتها في إنزاله القرآن، ولهذا عهدها الناس أجمعون حتى المنافقون، فإذا هم بإنزال السور يتحدثون، ومنها يحذرون. إذن فهي سنة لم تختلف، وطريقة مألوفة لم تنحرف، ولهذا فسنجدها تلوح في آخر السورة واضحة لمن بالحق يعترف، فلنقرأ: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) [التوبة:124-125].لنتأمل الآيتين نجد أن العبارات يلوح منها أن الناس كانوا يعتادون إنزال السور، وينتظرون منها ما يجد من الخبر، فالمؤمن يستبشر والكافر يسخر، فإذا المؤمن يزداد بالسورة إيمانا ، وإذا الكافر يزداد بها خسرانا، وهكذا كانت كل سورة تحدث أثرا واضحا في الفريقين المتضادين، وكلاهما كان ينتظر ما يستجد من الذكر المبين. ¶ وعلى هذا نستطيع أن نؤكد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان كلما نزلت سورة عليه من ربه يزداد بها اطمئنان قلبه، ثم يهب لإبلاغها على الناس باهتمام ورغبة فيجمعهم إليه متسع بالرغبة والرهبة، ويتلوا عليهم ما تلقاه ويفيض عليهم بحبه، فإذا هم فريقان منهم من يسخر، ومنهم من يستبشر، منهم من يستنير، ومنهم من يلج في الكفور. بل إن الفريق المريض ينسحب من الاجتماع، وينصرف عن الاستماع، ويفر إلى دنيا اللهو والمتاع. وهذا ما توضحه الآية التالية بكل وضوح وتصور حالة المنافقين في الاجتماع، فلنقرأ: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد). أنظروا إلى هذا التصوير الدقيق. إنه يرسم لنا حالة فريق من المرضى ينظر بعضهم إلى بعض في زحمة الاجتماع، في قلق يشير بعضهم إلى بعض إشارات الضيق والحزن متسائلا (هل يراكم من أحد) فإذا تأكدوا أن المؤمنين مشغولين عنهم بالاستماع والخشوع للقرآن، قرروا الخروج من الاجتماع وانصروفا إلى شأن آخر غير القرآن، وهذا ما يخبرنا الله به بقوله بعد ذلك: (ثم انصرفوا) ثم ماذا؟ ها هو يدعو عليهم ويدفعهم بما يستحقون فيختم الآية بقوله: (صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) [التوبة:127]. ¶ إذن فهكذا كان حال الناس عند إنزال القرآن وهكذا أسلوب إنزاله في كل آن، إنه يتنزل سورا والنبي يدعو الناس لإبلاغهم ما نزل وعليهم يقرأ، فإذا فرغ من التلاوة انفض الاجتماع وقد ترك أثرين مختلفين: أثر من النور والإيمان للمؤمنين، وأثر من الكفر والخسران للمنافقين. بل إن منهم من ينفض قبل أن تقضى تلاوة السورة ويتسلل بأشنع صورة، فإذا هم فعلا أولوا قلوب مصروفة عن الحق مختوم عليها بختم النفاق، وبهذا كانوا واستمروا قوم لا يفقهون، إن المنافقين هم الفاسقون. وبهذا تدرك أن القرآن يسجل الحالة بأدق صورة، وتوقن أن القرآن كان يتنزل سورة سورة، ويجمع إليه كل حاضر من المؤمنين ليستمع جديد التنزيل ليزداد إيمانا ويستنير له السبيل. ¶ وإذا كان نزول القرآن سورا أمرا معهودا للمنافقين كما عرفنا من الآيات فإنه كذلك، أو معهود للمؤمنين. وها هو يتضح جليا في حديثهم فيما بينهم وفي معرض تمنياتهم اليومية، فنجدهم يرجون من الله ما يزيدهم ثباتا، فلنسمع حديثهم كما يحكيه الله: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم) [محمد:20].أليس في حديث المؤمنين الذي ينقله إلينا رب العالمين ما يؤكد لنا أن القرآن كان يتنزل سورا؟ وأن هذا أمر معهود للنبي وللمؤمنين، بل ولكل المعاصرين للوحي وللنبوة من المنافقين والكافرين؟ إنه أمر عهدوه من الله وعليه عودهم الله فهم لا يتحدثون إلا عن سور تتنزل، ولا يرجون إلا سورا توحى وترتل، ولا يحذر المنافقون إلا سورة تكشف ما في قلوبهم. إذن فالأمر واضح بين الجميع، والقضية معهودة لدى المعرض والسميع، ولدى المنافق والمطيع. ¶ هذا وللعلم فإن السورتين التي أخذنا منها الآيات الدالة على دعوانا هما سورة التوبة وسورة محمد، وهما سورتان مدنيتان، والمدينة هي التي بدأ فيها التشريع والأحكام التي تخص العلاقات بين الناس وتنظيم الحياة على أقوى الأساس. وهذا حال يدعو إلى التساؤلات وإلى إيضاح مختلف القضايا والحالات من خلال إنزال عدد بسيط من الآيات تخص قضية معينة أو بعض التساؤلات ولكن الأمر لم يكن كذلك، بل إنه رغم ذلك الداعي إلى إنزال آيات ظل القرآن يتنزل سورا تحيط بكل القضايا بدون انتظار لما يحدث من أحوال وبدون انفعال بما يتجدد من الأفعال أو ما يتردد من سؤال. ¶ كيف لا والله يعلم كل حال؟ وفعل وسؤال، ويدري بما نخفي وما نعلن من الأعمال، وما ننطق به أو نكتمه من الأقوال، فلا يحتاج إلى من ينبهه إلى الإنزال، ولا هو محتاج ما يدعوه لإيضاح أمر أو إشكال، هو هو المحيط بكل شيء علما، والحفيظ على كل شيء والأحسن حكما، وبهذه الصفات والأسماء الحسنى، أنزل القرآن المبين، الذي هو ذكر للعالمين، فيه بيان لكل شيء، وبه يسعد كل حي. فكل سورة تحمل إلى الناس علما شاملا، وبيانا كاملا، وتجيب من كان سائلا، وتوضح السبيل لمن كان عاملا، فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء. (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) ¶ وبعد: ألم يتقرر لديكم أيها القراء أن القرآن كان يتنزل سورا؟. بلى، فإن أردتم أن نزيد الموضوع يقينا ونورا، فلنقرأ ما ورد في سورة يونس: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [يونس:37]). فهو منزل من رب العالمين الذي لا يخفى عليه منا شيء أينما نكون، فهو المنزل القرآن المبين، وهو خير الحاكمين، فكيف يرتاب المفسدون؟ (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [يونس:38])لقد أكد هنا أن الافتراء محال، ورد على المفترين بأوضح المقال، فقال: (فأتوا بسورة مثله) لقد أكد أن الإنزال إنما هو سور كاملة ولذلك فهو يتحداهم أن يأتوا بسورة مثله كاملة البيان بلا إيهام، واضحة البداية والختام، تسرد الأحداث والأحكام، بإتقان وإحكام، بلا اختلاف ولا تقصير، ولا خفاء ولا اضطراب مثير، كلا لا يمكن أن يكون ذلك الكمال إلا من الله العليم الخبير. ولهذا فإن الله يفتتح سورة هود بهذا الافتتاح المثير المنير: (الر .. كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [هود:1]). فهو كتاب منزل بإحكام، مفصل السور بالتمام واهتمام، وهو يتنزل بآيات متعددة لا بآية واحدة، وكيف لا وهو (من لدن حكيم خبير)، فهو الذي لا يقول ولا يفعل إلا الحكمة والكمال، وهو الخبير الذي يعلم ما يحتاج الخلق قبل السؤال. فكيف يحتاج إلى من ينبهه إلى ما يقال؟ كلا إن هذا هو الخبال، الذي لا يليق بذي الجلال، ولهذا كأنه يفند المكذبين ويندد بالمفترين، ويعرض أقوالهم المرتابة بأسلوب مهين، فيقول: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [هود:13]). إن المدعين على النبي أنه افترى القرآن، مدعوون للإتيان بمثله ، بعشر سور مثله في الكمال والجمال والإحكام، وبالتفصيل والتبيين الذي يزيل الإبهام، هل تستطيعون؟ ؟ كلا لا يقدرون حتى ولو دعوا كل أنصارهم من الخلق وافتروا جميعا على الحق، إنهم غير قادرين، فهم لا يستجيبون. وكيف يستجيبون وهم عاجزون؟ ولهذا فإن القرآن هو الحق الذي أنزله الله، وهو الله الحق بالحق، وهو يقول الحق، ويهدي إلى الحق، فمن ذا الذي يستطيع أن يتسجيب لأن يقول مثل قول الله الحق؟ لم يستجب أحد، ولا أحد نطق، ولهذا قال الله مخاطبا كل مؤمن في كل زمان: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون [هود:14]). ¶ وهكذا يتأكد أن القرآن نزل سورا، وأن المعهود لدى الجميع أنه يتنزل من الله سورا مرتلة، ، لا كلمات منفصلة، كلا فالله الحكيم الخبير هو الذي أنزله. والآن وقد اتضح الدليل القطعي الذي يدل دلالة مطابقة على ما أردناه فإن لنا دليلا آخرا يدل دلالة ضمنية على ما أوردناه، ذلك هو قوله تعالى في سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأناه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه) [القيامة:19].أربع آيات تدل دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرك لسانه بالقرآن عند تنزله، لعله يحفظ ما يتلى عليه، ولعله يستجمع ما يلقى عليه.إن في هذا دليلا على أن القرآن كان يتنزل سورا عليه فهو يحاول أن يلحق التلاوة بتحريك لسانه، أما لو كان يتنزل آيات معدودة أو آية واحدة لما احتاج إلى هذا العناء والمكابدة، ولما دعاه الله إلى هذا السلوك وأرشده؛ لأن المعروف أن الآيات أو الآية تحفظ بسرعة ولا تحتاج إلى متابعة ومسارعة، ولقد عهدنا العرب في زمن النبي وفي قبله يحفظون القصائد الكاملة والمقاطع والأبيات المتعددة بلا عسر، ويروونها على الناس بيسر فكيف لا يحفظ النبي وهو العربي الفصيح اللسان، المتمرس بالبيان؟ فكيف بالفتى القرشي الذي فاق على الأقران؟ ¶ إذن فالقرآن كان يتنزل سورا كاملة، ولهذا كان النبي يحرك لسانه ليمسك بالآيات المتواصلة، ويجمع الفواصل المرتلة، فنهاه ربه عن هذه المحاولة وطمأنه بأن ربه الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، سيتولى جمع القرآن في قلب رسوله المكرم وسيقرن بين آياته في قلبه حتى تستقر السورة وتطبع فيه بقدرة ربه، (إن علينا جمعه وقرآنه) عليه وحده الجمع والقرن بين الآيات التي تكون السور، فإذا انتهت تلاوة السورة، وقرنت الآية بالآية، وأصبحت كاملة وبلغت النهاية، فما على النبي إلا أن يتبع هذا القرآن الذي قرنه الله في قلبه بإتقان (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) وهكذا لا ينتهي النبي من غمرة الوحي حتى تكون السورة قد حلت في قلبه كاملة الآيات، محفوظة الجمل والكلمات، مرسومة الحروف والشكلات، واضحة الدلالات. فما عليه إلا اتباع ما أملي، وإلا تبليغ ما ملي، بشكل مبين جلي. وكيف لا والله يعطف على ذلك بثم للدلالة على علو مرتبة ما يليها من الشأن، فيقول: (ثم إن علينا بيانه). نعم إن على الله وحده البيان لمحمد ولمن استمع القرآن، فإذا هو نور يتلألأ للقلوب، وإذا هو ينير أولي الألباب. وإذن فإن الحقيقة تشع من آيات سورة القيامة بأوضح الدلالة، وتعلن أن القرآن كان ينزل سورا كاملة. ولقد تأكد هذا في سورة طه، حيث يقول الله: (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) [طه: 113]. فهو عربي مبين، وهو متنوع التصريف والتلوين، ليكون هاديا للمتقين، وعلما للمتذكرين، ولا يمكن أن يكون القرآن هكذا إلا إذا تنزل بما يبين، وهذا لا يتم إلا بسور كاملة تحتوي على البيان الكامل، وتفصح عن الكلام الحافل، بكامل البيان، وشامل العرفان، أما أن يقطع إلى آيات متباعدة، أو يمزق التنزيل على آية واحدة، فهذا لا يليق بأصحاب البيان، ولا يتفق مع أساليبه المتعاهدة. ¶ فكيف نسلم لشاعر جاهلي أنه لا يمكن أن يمزق القصيدة ولا يفرق أبياتها؛ لأن هذا أمر معيب عليه، ثم نلصق هذا العيب بالله وندعي أن القرآن تنزل ممزقا من لديه ، إن القول بأن القرآن تنزل ممزق الآيات والفواصل متباعد البيان مقطع الكلام غير متواصل، إن هذا لا يليق بالله الكامل. ولهذا فإنه يعلن تعاليه عن هذا الواهم الغافل فيقول عقب الآية السابقة: (فتعالى الله الملك الحق). نعم إنه يتعالى عن الخلق، فهو العالم الحق والملك الحق، فلا يمكن أن ينزل القرآن إلا بما هو أليق، ولا يمكن أن يمزق. ولهذا يكمل الآية فيقول: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) [طه:114].إنه تكرير للنهي الموجه الجانبي وتحديد للوحي بأنه قرآن متكامل البنيان، متتابع الفواصل، يتنزل سورا كاملة تتلى من البداية إلى النهاية بشكل متواصل. ¶ وإذن فعلى الرسول أن يتلقى القرآن الذي يملى غير عجول وعليه الإقبال على القرآن وأن يصغي باستسلام حتى يقضى ما يتلى عليه وأن يسأل الاستزادة من علم الله الوسيع، ويستنير به وينير كل من تلقاه بقلب سميع ففيه البيان والعلم للمتقين ولن يكون في القرآن علما من علم رب العالمين، إلا إذا كان منزلا سورا تبين. فلننزه القرآن من أن يكون عضين، وليتنزه الله من أن ينزل ما لا يستبين، سبحان الله عما يصفون. ¶ وبعد: فإذا أردتم أن نستدل على ما ذهبنا إليه بطريق آخر، فلنعد إلى نفس السور فإن نصوصها تفصح عن الدليل بنور يبهر . إنه نور يسطع، ومن سورة النور يطلع النور، فلتقرأنها من أولها لتستنير: بسم الله الرحمن الرحيم (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) أسمعتم الخبير؟ إن الله نور السماوات والأرض يعلن الخبر فيقول: (سورة أنزلناها وفرضناها)، فهل بعد هذا البيان من عالم الغيب والشهادة تقولون أن القرآن مقطع الإنزال على آية آية؟؟ كلا إن النص يعلن أن القرآن أنزل سورا فيها الآيات بنور الله متكاملة البيان، من البداية حتى النهاية. ¶ فالسورة تبدأ ولا يتوقف تدفقها حتى تنتهي، وهكذا كان يتلقاها النبي من الرحمن فنجد أن ما يتلى عليه قط طبع في قلبه بشكل لا يقبل النسيان. ثم لنقرأ قوله تعالى بعد ذلك: (وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). وهذا هو الحق فالبيان لا يأتي في كل حال، من كلام مقطع الأوصال بلا اتصال، بل بآيات تتواصل بلا انفصال، حتى تفي بالغرض الذي يريده ذو الجلال. كما أن التذكر لا يتوفر بكلام مقطع مبتور، بل بكلام متواصل الألفاظ والمعاني يليق بالله العليم القدير. ¶ وبعد: فلعل سورة النور قد أنارت لنا الطريق بأقوى دليل، وقطعت كل قول في أسلوب التنزيل، وكيف لا وهو من الله العظيم الجليل؟! ولهذا؛ فلأنه يصف نفسه في السورة (الله نور السماوات والأرض)؛ فهل في النور انقطاع؟؟ كلا بل هو متصل يملأ الأصقاع. ثم إن الله يصف نوره بقوله: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) [النور:35]. إن النور متكامل شامل، ولكل ذرة في الوجود واصل، وكل الخلق من منهله ناهل. وهو من القوة والوضوح، بحيث يصل الأعماق قبل السطوح، ويتخلخل في الباطن قبل الظاهر، وينير الأبصار والبصائر، ويضيء العزير قبل البصير، ويبهج العيون ويشرح الصدور، إنه باختصار كما يقول الله: (نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ). ومشيئته تبع علمه، فمن علم الله أنه مؤمن متذكر، وأنه مسبح مستغفر، هداه إلى نوره، وجعله من عباده المهتدين الناعمين بخيره. ومن علم الله أنه أعمى مستكبر، مستغن عن ربه مستنفر، صرف عنه الهدى والنور وجعله في (ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها). إنه منقطع عن الله نور السماوات والأرض، بعيد عن ربه مشغول بالقرض، فكيف يصله النور؟! وهو في الضلال مغمور، وكيف يجعل الله له سبيلا إلى النور؟! كلا: لقد علم الله أنه نافر كفور، فلم يجعل له نصيبا من عطاء ربه الغزير، (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)، وأنى يكون له نور وقد انفصل عن نور السماوات والأرض. ¶ وهكذا فإن الله العليم، يهدي إلى نوره القلب السليم، ويصرفه عن الكفور الأثيم، (ويضرب الله الأمثال للناس). فلقد ضرب لنا المثل على نوره، وأعلمنا أنه يصل إلى كل شيء وإلى كل ذرة، بصورة واضحة منيرة. وهكذا جاء القرآن واضح النور، ساطع الضوء يشرح الصدور، ويبدد الديجور، وينير سبيل كل المستجيبين لله العليم القدير، وأنه بالاستجابة لجدير، والطاعة والاتباع لهداه خير كثير. إن العلم كله له، والهدى هداه، ومن اهتدى بسوى الله تاه. ولهذا يختم الآية بقوله: (والله بكل شيء عليم). ومن هذا شأنه وهذه صفته فهو الهادي إلى الصراط المستقيم، وهداه هو الهدى وعلمه هو العلم الذي به الحياة تصلح وتستقيم، ويسعد به كل قلب سليم، وكل سمع وسامع كريم. ¶ وبعد: أليس الآيات تنزل كاملة متوالية في كل سورة من البداية حتى النهاية بلا انقطاع؟؟ بلى بلى هذا هو الحق بلا نزاع. ولأجل هذا جاء من الله التأكيد على أن السورة هذه آيات متوالية حتى النهاية، فقال في الآية 34 منها: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين)، وكرر هذا التأكيد في الآية 46 منها فقال: (لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). فهل الهدى إلى صراط مستقيم يتم بآيات مقطعة الإنزال؟، وهل البيان في الكلام العام يتم بكلمات مقطعة الأوصال؟، فكيف بكلام الله العلام!! ¶ وهل التقطع إلا لغو لا ترضاه الأفهام ولا يليق بالعقول؟، فكيف ترضاه لربنا الجليل؟، إنه الحق والحق يقول: (فتعالى الله) عن القول الغامض العي، وقد لقب الآيات في كل شيء، وكان القرآن هو قمة البيان الذي يعجز كل ناطق حي، فلتكن على يقين بأنه تنزل سورا كاملة لها بداية ولها نهاية تحيط بموضوعها، وتفصح عن أغراضها، بما لا يدع مجالا للغواية، وبما يزيد الناس علما ودراية، ويهديهم إلى أسمى غاية.وبعد فإن سورة النور قد أنارت لنا السبيل، وقطعت كل قول بأقوى دليل، وبالنص الذي لا يحمل التأويل. ¶ هل تريدون المزيد من الأدلة؟، على أن السور كانت تتنزل كاملة؟.لنقرأ بعضها فإن البعض يدل على الكل ويكشف عن الصور، وينسف كل ارتياب، ويسترشد به أولوا الألباب. لنبدأ من البقرة، فإن الدلالة فيها واضحة مقررة. ولنقرأ: (الم(1)ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين(2)الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون(3)والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون(4)أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) [البقرة:1-5].ماذا أفادت الآيات؟. أفادت أن المتقين هم الذين يؤمنون بالغيب، ويؤمنون بما أنزل على محمد وبما أنزل على الأنبياء من قبله. وإذن فهم لهم صفات خاصة، منها الإيمان بكل ما أنزل، ولكل من أرسل. أليس هذا هو بعض ما تقرر هنا؟.بلى. ¶ انتقلوا إلى آخر السورة تجدوا آخرها يتصل بأولها، ومنتهاها يؤكد مبتدأها، وأن الموضوع متصل الآيات، متتابع الدلالات، لا ينفصل ولا يتمزق، ولكن يتوالى ويوثق. ولنقرأ الختام، ففيه القول الفصل الذي يقطع كل الأوهام: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) [البقرة:286].ألم يؤكد هنا ما أثبته هناك؟، ألم يعلن هنا ما أعلنه هناك؟. بلى. ¶ وها هم المؤمنون يتبعون الرسول في الإيمان بما أنزل الله، وها هم كلهم يؤمنون بالله وملائكته "إنه الإيمان بالغيب"، وهي صفة هامة كما كانت هناك هي الصفة الهامة الأولى من صفات المتقين. ثم مع الإيمان بالله وملائكته كأنهم يؤمنون بكتب الله ورسله إيمانا بالتساوي مع الإيمان بالرسول الخاتم، لا فرق بين أحد من الرسل سواء تأخر أو تقدم. وبعد الإخبار من الله بأن الرسول آمن والمؤمنون آمنوا بذلك، ها هم يعلنون بلسان واحد الاستماع لما أنزل الله والطاعة (وقالوا سمعنا وأطعنا)، وإذا كان هذا هو شأنهم وهذا هو سبيلهم، فماذا يريدون به؟.إنهم يريدون المغفرة من ربهم لا سوى، فإن هذا هو المطلب الهام والأثير، لدى المؤمنين بالحق المنير. وكيف لا يطلبون هذا المطلب من ربهم العليم القدير؟، وهو الذي إليه وحده المصير (وإليك المصير)، فهو محاسبهم على العمل الصغير والكبير، فهو لا يخفى عليه شيء ولو تضمير، وهو العليم بذات الصدور، فالمصير إليه خطير، إذا لم يكن بالإيمان بالله ورسله هو الشفيع للعبد الصغير، وهو النور في لقاء ربه الكبير. وهكذا يكون هؤلاء هم الذين يهديهم كما وصفهم الله في الآيات الأولى بقوله: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) [البقرة:5]. ¶ إذن فالموضوع واحد، والبداية والختام تنطلق من غرض واحد، وعلى الإيمان تؤكد، وللطريق الحق تحدد، وهو تكليف لا يصعب على المؤمن الموحد؛ لأنه تكليف من الله الذي يدعو إلى دار السلام، ويعلم قدرة العباد في كل المهام، فلا يكلف إلا بما يستطيعه الإنسان، في كل زمان وفي كل مكان. ولهذا قال: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) [البقرة:286].وهي حقيقة لا تشك فيها ولا ترتاب؛ لأنه قول الله الغفور الوهاب (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، ومع أن المؤمنين يعلمون هذه الحقيقة فإنهم يتوجهون إلى ربهم داعين مستعيين، ولمولاهم خاشعين مستسلمين، فيقولون: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [البقرة:286].وهكذا تنتهي السورة بهذا الدعاء العميق الذي يعلن فيه المؤمنون عجزهم عن الوفاء إلا بعون ربهم، ويرجون فيه أن يجنبهم ما وقع فيه المنافقون بكذبهم، ولا ما وقع فيه أهل الكتاب من قبل من عدم التمسك بكتاب ربهم.ثم وأخيرا يعلن المؤمنون أن الله ربهم ومولاهم وبالتالي فإنه المدعو بنصرهم على القوم الكافرون، وإنه لدعاء يعيدنا إلى بدايات السورة التي وصفت المؤمنين مع هؤلاء الأنواع من الناس بالتفصيل، فالكافرون لا يؤمنون، فقلوبهم عليها وعلى أسماعهم ختم وأبصارهم عليها غشاوة، فهم معادون للإيمان بصورة واضحة بلا غشاوة، أما المنافقون من أهل الكتاب ومن الأعراب فهم موصوفون بصفات الكذب والخداع، والادعاء الذي يدعو إلى الاقتناع، ولكنه ادعاء يكذبه الله ويفضح، وعن طواياهم يكشف ويفصح، فإذا هم يشترون الضلالة بالهدى فهو شراء لا يربح، وهم في ظلمات من كل اتجاه تحيط بهم، وهم صم بكم عمي في دينهم، فلا يرجعون إلى الصواب، ولا يسلكون مع أولي الألباب. بل يستمرون في طريق الهلاك والتباب، ويتمسكون بالارتياب، لكن الله بهم عليم خبير، ولو شاء لذهب بكل مداركهم فهو على كل شيء قدير، وإذن فإن الناس مدعوون إلى طريق الخير والسلام، والارتفاع إلى أعلا مقام، إنهم مدعوون إلى قوله تعالى: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة:21].فعبادة الله الخالق هي ميثاق الخلق للإنسان، وهي مهمته في كل زمان ومكان، وبالعبادة يرتقي إلى التقوى التي تجعله في مصاف عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا. ¶ ولكن كيف يهتدي إلى هذا المقام؟. إن السبيل إلى ذلك هو ما أنزله الله على عبده من الكتاب والإيمان بما فيه بلا ارتياب، فذلك مرتقى أولي الألباب، وإلا فإن النار للكافرين المآب، وهكذا تكون الآيات من البداية إلى النهاية، فالسورة تدور حول هذا الموضوع الهام، الذي يرفع الإنسان إلى أعلى مقام، ولهذا كانت السورة حافلة بمختلف آيات الأحكام، لتنظيم حياة الناس على أحسن نظام، ولتدلهم على الطريق الحق المبين، الذي يدخلهم في اسلم كافة في الدنيا ويوم الدين، ويوصلهم إلى الفوز برضوان رب العالمين، فهل بعد هذا يقال أن السورة نزلت مقطعة الأوصال؟، موزعة الآيات بلا اتصال؟. كلا: بل السورة نزلت كاملة وبأحكام مفصلة متصلة، وآيات متواصلة. وكيف لا والله علام الغيوب يعلم ما كان وما يكون، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو معنا أينما كنا، ولهذا فهو في السورة يسأل الناس سؤال استعجاب، ليؤكد غفلة الناس عن ربهم واتخاذهم من دونه الأرباب، فيقول: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) [البقرة:28].فالأرض هو سخرها وهو لنا عليها سبر، وهو الذي للأمر دبر، ولكل خلق هدى وقدر، وللأرزاق بسط وقدر، وإليه الخلق كله يضطر، وهو يجيب المضطر، بل ويعلم سؤال كل مخلوق قبل السؤال، فيأتيه الرزق في كل حال، من ربه ذي الجلال، فهو المحيط بكل شيء علما، وهو الذي يصورنا في الأرحام كيف يشاء.وبهذه الصفات العظيمة لله العليم، تنزل القرآن الحكيم، وتوالت أحكام السورة بتواصل مستقيم، بلا تفريق ولا تقسيم. ¶ فمن ذا يستبعد ذلك على الله!! وهو الذي يصف نفسه بقوله: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم) [البقرة:255].هكذا هو الله ذو العلم والقدرة، فلتقدره حق قدره، ولنوقن أن القرآن تنزل بالأسلوب الذي يليق بمن أنزل، وأن سوره كانت كاملة تنزل. ولنعد إلى سورة البقرة لنستوضح هذه الحقيقة المقررة ولنبدأ من أول السورة: إن الله يأمر الناس في الآية 21 بقوله: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة:21].إن هنا يبدأ سؤال وهو: هل يمكن أن يأمر الله الناس أن يعبدوا ربهم دون أن يوضح لهم كيف يعبدون؟ وماذا يعملون حتى يكونوا من المتقين؟. كلا وحاشا. إذن: فإن السورة قد بينت وأوضحت، وبالأحكام والشعائر والمعاملات حفلت، ولقد توالت فيها الآيات بأسلوب جميل منير، يستسغي ويشرح الصدور، ويصلح ويزكي الناس مدى الدهور، ويحدد لهم معالم السلام في المسير. ¶ ولو أردنا أن نستعرض ما ورد في السورة من الأحكام والواجبات، وشعائر الدين والمعاملات الدنيوية لطال المقال، ولكنا سنشير إليها باقتضاب، ونتلمس تواصلها بدون إسهاب، ولنبدأ من حيث الأمر بالعبادة، فلقد أعقب الأمر للناس بعابدة ربهم، استبعاد أن يكون ما أنزل الله على عبده يواجه بارتيابهم، فإذا أصروا على الارتياب فليأتوا بسورة من مثل القرآن، فيها الوضوح والبيان، إنهم لا يستطيعون، فهم إذن لن يفعلوا، وإذن فإن عليهم أن يكونوا بالقرآن مؤمنين، وإلا فليتقوا النار التي أعدت للكافرين، كما أن الجنة أعدت للمؤمنين، وتتواصل الآيات حتى تنتهي بالآية 29 التي سبقت هنا والتي تذكرنا بأنه خلق لنا الأرض والسماوات، وهنا كان من المناسب أن يذكرنا ببداية الإنسان على الأرض، ولنعرف أن الإنسان طارئ عليها مخلوق لغرض، فكانت آيات الخليفة وحوارها مع الملائكة، ثم آيات أمرهم بالسجود لآدم وامتثالهم للأمر في حين استكبر إبليس وكفر فإذا هو يعلن نفسه عدوا لآدم من البداية وسيظل معه حتى النهاية يغوي ويضل ويردي ويزل، ولقد كانت البداية في الجنة الأولى التي أبيح لآدم فيها أن يأكل رغدا ولما زل خرج من الجنة وهبط من مقام الحياة الآمنة إلى مستقر الحياة المؤقتة إلى حين المقدرة المتاع للبشر أجمعين فلهم فيها الحياة والموت وهم فيها بعضهم لبعض عدو مدى الزمان، وهم في خوف وأحزان، ولا ينجو من هذا إلا من اتقى وعمل صالحا بإيمان، ولا يكون هذا إلا بهدى من الله الذي كتب على نفسه أن يرسل الرسل وينزل البيان، (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون* والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة :38-39]. ¶ وهكذا بدأت المسيرة وجاء الهدى وجاءت الرسل بالبينات المنيرة ولهذا كان من المناسب أن ترد الآيات التي تذكر بني إسرائيل بعهودهم مع الله وتدعوهم إلى الإيمان بما أنزل الله على محمد عبد الله وهو مصدق لما مهعم وجاءهم مع موسى وعيسى من عند الله، وتذكرهم بالرجوع إلى الله ، ولعل في هذا إنذارا لنا لنكون على وفاء مع الله وتقوى وإلا كنا مثل بني إسرائيل، ألم يكن الله قد فضلهم على العالمين بحمل رسالة الدين، وها هو الله يحملنا حمل القرآن للعالمين، فلنكن في حمله جادين ومجاهدين، وفي إبلاغه مخلصين، وفي العمل به صادقين، لنكون من الصالحين، وإلا كنا مع الذين غضب الله عليهم وكانوا من الخاسرين، وحلت بهم لعنة اللاعنين، فلنحذر ولنعمل صالحا ولنف بالعهد ليكون عملنا مفلحا، ولتضح لنا التحذير والنذير توالت آيات بني إسرائيل حتى تصل إىل الآية (150) من السورة. وكلها تفصح عناد بني إسرائيل مع المرسلين وتكذيبهم بالآيات والارتياب في الدين، واللجاج في كل حجاج، وتحريف الآيات النازلة عليهم وكتابة الكتاب بأيديهم بما يتفق مع هواهم وادعائهم بأن هذا كتاب ربهم، واتباعهم الشياطين في تعلم السحر ونسبة ذلك إلى سليمان، ثم تعلمهم ما يتفرق به الزوجان، واستمرارهم في اتباع ما يضر الإنسان ولا يرضي الله الرحمن، فكانوا بذلك مستحقين الذلة والغضب والهوان، والعذاب في الدنيا ويم الدين، وخلودهم في لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ومع ذلك فهم يدعون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، ويفترون على الله أن الجنة لهم محدودة، وأن الدخول لهم دون الناس، وأنهم أولياء لله دون الناس، لكن الله يكذبهم ويدفع زورهم، ويدفعهم بأن ملتهم هي أهوائهم، ويفند دعواهم أنهم أتباع إبراهيم ، ويؤكد أن إبراهيم ليس يهوديا ولا نصرانيا ولكنه إمام المسلمين وأنه لم يكن من المشركين، وكلهم يكابرون وهم يعلمون، أو هم لا يعلمون؛ لأنهم يجهلون ما عندهم من الكتاب المبين، بل لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون، وهكذا يؤكد الله أن المسلمين هم المتبعون لكل المرسلين والمؤمنون بما أنزله الله عليهم أجمعين، وأن من لم يؤمن بذلك فإنه كافر أثيم، ولا ينفعه أنه من نسل إبراهيم، فالأنساب لا تنفع ولا ترفع ولكن المهتدي هو من آمن واتبع، وإذن فلكل إنسان مع عمل وعليه يسأل (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) [البقرة:141].وهكذا تبين الآيات بأن بني إسرائيل عاطلون من العلم رغم الادعاء ، بعيدون عن الهدى ، ضالون عن سبيل الأنبياء، متبعون للهوى. وبهذا حرفوا الكتاب ولا يزالون منه في ارتياب، ولهم الذلة والعذاب. ¶ فهل بعد هذا يسير المؤمنون بالقرآن، على هذا الأسلوب المهان؟! لا بد لمن يقرأ القرآن ويؤمن بما فيه أن يتبع هدى الله ولا يرتاب فيه وأن يجاهده في الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وينفق في سبيل الله ليكون على الطريق الحق سائر، وعلى هدى من الله مستنير البصاير. وعلى هذا الأساس بدأت الآيات تتوالى بالأحكام والواجبات، وتوضح سبيل الله الحق في الشعائر والمعاملات، وتضع المعالم الواضحة للأعمال الصالحات، وتعد من استقام برحمة الله وبالنصر والثبات، ثم بالنعيم والجنات، وذلك هو الفوز العظيم، الذي يعمل له العاملون، وعلى هذا الأمل الحق الجميل، والوعد الصادق من الله الجليل.. [اقرأ الآيات من 105 إلى 140]. ¶ إن حملة الدين من المسلمين هم أمة الأنبياء والمرسلين، والإسلام دين الله الحق، الذي يدين به كل الخلق، ولقد خسر من عنه فسق، فليسر المسلمون عليه في ثبات، وها هي الطريق واضحة المعالم بالأحكام والآيات، المنظمة للعلاقات أحسن نظام، الهادية إلى السلام. ولذلك بدأت الأحكام تتوالى وتتلألأ على الطريق، فإذا بالقبلة التي ارتضاها الله تحدد، ويرضاها الرسول محمد، ومن اتبع محمد، وما هذه القبلة إلا المسجد الحرام الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل، وهما يدعوان الله بأن يستقيما على الإسلام، وأن تكون ذريتهما ومن اتبعهما على الإسلام، وأن يبعث فيهم رسولا يعلمهم ويخرجهم من الظلام، وإذن فهي القبلة التي توحد الاتجاه، وتلم الشمل إلى الله، وهي التي تتجه إليها الصلاة من كل اتجاه، ولا يشذ عنها إلا الغواه، لا حجة له إلا اتباع هواه، ولهذا يؤكد الله على هذا الاتجاه الذي ارتضاه فقال للمرة الثالثة: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) [البقرة:150]. ¶ فالقبلة هذه إتمام للنعمة واتباع هدى الله هو الهدى الذي به تتم النعمة، وكيف لا وهي وجهة يعلم الله أنها الحق، والجدير بها هو الدين الحق، ومن به آمن وصدق؟؟وكما أنعم الله على الناس بالدين أنعم عليهم بالقبلة التي توحد وجهة الموحدين ولتأكيد هذا فإن الله يسوي بينها وبين إرسال الرسول فيقول: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) [البقرة:151].وهكذا يتواصل التعليم والتزكية وتأتي الآيات للمؤمنين بعلم من الله لم يكونوا به يعلمون من قبل هذه، وما العلم إلا هذه الأحكام والواجبات التي تتواصل في الآيات حتى نهاية السورة. ¶ وكما توحدت القبلة والاتجاه في الصلاة فإنه لا بد أن تتوحد الوجهة في الحياة لتكون كلها صلاة ويكون للناس إمام يؤمهم إلى النجاة، إنه لهو الرسول والكتاب، فالرسول هو الباب والكتاب، والرسول هو الطريق السليم والنور والصواب، السائر إلى غير المآب، فليبادر إلى بيانه أولوا الألباب، وإلا كانوا سائرين إلى العذاب، كما يقول الله منزلا للكتاب: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون*إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ) [البقرة:159-160].ولكي يبين العلماء الكتاب للناس فلا بد من معرفة الله حق معرفته وتقديره حق قدره فلا يجعلون له شريكا في ملكه ولا في حكمه فهو الإله الحق والرب الذي خلق: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم) [البقرة:163].ولتأكيد هذه الحقيقة فإن الذين يعقلون يتفكرون في خلق الله رب العالمين وتدبيره لكل المخلوقين: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) [البقرة:164]. ¶ وإذا كان الله هو الخالق المدبر والمصرف لكل شيء والمسير والهادي والمقدر والممسك والمسخر فإنه هو الرب الذي لا يشاركه أحد في تدبيره وعلمه، وهو الذي يحب ويعبد ويجاب ويحمد ويهاب ويقصد، فمن ادعى أنه ند لله أو اتخذ له ندا فقد ضل وفي العذاب تردى، وعلى هذا الأساس فإن على الناس أن لا يتبعوا المضلين، وليكونوا في الأرض مهتدين بهدى الله، آكلين مما سخره حلالا طيبا، حامدين شاكرين ما أعطاه، ولا يتبعوا الشيطان فإنه العدو المبين، الداعي إلى الفحشاء والطغيان، والجهل بما أنزل الرحمن، وذلك هو الخسران، الذي يجعل الإنسان أضل من الحيوان. ¶ وأمام هذه الدعوة للناس فإن على المؤمنين العابدين لله أن يعرفوا الحرام والحلال، وها هو البيان يأتيهم من ذي الجلال، (ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون* إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) [البقرة:172-173].وعلى هذا الطريق الواضح فليمض موكب العلم والإيمان، ويهتدى بهدى الرحمن، ولا يكتم ما أنزله الله من البيان، فإن فعل المؤمنون ذلك واشتروا متاع الدنيا والسلطان، فإن الذي اشتروه إنما هو النار والخسران، لقد علموا بالحق فآثروا الباطل والبوار، فما أصبرهم على النار، (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) [البقرة:176]. ¶ إن ورود الكتاب هنا بالألف واللام يدل على أنها للعهد فالمراد ذلك الكتاب الذي بدأت به السورة، إذن فالآيات متواصلة يلي بعضها بعضا حتى النهاية، وهكذا تستمر الآيات من هنا متوالية، فتبدأ أولا بالآية 177 والتي تجمل ما ينفصل بعدها من الأحكام وتوجز ما يأتي بعدها من المهام، فإذا هي تشير إلى أهم منابع البر عند الله العلام. يقول الله : (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب). ليس الدين بالمظاهر الفارغة والشعارات الجوفاء وليس الاتجاه إلى جهة معينة هو التقوى، فالله هو المقصود لا سوى، ولهذا يواصل بيان البر بقوله: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) إن الإيمان بهذه هو البداية ولكن يجب أن تجسد بأعمال صادقة صالحة النية ولهذا قال الحق: (وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) [البقرة:177]. وهكذا تجمل الآية أهم الأحكام والواجبات والمهمات الصالحات، المنطلقة من الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبوات، وبهذا تصبح مسيرة المؤمن متصلة بميسر المرسلين فالأنبياء هم أمة المؤمن والله هو رب الجميع وهم له عابدون، والصالحات من الأعمال هي سمة الجميع، فهم أمة واحدة والله ربهم وهم له تقاة هم الصادقون. ¶ وبهذه الروح المؤمنة والعزيمة الموقنة والقلوب الذاكرة لله وبه مطمئنة، تمضي المسيرة إلى حياة السلام والأمن في الدنيا وإلى رحمة الله ثم الجنة من خلال الأحكام والواجبات، والفروض والمهمات، التي تجملها وتبينها ما يلي من الآيات حتى آخر السورة المختومة بتلك الدعوات المعروفات، التي يلهج بها كل مؤمن في كل الحالات، إنها الآية التي تختم بقوله تعالى: (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ).إنها الآية الأخيرة من السورة [286]، إن هذا هو نتاج الأعمال، ومرتجى النساء والرجال، فالعفو والمغفرة والرحمة، هي الغاية الهامة، والمطمح الأسمى لكل مؤمن ومؤمنة، وعلى هذا الأمل، والمطمح الأجل، تتوالى آيات الأحكام والعمل بعد الآية [177] السابقة، فإذا بنا أمام آيات الديات في القتلى (ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب) ثم آيات الوصية للوالدين والأقربين، والإصلاح بين الخائفين من الجانفين، ثم تبدأ آيات الصيام وأحكامه، وصفة الصيام وأيامه، ورخصة الإفطار في المرض والسفر والوفاء بالقضاء والتزامه، وبيان شأن ليل الصيام وقيامه، والعكوف في المساجد وحرامه، ثم بيان أحكام التعامل في الأموال، وتحريم أكلها بالباطل في كل حال، وتحريم استخدامها في كل أموال الناس، فذلك من أسوأ الأعمال، ثم عودة إلى بيان البر من جديد باقتضاب، والأمر بإتيان البيوت من الأبواب، وفي كل ذلك تكون التقوى هي الغاية لأولي الألباب، وقد عرفنا في أول السورة أن التقوى هي الصفة التي يتصف بها من يهتدون بهذا الكتاب، وتستمر هذه الصفة مع ما يلي الأحكام حتى في القتال التي تأتي أحكامه هنا بصفة تجعل المؤمن ينتصر لله لا لنفسه ويقاتل لرد العدوان لا للانتقام ولإقامة الدين لا لاقتناء المغانم والأموال بل إن المال ينفقه المؤمن المحسن في سبيل الله، فإن لم ينفق فقد ألقى بماله إلى التهلكه وبلا ثمن لأنه أنفقه بغير وجه الله: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) [البقرة:195].