مع ما أبداه ابن السعود من الحصافة في مقابلة هذا الوفد الذي ذهب إليه، فإنني لم أفز منه بصورة أقدر بها مبلغ ذكائه ودهائه، وإنما فزت منه بهذه الصورة عشية سفري من مكة إلى المدينة، فقد استأذنت في مقابلته لأشكر له ولحكومته ما لقيته من معاونتهم إياي في بحوثي أثناء مقامي بمكة وبالطائف، ولأستأذن في مغادرة مكة إلى المدينة لأعود بعد زيارتها إلى ينبع فمصر، وكان ذلك في يوم السبت 21 مارس، وقد أخبرني مضيفي أمين العاصمة أن وزير المالية سيكون في انتظارنا بداره بجرول في الساعة الثانية والربع بالحساب العربي، أي: نحو الثامنة والربع مساء، وأننا سنذهب من هناك إلى قصر الملك كي أقابله في الموعد الذي حدده، وذهبنا إلى دار وزير المالية، فأقمنا بها ريثما تناولنا الشاي والقهوة، ثم غادرناها إلى قصر الملك فبلغناه قبيل الساعة الثالثة.
وسأل ابن السليمان فقيل له: إن القراءة انتهت، ذلك أن الإمام الذي يصلي بابن السعود يقرأ له بعد العشاء من كل مساء شيئا من تفسير القرآن في تفسير ابن كثير، أو شيئا من الحديث في ابن كثير كذلك، ويشترك الحاضرون في تبادل الرأي فيما يستمعون، وكثيرا ما يشارك الملك في الحوار ابتغاء الحقيقة، فهذا كتاب الله وهذه سنة رسول الله، لكل مسلم منهما حظ ونصيب، فيهما هدى لكل مسلم، وهما سبيله إلى الله، فالكل متساوون أمامهما لا تفاوت بينهم بسبب مناصبهم أو جاههم أو مالهم، ويحضر الحاج عبد الله فلبي - أو سانت جون فلبي إن شئت - هذه الجلسات، وقد يأخذ في الحديث بنصيب، فهو قد درس أمور الإسلام دراسة دقيقة، وبلغ منها مبلغا جعله يفضلها، باعتبار أنها نظام يسمو على الديمقراطية وغير الديمقراطية من نظم الاجتماع المعروفة اليوم، كذلك ذكر لي حين زرته بداره بظاهر مكة، فإذا تمت القراءة انسحب الملك إلى مخادعه وانصرف الحاضرون الذين يجتمعون في كل مساء حوله يصلون معه ويشاركون القارئ الرأي فيما يقرأ.
أما في هذه الليلة فقد جعل الملك موعدي بعد تمام القراءة ليخلو لنا الجو، وقد دخلت عليه في هذا البهو السماوي الكبير الذي كان فيه حين قابله الوفد من أيام، فلقيني هشا بشا من غير تحفظ، وسقانا الخادم القهوة ثم انسحب، وبقيت أتحدث وأستمع ساعة شعرت أثناءها أنني انتقلت على الزمن إلى عهود العرب الأقدمين، لولا ما كان يتناوله الحديث من شئون متصلة بحياة العالم الحاضر.
ولقد غادرت الرجل بعد هذه الساعة شاكرا رقة عواطفه مقدرا هذه الثقة التي انعقدت بيننا أواصرها بعد الذي كان من تحفظه أول ما لقيته يوم التروية، راجيا أن تحقق الحوادث ظني فتزيل ما بين مصر وبينه من جفاء، فلقد كنت لقيت رئيس الوزارة المصرية قبيل سفري، وأفضيت إليه بما يتردد في خاطري من الأسف للجفوة بين مصر وحكومة البلاد الإسلامية المقدسة، ولما بادلني علي ماهر باشا الرجاء أن تزول هذه الجفوة، على رغم ما في نفس الملك فؤاد من الاعتقاد بعدم صراحة هؤلاء العرب وصدق إخلاصهم فيما يقولون، تحدثت في ذلك إلى وزير المالية السعودية وإلى وكيل الخارجية فؤاد بك حمزة، كما أفضيت به إلى رجال القنصلية المصرية بجدة، ولقد ترك الحديث الذي دار بيني وبين ابن السعود تقديرا للرجل في نفسي أكتفي عن بيانه برواية ما وقع تاركا لمن شاء أن يبدي فيه من الرأي ما يشاء.
