قلت: لعل هذا ما أحفظ ملك مصر، فقد فهم من حديثكم مع الأستاذ المراغي أنكم جعلتم أمر الحجاز له، وأنكم كنتم على أهبة معاونته في تحقيق هذا الغرض، فلما بايعكم أهل الحجاز ملكا عليهم عد الملك فؤاد هذا الأمر نقضا لعهد عاهدتموه عليه.
هذا ما لم يخف علي يومئذ، ولقد فكرت طويلا في كلام أهل الحجاز ورءوس العشائر من نجد قبل أن أقدم على قبول ملك الحجاز مخافة ما قيل، لكن الأمر كان قد تحرج؛ إذ بلغ القلق من نفوس أهل الحجاز على مصيرهم ما خشيت معه اضطراب الأمر إن لم أقم بعمل حاسم، ولم يكن العمل الحاسم ممكنا بقوة السيف وقد كان موقف رؤساء العشائر من نجد ما شرحت لك، ولو أنني حاولت يومئذ شيئا من ذلك لازداد الأمر اضطرابا، ولقامت الفتنة بين عشائر نجد، وانقلب الأمر إلى نقيض ما أبغي ويبغي كل مسلم محب لهذه البلاد.
ولقد دعوت إلى المؤتمر، واجتمع ها هنا بمكة بعد ذلك الحادث بأشهر، ووضع قرارات لم ينفذ منها شيء؛ لأن المطامع في ملك الحجاز انكمشت فلم تحرك المؤتمرين عاطفة لها في نفوسهم سلطان هذه المطامع، على أنني بقيت عند رأيي من أنني لا مطمع لي في الخلافة، ولقد دعا جلالة الملك فؤاد بمصر إلى مؤتمر للنظر في مسألة الخلافة بعد أن انفض مؤتمر مكة، وكان من رجالي من دعي إليه، وقد بعثت يومئذ إلى جلالة الملك برسالة رقيقة ذكرت فيها مؤتمر الخلافة ودعوة رجالي إليه، وقلت: إنني أول من يبايع بها إذا بايع أهل مصر بها مليكهم، وأبديت الأسف ألا يستطيع رجالي الذين دعوا إلى المؤتمر أن يشتركوا فيه؛ لأنهم لم يدعوا عن طريق حكومتهم، وأنهم وقد بايعوني ملكا عليهم، يبايعون معي بالخلافة من يبايعه أهل مصر بها.
مع ذلك ظلت الحكومة المصرية حانقة علينا، ولما جاء المحمل في تلك السنة التي كان فيها مؤتمر الخلافة لم يحفل رجاله بعقائد أهل نجد الدينية، ومع أننا رجوناهم أن يحتاطوا لكي لا يقع احتكاك بسبب هذه العقائد، وعملنا جهدنا لضبط عواطف رجالنا، فقد حدث ما تعرفونه من إطلاق حامية المحمل نيران المدافع على المسلمين من النجديين، وقمت بنفسي أول ما بلغني الخبر وقام معي أبنائي، فعملنا جهدنا حتى حصرنا الشر في أضيق حدوده، ولم أرد أن أكبر من شأن الحادث، فلم أذع أنه قتل فيه خمسة وستون رجلا وخمس وثلاثون امرأة من عشائر نجد، وإنما فعلت ذلك إبقاء على ما رجوت بقاءه من علاقات المودة بيني وبين مصر، لكن حكومة مصر عاملتنا معاملة أدى بنا الحذر إلى توقعها، وإن لم يجر بخاطرنا أن تبلغ ما بلغت، فقد أبدت حكومة مصر أنها سترسل كسوة الكعبة أيا كان الرأي في المحمل وإرساله، وبقينا ننتظر مجيء هذه الكسوة إلى أواخر ذي القعدة، إذ جاء النبأ بأن حكومة مصر لن ترسلها، وهذه مسألة لا ضرر منها، فنحن قادرون على القيام بها، ولكنك تقرني على أنها مسألة تغيظ، فأمرت رجال حكومتي فعملوا ليلا ونهارا حتى كسونا الكعبة في العاشر من ذي الحجة على سابق العادة، ومن يومئذ أنشأنا دار الكسوة بمكة، فأنشأنا بذلك صناعة لم تكن متداولة في هذه البلاد من قبل.