وهل هناك أسمى للمؤمن من أن ينال بالمال حب الله ذي الجلال، إن ذلك أروع المطامح والآمال، إن الله هو الباقي وكل شيء هالك، وإليه الرجوع وهو ليوم الدين المالك. ومن أهم سبل الإنفاق الحج فهو جهاد بالمال والنفس والجهد بالإقبال من كل فج، ولهذا تأتي هنا آيات الحج والتقوى هي السمة لكل من فرض الحج، والمتبقي هو (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ).وأما من لم يذكر الله وأراد الدنيا فإنه جيفة عفنة تفسد في الأرض، إنه خاسر المعاد، فالله لا يحب الفساد، ولكنه مع ذلك يحب من يشري نفسه بمرضاته فالله رؤوف بالعباد، وبهذا الحب والرأفة للعباد فإن الله يدعوهم إلى السلام. (ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة). ثم ينذرهم باقتراب الساعة فما ذا ينتظرون بعد البيات إلا أن تأتيهم المذهلات يوم لا ينفع مال ولا بنون (وإلى الله ترجع الأمور) [البقرة:210]. ¶ وتتواصل الآيات منذرة ضاربة الأمثال لمن سبق، مؤكدة أن هدى الله هو الحق، وأن الجنة لمن صبر وصدق، ولم ينهزم ولم يرتب، بل صمد حتى جاء نصر الله (إن نصر الله قريب) [البقرة:214].ثم تعود الآيات لبيان الأحكام فتبين نوع ومجال الإنفاق، ثم تعود مرة أخرى إلى القتال، وتؤكد أنه مكتوب على المؤمنين وهو كره لهم ولكن الله يعلم ما لا يعلمون، فليقاتلوا وليثبتوا على الدين ومن يرتد عن دينه (فإنهم في النار خالدون) فالكفر والكفار مستمرون على قتال المؤمنين حتى يردوهم عن الدين، فكيف لا يجاهدون ولرحمة الله راجين، ولكي يكون المؤمن صابرا مجاهدا فلا بد أن يتطهر من بعض الآثام والعادات التي بها يردى، ولهذا بين الله أن الخمر والميسر إثم كبير، ثم أكد أن الإنفاق في سبيل الله خير من الإنفاق في الشهوات والآثام، وأن حماية الأيتام من أجل المهام وإصلاحهم من أصول الإسلام، فليكن مال المؤمن في الصرف والإنفاق طاهرا، وليكن في كل حياته مجاهدا صابرا، ومثلما يلزم التطهر في المال فإنه واجب في النكاح والاتصال والتزاوج بين النساء والرجال، فالمشركات والمشركون يدعون إلى النار، وزواجهم لا يليق بالمؤمنين الأطهار، وإن العبيد من المؤمنين والمؤمنات خير من الأحرار، وكما يكون من الشرك طاهرا فإن الاتصال الحلال يجب أن يكون ظاهرا، ولهذا فاعتزال النساء في المحيض طهر يحبه الله، وإتيان النساء للحرث واجب فرضه الله، أما إتيانها للشهوة فإنه عبث لا يرضاه الله. وهنا تعرض الآيات للإيمان في كل الأمور، ولليمين في الزواج، فتبينه الآيات بوضوح، وعلى إثر الإيلاء من الأزواج تأتي آيات الطلاق بين الأزواج موضحة أحكامه وتفاصيله بلا اعوجاج مبينة كل أحواله بما لا يدع مجالا للجاج، ثم وقد ينفصل الزوجان بسبب غير الطلاق وهو الوفاة فحكم ذلك مفصل واضح مبين لكل احتمال. ¶ حتى ينتهي أخيرا بإعادة الوصية بالرفق بالمطلقات والإحسان إليهن بلا إعنات فيقول: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) إنه حق على المتقين وهم الذين هذا الكتاب هدى لهم، فإنه تذكير لهم بأول السورة ليستمروا على طاعة الله والإيمان بما أنزله من الحق ويبقى حكم الله هو المرجع في أي عمل مهما دق والاعتماد عليه هو لمن شاء أن يسبق، ولتأكيد هذا نأتي إلى قصة طالوت الذي بعثه الله ملكا لبني إسرائيل فإذا هو لم يثبت معه إلا الذين يظنون أنهم ملاقوا الله فكان الله معهم وهزموا جالوت رغم قلتهم (والله مع الصابرين)، وهنا تعود السورة لتذكرنا بالآيات وبالرسول والكتاب (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) إن هذا تذكير بقوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا..) الخ الآية، فالموضوع متصل متواصل والآيات تترى بلا فاصل. بلى إن الله يذكرنا بأن الرسل متواصلة الإرسال متتالية الآجال على مختلف الأجيال وكل له شأن وله آية وعليه فإن المسيرة واحدة مهما تباعدت العصور والأزمان. ¶ وتعود الآيات إلى الإنفاق وينادي الله المؤمنين أن يغتنموا الفرصة قبل أن يكونوا ظالمين، فالله هو الرزاق وهم مستخلفون، (أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) [البقرة:254].إن عدم الإنفاق كفر وظلم للنفس مبين، وإن عدم الإنفاق يعني عدم اليقين برب العالمين، ولهذا كان من المناسب أن تأتي هنا آية الكرسي بما فيها من وصف لله العلي العظيم، ثم يعقبها التأكيد على أن الدين اختيار لا إكراه، ومن اختار الطاغوت وهي الدنيا كان في ضلال وظلمات، ثم النار مصيره والمبات، لأنه نسي الله الباقي الذي يحيي ويميت وكل شيء سواه فاني، ولذلك يؤكد هذه الحقيقة في حكاية الذي أماته الله مائة عام فأيقن بعد بعثه أن الله على كل شيء قدير، ثم حكاية إبراهيم عن إحياء الموتى حتى علم أن الله عزيز حكيم، وعلى حرارة هذا الإيمان وصدق هذا اليقين تعود الآيات إلى وصف الإنفاق والمنفقين في سبيل الله، وهي غير الإنفاق في مجال الصدقة التي سبقت. إن هذه الآيات تتناول موضوع الإنفاق الذي يشغل الأيدي العاملة وينقذ المساكين والفقراء من الحاجة والمسكن ، فالإنفاق ينمو ويتضاعف والمجتمع يسعد وبرحمة الله يحف، فمثلهم (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) وهذا أقل صورة المضاعفة بل إن الله يضاعف لمن يشاء بحسب نيته وصدقه، والله واسع عليم، فلا يخفى عليه شيء ولا يظلم المنفق أي شيء بل يضاعف ويفي وله أضعاف ما أنفق في الدنيا والأخرى، فهو كجنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين أما المنافق الذي يمن ويؤذي فإنه كصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا، وتستمر الأمثال للمتق المحسن والمنافق الذي يمن حتى تصل الآيات إلى قوله: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [البقرة:274]. ¶ من هو الذي ينفق بالليل والنهار وسرا وعلانية؟. إنما هو الذي ينفق أمواله في سبيل الله فيقيم المشاريع الصناعية والزراعية والعلاجية والتعليمية يفيد الناس ويبيع لهم بأسعار مناسبة وبأرباح غير مبالغة، وهو يقدم لهم السلعة الجيدة والمتقنة الزكية والنقية من كل غش أو نقصان أو سوء ومع ذلك فهو يشغل الأيدي العاملة وينصفهم في الأجور ويرعاهم في كل حال ولا يمن عليهم ولا يكلفهم بما لا يجوز من الأعمال ولا يطلب منهم منافع تخرج عن نطاق المهمات، وتتجاوز نصوص العقد والاختصاصات، كالتصويت في الانتخابات، أو الشهادة له زورا في الخصومات، كلا فهو يتعامل معهم كمتعاقدين يفي لهم ويفون له في حدود ما تعاقدوا عليه كل في مجال عمله، بلا مجاملة ولا مماطلة فلا يأكل من خلالهم أموالا باطلة ولا يحملهم ما لا يطيقون احتماله، إنهم في أمن معه وسرور وهو معهم سعيد مجبور، وربحه موفور، وحقه وحقهم مضمون وهدفهم جميعا (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). ¶ ولتأكيد هذا المعنى الذي أوضحته لكم والذي توضحه الآيات وبه تحكم؛ تأتي الآيات التي تصور النقيض من هذا المسلك وتصف الطريق المهلك، وهي آيات الربا فإذا بها تعلن (وأحل الله البيع وحرم الربا)، وإن آكل الربا لا ينمو حتى ينتكس كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وكيف لا والله يقول: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) فآكل الربا مكروه وفاعل الصدقات محبوب، وشتان ما بين الاثنين فذلك كفار أثيم، وهذا مؤمن بالله العظيم، ولهذا فإن الله يؤذن آكلي الربا بحرب من الله ورسوله، وينصحهم بالتوبة بل بالتيسير بل بالعفو عن المعسر، واحتساب ذلك صدقة تنفعه حين لا ينفع مال ولا بنون، ولهذا يختم الآيات بقوله: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) [البقرة:281].وهنا تنتهي آيات الأموال المتبادلة، والأموال التي تنفق لتشغيل الأيدي العاملة، لتبدأ آيات تنظيم الدنيا بين الناس وتنظيم التجارة التي تدار بين الناس حاضرة، فتؤكد أن الشهادة لازمة والكتابة واجبة، وأن الشهود والكتاب محروسون من الضرر والتخويف المهين فإن فعل المؤمنون ذلك فإنه فسق عن الدين وعن هدى الله الذي علمهم والله بكل شيء عليم. فليحذر المؤمنون من الانحراف عن الحق والانجراف للهوى وليتقوا الله وليتبعوا الهدى، والله يعلم السر وأخفى، وكيف لا وهو يقول: (لله ما في السماوات وما في الأرض) فله تدبير كل شيء وحي، والناس أهم شيء، فهل يتركهم الله القادر؟ كل بل هو يخص الأعمال والخواطر. (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير) [البقرة:284].وإذن فالإيمان بالله وبما أنزل هو السبيل الآمن للمؤمن الذي يذكر الله فيوجل. ¶ وبهذا فإن الله يعلن أن هذا هو شأن الرسول، وشأن من اتبعه وآمن معه، وعلى سبيل الله استمر فيها يعمل ويقول. إنها الآيات التي تؤكد البدايات، وتعلن أن السورة متواصلة الأحكام متتالية الآيات، بلا انفصام، لأنها من الله العالم: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) [البقرة:285]. لقد سمعوا الكتاب والأحكام وأعلنوا الطاعة والالتزام، وطلبوا الغفران من ربهم الغفور، وكيف لا وإليه المصير وهو العليم بهم والبصير، بل هو اللطيف الخبير؛ لأنه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) ورغم ذلك فإنهم يواصلون الدعاء ويعلنون الافتقار إلى الله لأنه المولى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [البقرة: 286].إن هذا هو غاية الأمل لمن اتقى ولمن بهذا الكتاب اهتدى، وهذا هو أسمى المطمح لمن آمن بالله مع الرسول واستقام على نفس السبيل، وهذا هو المآب الذي يتطلع إليه أولوا الألباب فالله مولاهم في الدارين وهو الناصر في الدنيا ويوم الدين إنه الله رب العالمين. ¶ وبعد: هل اتضح بعد هذا العرض الطويل والبيان الكامل عن أسلوب التنزيل؟ هل اتضح لكم أن القرآن تنزل سورا وأن كل سورة كانت تتلى على الرسول كاملة، وأن آياتها متواصلة بلا انقطاع، وأن البيان فيها كامل الشعاع، لعل ذلك قد اتضح، وعن المراد أفصح، لقد حاولت الإيضاح بقدر الإمكان، ولقد أطلت مع أن الإطالة مملولة لدى أهل البيان. لكني إن أطلت في البقرة، فسوف تكون الأمثلة في بقية السور مختصرة، لقد أردت هنا أن أضع الأنموذج الأمثل، ليكون نبراسا لما يتلوه، وليكون دليلا لما يقفوه. ¶ عسى أن ننال جميعا بذلك العلم بأسلوب تنزيل القرآن، ونكون على بينة من الأمر وبرهان، فإن ذلك شأن الباحث في كل زمان ومكان، فهو يميل للإتقان وينجذب للإحسان، ويجب أن يفيد الإنسان، ويفوز برخاء ربه الرحمن، وبقبول ما يعمله مهما كثر أو هان، وأن قبول القليل هو الفوز بالكثير، وأن الكثير المحيط هو البوار المبير، فنقول كما قال إبراهيم: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).
هل القرآن تنزل سورا أم آيات متفرقات- الجزء الثاني
والآن هل آخذكم إلى آل عمران- لنعرف كيف تنزل القران- أم نتجاوزها،، لعل آل عمران والنساء لها ما للبقرة سواء بسواء، أما المائدة فقد قيل أنها آخر ما أنزل، وقد نزلت كاملة، وكذلك الأنعام فقد روي أنها نزلت ومعها سبعون ألف ملك وأن الرسول استقبلها كاملة وتلاها على الناس مرتلة متواصلة، ومثلها قيل عن الأعراف، أما الأنفال والتوبة فحكاية إنزالها معروفة، فالأولى أعقبت معركة بدر الكبرى، والثانية نزلت عقب تبوك ثم أرسل النبي علي ابن أبي طالب ليقرأها على الناس في الحج كاملة.
