فما كان منه إلا أنه أدار لي ظهره، وهو يشرق دخان النارجيلة ضاحكا بملء فيه من محاولتي إقناعه بأن مسألة «دخانة» رمية طائشة لا محل لها من الصدق، وقد ردد ثانية قوله: يريد أن يضحك علي، أنا لو كنت متزوجا لكان أصغر أولادي أكبر منه.
وقد بلغني أن سعد قمر توفي منذ سنة، وأظنه وهو في ضريحه لا يزال يعتقد أن اسم ابنة الملك العربي دخانة، وأنها هي التي اكتشفت الدخان حتى سمي باسمها قبل أن اكتشفت أميركا بألوف السنين.
وأنا حزين جدا جدا أني لم أقدر في حياتي أن أقنعه بأن تلك الكلمة التي حفرت على صفيحة مخيلته إنما هي تلفيق، وأخاف أنه لا يزال في سكينة القبور يعكر صفاء تلك السكينة الرهيبة بترديد تلك الكلمة الملفقة.
لنا علم، وللجهال مال
مسكين جورج بحري، ينقصه أمر، وهذا ما يجعله حزينا كل أيام حياته.
هكذا يسمعني دائما كلما قابلته يتنهد، ويخبرني أن عنده آراء سديدة، ولكنه يجهل قواعد اللغة العربية.
وجورج بحري تاجر من التجار الكبار بين السوريين ومعدود بين أهل الثروة والمقام التجاري، ولكنه بعد أن حصل على ثروته ومقامه وقد كان من أوائل المهاجرين، وأهان نفسه في الأعمال الأولى حتى صعد باجتهاده إلى رأس السلم التجاري، وعندئذ تلفت فرأى نفسه مفردا لا ينقصه شيء؛ بالغنى هو من أربابها، بالوجاهة هو من أعيانها، بالزعامة هو من أركانها، لا ينقصه إلا شيء واحد وهو قواعد اللغة العربية؛ ليخطب في المجالس، وينشئ المقالات على صفحات الجرائد.
وهذا الرجل صورة من صور السوريين العتق، الذين يحبون الظهور بما ليس فيهم وتمني الأمور البعيدة عنهم، فلما كان فقيرا كان يتمنى لو يصير غنيا، حتى إذا صار غنيا أصبح يتمنى لو كان وجيها، فدخل الجمعيات وتبرع هنا وهناك، وعكف عليه الناس لمقامه المالي حتى إذا صار كبيرا في عيون فئة من الناس تمنى لو أنه خطيب يقف على المنابر، فيجتذب قلوب السامعين. وهو يظن أنه لا ينقصه من الخطابة والكتابة إلا قواعد اللغة، وقد جاء إلى أميركا ولدا من مزرعة ليس فيها مدرسة تعلمه.
مسكين جورج بحري، إنه لمن المحزنات ألا يكون ملما بقواعد اللغة العربية، ليلبس آراءه الجميلة أثوابا لغوية بديعة يفيد بها المجموع.
ولهذا الرجل أطوار غريبة خبرتها بنفسي؛ فإنه يحب المجاملة والمسايرة ومرافقة المارين، فيوصلهم إلى الأماكن التي يقصدونها فيودعهم ويعود، وقد حدثت لي معه حوادث عديدة نفرتني قليلا عنه مع أني لا أعرفه كثيرا، وقد تسلط على مرافقتي غصبا عني.
Shafi da ba'a sani ba