مقدمة
القرآن والعلم
الأسباب والخلق
الأخلاق
الحكم
الطبقات
المرأة
الزواج
الميراث
الأسر أو «الرق»
العلاقات الدولية
العقوبات
الإله
مسألة الروح
القدر
الفرائض والعبادات
التصوف
الحياة الأخرى
خاتمة
مقدمة
القرآن والعلم
الأسباب والخلق
الأخلاق
الحكم
الطبقات
المرأة
الزواج
الميراث
الأسر أو «الرق»
العلاقات الدولية
العقوبات
الإله
مسألة الروح
القدر
الفرائض والعبادات
التصوف
الحياة الأخرى
خاتمة
الفلسفة القرآنية
الفلسفة القرآنية
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
الدين لازمة من لوازم الجماعات البشرية.
ولم يكن الدين لازمة من لوازم الجماعات البشرية لأنه مصلحة وطنية، أو حاجة نوعية.
لأن الدين قد وجد قبل وجود الأوطان.
ولأن الحاجة النوعية «بيولوجية» تتحقق أغراضها في كل زمن، وتتوافر أسبابها في كل حالة، ولا يزال الإنسان بعد تحقق أغراضها، وتوافر وسائلها في حاجة إلى الدين.
وغرائز الإنسان النوعية واحدة في كل فرد من أفراد النوع، وكل سلالة من سلالاته، ولكنه في الدين يختلف أكبر اختلاف؛ لأنه يتجه من الدين إلى غاية لا تنحصر في النوع ولا تتوقف على غرائزه دون غيرها، وليس الغرض منها حفظ النوع وكفى، بل تقرير مكانه في هذا الكون، أو في هذه الحياة.
فالإنسان يتعلق من النوع بالحياة.
ولكنه يتعلق من الدين بمعنى الحياة.
ولن يوجد إنسان ليس له نوع، أو غريزة نوع، أو آداب نوع؛ لأن وشيجة النوع ليست مما ينفصل عنه باختياره، ولكن قد يوجد إنسان يفوته معنى الحياة، وقد يوجد إنسان يفهم معنى الحياة على أنه إعراض عن الحياة الفردية، وعن الحياة النوعية، وتوجه إلى ضرب آخر من الحياة.
وقد يتحول الإنسان من عقيدة إلى عقيدة، فلا يقال إذن: إنه تحول من غريزة نوعية إلى غريزة نوعية؛ لأن هذه الغريزة لا تقبل التحول ولا التحويل، بل يقال إذن: إنه آمن بعلاقة جديدة بين الخلائق جميعا، وبين الحياة أو مصدر الحياة.
والإنسان إذا طلب من الدين الحياة الأبدية فهو لا يطلب ذلك لأنه فرد من أفراد نوع؛ فإن النوع قد يبقى ألوف السنين، وقد يقدر الإنسان أنه مكفول البقاء بغير انتهاء، ثم لا يغنيه كل ذلك عن طلب الأبدية؛ لأنه يريد لحياته معنى لا يزول، ويريد أن يتصل بحياة الكون كله في أوسع مداه. •••
وليست العقيدة لازمة من لوازم الجماعات البشرية؛ لأنهم يريدون منها دروسا علمية أو حيلا صناعية.
فإن قوة الصناعة والعلم كامنة في الإنسان، لا تلجئه إلى قوة خارج الإنسان.
وإن ألف إنسان قد يعلمون علما واحدا، ولا يعتقدون عقيدة واحدة، بل ينكر أحدهم عقيدة الآخر أشد الإنكار.
كما أن العلاقة بين العالم والمعلوم قد تكون علاقة غريب بغريب، وقد يعلم الإنسان أسرارا من الكون، وهو يشعر بأنه غريب عنه أو عارض فيه، فإذا اعتقد فإنما يعتقد لأنه يريد أن يشعر بأنه ليس في الكون بالغريب، ويؤمن بأنه موصول الحياة بحياته، وليس بالعارض فيه.
وليس مقياس العقيدة الصالحة مقياس الدروس العلمية والحيل الصناعية، وإنما حسب العقيدة الصالحة من صلاح أنها تنهض بالعقل والقريحة، ولا تصدهما عن سبيل العلم والصناعة، ولا تحول بين معتقديها وبين التقدم في الحضارة، وأطوار الاجتماع. •••
وينبغى أن يلاحظ في هذا الصلاح أن الجماعات البشرية لا تعيش عمر إنسان واحد، ولا تنحصر في طبقة واحدة.
فالعقيدة التي تصلح لعشرة أجيال يشترك فيها عشرة أجيال يختلفون في كثير من الأحوال والعادات.
والعقيدة التي يدين بها الملايين يشترك فيها الخاصة والعامة والأعلياء والأدنياء، ولا تصاغ منها نسخة مستقلة لكل طبقة أو لكل فريق.
فالذي يطلب من العقيدة الصالحة أن تصلح لكل هؤلاء مجتمعين، وأن تصلح لأعمار بعد أعمار؛ لأنها ليس مما يخلع تارة بعد تارة، ولا مما يستبدل ببرامج السنوات ونصوص الدساتير.
وموضوع هذا الكتاب هو صلاح العقيدة الإسلامية - أو الفلسفة القرآنية - لحياة الجماعات البشرية، وأن الجماعات التي تدين بها تستمد منها حاجتها من الدين الذي لا غنى عنه، ثم لا تفوتها منها حاجتها إلى العلم والحضارة، ولا استعدادها لمجاراة الزمن حيثما اتجه بها مجراه. •••
كنا نتحدث مع بعض الفضلاء من أعضاء لجنة «البيان العربي» في موضوع الدين والفلسفة، فقلنا: إن العقيدة الدينية هي فلسفة الحياة بالنسبة إلى الأم التي تدين بها، وأنها لا تعارض الفلسفة في جوهرها، وأن الفلسفة تصلح للاعتقاد كما تصلح العقيدة للفلسفة! واستشهدنا على ذلك بآيات كثيرة من القرآن يستخرج منها المسلم فلسفة قرآنية لا تحول بينه وبين البحث في غرض من أغراض الفكر والضمير.
وأيا كانت العلاقة بين موضوع الفلسفة، وموضوع الدين، فليس في وسع فيلسوف صادق النظر أن ينسى أن الأديان قد وجدت بين جميع البشر، وأنها - من ثم - حقيقة كونية لا يستخف بها عقل يفقه معنى ما يراه من ظواهر هذه الحياة.
فاقترح علي بعضهم أن يكون هذا البحث موضوع كتاب، فألفت هذا الكتاب في هذا الموضوع، وسميته باسم الفلسفة القرآنية؛ لأنه أقرب الأسماء إلى بيان غرضه، وكان اسم «فلسفة القرآن» من الأسماء التي اقترحت في سياق ذلك الحديث، فخطر لي أن هذا الاسم قد يوحي إلى الذهن أننا نتخذ القرآن موضوعا لدراسة فلسفية كدراسة فلسفة النحو، أو البيان، أو التاريخ، وليس هذا هو المقصود مما كنا نتحدث عنه، وإنما المقصود منه أن القرآن الكريم يشتمل على مباحث فلسفية في جملة المسائل التي عالجها الفلاسفة من قديم الزمن، وأن هذه الفلسفة القرآنية تغني الجماعة الإسلامية في باب الاعتقاد ولا تصدها عن سبيل المعرفة والتقدم، وهي لذلك تحقق ضرورة الاعتقاد، وتمنع الضرر الذي يبتلى به من تصدهم عقائدهم عن حرية الفكر، وحرية الضمير.
وليس للعلماء ولا للفلاسفة أن يطلبوا من الدين غير هذا.
فمهما يكن من رأيهم في الإيمان بالله؛ فهم لا يجهلون - ولا يستطيعون أن يجهلوا - أن الإيمان - كما قدمنا - ضرورة كونية، لا تخلقها مشيئة أحد من الآحاد، ولو كان في قدرة الرسل والأنبياء.
فإذا أجمع الناس على الاعتقاد كيفما كان اختلافهم في الجنس، والزمن، والموطن، والمصلحة - فليس هذا عمل فرد، ولا هو مما يقع بين الحين والحين عرضا واتفاقا من فعل الحيلة والتدبير، ولكنه باعث من صميم قوى الكون، لا يفلح الرسل والأنبياء في نشر دعوته ما لم يكن في تلك الدعوة مطابقة لحكمة الخلق، وسر التكوين.
وكل اعتراض يعترض به المنكرون على حقائق الأديان لا يقام له وزن في مواجهة هذه الظاهرة الواقعة التي لا شك فيها.
بل هو لا ينفي الوحي الإلهي كما تخيلوه، أو كما يمكن أن يتخيلوه، ولا يبطل ضرورة الاعتقاد بين الجماعات البشرية بحال من الأحوال.
إنهم يتخذون من عقائد بعض العامة، أو عقائد بعض الخاصة دليلا على أنها أمور لا تصدر من عند الله، الذي يصفه أصحاب الأديان بالعلم، والحكمة، والقدرة على هداية العقول إلى الصواب في الكبير والصغير.
فإذا كان هذا هو المبطل للوحي الإلهي؛ فكيف يثبت الوحي الإلهي في قياس أولئك الفلاسفة أو العلماء؟
أيثبت بعقيدة يدين بها العامة كما يدين بها الخاصة، وتطابق الدروس العلمية اليوم كما تطابقها عندما تنقض نفسها بكشف جديد؟!
أيثبت بعقيدة تدخل المعمل الصناعي - أو العلمي - كل سنة أو كل بضع سنوات للفحص والامتحان؟!
أيثبت بعقيدة ليست بعقيدة ولكنها مجموعة من الأزياء الموسمية التي يغيرها الإنسان تارة بعد تارة، ولا يمزجها ببواطن الضمير؟!
كلا؛ فإن الوحي الإلهي - متى ثبت - لا يثبت على النحو الذي تخيلوه، بل على النحو الذي عهدنا عليه الأديان، مع اختلاف العقول واختلاف الأجيال واختلاف المعلومات.
عقيدة هي عقيدة، وإيمان هو إيمان، وبعد ذلك موافقة لدواعي الحياة ومطالب الفكر، وخلجات الشعور، وهكذا تصح العقيدة، إن صحت على الإطلاق، وهكذا يكون الإيمان، إن كان إيمان.
وقد رأيت أناسا يبطلون الأديان في العصر الحديث باسم الفلسفة المادية، فإذا بهم يستعيرون من الدين كل خاصة من خواصه، وكل لازمة من لوازمه، ولا يستغنون عما فيه من عنصر الإيمان والاعتقاد، التي لا سند لها غير مجرد التصديق والشعور، ثم يجردونه من قوته التي يبثها في أعماق النفس؛ لأنهم اصطنعوه اصطناعا، ولم يرجعوا به إلى مصدره الأصيل.
فالمؤمنون بهذه الفلسفة المادية يطلبون من شيعتهم أن يكفروا بكل شيء غير المادة، وأن يعتقدوا أن الأكوان تنشأ من هذه المادة، في دورات متسلسلة، تنحل كل دورة منها في نهايتها؛ لتعود إلى التركيب في دورة جديدة، وهكذا دواليك، ثم دواليك إلى غير انتهاء.
ويطلبون منهم أن ينتظروا النعيم المقيم، على هذه الأرض، متى صحت نبوءتهم عن زوال الطبقات الاجتماعية؛ فإن زالت الطبقات الاجتماعية في هذه السنة أو بعدها ببضع سنوات فتلك بداية الفردوس الأبدي، الذي يدوم ما دامت الأرض والسماوات، وتنتهي إليه أطوار التاريخ كما تنتهي بيوم القيامة في عقيدة المؤمنين بالأديان.
ولا يكلف دين من الأديان أتباعه تصديقا أغرب من هذا التصديق، ولا تسليما أتم من هذا التسليم.
ولا يخلو دين الفلسفة المادية من شيطانه؛ وهو «الرأسمالية» الخبيثة العسراء.
فكل ما في الدنيا من عمل سوء، أو فكرة سوء، فهو كيد من هذا الشيطان الماكر المريد.
وكل ما فيها من عمل سوء أو فكرة سوء يزول ويحول، وتحل في مكانه بركات الفلسفة المادية ورضوانها، متى صار الأمر إلى ملائكة الرحمة، وذهب ذلك الشيطان إلى قرارة الجحيم.
ولما طبقت هذه العقيدة في البلاد الروسية - على أيدي أصحاب الفلسفة المادية - خيل إليهم أنهم ظفروا بحقيقة الحقائق واستغنوا بها عن كل ما اعتقده الإنسان في جميع الأزمان، ولا سيما عقائد الأديان والأوطان.
وادخروها للزمن كله، بل للأبد كله ... ولكنهم لم يصطدموا صدمتهم الأولى في الحرب العالمية الأخيرة حتى أفلست «عقيدة الأبد» كل الإفلاس، ولجئوا إلى الوطن يستعيدون مثله، وإلى الديانة يستجدونها ويتمسحون بها، فنادوا «بالجهاد القومي» ورحبوا بالصلوات في المعابد، وشجعوا المصلين على ارتيادها، واجتمع رؤساء القساوسة في حضرة زعماء المذهب الشيوعي؛ ليعلنوا العودة بمجلس الكنيسة إلى نظامه القديم.
وفحوى هذه العبرة البالغة أن أسرار العقيدة أعمق وأصدق مما يدور بأوهام منكريها، وأنها ذخيرة من القوة وحوافز الحياة تمد الجماعات البشرية بزاد صالح لا تستمدها من غيرها، وأن هذه الذخيرة «الضرورية» خلقت لتعمل عملها، ولم تخلق ليعبث بها العابثون، كلما طاف بأحدهم طائف من الوهم، أو طارت برأسه نزعة عارضة، لا تثبت على امتحان. •••
وفي هذا العصر الذي تتصارع فيه معاني الحياة بين الإيمان والتعطيل، وبين الروح والمادة، وبين الأمل والقنوط، تلوذ الجماعات الإسلامية بعقيدتها المثلى ولا تخطئ الملاذ؛ لأنها عقيدة تعطيها كل ما يعطيه الدين من خير، ولا تحرمها شيئا من خيرات العلم والحضارة.
وهذا الذي نرجو أن نبينه في هذا الكتاب.
