وفيه دليل على أن التوحيد - الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه - هو أول واجب. ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل ﵈ ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ١ وقال نوح: ﴿أَلا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ﴾ ٢ وفيه معنى "لا إله إلا الله" مطابقة٣.
قال شيخ الإسلام: "وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلي الله عليه وسلم، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلما، والعدو وليا، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال. ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان، قال: وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطنا وظاهرا، عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء" اهـ.
_________
١ سورة المؤمنون آية: ٣٢.
٢ سورة هود آية: ٢.
٣ في قرة العيون: وأما قول المتكلمين ومن تبعهم: إن أول واجب معرفة الله بالنظر والاستدلال، فذلك أمر فطري فطر الله عليه عباده، ولهذا كان مفتتح دعوة الرسل أممهم إلى توحيد العبادة: (أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) أي لا تعبدوا إلا الله. قال تعالى: ٢١: ٢٥ (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)، وقال تعالى: ١٤: ١٠ (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض) .
قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «هذا يحتمل شيئين: "أحدهما" أفي وجوده شك؟ فإن الفطرة شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة. "والمعنى الثاني" أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك؟ وهو الخالق لجميع الموجودات فلا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له؛ فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنون أنها تقربهم من الله زلفى» اهـ.
قلت: وهذا الاحتمال الثاني يتضمن الأول. روى أبو جعفر ابن جرير بسنده عن عكرمة ومجاهد وعامر أنهم قالوا: ليس أحد إلا وهو يعلم أن الله خلقه وخلق السماوات والأرض فهذا إيمانهم. وعن عكرمة أيضا تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره.
وتقدم أن "لا إله إلا الله " قد قيدت بالكتاب والسنة بقيود ثقال. منها: العلم واليقين والإخلاص والصدق والمحبة والقبول والانقياد، والكفر بما يعبد من دون الله. فإذا اجتمعت هذه القيود لمن قالها نفعته هذه الكلمة، وإن لم تجتمع هذه لم تنفعه، والناس متفاوتون في العلم بها والعمل، فمنهم من ينفعه قولها ومنهم من لاينفعه كما لا يخفى.
1 / 84