قلت: إنني أعتقد أن الوقت قد حان لحل المسائل المعلقة بين مصر والحجاز جميعا؛ فقد أثبت الزمن أن لا خير لأيهما في بقائها من غير حل، وما بذل من المجهود في هذا السبيل أثناء السنوات الماضية كان يعترضه قرب العهد بهذه الحوادث التي تركت من الأثر في النفوس ما لم يتيسر التغلب عليه، ولقد فهمت قبل حضوري إلى هنا من حديث جرى بيني وبين رئيس الوزارة المصرية أنهم يرحبون بإعادة النظر في كل اقتراح مقبول يعرض عليهم، وفهمت من محادثاتي مع رجال حكومتكم هنا أنهم حريصون - من جانبهم - على حل هذه المسائل، خصوصا وقد حل الزمن غير واحدة منها كمسألة الجنسية، هذا وعواطف الشعب المصري إزاء الحجاز عواطف مودة صادقة، وشعب الحجاز يبادل هذه العواطف بمثلها فيما رأيت، وهذا - في نظري - خير عربون لتسوية حالة معلقة يود الجميع تسويتها.
قال جلالته: لقد جاءني قنصلكم حافظ عامر من خمس سنوات يحدثني مثل هذا الحديث، وقلت له يومئذ: اسمع يا حافظ! إنكم تقولون: إنكم أكثر منا حضارة وعلما، وإننا قوم من البدو، وبيننا وبينكم في ذلك مراحل، وأنا أوافقكم على هذا، إذا كان ذلك شأنكم وكنتم ترون أننا نطمع في مسألة صغيرة كالاعتراف بنا؛ كي تكون مقدمة لتسوية مسائل ترون في تسويتها خيرا لكم وللمسلمين وللبلاد المقدسة، فلم لا ترضوننا بهذه المسألة الصغيرة؛ مسألة الاعتراف؛ لتأخذونا في كنفكم وتحت جناحكم؟! إن عدم اعترافكم بملكي على الحجاز لن ينزع هذا الملك عني بعد أن اعترفت به إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وكل الدول العظمى، فالملك أمر واقع لا ينزعه إلا أمر واقع يتغلب عليه، وما بيننا وبينكم من المصالح قد اقتضاكم إنشاء قنصلية لكم بجدة، واقتضانا أن يكون لنا وكيل لديكم بالقاهرة، يرعى هذا وذاك ما لا سبيل إلى إنكاره من هذه المصالح، أليس عجيبا أن يكون ذلك واقعا، ثم نتجاهله وتتجاهلونه؟!
ولقد أبدى حافظ عامر اقتناعه بأقوالي وما عرضه فؤاد حمزة عليه من حلول للمسائل التي بيننا وبين مصر، ووعد أن يقنع الحكومة المصرية برأيه، لكنه لم يعد بعد ذلك إلى الحديث في هذه المسائل.
ولم يفتني في وقت من الأوقات أن أعمل ما استطعت لتقريب مسافة الخلف بين هذه البلاد ومصر، فقد أرسلت حافظ وهبة في سنة 1928 إلى مصر فعرض حلولا كثيرة، ولكنه لم يجد استعدادا من لدن مصر لقبول ما عرضه، وإنني لسعيد بما ذكرته من حسن استعداد الحكومة المصرية الآن؛ فإنني أكن لجلالة الملك فؤاد كل احترام ومحبة، وأعتبره في منزلة والدي عبد الرحمن.
وأرجوك متى عدت إلى مصر أن تبلغه عواطف مودتي الصادقة ورجائي في أن تكون علاقات مصر والبلاد العربية علاقات مودة وإخاء إسلامي صادق.
1
Shafi da ba'a sani ba