القاهرة في أكتوبر سنة 1947/ذي القعدة سنة 1366.
عباس محمود العقاد
القرآن والعلم
تتجدد العلوم الإنسانية مع الزمن على سنة التقدم، فلا تزال بين ناقص يتم، وغامض يتضح، وموزع يتجمع، وخطأ يقترب من الصواب، وتخمين يترقى إلى اليقين، ولا يندر في القواعد العلمية أن تتقوض بعد رسوخ، أو تتزعزع بعد ثبوت، ويستأنف الباحثون تجاربهم فيها بعد أن حسبوها من الحقائق المفروغ منها عدة قرون.
فلا يطلب من كتب العقيدة أن تطابق مسائل العلم كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر، ولا يطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم، كما تعرض عليهم في معامل التجربة والدراسة؛ لأن هذه التفصيلات تتوقف على محاولات الإنسان وجهوده، كما تتوقف على حاجاته، وأحوال زمانه.
وقد أخطأ أناس في العصور الأخيرة؛ لأنهم أنكروا القول بدوران الأرض واستدارتها؛ اعتمادا على ما فهموه من ألفاظ بعض الآيات.
وجاء أناس بعدهم فأخطئوا مثل خطئهم حين فسروا السماوات السبع بالسيارات السبع في المنظومة الشمسية، ثم ظهر أنها عشر لا سبع، وأن «الأرضين السبع» - إذا صح تفسيرهم - لا تزال في حاجة إلى التفسير.
ولا يقل عن هؤلاء في الخطأ أولئك الذين زعموا أن مذهب التطور والارتقاء ثابت في بعض آيات القرآن؛ كقوله تعالى:
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ،
1
أو قوله تعالى:
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .
2
لأن الآيتين تؤيدان تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، ولكن مذهب التطور والارتقاء لا يزال بعد ذلك عرضة لكثير من الشكوك والتصحيحات، بل عرضة لسنة التطور والارتقاء التي تنتقل به من تفسير إلى تفسير.
ومن الخطأ كذلك أن يقال: إن الأوروبيين أخذوا من القرآن كل ما اخترعوه من السلاح الحديث؛ لأن القرآن الكريم جاء فيه؛ حثا للمسلمين:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
3
فقد يقال لهم: إن المسلمين سمعوا هذه الآيات مئات السنين فلم يخترعوا تلك الأسلحة، وإن الأوربيين لم يسمعوها فاخترعوها.
فهل الإسلام إذن لازم أو غير لازم؟ وهل يضير الأوروبيين أن يجهلوه أو ليس بضارهم أن يخترعوا ما اخترعوه ولم يتبعوه؟
وخليق بأمثال هؤلاء المتعسفين أن يحسبوا من الصديق الجاهل؛ لأنهم يسيئون من حيث يقدرون الإحسان، ويحملون على عقيدة إسلامية وزر أنفسهم، وهم لا يشعرون.
كلا، لا حاجة بالقرآن إلى مثل هذا الادعاء؛ لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير، وخير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير، ولا يتضمن حكما من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم، ما استطاع حيثما استطاع.
وكل هذا مكفول للمسلم في كتابه، كما لم يكفل قط في كتاب من كتب الأديان.
فهو يجعل التفكير السليم، والنظر الصحيح إلى آيات ما في خلقه وسيلة من وسائل الإيمان بالله:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار .
4
وهو يحث المسلم على أن يفكر في عالم النفس كما يفكر في عالم الطبيعة.
أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى .
5
وهو يعظ المخالفين والمصدقين عظة واحدة؛ وهي التفكير الذي يغني عن جميع العظات:
قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا .
6
كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون .
7
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .
8
ونفصل الآيات لقوم يعلمون .
9
قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون .
10
ولا يرتفع المسلم بفضيلة كما يرتفع بفضيلة العلم:
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات .
11
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .
12
ولا يسأل المسلم ربه نعمة هي أقوم وألزم من العلم:
وقل رب زدني علما .
13
إنما يخشى الله من عباده العلماء .
14
فالقرآن الكريم يطابق العلم، أو يوافق العلوم الطبيعية بهذا المعنى الذي تستقيم به العقيدة، ولا تتعرض للنقائض والأظانين ، كلما تبدلت القواعد العلمية، أو تتابعت الكشوف بجديد ينقض القديم، أو يقين يبطل التخمين.
وفضيلة الإسلام الكبرى أنه يفتح للمسلمين أبواب المعرفة، ويحثهم على ولوجها والتقدم فيها، وقبول كل مستحدث من العلوم على تقدم الزمن، وتجدد أدوات الكشف ووسائل التعليم، وليست فضيلته الكبرى أنه يقعدهم عن الطلب، وينهاهم عن التوسع في البحث والنظر؛ لأنهم يعتقدون أنهم حاصلون على جميع العلوم.
الأسباب والخلق
من المتفق عليه اقتران الحوادث بالأسباب، يقول بذلك العلماء والفلاسفة كما يقول به عامة الناس في أقوالهم التي تجري مجرى العادة.
فالأسباب موجودة لا خلاف فيها من أحد، ولكن الخلاف الأكبر في السبب: ما هو؟ وماذا يعمل؟ وهل الأسباب العاملة عنصر مستقل في الكون، والحوادث المعمولة عنصر آخر يخالفه في الكنه والقوة؟ وهل السببية قوة تنتقل بين الأشياء والحوادث، أو هي قوة خاصة ببعض الأشياء والحوادث؟
لكل شيء سبب، ما في ذلك خلاف.
ولكن ما هو السبب؟
هل هو موجد الشيء الذي خلقه ولولاه لم يخلق؟
أو هو حادث سابق للشيء، أو مقترن به يلازمه كلما حدث على نسق واحد؟
أما أن السبب هو موجد الشيء فيمنعه في العقل اعتراضات قوية كأقوى ما يكون الاعتراض في المسائل الفكرية.
فكل ما يقرره العقل وهو واثق منه أن سبب الشيء يسبقه، أو يقترن به كلما حدث على نسق واحد.
ولكن السبق لا يستلزم الإيجاد، ويضربون لذلك مثل النور والصوت في قذيفة المدفع؛ فإن العين ترى النور قبل أن تسمع الأذن صوت القذيفة، ولا يقول أحد: إن النور هو سبب الصوت! أو إنه هو سبب القذيفة! وإن تكررت رؤيته وسماع الصوت بعده مئات المرات أو ألوف المرات، وكذلك صياح الديكة قبل طلوع النهار، ووصول قطار الصبح قبل قطار الضحى، ودخول المرءوسين في الصباح قبل دخول الرئيس إلى الديوان، وغير ذلك من المتلاحقات التي تقترن على ترتيب واحد، ولا يستلزم تلاحقها أن يكون السابق منها موجدا لما لحقه؛ بأي معنى من معاني الإيجاد.
كذلك يعترض العقل على السببية على المعنى المتقدم بأن التلازم بين الأسباب والنتائج في وقائع الطبيعة ليس تلازما عقليا كتلازم المقدمة والنتيجة في القضايا العقلية، وإنما هو تلازم المشاهدة والإحصاء، وغاية ما نملكه فيه أن نسجل هذه المشاهدة أو هذا الإحصاء.
فحدوث الصوت من القذيفة يقع على التواتر كما نسمعه، ولكن لا يلزم عقلا من تسلسل الحوادث التي تقع مع القذيفة أن نسمع ذلك الصوت، وإنما تستلزم حدوثه؛ لأنه قد حدث قبل ذلك مرات، ولا زيادة على ذلك في دواعي الاستلزام.
فكل ما هنالك - مما يسمى بالأسباب الطبيعية - إنما هو مقارنات في الحدوث، ولا تفسير فيها أمام العقل لتعليل الإيجاد.
قال الإمام الغزالي يرد على الفلاسفة:
إن الخصم يدعي أن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار، فلا يمكنه الكف عما هو طبعه، ولكن هذا غير صحيح؛ إذ إن فاعل الاحتراق هو الله تعالى بواسطة الملائكة أو بغير واسطة، وأما النار فهي جماد لا فعل لها، وليس للفلاسفة من دليل على قولهم إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به.
ويقرب من رأى الغزالي هذا قول نيوتن صاحب مذهب الجاذبية في ملحق التعريفات.
فإنه يضرب المثل بجسم يتحرك من ألف إلى باء، ومن باء إلى جيم، ومن جيم إلى دال، فلا يمكن أن يقال في هذه الحالة: إن حركة الجسم من ألف إلى باء هي سبب حركته التالية من باء إلى جيم أو من جيم إلى دال! ويشبه هذا المثل مثل أصحاب ديكارت عن ساعة تدق، وساعة أخرى تدق بعدها على الدوام، فلا يمكن أن يقال: إن دقات الساعة الأولى هي سبب منشئ لدقات الساعة الثانية! وهكذا كل تلاحق في الحوادث والمشاهدات.
وقد ظهر الفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم بعد هؤلاء فبسط القول في مسألة السببية بسطا وافيا يفسر هذه الآراء المجملة، ولا يخرج عن فحوى ما قدمناه.
وإذا نظرنا إلى أصول الأسباب الكبرى تعذر على العقل أن ينسب الظواهر الطبيعية إلى هذه الأسباب التي تلازمها ثم يقف عندها، فمن العسير على العقل أن يسلم أن الظواهر المادية هي أسباب الحوادث بطبيعة مستمدة منها ملازمة لها، مستقرة فيها؛ لأن التسليم بهذا تسليم بوجود مئات أو ألوف من المادات كلها خالد، وكلها موجود بذاته، وكلها مع ذلك مؤثر في غيره، وهو مستحيل.
فهل هناك ألوف من المادات، أو هناك مادة واحدة؟ إن كان هناك ألوف من المادات كلها خالد بصفاته وطبائعه، فمن العجيب في العقل أن يكون الخالد مؤثرا في خالد مثله، وأن يوجد الشيء منذ الأزل بطبيعته وخصائصه؛ ليؤثر في شيء آخر موجود مثله منذ الأزل بغير تلك الخصائص وغير تلك الصفات.
أما إن كانت هذه الخصائص تحولات ترجع إلى مادة واحدة في القدم فقد بطل أنها هي أسباب الحوادث بطبعها، وتعين أن تكون عارضة مؤثرة بما أودع فيها على حسب تلك التحولات، والتي ترجع في النهاية إلى مصدر واحد لا تعدوه.
فالعقل ينتهي في مسألة الأسباب إلى نتيجة واحدة تصح عنده بعد كل نتيجة؛ وهي أن الأسباب ليست هي موجدات الحوادث، ولا هي مقدمة عليها بقوة تخصها دون سائر الموجودات، ولكنها مقارنات تصاحبها ولا تغني عن تقدير المصدر الأول لجميع الأسباب وجميع الكائنات.
وهذا هو حكم القرآن الكريم.
هناك سنة في الطبيعة:
سنة الله في الذين خلوا .
1
ولن تجد لسنة الله تبديلا ،
2
ولا تجد لسنتنا تحويلا .
3
ولكن الخلق كله مرجعه إلى إرادة الله، أو إلى كلمة الله.
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ،
4
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ،
5
سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .
6
وكل شيء في السماء والأرض بإذن الله.
وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون .
7
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه .
8
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين .
9
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله .
10
والذي ينساق عندنا في مساق العقل أن الحوادث، كبيرها وصغيرها، لا يمكن أن تحدث إلا بأمر الخلق المباشر من إرادة الله.
فلا ينساق عندنا في مساق العقل أن الحادثة تحدث بفعل الأسباب أو النواميس، ثم بفعل الإرادة الإلهية؛ لأن الناموس لا يملك وحده قدرة الانطلاق والتوافق التي يسبب بها ألف حادث على نسق واحد، ولا بد له من القدرة التي يتابع بها هذا التسبب مرة مرة، وحادثا حادثا، بلا فرق هنا بين الجملة والتفصيل.
فلا فرق هنا بين الحادث الذي يقع مرة واحدة، والحادث الذي يقع ملايين ملايين المرات؛ فكلها تتوقف في بادئ الأمر على إرادة الخلق والإنشاء:
كن فيكون .
11
وإنما
كن فيكون
تقريب إلى الذهن في المجاز، والأمر أهون من ذلك جدا في إرادة الخلاق.
وإنما يهال الذهن المغلق بهذا التقدير؛ لأنه يظن أن مسألة الخلق مسألة حمل وانتقال، وتحريك أثقال، وحيرة بين الأرقام والمقادير الموزعة في آفاق الفضاء السحيق، وهي - على هذا الظن - شيء تختلف فيه القدرة على القليل، والقدرة على الكثير.
ولكننا نحن - معشر البشر - قد رأينا بأنفسنا أن الموجودات المادية تنتهي في حسابنا إلى معان ومعادلات رياضية، فالإيجاد إذن بالنسبة لصاحب الوجود المطلق هو مسألة معقولات تقع لأنها قائمة في العقل المحيط بجميع الكائنات، ولا فرق بين ما يقع منها كثيرا متواترا، أو يقع قليلا نادرا، ولا بين البعيد منها والقريب؛ لأنه لا بعيد في العقل المطلق ولا قريب، ولا حاجة إلى انتقال ولا حمل أثقال! •••
وتأتي هنا مسألة المعجزات: فما هي المعجزات؟ وما هو موقعها من التفكير السليم؟
موقعها على ما قدمناه أنها شيء لا يخالف العقل، ولكنه يخالف المألوف والمتواتر في المحسوس.
فإذا كان كل عمل من الأعمال خلقا مباشرا في إرادة الله فلا فرق في حكم العقل بين وقوع المعجزة، ووقوع المشاهدات المتكررة في كل لحظة، ولا يكون الاعتراض على المعجزة أنها شيء يرفضه العقل، ولا يجوز في التفكير، وإنما يكون الاعتراض الصحيح: هل هي وقعت فعلا أو لم تقع؟ وهل هي لازمة أو غير لازمة للإقناع؟
فلا يمتنع عقلا أن تقع المعجزة، وإنما الذي يمتنع عقلا أن تقع عبثا لغير ضرورة مع إمكان الاستغناء عنها، إذا تبين أن إقناع المكابرين كان ممكنا بغيرها.