وإذا كان لا بد من قول يقال في هذه السور، ليتضح الأمر ويظهر، تعالوا معي إلى سورة آل عمران، ولنقرأ بدايتها: (الم(1)الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2)نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) [آل عمران:1-4].ألا تلاحظون أن الله الحي القيوم هو الذي أنزل الكتاب، ولكي يؤكد القيومية قال: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء(5)هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم(6)) [آل عمران: 5-6].ثم تتوالى الآيات متحدثة عن القرآن فإذا الناس أمامه فريقان: أولهما: هم الذين في قلوبهم زيغ يتبعون المتشابه منه. وثانيهما: الراسخون في العلم الذين (يقولون آمنا به كل من عند ربنا) وهؤلاء هم العقلاء المتذكرون (وما يذكر إلا أولوا الألباب) [آل عمران: 7].ولهذا فهم يدعون ربهم مستعيذين به من الزيغ، (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) [آل عمران: 8].لأنهم يعلمون أن الله محيط بكل شيء علما، وأنه لا يخفى عليه شيء وأن تنزيل القرآن بعلمه الذي يحيط بالماضي والآتي وبالظاهر والخفي فإنهم يقولون: (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) [آل عمران: 9].
وهكذا ندرك أن السورة تبدأ بالحديث عن القرآن وتؤكد أنه أنزل من الله الحي القيوم، وأنه لا يخفى عليه شيء، وأنه هو الذي يصور في الأرحام كل حي، وعليه فإن من كفر به من أهل الكتاب الذين عندهم التوراة والإنجيل هم أصحاب العذاب وانتقام الله منهم وبيل. وبعد ظهور هذه الحقيقة عن التنزيل للقرآن مصدقا لما قبله، تعالوا ننتقل إلى آخر السورة لنجد الحديث متصل الملفات، متواصل الآيات. فإذا الله المنزل يستثني من أهل الكتاب الذين كفروا بآيات الله فريقا مؤمنا بها، وكأن الآيات في السورة متواصلة بغير انقطاع من أولها إلى آخرها، فاستمعوا وعوا: (من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) [آل عمران:199].ثم تختم السورة بالنداء للمؤمنين أولي الألباب الداعين ربهم أن لا يزغ قلوبهم أمام هذا الكتاب، فإذا النداء يؤكد ما بدأ فيقول: (ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) [آل عمران: 200].وما الصبر والمصابرة إلا على الإيمان بالكتاب والآيات المنيرة، وما المرابطة إلا الثبات على الفهم والفقه للآيات بقلوب مطمئنة، وما التقوى إلا العمل بما أنزل الله واليقين بالآخرة ، وهي الحقيقة التي أعلنوها في البداية (إن الله لا يخلف الميعاد) وهكذا فإن الفلاح هو مصير المصابرين المرابطين المتقين من العباد.
Shafi da ba'a sani ba
وبعد: أليس آخر السورة يؤكد بدايتها ويصل أولها بآخرها؟. وبعد: فإذا كانت السورة كما تعرف قد نزلت بعد معركة أحد فتعالوا معي نقرأ الآيات ونتدبر لنعرف أن السورة مترابطة الآيات وأن أولها متصل بما تأخر منها وأن ما عرضته السورة عن المعركة قد لاحت إليه الإشارات من أوائل الآيات، يقول الله: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار) [آل عمران:10].ثم يقول ليؤكد أن الكلام موصول: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب(11)قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد(12)) [آل عمران: 11-12] .بل ويزيد الموضوع وضوحا، والحدث عبرة واتعاضا، فيقول: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) [آل عمران: 13]. إنه إشارة إلى ما حدث في بدر قبل أحد وإنه لوعيد بأن ما جرى من التأبيد سيستمر من الله للمؤمنين ما داموا على طريقه الرشيد. أليس في هذه الآيات من أول السورة ما يؤكد أن الآيات الأولى متصلة بالمتأخرة، ولهذا أعاد الله الآية العاشرة هنا ولكن بصيغة تختلف قليلا عن الأولى فقال: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [آل عمران: 116].
وكما بدأت السورة بالحديث عن القرآن وما قبله من الكتاب فإن الحديث عنه والتذكير به يتواصل في سياق الآيات المتواصل فإذا الله يقول للنبي ومن معه في أواسط السورة ليؤكد أن الآيات متواصلة غير مبتورة، فاستمعوا ما يقول: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) [آل عمران: 84].ثم يعيد التأكيد على الموضوع ليزيدنا يقينا أن مسلسل الآيات غير مقطوع، فإذا آخر السورة نسخ بقوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون) [آل عمران: 187].
إنها تذكير بما سبق من قوله تعالى في البداية: (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد).فأهل الكتاب هم المقصودون والمسلمون يجب أن يحذروا هذا الخسران المبين وأن لا يدعوا الإيمان وهم كاذبون، ولهذا يقول الله عن أهل الكتاب محذرا للمؤمنين بالكتاب: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) [آل عمران: 188]. وهكذا ينطلق المؤمنون أولوا الألباب متفكرين مسبحين مكثرين الاستعاذة بالله من النار، معلنين إيمانهم بما أنزل الله والاستغفار: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار(193)ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد(194)) [آل عمران: 193-194].أليس في هذا اتصال بما بدأته السورة وهو: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) [آل عمران: 7].(ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) [آل عمران: 9].أليس هذا يدل أن الاتصال واضح كالشمس؟، وأن تواصل الآيات في الموضوع بين بلا لبس؟؟ هذه مجرد إشارات سريعة عن آل عمران، ولو استعرضنا تواصل الآيات في السور الطوال، لطال الوقوف، ولكن يكفي أن أقول أن القاري يستطيع أن يدرك ذلك بالسليقة وبالنظر المستبصر المتأني، لاسيما إذا كان خالي الذهن من المسلمات القديمة، وغير ها من الأقاويل التي لا تعتمد على حقائق قويمة، وإن كان لا بد من مرجع أدله عليه؛ فليقرأ مقدمات السور في كتاب العلامة سيد قطب المسمى (في ظلال القرآن) فإن فيه الشفاء والبرهان.
وعلى أي حال فإن هذه الإحالة لا تعني ترك القارئ الآن قبل الأوان، ولكني أدعوه معي إلى سور الثلث الثاني من القرآن. لنبدأ من الجزء الحادي عشر، وسنجد فيه وما يليه أهم السور: (يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر). ولنستأنس للدخول إلى هذه السور بسورة يونس: سنجد أن السورة تبدأ بقوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم(1)) .ثم قوله: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين(2)).أولى الآيتين تشير إلى أن السورة فيها آيات الكتاب الحكيم فهي كتاب متكامل، إذن فالسورة آيات والكتاب حكيم، ولا يمكن أن يكون هناك كتاب إلا بآيات مرتبة الكتائب، منظمة بشكل صائب، متتابعة بأسلوب رصين. بهذا يصح أن يسمى كتابا وأن يسمى الكتاب حكيما، وإلا فكيف تلوح الحكمة من فقرات بلا اتصال، هذا لا يليق بذي الجلال. ثم إن الآية الثانية تستنكر أن يعجب الناس من وحي الله إلى رجل منهم لينذرهم ويبشرهم؛ وكيف لا وهو ربهم الذي خلق وقدر، واستمر يدبر الأمر!!فهو يعلم كل شيء ولا شفيع لديه فيما يدبر، إذن فالعجب العجاب ممن لا يتذكر. لا أحتاج هنا أن أورد على القارئ الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة من الآيات التي تؤكد علمه بكل شيء في الأرض والسماوات، فالقارئ يمكن أن يعود إليها ويتدبرها ليجد الله محيط بكل شيء علما، وأنه أحكم حكما. ولهذا فإني أدعو القارئ إلى آخر السورة ليتأكد أن أول الآيات ينظر إلى الأخيرة، وأن آخرها يرتبط بأولها بطريقة منيرة. لنقرأ الختام، فإنه يشير إلى البداية بإحكام: (قل ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل(108)). أليس في هذا ما بيين لنا أن البداية تفتقر إلى النهاية والنهاية تؤكد البداية، ثم استعيدوا معي قوله تعالى في البداية: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس)، ثم قول الناس: (إن هذا لساحر مبين) ثم اقرأوا معي قوله تعالى في آخر السورة أو في الآية الأخيرة: (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين(109)). أليس في هذا ردا على قولهم "إن هذا لساحر مبين" ثم على قولهم افتراء في وسط السورة؟؟بل إنه تثبيت للرسول الذي يتهم بالافتراء على الله، بل إن وسط السورة عدد من الآيات تدل على تواصل الآيات بلا انقطاع، ونكتفي منها بالآيتين 37 و38 من السورة، التي يقول الله فيهما: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين(37)). (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين(38)). وهكذا يتواصل الحديث عن القرآن والرسول حتى الآية 44، التي تذكرنا أن السورة متواصلة الموضوع، وأن الحديث غير مقطوع، بل إن الجزء قبل الأخير من السورة يشير إلى أن الحديث موصول الآيات، كاتصال الرسول بربه منزل الآيات، وكتواصل الرسل السابقين واللاحقين والرسالات. يقول الله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين(94)). (ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين(95)).
إذن فالحق قد جاء والشك في تواصل الآيات يجب أن يلغى، والخسران والعذاب عاقبة من ادعى أن القرآن مفترى، وهو مصير من جادل وافترى. أليس في هذا ما يؤكد لكم بأن السورة بدأت آياتها ثم تواصلت حتى النهاية، وأن موضوعها متتابع البيان بحكمة ودراية، تليق برب العالمين العليم بكل بداية ونهاية، والذي خلق كل شيء لغاية، فهو الحق الذي يقول الحق، وقوله يتواصل حتى الكمال، كما يتواصل الخلق حتى الاكتمال. فهذا هو اللائق بالله ذي الجلال والإكرام، وهو الجدير بالحكيم العلام، وبهذه الحكمة وبهذه الخبرة، أنزل ما يلي هذه السورة، وهي سورة هود، لنقرأ البداية ثم نتأمل النهاية: يقول الله: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير(1)).فهوالحكيم الخبير الذي أنزل هذا الكتاب المنير، وهو على كل شيء قدير، ولتأكيد هذه الصفات ولتأكيد تواصل الإنزال والآيات؛ يقول في الآية 12 مخاطبا الرسول الذي أوحي إليه التنزيل: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل(12)). إن من هو على كل شيء وكيل، لا بد أن يواصل آيات السور في التنزيل، حتى يكتمل البيان فيها والأحكام والتفصيل، ولكي تكون على يقين أن السور تنزل كاملة، لتقرأ الآية التالية، فإن فيها الدليل المبين: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين(13)فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون(14)).
وأنا أقول لكم أيها القراء: هل أنتم مسلمون الآن أن السور كانت تنزل كاملة الآيات والبيان؟.ها هو الله يتحدى الكاذبين المتهمين للرسول بالافتراء فتحداهم بعشر سور لا بعشر آيات، أليس في هذا ما يؤكد أن السور كانت تتواصل من البداية حتى النهاية؟؟ بلى بلى. وكيف لا وقد تنزل بعلم الله!! وعلم الله محيط بكل شيء وهو لا سواه الإله. بل إن الله سبحانه يذكرنا في هذه السورة، ويورد التذكير بصورة منيرة، فبينما هو يقص علينا قصة نوح إذا به يقطع الحديث عن نوح ويعود إلى القرآن متحدثا بجملة وآية معترضة ومنها التحدي يلوح، فيقول معيدا لنفس السؤال القبيح: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون(35)).فالمجرمون هم المدعون أن النبي افترى، أما هو فقد بلغ ما ربه إليه أوحى، نعم لقد أوحى إليه كما أوحى إلى نوح من قبله، ولهذا تأتي الآية التالية عائدة إلى نوح، توكد على الوحي الذي لا مراء فيه ولا امتراء، فيقول: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون(36) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون(37)). فإذا كان الله قد أوحى إلى نوح كيف يصنع، واستمر الوحي بأعين الله حتى اكتمل العمل بلا انقطاع، فكيف لا يوحي إلى محمد كيف يقول !! وكيف لا يتواصل التنزيل وتتوالى الآيات بتنزيل وتفصيل أليس هو الحكيم الخبير!!أليس هو الذي أحكم الآيات ثم فصلها للإنذار والتبشير!! أليس هو على كل شيء قدير؟؟بلى. وعلى هذا استمرت السورة تقص وحي الله للرسل ونصرة لمن آمن وشكر، وتدمير من كذب وكفر، حتى تصل إلى قوله تعالى في أواخر السورة: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد(100)). إنه إجمال لما فصل، وتذكير بأن الله يعلم الماضي والمستقبل، وتتواصل الآيات إلى الآية رقم (120) وفيها يقول الله الأجل: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين). إن كلمة (هذه) في الآية تؤكد أن السورة تواصلت آياتها حتى وصلت إلى هذه الآية وما يليها. وما هو الذي يليها أيها الكرام؟ إنه ثلاث آيات فقط ويحين الختام، فاقرأوا باهتمام، وكونوا من أولي الأفهام، يقول الملك العلام: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون(121)). هكذا يكون الاطمئنان بالله الحكيم، الذي إليه المرجع وهو بكل خلق عليم. ولهذا فإنه يختم السورة بصفات تؤكد الصفات التي بدأت بها، فهو الحكيم الخبير في البداية، أما في النهاية فهو كما يقول: (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون(123)). أليست هذه الآية تتصل بقوله تعالى في البداية (من لدن حكيم خبير)، ثم قوله: (إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير(4))، أليست الذي يصف نفسه بقوله: (وما ربك بغافل عما تعملون) هنا، هو الذي يتطابق مع وصفه هناك بقوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور(5)). أليس من له غيب السماوات والأرض هنا هو الذي يوصف بقوله هناك: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين(6)). أليس الذي قال (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) هناك هو الذي يحكي هنا (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين(120)).
أخيرا: أليس ما أوردته لكم في هذه السورة يوضح البيان ويفصح عن كمال الصورة؟؟أليس الحكيم الخبير هو الذي بالبيان والحكمة جدير؟، وهو الذي ومنه تتواصل الآيات، حتى يكتمل التفصيل ويشع التنزيل؟.بلى بلى ، إن هذا هو الحق الذي لا يختلف عليه أحد، ولا يماري فيه إلا من للفهم افتقد، وعلى الخرافات والأساطير اعتمد، وعن البحث والمعرفة قعد، حتى اختل فهمه وفسد.