بدأت حديثي بشكر جلالته وشكر حكومته على معاونتهم إياي في بحوثي، وأبديت له عظيم إعجابي لما تم في الحجاز، وخاصة في أمر الأمن، ورجوت له ولحكومته دوام التوفيق فيما أخذوا أنفسهم به من إصلاح هذه الأماكن المقدسة، وما يعتزمون فيها من مشروعات لخير أهلها وخير المسلمين الذين يقصدونها جميعا، هنالك قال جلالته: نحن لا فضل لنا في شيء من هذا، وإنما الفضل كله لله، وأنا لم أفكر يوم تركت نجدا إلى هذه البلاد في حكمها أو في الإقامة بها، ولقد بقيت معتزما العود إلى بلادي متى تم لي مقصدي من تأمين حدود نجد والحصول للنجديين على حرية المجيء إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، لكن إرادة الله كانت غالبة فلم يكن بد من نفاذها ومن أداء ما فرض الله علي أداءه.
لما فكرت منذ خمس وثلاثين سنة في القيام ضد ابن الرشيد؛ كي أسترد منه حقوق آبائي لم يكن حولي يومئذ من يؤازرني، ولقد عمل آبائي منذ عشرات السنين ليقروا التوحيد الصحيح وحكم الكتاب الكريم في هذه الربوع التي انبعث منها نور التوحيد، فرأيت هذه الدعوة خير ما أقوم به وما أقيم على أساسه جهادي، وعاهدت أربعين رجلا من أهلي فأقسموا لينصرنني فيما أريد أو نموت جميعا، وخرجنا نبغي «الرياض» وسيوفنا معنا واعتمادنا على الله، وغامرنا مخاطرين، والظفر يحالفنا حينا وتدور علينا الدائرة حينا آخر، ثم استقر لنا الأمر بالرياض، والتف حولنا من العشائر ما كان ملتفا حول أجدادنا، ولما استتب لنا الأمر في نجد رأيت الشريف وأبناءه من حولي، ورأيت الملك حسينا في الحجاز يحاول أن يصد قومي عن بيت الله ويأبى أن يتصالح وإيانا في مؤتمر الكويت، عند ذلك طلبت إلى رجالي أن يذهبوا إلى الطائف وأن يحتلوها، وأن يقفوا عندها حتى أعرف ما يئول إليه الأمر من بعد.
ولقد قدرت يومئذ أن إنجلترا لا يرضيها أن نتقدم في الحجاز، وأنها ستقف منا ما وقفت من قبل صديقة وحامية للملك حسين، وكنت حريصا على استبقاء ما بيني وبين الإنجليز من علاقات المودة، ولكني رأيت حسينا ينقض كل عهوده معنا ومع غيرنا ولا يعبأ بعلاقات الصداقة يربط بها بينه وبين الأمم الإسلامية المختلفة، فلم أر بدا من إقناعه بضرورة الاعتدال، واحتلال الطائف خير وسيلة لهذا الإقناع، وأقام رجالي ببادية الطائف زمنا، انهزم أثناءه رجال الحسين وتضعضعت قوتهم، وعز على الملك حسين أن يتصالح وإيانا وقد كان يحسب في مؤتمر الكويت أنه قدير أن يفرض علينا إرادته، فآثر الانسحاب من مكة إلى جدة والنزول عن الأمر لابنه علي.