هل يمكن أن تتغير نواميس الكون، وقوانين الطبيعة كلها دفعة واحدة؟
نعم، يمكن.
ولا فرق في ذلك بين تغييرها في فترة ما، وتغييرها في جميع الآفاق والأكوان.
ولكن الذي لا يمكن هو وقوع التغيير عبثا، مع إمكان اجتنابه والاستغناء عنه ... وهكذا ينبغي أن يكون البحث في حقائق المعجزات.
لأن تغيير الحوادث كلها في قدرة العقل المطلق أهون من تغيير الفرض في عقل الرياضي وهو مغمض العينين، هذه قضية عقلية مجردة يستوي فيها حساب الكثير، وحساب القليل، ولكن الشيء الذي لا يقع في العقل المطلق هو العبث الذي لا يساغ في العقل المطلق، ولا في سائر العقول.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الخوارق من باب الإعجاز، أو من باب السحر، فردها كلها إلى السبب الأخير، الذي ترد إليه جميع الأسباب؛ وهو إرادة الخالق أو إذن الله.
أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله .
12
وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله .
13
فكان هاروت وماروت يفعلان ما يفعله أصحاب الحيل العجيبة، وهم يقولون قبل ذلك: إنها من خفة اليد، أو استهواء الأبصار، وفتنة العقول!
وأيا كان ما فعلاه فالحكم فيه وفي جميع الخوارق أن العقل لا يمنع وقوعه منعه للمستحيل، وأن المرجع فيه إلى مطابقته للحكمة الإلهية، وضرورة التوسل به أو إمكان التوسل بغيره في مقام الإقناع.
الأخلاق
قيل في تعليل نشأة الأخلاق: إنها مصلحة اجتماعية تتمثل في عادات الأفراد؛ لتيسير العلاقات بينهم، وهم متعاونون في جماعة واحدة.
فلو انطلق كل فرد في إرضاء نزعاته، وتحقيق منافعه دون غيره، لتعذر قيام الجماعة، وانتهى الأمر بفوات المصلحة الفردية نفسها؛ لتعرض كل فرد لعدوان الآخرين، وعجزه عن تدبير منافعه كلها، وهي تتوقف على أعمال كثيرة موزعة بين الأفراد الكثيرين على اختلاف الصناعات.
ومن هنا وجب على كل فرد أن ينزل عن بعض نفعه ويعدل عن بعض هواه؛ لكي يضمن بهذا النزول المختار أكبر قسط مستطاع من الحرية والأمان.
وليس من اللازم أن يتم هذا النزول المختار بالتفاهم والتشاور، أو عن علم سابق بالنتيجة التي يصل إليها المجتمع بعد هذا النزول الإجماعي، الذي يشترك فيه جميع الأفراد.
ولكنه يتم اضطرارا بعد المحاولة والتجربة وتصحيح الأخطاء بالعبرة والعقاب.
وأيا كان مذهب القائلين في تعليل الأخلاق فمما لا مشاحة عليه أن الأخلاق مصلحة اجتماعية، وأن الجماعات تختلف بينها في العادات، وأصول العرف، على حسب اختلافها في أحوال الاجتماع.
لكنك خليق أن تسأل: إذا تعادل خلقان في النفع الاجتماعي ألا يوجد هنالك مقياس نرجع إليه في تفضيل أحدهما على الآخر؟ أليس لحاسة الجمال أو لنزوع الإنسان إلى الكمال شأن في تفضيل بعض الأخلاق على بعض، أو في تمييز بعضها بالاستحسان والإيثار، وبعضها بالمقت والاستنكار؟
إن الوجوه كلها نافعة، بما فيها من الحواس التي تؤدي وظائف الحياة، ولكننا نرى وجها واحدا من بينها يعلو بروعه الحسن على ألوف الوجوه، ويفدى بألوف الوجوه، ولعله من جانب المنفعة التي تستفيدها وظائف الجسم أقل من تلك الوجوه في بعض المزايا، وأحوج منها إلى العلاج والتصحيح.
فهل يدخل اعتبار الجمال إلى جانب المنفعة في وصف الجسد الإنساني، ولا يحسب له اعتبار في خصائص النفس، أو خصائص المزاج؟
وهل نعتبر كل إعجاب بخلق من الأخلاق ميزانا حسابيا للمنفعة والخسارة، وتقديرا تجاريا لصفقة من الصفقات؟
وهل يروعنا كل خلق بمقدار ما ينفعنا، سواء نظرنا إلى المنفعة المعلومة المحسوبة، أو نظرنا إلى المنفعة التي تتحقق على طول الزمن في أطوار الاجتماع؟
لا بد أن يخطر على البال أن «لحاسة الجمال» شأنا هنا كشأنها في الإعجاب بمحاسن الأجسام، بل كشأنها في الإعجاب بمحاسن الجماد، أيا كان القول في أصل الشعور بالجمال. •••
وقيل في تعليل نشأة الأخلاق: إنها ترجع إلى مصدرين في كل جماعة بشرية لا إلى مصدر واحد، وإنها ترجع إلى مصلحتين لا إلى مصلحة واحدة، وقد تكون إحداهما على نقيض الأخرى فيما تمليه وفيما تستمليه.
قيل: إنها ترجع في ناحية منها إلى مصلحة السادة، وترجع في ناحية أخرى إلى مصلحة العبيد، وقد يقولون: أخلاق الأقوياء والضعفاء، بدلا من أخلاق السادة والعبيد.
والمرجح أن التفرقة بين أخلاق الكرام الأحرار، وبين أخلاق اللئام الهجناء، ملحوظ فيها هذا المعنى في اللغة العربية بين العرب الأقدمين، فكانوا يفهمون من وصف الأخلاق بالكريمة أنها أخلاق السادة الأحرار، ومن وصفها باللئيمة أنها أخلاق قوم ليست لهم أعراق، وليس لهم خلاق.
وأحدث القائلين بهذه التفرقة بين المفكرين من الأوروبيين فردريك نيتشه المعروف بمذهبه المشهور عن «إرادة القوة» التي يعارض بها الاكتفاء بمجرد إرادة الحياة، وهي قوام أخلاق الضعفاء ممن لا مطمع لهم فيما وراء عيش الكفاف أو عيش الأمان.
ولكن ما هي الأخلاق القوية؟ هل هي أن يفعل القوي ما يشاء؛ لأنه قادر على أن يفعله، ولأن الضعفاء عاجزون عن صده والوقوف في سبيله؟
وهل كل ما يفعله الأقوياء خلق حميد محبوب؟
وإذا قلنا: إن أخلاق القوة هي أخلاق القوي أمام الضعفاء، فما هي أخلاق القوي أمام القوي مثله؟ وما هو الضابط الذي يجعل للقوي عملا يليق به وعملا آخر لا يليق؟
قديما فسر هوبس الفيلسوف الإنجليزي كل خلق حميد بأنه قوة أو دليل على قوة.
فالصبر قوة؛ لأن الضعيف يجزع، ولا يقوى على الصبر والاحتمال.
والكرم قوة؛ لأن الكريم يثق من قدرته على البذل، ويعطي من هو محتاج إلى عطائه وهو ضعيف.
والشجاعة قوة؛ لأنها ترفض الجبن والاستخذاء.
والعدل قوة؛ لأنه غلبة الإنسان العادل على نوازع طمعه ودوافع هواه.
والعفة قوة؛ لأنها تقاوم الشهوة والإغراء.
والحلم قوة؛ لأنه مزيج من الصبر والثقة، وقد ينطوي على شيء من الترفع والاستخفاف بالمسيء .
والرحمة قوة؛ لأنها إنقاذ لمن يستحق الرحمة من المرضى أو العجزة أو الصغار الموكولين إلى رعاية الكبار.
وقس على ذلك كل خلق حميد نفسره على هذا النحو من التفسير.
وفحواه أن القوي تحمد منه أعمال ولا تحمد منه أعمال، وأيا كان الظن بصواب هذه الفحوى أو هذا التفسير فليس في وسع أحد أن يقول: إن القوي يفعل ما يشاء ويندفع مع قوته كما يشاء، وإن كل ما يفعله وكل ما يندفع إليه حميد جميل.
فما هو الضابط إذن للأخلاق القوية؟ أهو الاستطاعة؟ أكل ما يستطيعه القوي حميد، وكل ما لا يستطيعه ذميم؟ إن معنى هذا إبطال مذهب القوة من أساسه، والرجوع به إلى العجز وقلة الاستطاعة في خاتمة المطاف.
ولماذا يشاء القوي أمرا، ولا يشاء أمرا آخر؟ لأنه يشاء ما يليق، أو يشاء ما يقدر عليه، أو يشاء بلا ضابط من القدرة واللياقة؟
كل ذلك لا تفسره كلمة «القوة» وحدها، ولا تغني فيه عن تفسير يقترن بالقوة، ويميز لنا ما هو جميل من أعمالها، وما هو شائن قبيح.
ونعود إلى مذهب المنفعة في الأخلاق، فنسأل: هل نرتضي أخلاق الجزع، أو أخلاق الغدر، أو أخلاق المشاكسة، ولو لم يكن لها علاقة بمصالح الاجتماع؟
أليس في رؤية الرجل الجزوع قبح تنفر منه النفس، ولو كانت فيه سلامة صاحبه، ولم يكن للخلق في ذاته علاقة بالفضائل الاجتماعية؟
أليس لنا مقياس آخر، غير مقياس المنفعة الاجتماعية، أو مقياس التفرقة بين الأقوياء والضعفاء؟
بلى، هناك مقياس لا بد من الرجوع إليه في جميع هذه الأحوال؛ وهو صحة النفس، وصحة الجسد على السواء.
فالنفس الصحيحة تصدر عنها أخلاق صحيحة، والجسد الصحيح يصدر عنه عمل صحيح، أيا كان أثر الأخلاق والأعمال في حياة الجماعة، أو حياة الأفراد.
إن القوي الذي يفعل ما يشاء ليس بصحيح؛ لأن النفس الصحيحة لا تنطلق كما تنطلق الآلة التي تملؤها قوة البخار، أو قوة الكهرباء، فتصدم وتهشم، وتخبط خبط عشواء؛ حيث تحملها القوة العمياء.
لا صحة بغير ضابط أيا كان حكم الاجتماع ومطلب الاجتماع.
وكل ضابط معناه القدرة على الامتناع، ورد النفس عن بعض ما تشاء، وليس معناه القدرة على العمل فحسب، ولا المضي مع النفس في كل ما تشاء.
وهذا قبل كل شيء هو مصدر الجمال في الأخلاق؛ مصدره أن القوة النفسية أرفع من القوة الآلية. مصدره أن يتصرف الإنسان كما يليق بالكرامة الإنسانية، ولا يتصرف كما تحمله القوة الحيوانية، أو القوة التي يستسلم لها استسلام الآلات.
مصدره أن يكون الإنسان سيد نفسه، وأن يعلم أنه يريد فيعمل أو يمتنع عن العمل، وليس قصاراه أنه يساق إلى ما يراد.
إن المجتمع قد يملي على الإنسان ما يليق وما لا يليق، ولكنه لا يغنيه عن هذا الضابط الذي تناط به جميع الأخلاق، كما تناط به حاسة الجمال؛ لأنه دليل على صحة التكوين، وخلو النفس من الخلل والتشويه.
وبهذا الضابط الذي لا غنى عنه في كل خلق من الأخلاق يتحدى الإنسان فرائض المجتمع كله إذا فرضت عليه ما ينفر منه طبعه، أو يجرح فيه حاسة الجمال، وسليقة الشوق إلى الكمال، فيعلو على المجتمع في كثير من الأحيان، ولا يكون قصاراه أن ينقاد لما يمليه عليه، بل يخلق الآداب الاجتماعية الجديدة، ولا يكون في أعماله ومقاييسه مخلوقا للمجتمع في جميع الأحوال.
مصدر الجمال في الأخلاق هو أن يشعر الإنسان بالتبعة، وأن يدين نفسه بها؛ لأنه يأبى أن يشين نفسه، ويعتبر «الشين» غاية ما يخشاه من عقاب.
مصدر الأخلاق الجميلة هو «عزم الأمور» كما سماه القرآن، وهو مصدر كل خلق جميل حثت عليه شريعة القرآن. •••
فالشخصية الإنسانية ترتقي في الجمال الأخلاقي، كلما ارتقت في الاستعداد «للتبعة» ومحاسبة النفس على حدود الأخلاق.
وليس للتفاوت في جمال الخلق مقياس أصدق من هذا المقياس، ولا أعم منه في جميع الحالات، وفي جميع المقابلات بين الخصال المحمودة، أو بين أصحاب تلك الخصال.
وقد ألمعنا إلى ذلك في كتابنا «هتلر في الميزان»؛ حيث قلنا: إن «مقاييس التقدم كثيرة، يقع فيها الاختلاف والاختلال ... فإذا قسنا التقدم بالسعادة فقد تتاح السعادة للحقير ، ويحرمها العظيم، وإذا قسناه بالغنى؛ فقد يغنى الجاهل، ويفتقر العالم، وإذا قسناه بالعلم فقد تعلم الأمم المضمحلة الشائخة، وتجهل الأمم الوثيقة الفتية، إلا مقياسا واحدا، لا يقع فيه الاختلاف والاختلال، وهو مقياس المسئولية واحتمال التبعة؛ فإنك لا تضاهي بين رجلين، أو أمتين إلا وجدت أن الأفضل منهما هو صاحب النصيب الأوفى من المسئولية، وصاحب القدرة الراجحة على النهوض بتبعاته، والاضطلاع بحقوقه وواجباته، ولا اختلاف في هذا المقياس كلما قست به الفارق بين الطفل القاصر، والرجل الرشيد، أو بين الهمجي والمدني، أو بين المجنون والعاقل، أو بين الجاهل والعالم، أو بين العبد والسيد، أو بين العاجز والقادر، أو بين كل مفضول، وكل فاضل على اختلاف أوجه التفضيل».
والقرآن يقرر التبعة الفردية، وينوط بها كل تكليف من تكاليف الدين وكل فضيلة من فضائل الأخلاق:
ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى .
1
كل نفس بما كسبت رهينة .
2
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت .
3
قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل .
4
وما من خصلة حث عليها القرآن إلا كان تقدير جمالها بمقدار نصيبها من الوازع النفساني، أو بمقدار ما يطلبه الإنسان من نفسه، ولا يضطره أحد إلى طلبه.
فالحق الذي تعطيه، ولا يضطرك أحد إليه هو من أجمل الحقوق، وأكرمها على الله، وأخلقها بالفضيلة الإنسانية.
فلا قدرة للمسكين، ولا لليتيم، ولا للأسير على تقاضي الحق، فضلا عن تقاضي الحسنة المختارة، ولا يحث القرآن على البر بأحد كما يحث على البر بهؤلاء وأمثال هؤلاء.
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا .
5
فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر .
6
ولا تحسب على الأمة لعنة تحيق بها، وتستحق النكال من أجلها كلعنة التهاون في رعاية اليتامى والمساكين.
كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضون على طعام المسكين .
7
ومن واجب القوي القادر أن يجود بروحه في سبيل الله كما يجود بها في سبيل هؤلاء:
وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان .
8
وأحب البر بالوالدين هو البر بهما حين يضعفان، أو حين يعجزان عن التأديب والجزاء.
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا .
9
ولا يرجع هذا إلى ضعف صاحب الحق في الرحمة والإحسان، بل إلى مرجع الفضل كله من النفس الإنسانية؛ وهو ضبط النفس، وملك زمامها، وعزم الأمور، واتخاذ الوازع منها حين لا وازع من غيرها.
فالعدو القوي المقاتل له في هذه الفضيلة حق كحق الضعيف المستسلم الذليل.
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا .
10
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم .
11
ولا تسقط الضرورة ولا الغضب هذا الواجب عن كاهل إنسان ينشد الكمال ويروض نفسه على الأفضل من الخصال، فعلى الغاضب أن يغفر للمغضوب عليه، وعلى المضطر أن يتجنب البغي والعدوان:
وإذا ما غضبوا هم يغفرون .
12
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم .
13
وغني عن التفصيل أن الفضائل المثلى التي يحض عليها القرآن هي الفضائل التي ترفع إلى هذا المصدر وتجري في نسقه وتجمل بمن يروض نفسه على هذا الوازع ويحاسب نفسه هذا الحساب.
فالصبر، والصدق، والعدل، والإحسان، والمحاسنة، والأمل، والحلم، والعفو هي مثال الكمال الذي يطلبه لنفسه من يزع نفسه، ويختار لها أحسن الخيرة، ويأبى لها أن يهبط بها مكانا دون مكان الجميل الكامل من الخصال ومن الفعال.
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور .
14
فاصبر على ما يقولون .
15
وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق .
16
والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون .
17
إن الله يأمر بالعدل والإحسان .
18
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .
19
لا تقنطوا من رحمة الله .
20
وهذا الأدب بعينه هو الذي يملي على الكبير أن يتواضع للصغير، ويملي على الصغير أن يحفظ مكانة الكبير، ويملي على الكبار والصغار أجمعين أن يتجنبوا الإساءة، ويتعمدوا المحاسنة، وأن يأخذ بعضهم بعضا بالرفق والأدب وطيب العشرة وإحسان المقال.
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين .
21
إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى .
22
وقولوا للناس حسنا .
23
قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم .
24
إن الله لا يحب كل مختال فخور .
25
إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا .
26
والله لا يحب كل مختال فخور .
27
ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين .
28
ويجب على المسلم إحسان القول في المغيب كما يحسنه في الحضور:
ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه .
29
وجماع هذه الأخلاق كلها هو تلك الصفات التي اتصف بها الخالق نفسه في أسمائه الحسنى، وكلها مما يحمد للإنسان أن يروض نفسه عليه، وأن يطلب منه أوفى نصيب يتاح للمخلوق المحدود، فيما عدا الصفات التي خص بها الخالق دون سواه. •••
وإن المسلم ليؤمن بمصدر هذه الأخلاق المثلى، ويؤمن بأنها جميعا مفروضة عليه بأمر من الله.
ولكن المسلم وغير المسلم يستطيعان أن يقولا معا: إنها صفات لا ترجع إلى مصدر غير المصدر الإلهي، الذي تصدر منه جميع الأشياء؛ لأن مناطها الأعلى لم يتعلق بمنفعة المجتمع، ولا باستطاعة القوة، ولا بالقانون والسلطان، ولكنه تعلق بما في الإنسان من حب للجمال وشوق إلى الكمال، وكلاهما نفحة من الخالق يهتدي بها الأحياء عامة في معارج الرفعة والارتقاء.
الحكم
إذا وصفت الحكومة التي نص عليها القرآن بصفة من صفات الحكومة العصرية فهي الحكومة الديمقراطية في أصلح أوضاعها؛ لأنها حكومة الشورى والمساواة ومنع «السيطرة الفردية».
وأمرهم شورى بينهم .
1
وشاورهم في الأمر .
2
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين .
3
إنما المؤمنون إخوة .
4
إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد .
5
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله .
6
وما أنت عليهم بجبار .
7
وجملة ما يقال: إنها هي الحكومة لمصلحة المحكومين، لا لمصلحة الحاكمين، يطاع الحاكم ما أطاع الله؛ فإن لم يطعه فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم .
8
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل .
9
فكل أركان (حكم الأمة للأمة) قائمة في هذه الحكومة القرآنية.
ولكن لا يفهم من هذا بداهة أن الأمر فيها لكثرة العدد، أو للطبقة الكثيرة من بين سائر الطبقات.
لأن القرآن الكريم قد تكررت فيه الآيات التي تنص على أن الرأي والفضل والذمة والعلم ليست من صفات أكثر الناس على التعميم، وهذه أمثلة من تلك الآيات تتكرر أحيانا بلفظها، وأحيانا بمعناها في مواضع شتى من السور التي تصف الناس عامة كما تصفهم بعد البعثة المحمدية.
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون .
10
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا .
11
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا .
12
وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين .
13
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون .
14
ولكن أكثرهم يجهلون .
15
ولكن أكثركم للحق كارهون .
16
وإذا كانت طاعة أكثر الناس تضل عن سبيل الله فليس من الرشد لهم ولا لغيرهم أن يكون لهم الحكم المطاع، وإنما تقع تبعات الحكم على الأمة كلها بجميع عناصرها، وترجع الشورى إلى أهل الشورى، وهي لا تكون لغير ذي رأي أو ذي حكمة، ويصبح المؤمنون كالإخوة في المعاملة:
إنما المؤمنون إخوة .
17
ولكن الذين يعلمون منهم أحق بالطاعة من الذين لا يعلمون.
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .
18
ولهذا كانت أمانة الحكم في الأمة مقرونة بأمانة مثلها لا تقل عنها شأنا، ولا يستقيم أمر الأمم بغيرها؛ وهي أمانة الدعوة والإرشاد.
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون .
19
وشر ما تبتلى به جماعة بشرية من سوء المصير إنما مرجعه إلى بطلان هذه الدعوة، والتغاضي عن المنكرات، وكذلك كان مصير الضالين من بني إسرائيل
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون .
20
وعلى أبناء الأمة جميعا أن يتعاونوا على المصلحة العامة، وإقامة الفرائض والفضائل:
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان .
21
فالحاكمون والمحكومون جميعا متعاونون في أمانة الحكم وأمانة الإصلاح: كل بما يستطيع، وكل بما يصلح له، وما يصلح عليه، ولا حق في الطغيان لفرد جبار، ولا جماعة كثيرة العدد، بل الحق كله للجماعة كلها، بين التشاور والتعاون، والتنبيه والإرشاد والاسترشاد.
وما من جماعة بشرية تتم فيها أمانة الشورى، وأمانة الإصلاح، وأمانة التعاون ثم يعروها انحلال، أو يخشى عليها من فساد. •••
ويلحق بقواعد الحكم قواعد توزيع الثروة، وهي في القرآن تمنع الإسراف وتمنع الحرمان.
فاختزان الأموال محرم كل التحريم، وإنما جعل المال للإنفاق في سبيل الله، وفي طيبات العيش، وفي مرافق الحياة:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم .
22
والمحرومون العاجزون عن العمل محسوب لهم حسابهم في الثروة العامة، فريضة لازمة لا تبرعا يختاره من يختار.
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها .
23
وآتوا الزكاة ،
24
أمر موجه إلى كل مسلم قادر عليها، وفي سبيلها حارب الخليفة الأول جموع المرتدين، وهم أوفر عددا، وأكمل عدة من المسلمين.
وقلما تمتحن أمة بالبلاء في نظامها، وقواعد حكمها إلا من قبيل هاتين الآفتين: أموال مخزونة لا تنفق في وجوهها، وفقراء محرومين لا يفتح لهم باب العمل، ولا باب الإحسان.
وكلتا الآفتين ممنوعة متقاة في حكومة القرآن.
الطبقات
أقر القرآن سنة التفاوت بين الناس في جميع المزايا التي يتفاضلون بها وينتظم عليها العمل في الجماعة البشرية.
فهم متفاوتون في العلم والفضيلة:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .
1
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات .
2
وهم متفاوتون في الجهاد الروحي والقدرة على الإصلاح:
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ،
3
لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة .
4
وهم متفاوتون في الرزق وأسباب المعيشة:
نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات .
5
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق .
6
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض .
7
ولكن هذا التفاوت لا يرجع إلى عصبية في الجنس أو الأسرة؛ إذ لا فرق في ذلك بين إنسان وإنسان:
إنما المؤمنون إخوة .
8
ولا فرق بين أمة وأمة، ولا بين قبيلة وقبيلة، ولا بين أحد وأحد إلا برعاية الحقوق والواجبات:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير .
9
فالتعدد في الأمم وسيلة التعارف والتعاون، وليس بوسيلة للادعاء، والتنابذ، والتعصب للأجناس والتعالي بالعصبيات.
وقد فسر النبي عليه السلام هذه الآيات البينات بأحاديث في معناها فقال: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.»
وقال: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله تعالى.»
وكان عمر رضي الله عنه يتكلم عن الصديق، ويشير إلى بلال الحبشي فيقول: «هو سيدنا، وأعتق سيدنا.» •••
فالقرآن الكريم - بهذه الأحكام المفصلة - قد أعطى المساواة حقها، وأعطى التفاوت بين الآحاد والطبقات حقه، فلا يمتنع التفاوت ولا يكون مع هذا سببا للظلم والإجحاف بالحقوق، بل سببا لإعطاء كل ذي حق حقه ولو كان من المستضعفين في الجنس، أو المستضعفين في المنزلة الاجتماعية.
وبإقرار التفاوت أقر القرآن الكريم أصلح النظم التي تستقيم عليها حياة الفرد والجماعة؛ لأن سنة الاختلاف بين الأحياء أعمق من حياة البشر وأعمق من نظم الاجتماع، أو نظم الاقتصاد.
فالحياة تتمثل في ألوف من الأنواع والأجناس والفصائل، وكل نوع أو جنس أو فصيلة يتألف من آحاد يعدون بالألوف والملايين، ولا يتشابهون في الشكل ولا في اللون، ولا في القوة والمزية، ومهما يقل القائلون عن أسباب ذلك في الزمن القديم فالحقيقة الماثلة أمامنا أن التنوع سنة الحياة وغايتها، وأنها تنزع إلى تفاوت المزايا، ولا تنزع إلى التشابه والتساوي في مظاهرها الإنسانية، ولا في مظاهرها الحيوانية، ويوشك أن يعم ذلك عالم الجماد قبل عالم الحيوان أو الإنسان.
وحكمة التفاوت ظاهرة، وآفة التشابه والتساوي أظهر؛ لأن الحياة تفتقر إلى المزايا إذا قصرت حركتها على تكرير صورة واحدة في كل فرد من الأفراد، وجعلتهم كلهم نسخة واحدة، لا فضل لبيئة منهم على بيئة، ولا لمجموعة منهم على مجموعة، ولكنها تزخر بالمزايا المتجددة، وتستزيد من الملكات المتعددة، كلما طرأ بينها التفاوت في الصفات والتفاوت في الأنصبة، وكان للتفاوت بين آحادها فضل يحرصون عليه، ويتطلعون إلى بلوغه، والتقدم فيه.
ولا معنى للتفاوت إذا تساوى القادر والعاجز، وتساوى العامل والكسلان، وأصبح الكسلان يكسل ولا يخاف على وجوده، والعامل يعمل ولا يطمح إلى رجحان، واطمأن المجردون من المزايا كاطمئنان الممتازين عليهم بأشرف المزايا وأعلاها؛ فإن القدرة تكاليفها ثقيلة، وأعباؤها جسيمة، ومطالبها كثيرة، والناس خلقاء أن يتهيبوا، وينكصوا عنها إذا لم يكن لهم وازع من الخوف ودافع من الطموح، وإن العاجزين الكسالى ليقعدهم العجز، ويطيب لهم الكسل إن لم يكن فيه ما يحذرونه ويخافون عقباه، وما هم بكسالى إذا كانوا يعملون وهم مستطيعون أن يتركوا العمل بغير خوف من عواقب تركه، أو كان العجز مأمونا في كل حال، لا يصيبهم في رزقهم ومنزلتهم بما يقلق ويثير: فالتفاوت موجود.
والتفاوت لازم.
ولكنه لا لزوم له ولا فائدة فيه إذا لم يقترن به رجاء وإشفاق، ووثوق من الرزق والجاه، وشك في هذا وذاك.
وهذه هي شريعة الحياة منذ كانت.
وهذه هي شريعة الحياة كيفما تكون، وحيثما تكون.
وكل صورة من الصور تناقض هذه الصورة التي عرفنا حالها منذ كانت، وحيث كانت، فهي صورة لا تستقر في العقل أو الخيال، فضلا عن استقرارها في الواقع الذي يقبل «التطبيق» ويقبل الدوام.
على أننا لا نعرف صورة تناقضها في العقل أو الخيال غير تلك الصور التي خلقها الوهم في أخلاد جماعة من الهدامين الذين يسمون أنفسهم بالماركسيين أو الشيوعيين.
فهؤلاء الماركسيون يتصورون أن تفاوت الحظوظ والأرزاق حيلة من حيل الأسواق، وشرك من أشراك المرابين وطلاب الأرباح.