ومن سورة هود نقفز بكم سريعا إلى يوسف الذي تبدأ سورته بالسجود، ولست بحاجة إلى تأكيد تواصل آياتها وترابط أحداثها، من بدايتها حتى نهايتها، فذلك معروف لمن قرأها بإتقان، وتدبرها بإمعان، ولا يشك في ذلك إلا خاسر الرهان. فها هي تبدأ بقوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب المبين(1)إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(2))، ويأتي في أواخرها قوله تعالى عن القرآن: (وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين(104))، فالضمير هنا في آخر السورة يعود إلى القرآن المذكور في أولها، أليس هذا يدل على تواصل الآيات وترابطها؟. ثم إن الله يقول في آيات البداية: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين(3)). ثم تبدأ القصة بقوله تعالى: (إذ قال يوسف لأبيه ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين(4)).
ويأتي في الختام ما يشير إلى البداية بكل وضوح، فيقول عن يوسف: (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء)، ثم إن هذا الآية تختم بقوله تعالى: (إنه هو العليم الحكيم(100))، وهو نفس ما ختمت الآية رقم (6) في أولها، وأبوه يبشره برؤياه ويقول (إن ربك عليم حكيم)، ثم ها هي الآية رقم 7 تقول في أول السورة: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين(7))، ثم تأتي الآية رقم 102 في آخر السورة فتقول (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون(102))، فتؤكد لنا أن السورة أنزلت كاملة من البداية حتى النهاية بل إنها ختمت بآية تدل على أن قصص الأنبياء جميعا تأتي كاملة مفصلة، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون(111)).
أما سورة الرعد فهي كلها عن القرآن من أولها إلى آخرها وهي كلها تؤكد رسالة محمد وتعلن أن (المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون(1)). ثم تأتي الآيات التي تؤكد أن الإنزال من الله فإذا بها تورد عددا من صفات الله وقدرته وحكمته ورحمته وأن الحق في دعوته فمن دعاه أجاب، (له دعوة الحق (14)) ثم (قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار(16)) وعلى هذا فمن استجاب لله فاز بالحسنى، ومن لم يستجب فله لظى، كيف لا والمستجيب عنده العلم الحق، والمكذب أعمى في ظلام مطبق. (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب(19)). ثم تأتي الآيات التي تصف العليم بالحق المنزل حتى تصل إلى قوله تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب(28))، وتستمر الآيات تؤكد أن الرسول أرسل ليتلو هذا الكتاب وأن هذا الكتاب منزل ممن (هو قائم على كل نفس بما كسبت (33))وأن هذا الكتاب المنزل حكما عربيا هو الحق الذي لا ينكره إلا ذو الغواية، فلماذا يطلب الناس سواه آية، كلا فلا آية إلا بإذن الله، وما على الرسول إلا البلاغ، فإذا بلغ فقد ثبتت الحجة لله على الناس وأصبح المكذب مستحقا للعذاب في الوقت المناسب فالله عنده (لكل أجل كتاب)، وهكذا تستمر السورة متحدثة عن القرآن حتى تختم بقوله تعالى: (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب(43)). لقد بدأت السورة بقوله : تلك آيات الكتاب، وانتهت بكلمة الكتاب، فهل بعد هذا يكون في نزولها كاملة ارتياب؟. وكذلك سواها من السور الصغار والكبار كلها تتنزل كاملة بلا انبتار، قل لي أيها القارئ، ما معنى (رتل) بسكون الباء، وأرتال؟ إنه يعني مجموعة من الناس متراتلين متواصلين سائرين جميعا، وهكذا هو القرآن (كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا)، أي أن الله يجمع الآيات أرتالا فتكون مجموعة في سورة كاملة.
Shafi da ba'a sani ba
وعلى أي حال فإن كل سورة نزلت كاملة مجموعة، ولكن السورة تنزلت منجمة المواعيد، فلقد كان تنجل السور والسورة زمن يطول أو يقصر بحسب مشيئة الله، وما على الرسول إلا أن يستقبل متى شاء الله بدون سبب ولا داع لما يتلقاه سوى إرادة الله الذي أراد أن ينزل هذا القرآن على قلبه ليبلغه للناس مرتلا متتابع الجرعات فلا يمل ولا يكل ولا يثقل، بل يجعل الناس عليه تقبل، (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا). فهو مفروق السور المتباعدة المتعددة، متواصل آيات السورة الواحدة،
وعلى هذا تفهم السورة التي تلي سورة الرعد تلك هي سورة إبراهيم، ها هي تبدأ بقوله: (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد(1)). ثم يقص الله فيه قصة كل الرسل مع المكذبين، فإذا النصر فيها للمرسلين الذين يخافون الله ويبلغون رسالاته (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين(13)). وإذا (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد(18)). وإذا القيادات الضالة المضلة تتخلى عن الأتباع في يوم الحسرة، ولكن الجميع ما لهم من محيص، كما أن الشيطان يزيدهم حسرة ويعلن أن الحق من ربهم هو الذي جاءت به رسهلم، فكيف استجابوا ما يعده به عدوهم، فهو اليوم يؤمهم، وبهذا يتضح أن الرسل واتباعهم وما أنزله الله عليهم، هم الشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين، وأن المكذبين هم الشجرة الخبيثة المخبثة ما لها من قرار، ولتأكيد هذا تأتي الآيات التي تؤكد أن دعوة إبراهيم لا تزال تؤتي أكلها كل حين في البلد الحرام، وأن أتباعه هم الباقون على الحق ونبذ الأصنام، ولهذا فهم عن إبراهيم وهم من دعى لهم بقوله (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء(40)ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب(41))، فالظالمون هم الخاسرون وهم يتمنون أن يمهلوا عند العذاب بقولهم: (ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل(44)). ولكن لا أمل ولا نجاة فلقد جاءهم البلاغ وجاءتهم الرسل فكانوا غافلين عن دعوة الله فلا بد من يوم مؤخر لينال فيه كل عبد جزاء ما قدم وأخر. (ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب(51))، فلنستعد لذلك اليوم، فلقد جاء النذير اليوم فلا لوم.وبعد: ألم تكن السورة معلنة في البداية أن الكتاب أنزل إلى الرسول ليخرج الناس من الظلمات إلى النور؟ أليس في آياتها البلاغ والإنذار والتذكير؟ أليس الرسول محمد الخاتم وكل الرسل من قبله قد بلغوا ما أنزله الله؟ أليس كل الرسل قد أنذروا بأيام الله؟ إذن فمن كذب الرسل فلا بد أن يلقى جزاه: (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام(47)). وكيف لا وقد جاء البلاغ!! (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب(52)). لقد اتضح في سورة إبراهيم أن البلاغ في السورة متواصل وأن السور كلها أنزلت بشكل متواصل.
ولتأكيد هذا أكثر فلنستمر في الدلائل، هيا معا إلى سورة الحجر إنها تبدأ بقوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين(1)). إن البداية تشير إلى الآيات لا إلى الآية، مما يؤكد أن آيات السورة ستنزل كاملة متواصلة، ولهذا فإن السورة ختمت بقوله تعالى: (إن ربك هو الخلاق العليم(86)ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم(87))، ثم تقول للرسول: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين(94)إنا كفيناك المستهزئين(95)). إن هذه الآيات في الختام تنزل على ما سبق أول السورة (وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون(6)). ولكن الله يعلن علمه بما يقولون وعلمه بما يفعله الرسول من البلاغ المبين فليطمئن وليكن من المسبحين (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون(97)فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين(98) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين(99)). لماذا، لأن الله يعلم ما يقولون، فهو المجازي لهم الجزاء الذي يستحقون، وهو يعلم ما يعمله الرسول فما عليه إلا الاستمرار على البلاغ المبين، وسيرى اليقين. أليس في هذا أيها القارئ العزيز قد أتاك اليقين بما أقوله لك منذ حين، أليس في هذه الدلائل ما يقنعك أن كل سورة نزلت آياتها بشكل متواصل، وهنا أتوقف في أواخر النصف الأول من القرآن، فلقد طال معه الوقوف وطال الاستدلال والبيان، ولعل القارئ قد أحس بالملل واكتفى بما تقدم من البرهان.
ولكني مع ذلك أرجوك أيها القارئ أن تواصل معي المسير المتأني، إلى السور التي في النصف الثاني. لن أطيل كما فعلت في الأول، ولكني سأوردها باختصار لا يبعث الملل، مع علمنا أن سورتي الإسراء والكهف كلاهما عن القرآن، وأن آياتهما متواصلة حول الموضوع بلا انقطاع حتى ختمت الأولى بقوله: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) [الإسراء:105 ].(قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) [الإسراء:107 ]. وجاء في البداية: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا(9)). بينما ذكر القرآن في السورة أكثر من مرة في الآيات 45 وما يليها والآية 73 و86 وما يليها إلى قوله (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل (89)).
وفي الكهف كانت البداية (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا(1)قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا(2)ماكثين فيه أبدا(3)). ولنقرأ في منتصف السورة: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا(54))، ثم ختمت السورة بما تضمنته البداية: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا(110)). أليس في هذا تأكيد لقوله: (قيما لينذر بأسا شديدا)، و(أجرا حسنا) و(وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا(4))، التي وردت في البداية بلا إذن فالموضوع متصل من البداية حتى النهاية وهكذا في كل سورة فلنواصل المسير لنزيدكم دراية.
أما لو انتقلنا إلى النصف الثاني من القرآن فسنجد أن سورة الإسراء جاء فيها قوله تعالى في الآية رقم (9): (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا(9))، وجاء في آخرها قوله تعالى في الآيتين 105، 106: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا(105)وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا(106)). كما أن السورة لم تخل في أواسطها عن ذكر القرآن فيقول الله في الآية 45: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا(45)).ويقول في الآية رقم 79: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) والضمير للقرآن.وفي الآية: 88: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا(88))، إلى آخر الآيات التي تليها حتى (100). أليس في هذا ما يؤكد أن السورة نزلت كاملة، وكذلك سواها من السور، فالموضوع متصل والفقرات متوالية يشد بعضها بعضا ،، كالإسراء أليس أنه تم متواصل الحلقات متتابع اللحظات، واضح الآيات، (لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير(1)). فكما رأى آيات السماء وآيات ربه خالق كل شيء وخالق الإنسان؛ فلا بد أن تكون كذلك آيات القرآن، فسبحان الذي أسرى بعبده سبحان، فآياته مبينة متوالية، سواء في السماوات والأرض كلها أو في كهف صغير منها، فلقد توالت الآيات في الكهف كما توالت سورة الكهف. ألم يكن للفتية فيه آية تلي آية، فالاعتزال ثم الإيواء ثم الضرب على الآذان ثم المنام ثم التقليب ثم الاستيقاظ ثم الإعثار عليهم ثم عودتهم إلى كهفهم كلها آيات (ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا(17- الكهف)).
وها هنا فلندخل سورة الكهف عسى أن نجد فيها ما يدعم الفكرة ويجعل القضية منيرة، ولنقرأ الآية رقم 1: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا(1))، ثم ما يليها حتى الآية 61. ثم نتجاوز قصة أصحاب الكهف التي تدعم أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، لنصل إلى قوله تعالى في الآية 27 من السورة، وعقب قصة أصحاب الكهف مباشرة: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا(27)). ثم تتوالى الآيات لتؤكد أن كلمات الله هي الباقية وأن لا ملجأ منه إلا إليه حتى نصل إلى قوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا(54)). مع الآيات التي تليها كأنها متصلة بالموضوع حتى الآية 59. ثم تأتي قصة موسى مع عبد الله العلامة الذي أوتي علما ورحمة، ثم قصة ذي القرنين ،، وكلا القصتين تؤكد علم الله المحيط بما كان وما يكون والذي يوحي إلى عباده بالخير وبما به يسعدون ولكنهم للهوى يتبعون، فإذا هم أو أكثرهم من الذين يقال عنهم: (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا(104))، هؤلاء هم الأخسرون أعمالا، لماذا هذا الضلال والخسران!! إن الله يوضح لنا البيان، إنه لسبب هذا القرآن: (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا(105))، ما هو الجزاء؟، (ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا(106)). إذن فالسورة كلها قرآن وموضوعها القرآن من البداية حتى النهاية. ألم تبدأ بالحمد لله على إنزال الكتاب؟، ألم يأت في أولها قوله تعالى مخاطبا للرسول: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا(6))، وإذن فإن المستهزئ بالآيات والمكذب له جهنم، والمستجيب له الجنة: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا(107)خالدين فيها لا يبغون عنها حولا(108)). وعليه: فإن الوحي هو الحياة وهو سبيل النجاة، وهو موضوع السورة، (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا(110)).
لعل صعودنا مع الإسراء وصحابه الكريم، وهبوطنا مع أصحاب الكهف والرقيم، قد زاد القضية وضوحا وبيانا "كيف كان ينزل الله القرآن". إن الآيات في الكتاب تدفع كل ارتياب، وتنفع أولي الألباب.ولهذا فأنا إلى المزيد من الآيات أدعوهم، وإلى سورة طه أواعدهم، ها هي تبدأ بالآيات 1و2و3: (طه(1)ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى(2)إلا تذكرة لمن يخشى(3)). ثم من أين الإنزال؟. ها هو الجواب: (تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)). هل هذا الوصف يكفي لمنزل القرآن؟ إنه يكفي، ولكن قوله (على العرش استوى) ماذا يعني؟ إن الجواب بعد هذا يأتي: (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)). فهو المدبر لكل الخلق، وهو العليم بكل سر وجهر، بل هو العليم بأخفى من السر، فإذن فالقرآن هو النور والعلم الذي لا يضل به من تذكر، ومن تذكر بالقرآن وله دعى، فلا بد أن يوحد الله ويخشى، وكيف لا وهو: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى(8)). وهذا المنبع المنيع، والمقام الرفيع، والنور الوسيع، جاء به القرآن، وبهذا العلم الوسيع يقص علينا الله حديث موسى مع فرعون وهو حديث ذو علم عجيب، وفيه التفاصيل التي لا يعلمها إلا علام الغيوب.