وتوسطت إنجلترا أثناء ذلك تريد الصلح، على أن حادثا وقع دعاها أن تترك الأمر في الجزيرة لمن يتم له الغلب، ذلك حين طرد الأتراك الخليفة العثماني من بلادهم وتلقته إنجلترا حامية إياه، فقد ارتج العالم الإسلامي لهذا الحادث، إذ قامت جمعية الخلافة في الهند تنادي بأن الخلافة من أمر المسلمين دون سواهم، وتنادى الناس من البلاد المختلفة أن أمر المسلمين في شئونهم الدينية يجب ألا تتدخل فيه دولة مسيحية، من أجل ذلك آثرت إنجلترا أن تترك المسلمين يفعلون ما يشاءون، حتى لا تتهم بأنها تنصر فريقا منهم على فريق لأغراضها السياسية، وشجعني ما حدث بعد ذلك على التقدم، فحاصرت جدة ونقلت ميدان جهادنا إليها، كما ذهبت قوات نجدية إلى المدينة.
إلى يومئذ لم يكن حكم الحجاز قد دار بخلدي، وكل ما كنت أبتغيه أن أجلي عنه جماعة الأشراف فأخلصه بذلك من مظالمهم ومن عبثهم، فإذا فرغت منهم جعلت الأمر فيه للمسلمين كافة يرون في أمره رأيهم، ولقد أذعت على العالم الإسلامي كله رسالة صارحته فيها بهذا العهد أن يكون الأمر له في مصير الأماكن المقدسة، وكنت كلما تحدثت إلي إنجلترا أو تحدث إلي غيرها في الصلح كان هذا العهد جوابي لهم، وهذا العهد هو ما كاشفت به الأستاذ الشيخ المراغي حين جاء في سنة 1925 مع عبد الوهاب بك طلعت موفدين من قبل جلالة ملك مصر للبحث في أمر الحجاز، ولقد زدت عليه أنني لا أبتغي ملكا ولا خلافة، وأنني أرحب بملك مصر ملكا للحجاز برضا أهله، وكان عزمي متجها إلى عقد مؤتمر لتنظيم شئون الحجاز بمشورة ذوي الرأي في العالم الإسلامي يكون له اختيار ولي الأمر فيه، وأذعت منشورا بذلك على أهل الحجاز كي يخلدوا إلى السكينة حتى ينعقد المؤتمر لينظر في مستقبل الحجاز ومصالحه.
لم أكد أذيع هذا المنشور حتى جاء إلي وجوه أهل الحجاز، وجاء إلي رؤساء العشائر من نجد، وكلهم غاضب يحتج على هذا المصير الذي أريده لهم، قال أهل الحجاز : كيف يقرر المسلمون من مختلف أقطار الأرض مصيرنا وطريقة الحكم في بلادنا؟! والحجاز لنا ونحن أهله وأولى الناس بالرأي في أمره وباختيار الحاكم الذي يتولى شئونه، وليس للمسلمين أن يشاركونا في غير الحج وما يتصل منه بشأن مكة والمدينة، وقال رؤساء العشائر من أهل نجد: نحن فتحنا هذه البلاد وطهرناها من الأشراف واخترناك قائدا لنا وأميرا علينا، فإن شئت أن تنزل عن القيادة والإمارة فإنما يعود أمرها لنا لا للمسلمين من الهند والجاوة والصين ممن لا يعرفون من شئون هذه البلاد شيئا، وقال أهل الحجاز: إنك هنا منذ سنين عرفناك أثناءها وعرفنا أغراضك وطريقة حكمك، فنحن نختارك ملكا علينا، وقال رؤساء العشائر من أهل نجد: أنت أميرنا المختار ما لم تنزل - على رغمنا - عن هذه الإمارة، وألح هؤلاء وأولئك وأعادوا القول في أيام متعاقبة؛ فلم يكن لي بد من النزول على إرادتهم بعد أن رأيت الشعوب الإسلامية لا تبدي بأمر المؤتمر الذي دعوت إليه أية عناية، وكذلك بايعني أهل الحجاز ملكا عليهم.
Shafi da ba'a sani ba