ولكنهم بدءوا التجربة فلم يتقدموا فيها خطوتهم الأولى، حتى تبين لهم الخطر من التسوية بين المطبوع على العمل، والمطبوع على الكسل، واحتاجوا إلى حفز الهمم وحث الخطا بالتمييز بين المجتهد والمهمل، وبين السريع والبطيء، وبين من يركن إلى الكفاف، ومن يطمح إلى التفوق والبروز.
فلم ينفعهم هذا التمييز في الأجور؛ لأن صاحب الأجر الكبير كصاحب الأجر الصغير في القدرة على الشراء، فكلاهما يشتري الحاجيات، ولا يؤذن له بشراء «الكماليات » التي حسبوها من شرور الادخار، أو نظام رأس المال.
فسمحوا بشراء الكماليات مكرهين، وأضافوا التفاوت في حظوظ المعيشة، وفي مراتب الشرف إلى التفاوت في الأجور والمكافآت، وأنشئوا الطبقات باليمين وهم يحاربونها باليسار.
وكان هذا كل ما استفادته الأمة الروسية من هذه التجربة الدامية، التي كلفتها نيفا وعشرين مليونا من النفوس البشرية، بين قتلى الثورة وفرائس الاضطهاد، وصرعى المجاعة والوباء، عدا خسارة الأمة في الحرية، واستقلال الفكر والشعور.
وقد فعلت مدابرة الطبيعة فعلها في جميع نوازع الحياة، وفي مقدمتها عبقرية الأمة وملكاتها الإنسانية، وهو أول ما يصاب بمدابرة الطبيعة، وإكراه العقول والقرائح على نحو من الأنحاء.
فإن مدابرة الطبيعة شر على عبقرية الأمة من الطغيان والاستبداد؛ لأن عبقرية الأمة الروسية لم تحرم في عهد القياصرة أفذاذا من نوابغ الأدب؛ أمثال: دستيفسكي، وتولستوي، وترجنيف، وشيخوف، وآرتزيياشف، وجوركي، ونخبة من الموسيقيين والدعاة، ولكنها عقمت فلم تخرج واحدا من طبقة هؤلاء في عهد النظام الشيوعي، على وفرة الكتب المطبوعة وكثرة القراءة بين جميع الطبقات، ومن بلغ من أدباء الروس نصيبا من النبوغ يقارب تلك المنزلة كان مآله إلى الخمول أو الانتحار.
وهكذا يفعل الحجر على سباق الحياة، حيثما جرب، وفي أي من الأوضاع تمثل للناس، فلم يكن الحجر على تكوين الطبقات في ظل النظام الشيوعي أرحم ولا أعدل من الحجر على تكوينها في ظل العقائد البرهمية بين الهنود؛ لأنه منع الصعود، ولم يمنع الهبوط، وضاعف المشقة في طريق العناصر الصالحة للتقدم، ولم يخفف شيئا من الضواغط القاسرة التي ترين على النفوس فتهوي بها إلى الحضيض.
وكثيرا ما تسمع من دعاة «المادية» كلاما عن الظلم الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية؛ لأنهم يزعمون أنهم يحاربون الظلم، ويقررون العدالة، ولكنك لن تتخيل في الدنيا ظلما أوبل من ظلم التسوية بين غير المتساوين؛ فإنه يجور على الأصلح، ولا يحمي المجرد من الصلاح، ويقيم العقبات في سبيل تجديد القوى، واستفزاز الهمم، وتنشيط الكسالى، وتقرير الثقة في نفوس العاملين.
بل ليس أظلم للطبقة السفلى نفسها ممن يحسبها «طبقة سفلى» إلى آخر الزمان ، ولا يفتح باب الرجاء في الصعود والترقي لطائفة من أبنائها في حاضرهم الراهن، أو مستقبلهم القريب أو البعيد، فهو يأخذهم بشريعة اليأس، ولا يأخذهم بشريعة الأمل، ويحرك فيهم الحسد والخسة، ولا يحرك فيهم الهمة والطموح.
وفي ذلك الجور كل الجور على جميع الطبقات، فيه الجور كل الجور على القادرين المستعدين للصعود، وفيه الجور كل الجور على العاجزين الحاسدين الذين لا يصعدون ولا يحبون لغيرهم أن يصعد وهم قاعدون، ولو لم تشايعهم الدعوة المادية على حسدهم لأنفوا منه وأنكروه، ولكنهم يجدون من يمثل لهم تلك الرذيلة في صورة العدل والتجديد، أو صورة «الناموس» الدائم الذي يسيطر على مستقبل الجماعات والآحاد، فيعلنون ما يخجل ويفخرون بما يشين.
Shafi da ba'a sani ba