ويزعمون أن الناس قد تفاوتوا في الحظوظ الأولى والأرزاق؛ لأنهم قد انقسموا منذ بداية التاريخ إلى مستغلين ومسخرين، وأن المسخرين هم العمال المأجورون، فإذا انتهى التاريخ إلى مرحلة من المراحل يسود فيها العمال المأجورون؛ فقد انتهى الاستغلال، وانتهى التفاوت في الحظوظ الأرزاق، وعمت المساواة بين جميع الآحاد وجميع الطبقات إلى آخر الزمان.
وفحوى ذلك أن المذهب الشيوعي يتقرر مثلا في قطر من الأقطار سنة 1917 للميلاد.
ثم يستقر في جميع الأقطار سنة 1950 أو قبل سنة 1970 أو قبل سنة ألفين أو قبل سنة ثلاثة آلاف.
ثم ماذا؟
ثم يقف سباق الحياة في الجماعات البشرية، ثم ينقطع التبديل والتغيير في تكوين تلك الجماعات، ثم تستقر شعوب البشرية على هذه الحالة من النظام الاجتماعي دهر الداهرين وأبد الآبدين.
إلى متى؟
إلى سنة خمسة آلاف؟ إلى سنة عشرة آلاف؟ إلى سنة مائة ألف بعد الميلاد؟ إلى سنة مليون؟ إلى سنة عشرة ملايين؟
كلا، إلى أن يفنى البشر، وينهار بناء الكون.
ولماذا يقع التبديل في الجماعات البشرية بعد سنة ألفين للميلاد مثلا أو سنة ثلاثة آلاف؟
لماذا التغيير والتبديل بعد شيوع المذهب الشيوعي في كل قطر من أقطار الكرة الأرضية؟
المسألة كلها «لعبة سماسرة»، وقد انكشفت هذه اللعبة وارتفع الغطاء!
كل ما حدث من أطوار الجماعات، وأطوار الدول، وأطوار العقائد والدعوات فهو «مناورة سوق» ودسيسة فريق من حزب الصعود، وفريق من حزب الهبوط، وقد بطلت الدسيسة بفراسة كارل ماركس اللبيب وأتباعه الأيقاظ، فلا أطوار، ولا مناورات، ولا صعود، ولا هبوط، ولا سبيل للجماعات البشرية إلى تبديل أو تغيير؛ لأن الحكاية كلها حكاية استغلال وتسخير، وقد بطل الاستغلال والتسخير في هذا الطور الأخير، ووقف دولاب الحياة الاجتماعية، فلا مصير لها غير هذا المصير!
وأصحاب هذه النحلة يسمون أنفسهم أحيانا بالماديين التاريخيين؛ لأنهم يدعون لأنفسهم أنهم يستلهمون أسرار التاريخ، ويسبرون غوره، ويحيطون بآفاقه في ماضيه وحاضره ومصيره، ولكنك ترى مما تقدم أي ضيق وأي صغر يلازمان نظرتهم إلى عوامل التاريخ الإنساني في آباده المترامية إلى غير انتهاء معلوم الحدود، فما أضيق هذه الآفاق! وما أصغر هذا التاريخ! الذي تتقيد خطاه بتنظيم الأجور في مرحلة من مراحل السياسة، فلا تنحرف بعد ذلك يمنة ولا يسرة، ولا يكون لها متجه غير المتجه الذي رسمه لها «الماديون التاريخيون».
وأضيق من هذه النظرة إلى أطوار التاريخ نظرتهم إلى دوافع الحياة التي تنوع مظاهرها، وتعدد جوانبها، فلا شيء غير نضوب الحياة، وضحالة الإحساس بها، يخيل إلى أحد من الناس أن مسألة التفاوت بين الأحياء عامة - وبين البشر خاصة - مسألة عارضة أو تلفيقة من تلفيقات الأسواق، وأحبولة من أحابيل الاستغلال، وأن هذا التفاوت لا يعمل عمله في بيئة المجتمع من جديد إذا عولجت مسألة الأجور على نظام من النظم كائنا ما كان؛ فإن تفاوت الأرزاق أو الأجور نتيجة لا محيص عنها للتفاوت في أقدار الحياة، ولن يمتنع تفاوت الأرزاق ولو منعته جميع القوانين التي في طاقة الحكومات أو الجماعات.
على أنه لو امتنع يوما من الأيام بحيلة من الحيل الحكومية لبقي التفاوت الذي لا حيلة فيه لحكومة قط، ولا تعدله في قيم الحياة قيمة تتعلق بالأرزاق أو بالأموال؛ لأنه هو التفاوت الذي يسعد ويشقي، ويرفع ويضع، وتناط به الآمال والجهود، والغبطة والرجاء.
فقد يولد الإنسان بوجه جميل، يفتح له القلوب، ويسخر له اللذات، ويتمناه الألوف، فلا هو قادر على أن ينزل عنه، ولا هم قادرون على أن يأخذوه.
وقد يمتاز الإنسان بالقوة التي تقاوم العدل، وتستغني بالقليل من الطعام والكساء عن الكثير الذي لا ينفع الآخرين.
وقد يمتاز بالذرية التي تعز على غيره، أو يساوي غيره بالذرية ويمتاز عليهم بنجابة الأبناء.
وقد يمتاز بالعبقرية والنبوغ، وقد يمتاز بالفصاحة وذرابة اللسان، وقد يمتاز بالظرف والفكاهة والإيناس، وقد يمتاز بطول الأجل والرضا عن العيش، واعتدال المزاج، وقد يمتاز بالهيبة ووجاهة المحضر وبروز «الشخصية» بين الأنداد والأقران.
فلا بد أن يكون الإنسان مشغولا جدا بالعملة والنقد حتى يتخيل أن النقود وحدها هي التي خلقت الدرجات الاجتماعية بين هذه الفوارق التي لا تقبل الإحصاء، ولا بد أن يكون محسور النظر، حين ينظر إلى المستقبل القريب والبعيد، فيحسب أن هذه المزايا معطلة العمل، في خلق الدرجات والطبقات، وستظل معطلة العمل عشرات السنين، ومئات السنين، وآلاف السنين، إلى أبد الآبدين.
وما كان بالناس من حاجة إلى انتظار آلاف السنين ليروا أن هذه المزايا وأشباهها قد تعمل عملها، في ظل كل نظام، وعلى الرغم من كل نظام.
فقد تأسس النظام الشيوعي في البلاد الروسية منذ ثلاثين سنة، فحاول جهد المستميت أن يقضي على الطبقات والدرجات، فما هي إلا سنوات حتى ظهرت بوادر التفاوت بينها بعد نشأة الصناعة الحكومية، وهي قيد أنملة في أشواط الحياة الاجتماعية إذا قيست بالتاريخ المنتظر في الدهور بعد الدهور.
ظهرت بوادر هذا التفاوت بين أناس يرغبون جميعا في منعه، ويؤمنون جميعا ببطلانه، ويدينون بما تدين به حكومتهم من أسباب الفوارق بين الطبقات في حظوظ المعاش.
وقد دانوا بما تدين به حكومتهم؛ لأنهم ولدوا في ظلها، ولم يسمعوا رأيا غير رأيها، ولا فلسفة للتاريخ غير فلسفتها؛ إذ كان الجيل العامل في البلاد الروسية من أبناء العشرين إلى أبناء الخامسة والأربعين قد ولدوا بعد نشأة النظام الشيوعي، أو تعلموا دروس الطفولة والصبا على يديه، فليس في وسع نظام أن يطمع في معونة أصدق من هذه المعونة بين الحكومة والشعب؛ لتحقيق التجربة التي يؤمنون بها ويكرهون إخفاقها، ويعلقون عليها الرجاء الأكبر في الوجود كله؛ لأنها هي عقيدتهم في الوجود.
ولكنهم بدءوا التجربة فلم يتقدموا فيها خطوتهم الأولى، حتى تبين لهم الخطر من التسوية بين المطبوع على العمل، والمطبوع على الكسل، واحتاجوا إلى حفز الهمم وحث الخطا بالتمييز بين المجتهد والمهمل، وبين السريع والبطيء، وبين من يركن إلى الكفاف، ومن يطمح إلى التفوق والبروز.
فلم ينفعهم هذا التمييز في الأجور؛ لأن صاحب الأجر الكبير كصاحب الأجر الصغير في القدرة على الشراء، فكلاهما يشتري الحاجيات، ولا يؤذن له بشراء «الكماليات » التي حسبوها من شرور الادخار، أو نظام رأس المال.
فسمحوا بشراء الكماليات مكرهين، وأضافوا التفاوت في حظوظ المعيشة، وفي مراتب الشرف إلى التفاوت في الأجور والمكافآت، وأنشئوا الطبقات باليمين وهم يحاربونها باليسار.
وكان هذا كل ما استفادته الأمة الروسية من هذه التجربة الدامية، التي كلفتها نيفا وعشرين مليونا من النفوس البشرية، بين قتلى الثورة وفرائس الاضطهاد، وصرعى المجاعة والوباء، عدا خسارة الأمة في الحرية، واستقلال الفكر والشعور.
وقد فعلت مدابرة الطبيعة فعلها في جميع نوازع الحياة، وفي مقدمتها عبقرية الأمة وملكاتها الإنسانية، وهو أول ما يصاب بمدابرة الطبيعة، وإكراه العقول والقرائح على نحو من الأنحاء.
فإن مدابرة الطبيعة شر على عبقرية الأمة من الطغيان والاستبداد؛ لأن عبقرية الأمة الروسية لم تحرم في عهد القياصرة أفذاذا من نوابغ الأدب؛ أمثال: دستيفسكي، وتولستوي، وترجنيف، وشيخوف، وآرتزيياشف، وجوركي، ونخبة من الموسيقيين والدعاة، ولكنها عقمت فلم تخرج واحدا من طبقة هؤلاء في عهد النظام الشيوعي، على وفرة الكتب المطبوعة وكثرة القراءة بين جميع الطبقات، ومن بلغ من أدباء الروس نصيبا من النبوغ يقارب تلك المنزلة كان مآله إلى الخمول أو الانتحار.
وهكذا يفعل الحجر على سباق الحياة، حيثما جرب، وفي أي من الأوضاع تمثل للناس، فلم يكن الحجر على تكوين الطبقات في ظل النظام الشيوعي أرحم ولا أعدل من الحجر على تكوينها في ظل العقائد البرهمية بين الهنود؛ لأنه منع الصعود، ولم يمنع الهبوط، وضاعف المشقة في طريق العناصر الصالحة للتقدم، ولم يخفف شيئا من الضواغط القاسرة التي ترين على النفوس فتهوي بها إلى الحضيض.
وكثيرا ما تسمع من دعاة «المادية» كلاما عن الظلم الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية؛ لأنهم يزعمون أنهم يحاربون الظلم، ويقررون العدالة، ولكنك لن تتخيل في الدنيا ظلما أوبل من ظلم التسوية بين غير المتساوين؛ فإنه يجور على الأصلح، ولا يحمي المجرد من الصلاح، ويقيم العقبات في سبيل تجديد القوى، واستفزاز الهمم، وتنشيط الكسالى، وتقرير الثقة في نفوس العاملين.
بل ليس أظلم للطبقة السفلى نفسها ممن يحسبها «طبقة سفلى» إلى آخر الزمان ، ولا يفتح باب الرجاء في الصعود والترقي لطائفة من أبنائها في حاضرهم الراهن، أو مستقبلهم القريب أو البعيد، فهو يأخذهم بشريعة اليأس، ولا يأخذهم بشريعة الأمل، ويحرك فيهم الحسد والخسة، ولا يحرك فيهم الهمة والطموح.
وفي ذلك الجور كل الجور على جميع الطبقات، فيه الجور كل الجور على القادرين المستعدين للصعود، وفيه الجور كل الجور على العاجزين الحاسدين الذين لا يصعدون ولا يحبون لغيرهم أن يصعد وهم قاعدون، ولو لم تشايعهم الدعوة المادية على حسدهم لأنفوا منه وأنكروه، ولكنهم يجدون من يمثل لهم تلك الرذيلة في صورة العدل والتجديد، أو صورة «الناموس» الدائم الذي يسيطر على مستقبل الجماعات والآحاد، فيعلنون ما يخجل ويفخرون بما يشين.
وإنما العدل الحق في مسألة الطبقات أن الناس متفاوتون بالفطرة، فينبغي أن يظلوا متفاوتين، وينبغي أن يتفاوتوا بالفضل والجدارة، ولا يتفاوتوا بالمظهر والتقليد، وأن لهم من الحقوق بمقدار ما عليهم من الواجبات، وهم في غير ذلك سواء.
وتلك هي شريعة القرآن الكريم:
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات .
10
إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
11
إنما المؤمنون إخوة .
12
وعلى هذا تصلح الحياة ويستقيم العدل، ويرتفع من يستحق الرفعة، ويمضي التفاوت بين الأحياء إلى معناه، ولا يمضي بغير معنى في تكوين الجماعات.
المرأة
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة .
1
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم .
2
للذكر مثل حظ الأنثيين .
3
إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم .
4
وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين .
5
ميزان العدل الصحيح هو التسوية بين حقوق المرء وواجباته.
فليس من العدل أن تسوي بين اثنين مختلفين في الحقوق والواجبات، ذلك هو الظلم بعينه، بل هو شر من الظلم أيا كانت العاقبة التي يؤدي إليها؛ لأنه هو وضع الشيء في غير موضعه، وهو الخطل والاختلال.
والتسوية بين الحقوق والواجبات، هي العدل الذي فرضته الفلسفة القرآنية للمرأة، وهو هو وضع المرأة في موضعها الصحيح من الطبيعة، ومن المجتمع، ومن الحياة الفردية.
فمن اللجاجة الفارغة أن يقال : إن الرجل والمرأة سواء في جميع الحقوق، وجميع الواجبات.
لأن الطبيعة لا تنشئ جنسين مختلفين؛ لتكون لهما صفات الجنس الواحد، ومؤهلاته، وأعماله، وغايات حياته.
وفي حكم التاريخ الطويل ما يغني عن الاحتكام إلى التقديرات والفروض فيما تتوخاه الطبيعة من الاختلاف بين الذكر والأنثى في نوع الإنسان.
