مرات عديدة وأنا سائر في الشوارع أرفع رأسي فأراه قادما نحوي من أول الشارع، فلا تقع عيني على عينه حتى أرى يده مرفوعة، حتى إذا وصلنا لمقابلة بعضنا بعضا دب يده على يدي فهزها هزة هائلة. ولهذا صرت إذا رأيته من بعيد أخفض بصري إلى الأرض كأني لم أره، وهو أكبر من الجاموس، فأحول مسيري إلى الجانب الثاني من الشارع، ولكن هذا لم يكن يفيد، فإن حضرته مرة وقعت عيني على عينه من بعيد فرأيته رافعا يده إذ لمحني، فلذت بالحيلة، ومالت قدماي إلى الجانب الثاني من الشارع، وتابعت الخطو وعيني لا تنظر إلى ذلك الجانب، ولكن شد ما كان دهشي عندما رأيت رجلا كبيرا يفرق جموع الناس بالعرض، رافعا يده ليخبطها على يدي، فخبطها، ووصلت طرقتها عنان السماء، ولا يعلم إلا أنا والله كم تألمت من تلك الهزة والضربة، إلا أني لم أشأ الوقوف؛ لئلا يكثر ازدحام الناس على مشاهدة أدوار الرواية التي كنت وإياه بطليها؛ ولهذا سحبته بيدي من يده وتابعنا المسير. أما هو فوضع يسراه أيضا على كتفي، وأبقى يمناه بيمناي ومشينا، هو يتكلم وأنا ألعن الحظ، وكنت كلما أردت الانفصال عنه يرجو مني أن أبقى معه لنقطع الشارع الفلاني وهو يخطب في أذني تارة بالتجارة وأخرى بالصحافة، ثم يبدأ بالعلم فينتهي بالسياسة إلى ما هنالك من الفنون المخلوطة في دماغه، وكالعادة كما تقدم، عندما فرغ من كلامه الطويل سألني رأيي قائلا: «ألا ترى أن عندي آراء؟» فجاملته بقولي: «نعم آراء، وأي آراء!»
فأبرقت أسرته لجوابي الحسن، ولكنه عاد فقال: ولكني أتأسف يا عزيزي، إنني أجهل اللغة العربية، فلو كنت متعلما لخطبت خطبا نافعة.
فقلت له: ولكن اللغة ليست بذات بال، إذا كان عندك فكر.
قال: بلى، ولكن كيف أستطيع أن أحوك آرائي؟
فقلت له إنه يستطيع أن يطالع الجرائد والمجلات والكتب فيكتسب منها الاصطلاحات العربية، فإذا استعملها بكلامه لا ينقصه شيء البتة؛ لأن قواعد اللغة ليست بلازمة ولا هي بضرورية لمن كان عنده آراء كآرائه.
فأخبرني إذ ذاك أنه كثير المطالعة، وأنه يقرأ كل كتاب وكل جريدة ومجلة تقع تحت نظره، وأنه صار خزانة للاصطلاحات العربية.
وفيما نحن بهذا الحال إذ التقينا بشاب يعرفه جورج، فصافحه مصافحة شبيهة بمصافحته لي، ثم عرفني عليه، وأخبرني أنه قد تكلل على عروس منذ ثلاثة أيام. ثم خص العريس بكلامه وأنا سامع فقال: «أهنيك بالعرس والعروس، وأتمنى لك ولها الأفراح والأتراح.»
سمعت أنا ما قال جورج، وكدت أرسل عاصفة من الضحك، غير أني كظمت لأسمع جواب العريس.
أما العريس، فأجاب باللغة الإنكليزية شاكرا عواطف المستر جورج وافترقنا عنه، عندئذ تبسمت وتطلعت بجورج، فرأيته مبتسما أيضا طافح الوجه، فقال لي: «ألا ترى أنني أستطيع تركيب الكلام الفصيح؟»
فأجبته: نعم، وقد شاقني السجع بكلامك. فأخبرني إذ ذاك أنه في ذلك النهار وقعت عينه في جريدة على «الأفراح والأتراح»، فأحبها وحفظها في فكره للاستعمال، وقد سر جدا للظرف الذي جعله يلتقي بعريس ليقولها له، ظانا أن الأتراح مرادفة للأفراح؛ لأنه فهم هذه ولم يفهم تلك.
Shafi da ba'a sani ba