فنجوى الناس في الغرف المغلقة، ترد لنا واضحة محققة، وخلجات القلوب الخافقة، نسمعها في الآيات منطلقة، ووسواس النفوس الفاسدة، نراه في القصة بصورة مجسدة. حتى إذا انتهى الحديث عن موسى واكتمل المراد، جاء الحديث عن القرآن وعاد، فإذا بنا نقرأ قول الله مخاطبا رسوله محمد وكل العباد: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا(99)من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا(100)). وتتواصل الآيات لتصل إلى الغاية من الحديث عن القرآن، فإذا بنا نقرأ: (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا(113)فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما(114)). تأملوا: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) أليس فيها كما سبق أن أكدنا في بداية هذا البحث ما يدل على أن السور كانت تنزل كاملة، وإلا فلماذا استعجل الرسول في تحريك لسانه بالقرآن، إذا كان المنزل عليه آية أو آيتان، (فتعالى الله الملك الحق) أن يكون الإنزال بهذا الأسلوب الذي لا يليق بالرحمن. وبعد: فيكفي هذا، ولنواصل المشوار مع الآيات لنصل إلى قوله تعالى عقب قصة آدم: (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى(123))، ثم إن هذه الآية وما يليها من الآيات حتى 132 حديث موصول عن القرآن، وتأكيد على أنه الحق الذي أنزله الرحمن هدى للإنسان ، وسيسمع يوم الحساب ما لم يكن في الحسبان، إذا نسي القرآن: (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى(126)). وهكذا تتوالى الآيات وتتلألا البينات حتى إذا السورة قاربت من الختام، نجد القرآن هو الهدف والمرام، وإذا بنا نقرأ: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى(134)).
إنه أمل محال وأماني تدل على الخبال، فلقد جاء القرآن تذكرة لمن يخشى، فليتذكرالإنسان من قبل أن يذل ويخزى، يومئذ يتذكر وأنى له الذكرى، لقد كذب واستهزأ، فهو بما قدم اليوم يجزى، فلقد قدم الله إليه الوعيد وإلى الحق دعى، فهو يجزيه بما وعى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فطوبى لمن وعى ، وعلى هدى الله سعى، ولعهد الله رعى، وتبا لمن كذب وعصى، وأدبر عن ربه وأقبل على الدنيا، وأعرض عن الهدى واتبع الهوى، إنه لنفسه في النار أردى، وما يغني عنه ماله إذا تردى، إن المكذب متربص مصدق للأماني، ولكنه غافل والله يعد له عدا. (قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى) الآية الختام 135 من سورة طه. وما الصراط السوي إلا القرآن، وما الهدى إلا هدى الله الرحمن، ولقد قال لنا بكامل البيان (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى(123)ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى(124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا(125)قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى(126)).
Shafi da ba'a sani ba
وبعد فلعل سورة طه قد أضافت إلى الموضوع البيان الذي لا يضاها، فهل يكفي أم تريدون المزيد الذي يشفي. لن أدخل بكم في محراب الأنبياء وسورتهم، ولن آخذكم إلى محراب الحجاج من الناس وقبلتهم، ولن أشغل المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون، ولن أعود بكم إلى سورة النور، التي تؤكد أن القرآن أنزل سورا من الله الخبير كما عرفنا قبل هذا. ولكني سأرقى بكم الى المقام المبارك، الذي ينفرد به الله ولا يشارك: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا(1)الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا(2)). إنها سورة الفرقان وإن فيها لنا مزيد من البرهان، ويكفي أن أدعوكم إلى المرور عليها مرور الكرام، فإن البركات ستفتح عليكم ما دمتم تمرون على الآيات بوعي واهتمام، وبإمعان أولي الأفهام، إن البركات ستنهال عليكم والسلام، وكيف لا وأنتم من عباد الرحمن (الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما(63)). لقد بدأت السورة بالفرقان، وانتصفت وهي تتحدث عن القرآن: (وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا(30)). وقاربت الختام وهي تتلفت إلى القرآن: (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا(57)). ثم ختمت بقوله: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما(77)). إن الفرقان يدعو الناس للإسلام لينالوا سلاما، وينذر الناس العذاب فإن كذبوا فسوف يكون لزاما. وهكذا فإن السورة بما بدأت تختم، وتكرس لموضوع واحد هو القرآن وبه تهتم، أليس في هذا ما يؤكد القضية ويدعم. قد استدعي شهود آخرين ليسو في مستوى الفرقان وعباد الرحمن، ولكن لهم عند الله شأن إذا كانوا من أهل الإيمان، أتدرون منهم أيها الأحباء؟. إنهم إخواننا الشعراء. قد تقولون: فماذا سنجد لديهم من الأدلة على ما تقول وهم يقولون ما لا يفعلون؟. أقول: نعم، ولكنهم قد ينفعون إذا كانوا لله ذاكرين، وهذا هو السبيل لكل الناس ليكون عند الله من المحسنين المقربين، فمهما كانت أعمالهم ومهنهم الدنيوية فأعمالهم هي التي تبرئهم عند رب البرية.
نعم الشعراء هم فئة هامة في المجتمع إذا كانوا مؤمنين بالله وله ذاكرين، وللحق منتصرين من الظالمين، وللفساد مقاومين، وللجهاد داعين، وإليه سائرين، ولهذا كانت السورة باسمهم؛ لأنهم عنصر في الأمة مهم، وصوف رفيع للدفاع عن أمتهم. إنهم يفصحون عن ضمير الأمة، ويقولون الحق في كل قضية ومهمة، ولهذا فإن السورة مفصحة عما نريده من الأدلة على أن سورة القرآن كانت تنزل كاملة. سورة الشعراء. إن السورة تبدأ بقوله تعالى: (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2)). ثم تخاطب النبي المبلغ للكتاب: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين(3)إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين(4)). إذن فالآيات التي يريدها المكذبون تعني تلك الآيات التي جاء بها موسى وعيسى وصالح فكذب بها الأولون، لكن الله هنا يؤكد للنبي وللناس أجمعين أنه غير عاجز عن إنزال آية تخضع الرقاب، ولكنه يكتفي بهذه الآيات في هذا الكتاب، ولكنهم يعرضون عن العلم الذي يأتيهم من الرحمن؛ لأنهم متبعون للهوى الذي يقودهم إلى الخسران، فالاستهزاء عاقبة الهوان. ومع ذلك فهو الله يوجه الناس إلى التفكير في آيات الأرض البينات، التي تفصح عنها كل المخلوقات: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(8)).إن آيات الخلق تدل على الحق، وتدل على أن الله عليم بكل شيء، وغني عن كل شيء وحي، ولكنه يرسل الرسل وينزل الذكر رحمة بالناس، وهو الرب العزيز الغالب على أمره، والرحيم بالإنسان رغم كفره: (وإن ربك لهو العزيز الرحيم(68)). وبهذه الصفات لرب العالمين، أنزل هذا الذكر للعالمين، وبهذا العلم المحيط بالأولين والآخرين؛ بدأت السورة تقص قصص السابقين، وتتوالى الآيات من موسى، وآياته مع فرعون وإفكه، إلى شعيب مع أصحاب الأيكة، وكلهم كذب المرسلين، فكان الهلاك مصير الأولين والآخرين. (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(103)وإن ربك لهو العزيز الرحيم(104)). وحينما تنتهي الآيات من القصص المنيرة، تعود إلى ما بدأته السورة؛ وهو التأكيد على أن آيات الكتاب المبين، تنزيل من رب العالمين (نزل به الروح الأمين(193)على قلبك لتكون من المنذرين(194)بلسان عربي مبين(195)). إذن فمحمد من المنذرين، ومسبوق بغيره من المرسلين، وهذا القرآن هو الذي عند السابقين، (وإنه لفي زبر الأولين(196)). فالكتاب واحد، والدين واحد، والتنزيل من الله الواحد، ومنه نزل القرآن سورا متواصلة الآيات، بدليل هذه النهاية التي تتصل بالبدايات، وهكذا تتواصل الآيات حتى آخر السورة، وهي تتحدث عن القرآن، وتواصل التأكيد على أنه نزل بعلم الرحمن، وأنه العليم بكل ما يكون وما كان، وهو معنا في كل حال ومكان؛ ولهذا فإن التوكل عليه اطمئنان. (وتوكل على العزيز الرحيم(217)الذي يراك حين تقوم(218)وتقلبك في الساجدين (219)إنه هو السميع العليم(220)). ألم تكن شهادة الشعراء قوية الدلالة، بليغة الأداء، تزيد الموضوع سطوعا وجلاء؟؟بلى بلى،
ولكن النمل على الشهادة أقوى رغم عجمتها؛ فلقد كانت في واديها حارسة يقضة لأمتها، صادقة في كلمتها، فلنستشهد بها في القضية، ولنجعلها مع الناس مستوية، لنقرأ البداية في سورة النمل: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين(1)) ثم قوله تعالى لرسوله: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم(6)). فالحكيم العليم هو الملقي، والرسول الأمين هو المتلقي، والذي يلقى هو آيات القرآن وكتاب مبين، وهكذا تبدأ السورة وبالحكمة والبيان تقص القصص السليمانية والسبائية، ثم تختم بقصة قوم صالح الفاسدين، الذين يخافون من الصالحين، وقوم لوط الملوثين، الذين يكرهون المتطهرين: (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون(56)). وهنا تبدأ الآيات تثني على الله، الذي لا إله سواه، ولا يعلم الغيب إلا هو، وتفصح عن بديع خلقه: (صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون(88)). وهذا البديع الخبير، وهذا الإله العليم القدير، هو الذي أنزل القرآن للإنسان، وبدأ السورة بالقرآن، وختمها بالقرآن. وها نحن نقرأ ما يقوله لرسوله محمد الذي تلقى منه القرآن، ونقرأ كيف يعلمه بحنان، ويدله على القول الحكيم القوي البرهان: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين(91)وأن أتلو القرآن). فإنما أمر محمد من ربه بأن يعبده وحده بإخلاص ويقين، وصفته أنه من المسلمين، المؤمنين بما أنزله رب العالمين. أما مهمته فهي محصورة فقط، ومقصورة على قوله: (وأن أتلو القرآن) فالقرآن مهمته، وإبلاغه إلى الناس وظيفته، وتلك مهمة رفيعة المقام الكريم، لأنه تلقاه من حكيم عليم. ثم إن الله معه يعين، وهو عليم بالضالين وبالمهتدين. (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) (بقية الآية92). إنه واحد من المنذرين، وليس بدعا في المرسلين، بل دينهم له دين، وهو خاتمهم إلى العالمين. وما عليه إلا إبلاغ الآيات، وسيعرفها الناس بإذن الله مهما طالت السنوات، فالله عالم بالخفيات ، (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون(93)). أليست شهادة النمل واضحة الدلالة بأن السور تنزلت كاملة الآيات؟.بلى بلى إن ذلك واضح لكي ذي لب ذاكر، وقلب شاكر (إنما يتذكر أولوا الألباب)
وبعد سورة الشعراء أدعوكم إلى ما قص الله في سورة القصص وما تلى، لقد بدأتها بقوله: (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2)نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون(3)). هكذا تبدأ السورة بالإشارة إلى آيات الكتاب، وتشير إلى فحوى السورة باقتضاب، ثم تنطلق القصص وتتوالى الأحداث وتتلى، حتى تصل إلى المنتهى. فإذا بالآيات تعود إلى الحديث عن القرآن، فتؤكد أولا أن الله قد أنزل على موسى الكتاب وفيه دليل على إنزال القرآن والبرهان؛ (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون(43)). فالله من شأنه أن يرسل الرسل وأن ينزل الكتب والناس محتاجون لهداه ورحمته، وعليهم أن يصدقوا لعلهم يتذكرون. وما كان لمحمد علم بما كان، لولا هذا الوحي من الرحمن؛ (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين(44)ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين(45)وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون(46)). وإذن فالغاية واحدة والشأن مستمر والرحمة متواصلة والتذكر مرجو للناس في كل حين، وهكذا أنزل القرآن على محمد خاتم النبيين، ولكن الناس كانوا وما زالوا يواجهون ما أرسل بالارتياب والتكذيب، ويطلبون من الرسل البراهين، والحق أمامهم واضح لكل العاقلين. (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون(48)قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين(49)). لكن الظالمين لا يسمعون ولا يعون الحجاج، بل يتبعون اللجاج، والهوى والاعوجاج (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين(50) ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون(51)).فالحجة قد لزمتهم وهم ظالمون، ومع هذا فغفلتهم طاغية،وأعذارهم واهية؛ (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) إنه عذر سقيم عقيم، ولهذا فالله يبطله بقوله الحكيم: (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون(57)). وهكذا يستمر الحجاج، مع أصحاب اللجاج، وتتوالى الآيات في السورة تضع البراهين على أن آياتها متواصلة غير مبتورة، حتى تصل إلى قصة قارون التي لها صلة بموسى وفرعون، ولتؤكد أن القصص تتوالى بالحق لقوم يؤمنون، حتى تصل إلى نهاية السورة لتعلن أن الختام يؤكد البداية، فاستمعوا وعوا: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين(85) وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين(86))، فالسورة كاملة تتلى وتلقى، والآيات من أولها إلى آخرها تتوالى.