فلم يكن جنس النساء سواء لجنس الرجال قط في تاريخ أمة من الأمم التي عاشت فوق هذه الكرة الأرضية، على اختلاف البيئات والحضارات.
وكل ما يقال في تعليل ذلك يرجع إلى علة واحدة؛ وهي تفوق الرجل على المرأة في القدرة والتأثير على العموم.
فليست جهالة القرون الأولى سببا صالحا لتعليل هذه الفوارق العقلية بين الرجال والنساء في جميع الأمم؛ لأن الجهل كان حظا مشتركا بين الجنسين، ولم يكن مفروضا على النساء وحدهن دون الرجال، ومن زعم أن الرجل فرض الجهل على المرأة فقبلته وأذعنت له؛ فقد قال: إنه أقدر من المرأة، أو إنه أحوج إلى العلم وأحرص عليه منها.
وليس الاستبداد في القرون الأولى سببا صالحا لتعليل تلك الفوارق؛ لأن استبداد الحكومات كان يصيب الرجل في الحياة العامة، قبل أن يصيب المرأة في حياتها العامة أو حياتها البيتية، ولم يمنع الاستبداد طائفة من العبيد المسخرين أن ينبغ فيهم العامل الصناع، والشاعر اللبق، والواعظ الحكيم، والأديب الطريف.
وليس عجز المرأة عن مجاراة الرجل في الأعمال العامة ناشئا من قلة المزاولة لتلك الأعمال؛ لأنها زاولت أعمال البيت ألوف السنين، ولا يزال الرجل يبزها في هذه الأعمال كلما اشتغل بصناعاتها؛ فهو أقدر منها في الطهو، وفي تفصيل الثياب، وفنون التجميل، وتركيب الأثاث، وكل ما يشتركان فيه من أعمال البيوت.
وقد يرجع الأمر إلى الخصائص النفسية، فيحتفظ الرجل فيها بتفوقه على الرغم من استعداد المرأة بتلك الخصائص من أقدم عصور التاريخ.
فالنواح على الموتى عادة تفرغت لها المرأة، منذ عرف الناس الحداد على الأموات، ولكن الآداب النسوية لم تخرج لنا يوما قصيدة من قصائد الرثاء تضارع ما نظمه الشعراء الرجال، سواء منهم الأميون والمتعلمون، وقد كان أكثر الشعراء في العهود القديمة من الأميين.
بل هناك خاصة نفسية، لا تتوقف على العلم، ولا على الحرية، ولا نوع العلم أو الوظيفة، في المجتمعات أو البيوت؛ وهي خاصة الفكاهة، وخلق الصور الهزلية، والنكات التي يلجأ إليها الناس حين يحال بينهم وبين التعبير الصريح.
وربما كان الاستبداد، أو الضغط الاجتماعي من دواعي تنشيط هذا «السلاح» النفسي في قرائح المستعبدين والمغلوبين؛ لأنه السلاح الذي ينتقم به المغلوب لضعفه، والمنفذ الذي يفرج به عن ضيقه وخوفه، وقد كان ضغط الرجال على النساء خليقا أن يغريهم باستخدام هذا السلاح لتعويض القوة المفقودة، والانتقام للحرية المسلوبة، ولكن الآداب والنوادر لم تسجل لنا فكاهة واحدة أطلقتها النساء على الرجال كما فعل الرجال المغلوبون في الأمم الحاكمة، أو المحكومة على السواء، أو كما فعلوا في تصوير رياء المرأة، واحتيالها على إخفاء رغباتها، وتزويق علاقاتها بالرجال.
وهذه الملكة - ملكة الفكاهة - خاصة نفسية لم يقتلعها من طبائع الرجال ظلم، ولا جهل، ولا فاقة، ولا عجز عن العمل في ميدان الحياة.
فمن اللجاجة أن يتجاهل المتجاهلون هذه الفوارق وهي أثبت من كل ما يثبته العلم والعلماء، وما كان للعلم أن يوجد شيئا لم يكن له وجود في الوقائع أو في تفكير العقول، وإنما هو أبدا في مقام التسجيل، أو مقام التفسير. •••
وقد أقام القرآن الفارق بين الجنسين على الأساسين اللذين يقيمانه، ويقيمان كل فارق عادل من نوعه؛ وهما: أساس الاستعداد الطبيعي، وأساس التكاليف الاجتماعية.
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم .
6
فحق القوامة مستمد من التفوق الطبيعي في استعداد الرجل، ومستمد كذلك من نهوض الرجل بأعباء المجتمع، وتكاليف الحياة البيتية.
فهو أقدر من المرأة على كفاح الحياة، ولو كانت مثله في القدرة العقلية والجسدية؛ لأنها تنصرف عن هذا الكفاح قسرا في فترة الحمل والرضاعة.
وهو الكفيل بتدبير معاشها، وتوفير الوقت لها في المنزل لتربية الأبناء، وتيسير أسباب الراحة والطمأنينة البيتية.
وكلاهما فارق ضروري، تقضي به وظائف الجنسين، ويقضي به توزيع العمل في البيئة الإنسانية ، كلما تقدم الإنسان، واتسعت في نفسه وفي مجتمعه عوامل العطف، وملكات العقل وخصائص المزاج، ويقضي به اختلاف الحقوق والواجبات؛ ذلك اختلاف لم يخلق لإلغاء الفوارق، بل للاعتراف بها، وتوجيهها إلى وجهتها المعقولة، ولا نحسب أن المجتمع الإنساني ناج من مشكلاته المعقدة، في سياسة الأمة، وسياسة البيت، وسياسة الحياة الفردية، حتى يثوب إلى هذا التقسيم الطبيعي الذي لا محيص عنه، فيعمل الرجال عمل الرجال، ويعمل النساء عمل النساء، وتقام دولة المرأة في البيت، ودولة الرجل في معترك الحياة. •••
فالمجتمع الذي يتزاحم فيه النساء والرجال على عمل واحد في المصانع والأسواق لن يكون مجتمعا صالحا، مستقيما على سواء الفطرة، مستجمعا لأسباب الرضا والاستقرار بين بناته وبنيه؛ لأنه مجتمع يبذر جهوده تبذير السرف والخطل على غير طائل، ويختل فيه نظام المعمل والسوق، كما يختل فيه نظام الأسرة والبيت.
فالمرأة لم تزود بالعطف والحنان والرفق بالطفولة، والقدرة على فهمها وإفهامها، والسهر على رعايتها في أطوارها الأولى؛ لتهجر البيت، وتلقي بنفسها في غمار الأسواق والدكاكين.
وسياسة الدولة كلها ليست بأعظم شأنا، ولا بأخطر عاقبة من سياسة البيت؛ لأنهما عدلان متقابلان: عالم العراك والجهاد، يقابله عالم السكينة والاطمئنان، وتدبير الجيل الحاضر يقابله تدبير الجيل المقبل، وكلاهما في اللزوم وجلالة الخطر سواء.
وإنما الآفة كلها من حب المحاكاة بغير نظر إلى معنى المحاكاة؛ فإن المرأة يخيل إليها أنها لا ترفع الضعة عن نفسها إلا إذا عملت عمل الرجال، وطالبت بحقوق الرجال، وقيل: إن النساء والرجال سواء، في جميع الأعمال والأحوال!
ولولا مركب النقص لكان للمرأة فخر بمملكة البيت وتنشئة «المستقبل» فيه، لا يقل عن فخر الرجل بسياسة «الحاضر» وحسن القيام على مشكلات المجتمع التي تحتاج إلى الجهد والكفاح، وهي لو رجعت إلى سليقتها لأحست أن زهوها بالأمومة أغلى لديها، وألصق بطبعها من الزهو بولاية الحكم ورئاسة الديوان، فليس في العواطف الإنسانية شعور يملأ فراغ لب المرأة كما يملأه الشعور بالتوفيق في الزواج والتوفيق في إنماء البنين الصالحين، والبنات الصالحات. •••
وقد لوحظ هذا الاعتبار في تقسيم الميراث بين الذكور والإناث، فأعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، وبنيت هذه القسمة قبل كل شيء على اعتبار واحد؛ وهو أن الرجل يتكفل بمعيشة المرأة، وهي مشغولة بأمر البيت ورعاية الأسرة، وأنه هو الذي يجمع الثروة ويكدح في طلب المال، فمن العدل أن يعطى منه نصيبين؛ على قدر سعيه في تحصيله، وعلى قدر حاجاته التي تشتمل على حاجة النساء، ومن يعولهم من الزوجات والأبناء. •••
ووصف القرآن المرأة بالكيد العظيم، وهو وصف لا يناقض رجحان الرجل عليها في العقل والتدبير؛ لأن سلاحها في هذا الكيد من أسلحة الطبيعة التي تستميل بها الرجل إليها، وتغرس في نفسه حب الاستجابة لغوايتها، ولم تزل الحيلة عوضا عن القدرة، ودليلا على نقصها في ناحية من نواحيها. ومن المشاهدات المحسوسة أن المرأة تصر على طلبتها، وتلج في إصرارها؛ لأنها تعجز عن صرف الفكرة من رأسها، إذا خطرت لها، وهجست في ضميرها، فهي تطرد الفكرة من هنا فتعاودها من هناك، وهي تعالج الخلاص منها فلا تفلح في علاجها، ولا تزال فريسة لهواجسها في يقظتها ومنامها؛ حتى تستريح منها بالإنجاز والتنفيذ، فهي تثابر على الطلب؛ لأنها عاجزة عن الخلاص من الحاجة والتغلب على معاوداته ومراجعاته، وهي تستمد القوة من هذا الضعف الذي يتعقبها فلا يرحمها ولا يريحها، فتبدو كالمطاردة وهي طريدة، وتتراءى كالغالبة وهي مغلوبة، فتجمع بين الضعف العظيم، والكيد العظيم، وتعتمد على غواية الطبيعة في نجاح كيدها حين يخذلها الضعف ويسلمها للنزوة الملحة، والوسواس المقيم.
على أن هذه التفرقة بين الجنسين لا تتعدى تكاليف المعيشة، وعلاقات المجتمع إلى تكاليف العقيدة وفضائل الأخلاق ومطالب الروح؛ لأن المرأة تخاطب في القرآن الكريم كما يخاطب الرجل في هذه الأمور، وتندب لكل ما يندب له من الفرائض والأخلاق التي تجمل بذوي الخير والصلاح، ومن أمثلة ذلك هذه الآية الكريمة من سورة الأحزاب:
إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما .
7
ولهذا كانت المرأة تشهد الصلاة الجامعة في المساجد، وتؤدي فريضة الحج سافرة غير مقنعة، وتبايع النبي عليه السلام كما بايعه الرجال.
أما الحجاب الذي كثر فيه اللغط كما كثر فيه الغلط، فالقرآن لم يتعرض له إلا بمقدار ما يحق لكل مجتمع سليم أن يتعرض لحياطة الأخلاق والأعراض؛ لأن شهوات الجنس أخطر من كثير من الأضرار التي تحتاط لها الجماعات البشرية بالحد من الحرية في بعض الأحوال، وقد سمحت القوانين بالحد من الحرية في سبيل تأمين الأموال، وحراسة الطرق، والمواصلات، ووقاية السابلة من أخطار المركبات والسيارات، فمن السخف أن يقال: إن الفرد يحظر عليه الانطلاق على هواه في شئون كهذه، ويباح له أن ينطلق في أهواء الشهوة الجنسية بغير ضابط من قبيل الحيطة والرقابة التي لا تعوقه عن مباح!
وإذا رجعنا إلى نصوص القرآن لم نر فيها ما يحرم على المرأة شيئا لا يجب على القانون أن يحرمه في أحدث المجتمعات.
فلا يجوز للمرأة أن تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، وفصلت آية الحجاب ذلك في سورة النور فجاء فيها:
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون .
8
وفحوى ذلك أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج بزينة جسدها لتتصدى للغواية بين الغرباء، وهي حل بعد ذلك أن تلقى من تشاء ممن تجمعها بهم مجالس الأسرة من الرجال أو النساء.
وما من عقل سليم يرى أن الشرائع تتخطى حدودها حين تعرض لمنع التبذل والغواية على هذا النحو الصريح، وما من عقل سليم يبدو له أن حراسة الأعراض والأخلاق بمثل هذه الحيطة فضول من الشرائع والقوانين ، أو تصرف لا نظير له في المجتمعات البشرية التي تتكفل بحراسة الأموال والأرواح.
فلا فائدة للرجل ولا للمرأة ولا للأمة في جملتها من هذا الرياء الذي يجزم باستحالة الأخطاء الشهوانية حين تستثار بغواية الزينة المكشوفة، وهو في الوقت نفسه لا ينزه النفس البشرية من سرقة الدراهم والسلع إذا عرضت بغير حيطة لكل من يمد إليها يده، ومن حاول التفرقة بين الأمرين بالتفرقة بين الطمع في الجماد، والطمع في مخلوق إنساني، يؤكد ضرورة الحيطة هنا من حيث يريد أن يبطلها أو يضعفها؛ لأن الخطر الذي تلتقي فيه الرغبة من الجانبين أولى بالحيطة من خطر مقصور على رغبة السارق دون الجماد المسروق.
ولعل الغربيين قد لمسوا من أضرار الإباحة المطلقة في مقابلات الجنسين ما يجوز بهم إلى الصواب في مسألة «الحجاب» فيفهمون الحكمة في الاعتدال بين الإباحة المطلقة، والقسر الشديد في هذه المسألة التي لا يغني فيها الرياء عن الحقيقة، ويدركون أن أخطار الشهوات الجنسية شيء يحسب له حساب في الشرائع والآداب؛ لأنه حساب الأعراض والأنساب.
وخير ما يطلب من الشريعة عدل وصحة تقدير، ونحن لا نلتزم العدل ولا صحة التقدير حين نتجاوز بالكائن الحي طبيعته في حقوقه وواجباته، أو حين نطلب من الطبيعة ما لا يستطاع.
الزواج
من الأوهام الشائعة بحكم العادة أن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي أباح تعدد الزوجات بين الأديان الكتابية.
وهذا وهم قد سرى إلى الأخلاد بحكم العادة كما أسلفنا؛ لأن الواقع الذي تدل عليه كتب الإسرائيليين والمسيحيين أن تعدد الزوجات لم يحرم في كتاب من كتب الأديان الثلاثة، وكان عملا مشروعا عند أنبياء بني إسرائيل وملوكهم فتزوجوا بأكثر من واحدة، وجمعوا بين عشرات الزوجات والجواري في حرم واحد، وروى «وستر مارك
Wester Mark »، العالم الحجة في شئون الزواج على اختلاف النظم الإنسانية، أن الكنيسة والدولة معا كانتا تقران تعدد الزوجات إلى منتصف القرن السابع عشر، وكان يقع غير نادر في الحالات التي لا تعنى بها الكنيسة عنايتها بزواج الأسرة الكبيرة.
وكل ما حدث في القرن الأول للمسيحية أن الآباء كانوا يستحسنون من رجل الدين أن يقنع بزوجة واحدة، وخير من ذلك أن يترهب ولا يتزوج بتة، فكانت الفكرة التي دعت إلى استحسان الزواج الموحد هي فكرة الاكتفاء بأقل الشرور، فإن لم تتيسر الرهبانية فامرأة واحدة أهون شرا من امرأتين! وكانت المرأة على الإطلاق شرا محضا! وحبالة من حبالات الشيطان، بل أخطر هذه الحبالات، واستكثر أناس من آباء الكنيسة وفقهائها أن تكون لها روح علوية، فبحثوا في ذلك وأوشكوا أن يلحقوها بزمرة الحيوان الذي لا حياة له بعد فناء جسده.
فكان تعدد الزوجات مباحا في الأديان الكتابية جميعا، ولم يحرم - حين حرم - إكبارا للمرأة، وتنزيها لها عن قبول المشاركة في زوجها، بل كانت الفكرة الأولى في تحريمه أن المرأة شر يكتفى منه بأقل ما يستطاع! •••
ومن المحقق أن الشريعة الصالحة للزواج هي الشريعة التي تراعى فيها حقيقة الزواج في جميع حالاته الواقعة أو التي تحتمل الوقوع.
فليس الزواج علاقة جسدية بين حيوانين.
وليس الزواج علاقة روحية بين ملكين.
ولكنه علاقة إنسانية في المجتمع بين الذكور والإناث من البشر الذين يزاولون المعاش ويتمرسون بضرورة دنياهم صباح مساء.
ولم يستطع خيال الشعراء في أبعد سبحاته أن يجعل من الزواج علاقة شعرية - رمانتيكية - تدوم بين الزوجين مدى الحياة على سنة الوفاء والقداسة التي نتخيلها للملائكة والأرواح العلوية، فهذه حالات يتمناها الناس، ويحلمون بها، ويصورونها لأنفسهم في عالم الخيال، ولكن الشرائع لا توضع للأماني والأحلام؛ بل للوقائع والمحسوسات، وتلاحظ فيها أكثر الوقائع والمحسوسات لا أقلها وأندرها بين النزر القليل الذي لا يقاس عليه.
واتفاق الزوجين على الوفاء والعشرة الدائمة كمال روحاني مفضل على العلاقة بين رجل واحد وعدة زوجات، ولكن الكمال الروحاني لا يفرض بقوة القانون ... وليس الفضل فيه أن يكتفي الرجل بزوجة واحدة؛ لأنه لا يستطيع التزوج من اثنتين أو ثلاث، وإنما الفضل فيه أنه يستطيع ولا يفعل، وأنه يمتنع عنه؛ لأن سعادته الروحية في الامتناع عنه باختياره، فإذا حدثت وحدة الزوجة كرها فلا فرق في هذه الحالة بين الوحدة والتعدد ، وقد يتصل الرجل بأكثر من امرأة واحدة وهو مقصور على زوجة واحدة، فيضيف نقض الشريعة إلى نقض الآداب الروحية، ولا يستفيد هو ولا الزوجة ولا المجتمع من هذا الرياء.
والطرف الثاني لهذه المبالغة في تنزيه الزواج هو طرف العلاقة الحيوانية التي لا يرتبط فيها الزوجان بأكثر من العلاقة بين ذكر الحيوان وأنثاه، بل يكون فيها الزواج أحيانا أهون شأنا من علاقة الذكور والإناث عند بعض الأحياء؛ لأن بعض الأحياء تكون عندهم المودة بين الذكر والأنثى، وتبلغ حد التلازم في أكثر من موسم واحد من مواسم التناسل، فهي أفضل من العلاقة التي تنفصم في كل ساعة إذا خطر لأحد الزوجين أن يفصمها منقادا لهواه، وهذه هي شريعة الزواج في رأي الشيوعيين أو الماركسيين ... وهم الذين يتناقضون في هذه الشريعة بين إطلاق الحرية لأهواء الفرد العارضة على الرغم من المصلحة النوعية، وبين تغليب مصلحة الجماعة على جميع أهواء الآحاد، وهو أساس الشيوعية وأساس المذاهب الاشتراكية جمعاء.
فمن إنكار الواقع والمصلحة أن نجعل الزواج علاقة بين ملكين.
ومن إنكار الواقع والمصلحة أن نجعله علاقة بين حيوانين.
وإقامة الشرائع على إنكار الواقع من طرفيه نقض للشريعة من الأساس، وإنما تقوم الشريعة على أساسها حين تبنى على الواقع وتصلح للتطبيق في أوسع نطاق، فتعترف بتفضيل الزواج الموحد ولا تقضي بتحريم الزواج المعدد؛ لأن تحريم ما دون الكمال يوقعنا في مغالطة لا شك فيها؛ وهي أن الناس جميعا كاملون، أو يستطيعون العيش على سنة الكمال.
وهكذا صنعت شريعة الإسلام؛ اعترفت بأن الزوجة الواحدة أدنى إلى العدل والإحسان، وأباحت تعدد الزوجات؛ لأنه حالة لا بد من حسبانها في الشرائع الاجتماعية، ولا يستطيع أحد أن ينكر وقوعها بموافقة القانون أو بالاحتيال على القانون والخروج عليه.
أباحت شريعة الإسلام تعدد الزوجات، ولم تفرضه كما يبدر إلى أخلاد المتكلمين في هذا الموضوع من الغربيين.
فقد يخيل إليك وأنت تسمع بعض الغربيين يتكلم في موضوع الزواج الإسلامي أن الإسلام قد أوجب تعدد الزوجات على كل مسلم، واستنكر منه أن يقنع بزوجة واحدة مدى الحياة!
وذلك وهم شائع كالوهم الذي شاع في تحريم الأديان الكتابية الأخرى لتعدد الزوجات.
فلا الأديان الكتابية حرمت تعدد الزوجات، ولا الإسلام حرم توحيد الزوجة وأوجب على المسلم أن يتزوج أكثر من واحدة، وإنما أباح تعدد الزوجات مع ضمان العدل بين النساء، واستبعد العدل على طبيعة الإنسان، فقال القرآن الكريم:
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم .
1
فالأقوال متفقة على أن انعقاد الزواج من ذكر وأنثى هو الزواج المثالي المفضل على غيره.
ولكنه «زواج مثالي» وليس بزواج يتكرر بين كل ذكر وأنثى من نوع الإنسان؛ لأننا لا نستطيع أن نجعل من كل رجل زوجا مثاليا، ومن كل امرأة زوجة مثالية، ومعنى أنه «زواج مثالي» أنه عمل من أعمال الفضائل الاختيارية وليس بعمل من أعمال الشرائع المفروضة على جميع الرجال وجميع النساء، ولا حاجة بالشرائع إلى أن تفرضه على من يصلح له ويتقبله ويفضله على غيره؛ لأنه يؤثره على كل علاقة متعددة ولو أباحتها الشرائع أو حسنتها لمن يطلبونها، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة متى اتفقت بينهما أواصر المودة وتبادل العطف والرعاية.
وإذا كان «الزواج الحيواني» هو المثل الأدنى للزواج بين أبناء النوع الإنساني؛ فمن حق الشرائع أن تمنعه ولا تقبله على وجه التعليل ولا على وجه الاستثناء.
ونعني بالزواج الحيواني ذلك الزواج الذي يقوم على هوى الجسدين ولا تبقى فيه بقية للألفة ودوام العلاقة بين الزوجين، متى نفر بالزوج هواه أو نفر بالزوجة هواها.
فلا نقسر الناس على أدب الملائكة، ولا نقبل منهم خسة الحيوانية، وقوام الأمر بين الحالتين هو ما قضت به شريعة القرآن: تفضيل الزواج الموحد وعصمة الزواج من أهواء الساعة وعوارض النفور والسآمة:
وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا .
2
ولم يجاوز القرآن بتعدد الزوجات أن وضعه في نصابه فاعترف بإمكان وقوعه أو ضرورة وقوعه في بعض الأحوال، وهي حالة معترف بها ولا شك في الحياة الإنسانية حيث كانت من أقدم الأزمان إلى هذا الزمان، ولكنه اعتراف التواطؤ والإغضاء الذي يحدث في غفلة الشريعة ويصبح في العرف المصطلح عليه شريعة مفعولة تهرب من وضح النهار ولا يعوزها إلا التقرير والتصريح، فكم من زوجة بين من يحرمون تعدد الزوجات تعلم أن «فلانة» بعينها خليلة زوجها وتدعوها إلى بيتها وتزورها وتتجاهل الحقيقة التي لا تجهلها ولا يجهلها أحد من بيئتها، ولكنها تقبل هذا التواطؤ؛ لأنها تقابله بمثله وتذهب في المجتمع باسم زوجة «فلان» وخليلة «فلان!» ويحدث من جراء ذلك ما يحدث من التناقض الوبيل بين شريعة الواقع وشريعة الدين أو شريعة الدولة، مغالطات ومخادعات أهون منها كل إحساس يتولد من تعدد الزوجات؛ لأنه يضيف إلى الغيرة والنكد أكاذيب الأخلاق ومحاولات التهرب والاحتيال في مسائل الذرية ومسائل الأسر والقرابات.
وما هو الإحساس الذي يتولد من تعدد الزوجات؟
هو على التحقيق إحساس لا ترضاه النساء. ولكن أين هو المجتمع الذي يتكفل لكل إنسان بالرضا كله ويعفيه من كل ما يسوءه ويخالف هواه؟
فالمرأة تلاقي في حياتها كثيرا من المحزنات والمغضبات التي لا حيلة فيها للمجتمع ولا للشريعة، وقد يهون احتمال الضرة لديها إذا قيس بما تحتمله في كثير من مآزق الحياة، وقد تفضل المشاركة في زوج من الأزواج على الحرمان منه في بعض الأحايين، ويصدق هذا على المرأة التي ملكت كل حريتها في أمم الحضارة الحديثة كما يصدق على المرأة الجاهلة في الأمم التي أنكرت على النساء أكثر الحقوق، ولا نظن أن امرأة بلغت من الحرية في اختيار الأزواج والعشراء ما بلغته المرأة الأمريكية في القرن العشرين، ولا سيما الفتيات اللاتي ملكن كل أسباب الطلاقة من سيطرة الآباء والأولياء، ومن هؤلاء من سئلن رأيهن في تعدد الزوجات فقالت إحداهن في مجلة الحوار
Debate :
إنني وإن كنت أعتقد أن تعدد الزوجات يوافق الرجال أكثر مما يوافق النساء أحسبه شيئا لا يخلو من الطرافة والغرابة، ولست من الطفولة بحيث يخفى علي أن كواكب الصور المتحركة يعشقهم كثير من النساء ويعلمن - وهن يعشقنهم - أنهن لا يسيطرن على قلوبهم ومشيئتهم، ومهما يكن رأيك مثلا في «إيرول فلن» فإنك لن تجهل الواقع الذي لا شك فيه من أمره، وهو أن كثيرا من النساء يقبلن الشركة فيه، نعم، ليس كل الرجال في وسامة إيرول فلن، أو فكتور ماتيور، أو فان جونسون، أو كلارك جابل، ولكن الرجال الذين لهم نصيب من الوسامة والقسامة كثيرون في كل مكان، فلماذا لا تشترك في قربهم عدة نساء؟ إنهن ينفردن في الحجرات متى كبر الأطفال، وتتقدم السنون فتبرد حرارة الشباب، وتهدأ مرارة الغيرة، ولا يبعد أن يجد هؤلاء الشريكات مواطن للتسلية والمقارنة في التحدث عن ذلك الرجل الذي ارتبطن به جميعا برابطة الزواج ... ولقد عشت معظم أيامي في ضاحية مدينة كبيرة فلا أحسب صديقاتي إلا مستغربات عاتبات لو أصبح من حظي غدا ان أكون واحدة من هؤلاء الزوجات المشتركات، ولكن هب الرجل كان مليح الشمائل، قادرا على إيوائنا جميعا؛ ألا يخطر لك أن اللاغطات بحديث زواجي يلغطن إذن من الغيرة لا من الإنكار؟ (راجع العدد 665 من مجلة الرسالة سنة 1946).
ومهما يكن من إحساس المرأة لمشاركة الضرائر في زوجها فهو من أحاسيس الحياة الطبيعية التي تحدث في الزواج وفي غير الزواج، وليس هو بأقسى من مهانة العمل، أو مهانة الحاجة، أو مهانة الدمامة، أو مهانة الغيرة اليائسة، أو مهانة الابتذال، وليس في وسع الشرائع أن تزعم أنها تعفي النساء أو الرجال من أمثال هذه العوارض والمنغصات.
ولتصنع الشرائع ما تصنع من ضروب التحريم والتحليل، فلا مناص للمرأة ولا للرجل على السواء من مواجهة الحياة بمسراتها ومنغصاتها، ومن قبول ما لا يقبل، والرضا بما لا يرضي في حالة القدرة والاختيار.
وهل يخطر على بال أحد أن عشرة مرءوسين يتنافسون على إرضاء رئيس واحد أيسر أو أندر من حالة امرأتين يتنافسان على مرضاة زوج؟ وهل لا يحدث في الحياة أن خمسة أبناء يتنافسون على حنان أب أو أم في أسرة واحدة؟ وهل يندر في الدنيا تنافس الساسة على كسب الجماهير، أو تنافس العلماء والمصلحين على كسب الأنصار والمريدين؟
أما المسوغات لتعدد الزوجات فكثيرة؛ ترجع تارة إلى خصائص الطبيعة، وتارة إلى ضرورات المعيشة الاجتماعية.