لعل سورة القصص قد أوضحت القضية بصورة جلية، ولعلي لا أكلفكم شططا إذا واصلت استعراض السور على التوالي، ولهذا فأنا أدعوكم إلى تدبرها بشكل انفرادي، ويكفي أنني قد وضعت أمامكم منهج البحث والتدبر، وأصبح أمامكم السبيل سهلا للاستبصار والتذكر. فسورة لقمان وسورة السجدة كلها حديث عن القرآن وموضوعهما هو التأكيد على أنه من الرحمن، فتأملوا بإمعان لتجدوا القضية واضحة للعيان، ولنشرع الخطو مستأنسين بسورة يس. فنجدها تبدأ بقوله: (يس(1)والقرآن الحكيم(2))، ويتوسطها قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين(69)لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين(70))، فالضمير يعود إلى القرآن، وكأنه قريب من الأذهان، مع أن ذكره قد سبق هذه الآية بسبعين آية.وكذلك نجد القضية في سورة (ص): فقد بدأت بقوله: (ص والقرآن ذي الذكر(1))، ويتوسطها قوله تعالى خلال قصة داوود وسليمان: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب(29))، ثم يعود إلى قصة سليمان وتتواصل القصص حتى يقول: (قل هو نبأ عظيم(67)أنتم عنه معرضون(68))، وتنتهي السورة بقوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين(87)ولتعلمن نبأه بعد حين(88)).
وكذلك نجد السور السبع المسماة الخواتيم أو بالمثاني (غافر وفصلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف)؛ كلها تبدأ بالحديث عن القرآن، وتختم به، ولست بحاجة إلى تكرار إيراد الآيات، لكن سورة الزخرف يتوسطها قوله تعالى إشارة إلى القرآن: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم(61))، وهي مرتبطة بقوله تعالى فيها: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون(44))، وهما مرتبطتان بأول السورة (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(3)).
ولنمض مسرعين متجاوزين سورة محمد والفتح والحجرات لنصل إلى (ق) والذاريات وما تلاهما من السور المتواصلة الآيات، بشكل لا يمكن أن يسمح لأحد أن يدعي أنها نزلت على فترات.فإن سورة (ق) تبدأ بقوله تعالى: (ق والقرآن المجيد(1)). وتنتهي بقوله تعالى: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد(45)). وهكذا أخواتها؛ فالذاريات يأتي قبل ختامها قوله: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين(55)) . والطور يأتي وسطها قوله تعالى: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون(29)). ويستمر الحجاج به إلى آخرها،
وكذلك النجم، إنها كلها عن القرآن: (والنجم إذا هوى(1)ما ضل صاحبكم وما غوى(2)وما ينطق عن الهوى(3)إن هو إلا وحي يوحى(4)). والختام هو: (أفمن هذا الحديث تعجبون(59) وتضحكون ولا تبكون(60)وأنتم سامدون(61)فاسجدوا لله واعبدوا(62)). أما القمر والرحمن والواقعة فهل يستطيع أحد أن يدعي أن آياتها مقطعة؟.بل لعل النجم والرحمن تضيء الطريق إلى نهاية القرآن، وتؤكد لنا أن السور كانت تنزل كاملة متصلة البيان مترابطة البنيان، إذ كيف ننكر الإبتار والانقطاع على الإنسان ونلصقه بالرحمن، سبحان الله سبحان، عن هذا الافتراء والبهتان. إنه: (الرحمان(1)علم القرآن(2)خلق الإنسان(3)علمه البيان(4)). فالإنسان علمه الرحمن البيان، فكيف يصبح أفصح من المعلم في البيان؟.وكيف ننكر على الإنسان الانقطاع في الكلام، ونلصقه بالخالق العلام؟.وكيف يجوز علىالرحمن التقصير، ولا نجيزه من الإنسان الفقير؟. تعالى الله وسبحان، عن هذا الافتراء وهذا البهتان. إنه قول لا يليق بالغني الحميد (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) [سبأ:49].وعلى أي حال فإن كل السور تفصح عن المراد أروع إفصاح، وتجعل الموضوع بينا كالصباح، فمن تأملها تبين أن كل سورة موحدة الموضوع والقضية، موحدة الأسلوب والشخصية، موحدة البداية والغاية، متصلة الآيات بلا انقطاع حتى النهاية.
ولن أستمر في الاسترسال لاستعراض السور ولبيان الموضوع والمحور، بل سأنتقل إلى دليل آخر، هو: أن أكثر السور التي تبدأ بالحديث عن القرآن تأتي باسم الإشارة المشار به إلى أنها آيات، وأن الآيات فيها جزء من آيات الكتاب.ولنبدأ من سورة يونس وهي من السور التي تركز على القرآن. فإنها تبدأ بقوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم(1))، فهذه إشارة إلى آيات السورة التي هي نفسها آيات الكتاب الحكيم ولهذا جاء في آخرها (قل ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم).
ولنقرأ بداية سورة هود، فإن بدايتها فيها التأكيد: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير(1))، فهل الحكيم الخبير الذي فصل وأحكم الآيات يمكن أن يجعلها في السورة متفرقات؟.كلا، ولهذا جاء في آخرها إشارة إلى آيات السورة بقوله تعالى: (وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين(120)).
Shafi da ba'a sani ba
وفي سورة يوسف نقرأ: (الر تلك آيات الكتاب المبين(1))، فهل الكتاب المبين يمكن أن يقطع كفل المقتسمين؟، الذين جعلوا القرآن عضين، كلا إنه منزل من رب العالمين. ولنتجاوز يوسف إلى الرعد، فإن فيها التعظيم لله والتسبيح، الذي ينزه الله عن الكلام الغير فصيح، ولنقرأ: (المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون(1)) واقرأوا بعدها صفات الله: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش (2)). فما معنى الاستواء؟ إنه يعني (يدبر الأمر(2))، وإنه يعني: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار(8)عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال(9) سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار(10)). فمن هذا شأنه، هل يجوز عليه أن يتقطع قرآنه، وأن تبتر آيات السور؟. وهل يمكن أن يتوقف قوله وبيانه على فعل الناس وهم تحت سلطانه؟. كلا، فهو الحكيم العليم، الذي يعلم الحادث والقديم، والظاهر والسر المكتوم، ولا ينتظر لإصدار حكمه فعل عبد خاضع لحكمه، بل يحكم ويقرر للأول والمتأخر، فسنته لا تتغير وحكمه لا يتأثر بمؤثر، سبحانه فه والقدر المقدر، والعليم المدبر، يعلم ما تكسب كل نفس، وهو قائم على كل نفس، وحكمه اليوم كحكمه غدا والأمس.
ولننزل من الرعد إلى الحجر، فإنها للموضوع تنصر، ولنقرأ: (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين(1))، لن نزيد على هذه الآية تعليقا، ففيها الدلالة لمن له عقل ودراية، ولنغادر النصف الأول من القرآن، من النصف الثاني لنجد الاستمرار في البيان؛ ها هي سورة الشعراء تعلن من هناك التأييد في البداية والمنتهى؛ (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2))؛ وسورة النمل تنظم للموكب الجميل، وتبدأ بقول الله الجليل: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين(1)).
لعل من الأفضل أن أتوقف عند النمل، حتى لا أكلفكم الملل، وأنتقل إلى دليل أجمل وأكمل، ففي السور السبع الخواتيم تتحول الإشارة من آيات الكتاب إلى مجمل الكتاب لتدل على أن الآيات هي الكتاب والكتاب هو الآيات، فإذا بسورة غافر تبدأ: (حم(1)تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم(2)) ، ويأتي في الآية رقم 3: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد(4)). أليس في هذا ما يؤكد أن السورة تنزل آيات، وأن السورة تسمى كتابا ولا يسمى كتابا إلا ما اكتمل وتوالى واستمر حتى يكتمل البيان واضحا مفصلا، ولهذا بدأت سورة فصلت، بما يؤكد أن تواصلت: (حم(1)تنزيل من الرحمان الرحيم(2)كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون(3)). فهل التفصيل والتنزيل من الرحمن الرحيم يصح عليه التقطيع والتقسيم؟. كلا، إن هذا لا يقول به إلا ذو الفهم السقيم.
ولنأت إلى الشورى، لنجد فيها الوحي يترى ويتوالى: (حم(1)عسق(2)كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم(3)). فهو وحي متصل في كل السور، ولكل سورة مدار ومحور، ولها بداية ومستقر، ولهذا ختمت الشورى بقوله تعالى:(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم(51)). فالعزيز الحكيم في البداية هو العلي الحكيم في النهاية، وبهذه العزة والعلو والحكمة يأتي بعده: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم(52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور(53)). فهل النور الهادي إلى الصراط المستقم، صراط الله العزيز الحكيم، يصح أن يقبل التجزؤ والتقسيم؟.كلا، وتعالى الله العلي الحكيم، ولكن زخرف الدنيا هو الذي شغلنا عن الفهم السليم؛
ولكن سورة الزخرف تنذر الغافلين فلتقرأ: (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(3)). فالسورة آيات في كتاب مبين، والكتاب قرآن مقترن بعضه ببعض لمن يعقلون، ولا يمكن أن يعقل الكلام، وهو مقطع الأوصال والأقسام، كلا ولكن لا بد أن يكون كامل البيان والأحكام، رفيع المستوى والمقام، ولهذا قال الله موضحا باهتمام: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم(4)). فهل هذا المقام الرفيع للكتاب إلا دليل على أنه كامل البيان بلا ارتياب؟. ولهذا فإن الغافل عن هذه الآيات والبينات من الخاسرين، (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين(36)). وعليه: فإن على الرسول وعلينا أن نكون به متمسكين، (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم(43). وكيف لا وهو كما يخبرنا ربنا العليم: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون(44)).
أما الدخان فإن للقرآن عندها شأن: (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين(3)فيها يفرق كل أمر حكيم(4)أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين(5)رحمة من ربك إنه هو السميع العليم(6)). من المعروف أن الإنزال في ليلة القدر لم يكن لكل الآيات، ولكن كانت فيها البدايات، والذي نزل هو بعض السور المكونة من آيات ، ولكن الله سماها كتابا، وقال إنه أنزله في ليلة مباركة مع أن الذي حدث فيها هو ظهور الإنزال ذي البركة، ولهذا فإن ليلته مباركة به، وهو مبارك بربه، وعلينا أن نعمل به، وإلا فإن قوارع العذاب لنا مرتقبة، وهذا ما ختمت السورة به: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون(58)فارتقب إنهم مرتقبون(59)). وهذه الآيات تؤكد أن بداية السورة متصلة بالنهاية.
أما الجاثية والأحقاف فقد بدأت بداية متحدة الكلمات والحركات والآيات، فلها بداية موحدة تتوج كل منهما، هي: (حم(1)تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم(2)). ومن الجميل أن سورة الجاثية تختم بما يشير إلى البداية بأسلوب محكم، مربوط بأولها بحرف الفاء الذي لا يفصم. (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين(36)وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم(37)). ثم إن العزيز الحكيم هي نفس الصفتين التي بدأت بهما آيات السورة، مما يؤكد أنها كاملة الصورة، فهل بعد هذا الربط المتين، نكون في توالي الآيات مرتابين؟! وقد قال الله رب العالمين، في سورة الجاثية لقوم يعقلون: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون(6)). إن هذا هو الناقور، الذي يدق الأذن الموقور، والقلب المثبور: (ويل لكل أفاك أثيم(7)يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم(8)وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين(9)).أليس في هذا ما يدل على أن السور كاملة الآيات؟، بينة الدلالات؟، تتلى الرسول متواليات؟، ليتلوها على الناس في كل الحالات؟، وهي تشع بالبينات، ولا ينقطع سيلها حتى تبلغ إليهم في كمال وثبات، فسبحان الله رب العالمين، الذي يهدي إلى الحق المبين، ويرسل الرسل المبلغين، ليكون الناس والجن على بينة أجمعين: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) [الأحقاف:35].
هذه هي السبع الخواتيم أو السبع المثاني، وهي في القرآن في النصف الثاني، تبدأ بكلمة كتاب. بينما السور التي في النصف الأول تبدأ بكلمة "تلك آيات الكتاب"؛ مما يدلنا على أن السور هي مكونة من آيات، وأن كل سورة تسمى كتاب، لنكون على علم أن السورة كاملة البيان، منظمة التبيان، متواصلة البنيان بلا انقطاع، وكيف لا ومنزلها هو الرحمن. ولقد نقول متأكدين أن السور القرآنية توصف بأنها آيات، ولم ترد فيها كلمة "الآية" المفردة إلا ويراد بها شيئا آخر غير آيات القرآن المتلوة. أعني أن كلمة "آية" التي ترد مفردة في القرآن، مثل قوله تعالى: (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها) [الأعراف: 103]. أو مثل قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) [البقرة: 106].
أقول: إذا وردت هذه الكلمة، وهي كلمة "آية" بالإفراد في القرآن؛ فإن المراد بها شيئا آخر غير آيات القرآن المتلوة، ولكن لها شأنا آخر وقضية أخرى وهي قضية بالقرآن متصلة.مع العلم أن هناك بحثا كتبناه حول هذه القضية الهامة أوردناه بصورة مستقلة ومفصلة، وقد ذيلنا به هذا البحث؛ لأن له صلة به كما ذيلناه بسرد مقتضب لمواضيع سورة البقرة مستدلين بذلك على أن السور نزلت متواصلة غير مبترة.ولعل من رجع إلى ذلك في ختام هذا البحث يجد فيه ما يشفي الغليل، ويروي العليل، بعون الله الجليل.
ولكني الآن سأواصل الاستدلال على أن السور نزلت كاملة المواضيع، بينة الدلالات، وسأستند إلى ما ورد في ذلك من الآيات؛ التي تؤكد أن القرآن كان يتلى آيات تتوالى وترتل على النبي وعلى الناس ترتيلا. يقول الله سبحانه لرسوله: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) [الإسراء:45]. وقال: (وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد) [الحج:16]. وقال: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم(15) قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) [يونس:98]. وقال: (طه(1)ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى(2)إلا تذكرة لمن يخشى(3)تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى(8)) [طه:1-8]. وقال: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) [الحج:72]. وقال: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) [الأنبياء:10]. وقد جاءت بعد قوله: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) [الأنبياء:2].
Shafi da ba'a sani ba