فالرجل يؤدي وظيفة النسل طوال أيام السنة ولا تؤديها المرأة وهي حامل زهاء تسعة شهور.
والرجل يلد بعد الستين وقد يلد بعد السبعين، وقلما تلد المرأة بعد الخامسة والأربعين أو الخمسين.
ويستقل الرجل بمعاشه ولا تستقل المرأة به، ولا سيما في أثناء الحمل والرضاع وتربية الأطفال.
وقد تقرر من إحصاءات الأمم أن عدد النساء يربى على عدد الرجال في أوقات السلم فضلا على أوقات الحروب.
وأول ما تستلزمه هذه الخصائص الطبيعية أن يدخل تعدد الزوجات في حساب الشرائع وحساب المجتمعات البشرية.
وقد تقضي ضرورات المعيشة أو ضرورات الأسرة بحسبان الحساب لهذا التعدد في بعض الأحوال، فربما عقمت المرأة أو أصيبت بمرض عضال أو ذهبت عنها جميع المغريات الحسية والنفسية، فيضيرها الطلاق في هذه الحالة أضعاف ما تضيرها المشاركة في زوجها، ولا تجني هذه العلاقة العقيمة على الزوج في نسله ولا على النوع الإنساني في بنيه.
ولا خطر من التمادي في الإباحة؛ لأن التناسب الطبيعي بين عدد الذكور والإناث يأبى أن تعم الرخصة فيصبح لكل رجل زوجتان، أو يعدد الزوجات كل من أراد، مع اشتراط القدرة على تكاليف الأسر والأبناء. •••
ومتى استوفت الشريعة أمانتها من حياطة الأسرة، وضمان النفقة عليها، بقيت أمانة العرف الاجتماعي يتولاها على حسب الآداب والمصالح والضرورات التي تغلب على المجتمعات بين أمة وأمة وبين جيل وجيل، وفي هذا العرف الاجتماعي الكفاية للإشراف على تنظيم الزواج من ناحيته بعد أن قالت الشريعة كلمتها واضطلعت بأمانتها التي تطلب منها.
فمن أمثلة التنظيم الذي يتولاه العرف الاجتماعي في مسألة تعدد الزوجات أنه يحد من رغبات الطبقة الغنية في هذه المسألة، كما يحد من رغبات الطبقة الفقيرة فيها، على اختلاف أنواع الحدود.
فالطبقة الغنية أقدر على الإنفاق وأقدر من ثم على تعدد الزوجات، ولكن الرجل الغني يأبى لبنته أن تعيش مع ضرة أو ضرائر متعددات، والمرأة الغنية تطلب لنفسها ولأبنائها نفقات ترتفع مع ارتفاع درجة الغنى، حتى يشعر الأغنياء أنفسهم بثقلتها إذا تعددت بين زوجات كثيرات، فلا ينطلق الزوج الغني في رغباته على حسب غناه، بل يقيم له العرف حدودا وموانع من عنده تكف من رغباته؛ لتثوب به إلى الاعتدال، ولهذا نرى في الواقع أن الطبقات الغنية تكتفي بزوجة واحدة في معظم الأحيان، وربما كان للاختيار نصيب من ذلك كنصيب الاضطرار؛ لأن الأغنياء يستوفون حظوظهم من العلم والثقافة فيدركون بلطف الذوق مزايا العطف المتبادل بين زوجين متكافئين في الكرامة والشعور.
والطبقة الفقيرة لا ترفض المرأة فيها ما ترفضه المرأة الغنية من معيشة الضرائر، ولكن العجز عن الإنفاق يمنعها أن تنطلق مع الرغبة كما تشاء، فلا تستبيح تعديد الزوجات بغير حدود.
وهكذا تقوم الشريعة في تعدد الزوجات بما عليها، ويقوم العرف الاجتماعي بما عليه، ويقع الإلزام حيث ينبغي أن يقع مع الرغبة والاختيار. •••
على أن تعريف الزواج نفسه أهم من تنظيم الانفراد أو التعدد في الزوجات!
فما هو تعريف الزواج قبل أن يعرفه القرآن الكريم؟
هل هو صفقة تجارية بين شريكين في المعيشة؟
هل هو وسيلة من وسائل الضرورة لإسكات صيحات الجسد والاستراحة من غوايته الشيطانية؟
هل هو تسويغ الشهوة بمسوغ الشريعة؟
هل هو علاقة عدمها خير من وجودها؛ إذا تأتى للرجل أو للمرأة أن يستغنيا عنها؟
كان هذا وأشباهه أعلى ما تصورته المجتمعات والعقائد من صور الزواج قبل الإيحاء بالقرآن الكريم.
ولكن الزواج في القرآن الكريم هو «الزواج الإنساني» في وضعه الصحيح من وجهة المجتمع ومن وجهة الأفراد.
فهو واجب اجتماعي من وجهة المجتمع، وسكن نفساني من وجهة الفرد، وسبيل مودة ورحمة بين الرجال والنساء.
فكان خطاب القرآن في تدبير الزواج موجها إلى المجتمع كله؛ لأنها مسألة تناط به، ويصلح أو يفسد من ناحيتها:
وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم * وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله .
3
وقد سماه القرآن ميثاقا كما سماه نكاحا، والنكاح على خلاف ما يفهم بعض العامة هو الاتفاق والمخالطة على إطلاقها، يقال: نكح المطر الأرض أي خالطها، ونكح الدواء المريض أي سرى في أوصاله، فهو ميثاق اختلاط بين الأزواج والزوجات.
وفضيلة هذه العلاقة بين الرجال والنساء أنها علاقة «سكن» تستريح فيها النفوس إلى النفوس، وتتصل بها المودة والرحمة:
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون .
4
هن لباس لكم وأنتم لباس لهن .
5
ومن ثم يراد الزواج - فضلا عن بقاء النوع - لتهذيب النفس الإنسانية واستزادة ثروتها من الرحم والرحمة، ومن العطف والمودة، ومن مساجلة الشعور بين الجنسين بما ركب فيهما من تنوع الإحساس وتنوع العاطفة وتنوع القدرة على الحب والإيناس.
ولهذا كان اختيار الزوجات مقصورا على النساء اللاتي يوجدن المودة من طريق العشرة الزوجية دون غيرها، فلا زواج بين رجل وامرأة تتصل المودة بينه وبينها عن طريق القرابة ومحارم الأسرة، وكل النساء المحرمات في الزواج من هذا القبيل:
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما .
6
فالغرض من شمول هؤلاء النساء جميعا بالتحريم ظاهر؛ وهو زيادة ثروة الإنسان من العطف والمودة، وتعويده أن ينظر إلى كثير من النساء نظرة مودة لا تشوبها شهوة جنسية، أو تعويده أن يعرف ألوانا من الشعور غير شعور الذكور والإناث في عالم الحيوان، وكل هؤلاء القريبات أو أشباه القريبات قد جعلت المودة بينهن وبين أقربائهن من الرجال، فلا موجب لخلطها بالمودة التي تنشأ من العلاقة الجنسية، ولا لتعريضها للجفاء الذي يعرض أحيانا بين الأزواج والزوجات.
ومما يؤكد هذا المعنى أن التحريم هنا لا يجري على سنة التحريم في شريعة القبائل التي تدين أبناءها باختيار الزوجات من الأباعد دون الأقربين، وتسمى شريعتها في علم الاجتماع بالأوكسوجامي
Exogamy .
لأن العلاقة هنا تقوم على علاقة الألفة والمودة لا على علاقة الدم ووشائج النسب الأصيل، فلا قرابة بين الرضعاء، ولا بين الربائب، ولا تحريم للجمع بين الأخت وأختها في شريعة القبائل التي تختار الزوجات من الأباعد دون الأقربين؛ لأن الزوجة وأختها سواء في القرب والبعد، سواء كانتا من القبيلة نفسها أو من قبيلة غريبة عنها، وإنما هي قرابة أدبية يحترمها الذوق المهذب، ولا يقع احترامها من وشائج الدم وأواصر الأنساب.
كذلك لم تكن هذه المحرمات جميعا مرعية في الشريعة الإسرائيلية؛ لأنها لا تنص على التحريمات التي ترجع إلى العلاقات الأدبية أو علاقات الألفة والمودة، بل روت التوراة أن إبراهيم عليه السلام تزوج من سارة أخته لأبيه، وأوشكت تلمار أن تتزوج أخاها عمنون، وجاء منع الزواج بين الأخوين بعد ذلك على سبيل الكراهية والاستهجان، ثم على سبيل الإلزام، ولم تتعرض له الشريعة.
وقد تقررت تحريمات الدم من قديم الأزمنة وعرفتها شرائع القبيلة، كما عرفتها شريعة الدولة وشريعة العقيدة، ولكن شمول المنع لقرابة الألفة «الأدبية» هو الذي وسع آفاق العطف بين الجنسين، وخرج بها من حصرها القديم في شهوة الجسد أو تجديد النوع بالذرية.
فعلى خلاف الأقاويل المدعاة على سنن الزواج في القرآن الكريم لم تكن العلاقة بين الجنسين - حسب هذه السنن - محصورة في علاقة الجسد أو علاقة النوع، بل كان فيها متسع لألوان من العواطف الإنسانية لم تعرفها شرائع كثيرة بين الأقدمين والمحدثين، وكانت خليقة أن تعلم بني الإنسان آدابا من العواطف بين الرجل والمرأة تنشأ بينهما من غير صلات النسب، وغير صلات النوع ووظائف تجديده، فلا تدخل في أواصر القرابة ولا في أواصر الزواج. •••
وهكذا كانت شريعة القرآن مطابقة لحقيقة الزواج في معانيه الإنسانية ومعانيه النوعية والاجتماعية.
فاستحسنت الاكتفاء بالزوجة الواحدة، ولكنها جعلته فضيلة يختارها الزوجان ولم تفرضها عليهما بغير فضل يرجع إلى الزوج أو الزوجة.
وأباحت تعدد الزوجات مع اشتراط العدل لمن استطاعه، وحسبت للدواعي النوعية والاجتماعية التي تبيح تعدد الزوجات في بعض الأحوال كل ما ينبغي أن تحسبه شريعة تسري بين أبناء البشر في دنياهم هذه التي تطلب المثل الأعلى ولا تصل إليه في كل حين. •••
أما معاملة الزوجات فهي في الشريعة القرآنية موافقة لهذا التقدير الصحيح لطبيعة الزواج.
فليس الزوج سيدا للزوجة، ولكنه وليها وله حقوق الولي وعليه واجباته، ومنها حمايتها والإنفاق عليها.
وللمرأة فيما عدا الولاية مثل الذي عليها:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة .
7
ومعاشهن مثل معاش الرجل: يسكن حيث سكن، ويرزقن من حيث رزق:
أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ،
8
وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف .
9
وفي حالة الغضب يجوز للرجل أن يقوم خطأ امرأته بالوعظ والنصيحة، أو بالإعراض والهجر في المضاجع، أو بالضرب، أو بالتحكيم بين أهله وأهلها إذا استعصى الوفاق بينهما:
واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا * وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا .
10
وليس معنى إباحة الضرب إيجابه في كل حالة ومع كل امرأة؛ فقد كان النبي عليه السلام - وهو أول المؤتمرين بأوامر القرآن - يكره الضرب ويعيبه ويقول في حديثه المأثور: «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد؟ يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره؟!» فلم يضرب زوجة قط، بل لم يضرب أمة من الصغار ولا من الكبار، وأغضبته جارية صغيرة مرة فكان غاية ما أدبها به أن هز في وجهها سواكا، وقال لها: «لولا أخاف الله لأوجعتك بهذا السواك.»
وإنما يباح الضرب؛ لأن بعض النساء يتأدبن به ولا يتأدبن بغيره، ومن اعترض على إجازته من المتحذلقين بين أبناء العصر الحديث فإنما يجري اعتراضه مجرى التهويش في المناورات السياسية، ولا يجري مجرى المناقشة في مسائل الحياة وأخلاق الناس؛ لأن الاعتراض على إباحة الضرب بين العقوبات لا يصح إلا على اعتبار واحد؛ وهو أن الله لم يخلق نساء قط يؤدبن بالضرب ولا يجدي معهن في بعض الحالات غيره، ومن قال ذلك فهو ينسى أن الضرب عقوبة معترف بها في الجيوش والمدارس، وبين الجنود والتلاميذ، وهم أحق أن ترعى معهم دواعي الكرامة والنخوة إذا جاء الاعتراض من جانب الكرامة والنخوة، وأن رؤساءهم ليملكون من العقوبات المادية والأدبية، ومن وسائل الحرمان والمكافأة ما ليس يملكه الأزواج في نطاق البيوت المحدودة.
وقد يهزأ النساء أنفسهن بهذه الحذلقة التي تخلط بين مظاهر السهرات في الأندية وبين وقائع العيش ومشكلات البيوت في ناحية من نواحي الضنك والضرورة؛ فإن النساء ليعلمن أن عقوبة الضرب عند المرأة العصية الناشز ليست من الهول والغرابة بهذه الصورة المزعومة في بيئات الأندية والسهرات، فربما كان من أنيقات الأندية والسهرات أنفسهن من يعرفن عن هذه الحقيقة ما يجهله المتحذلقون والمتزوقون في مجامع اللهو والبطالة بزواق الفروسية و«اللطافة» المستعارة ... فيعلمن ويعلم الكثيرون - كما قلنا في كتابنا عبقرية محمد - «أن هؤلاء النساء - الناشزات - لا يكرهنه ولا يسترزلنه، وليس من الضروري أن يكن من أولئك العصبيات المريضات اللاتي يشتهين الضرب كما يشتهي بعض المرضى ألوان العذاب!» •••
وقد بينا في ذلك الكتاب أيضا حقيقة الغرض من عقوبة الهجر في المضاجع؛ لأنها تبدو للكثيرين كأنها عقوبة جسدية، غاية ما يؤلم منها أنها تحرمها لذة الجسد بضعة أيام أو بضعة أسابيع ... إلا أنها في الحقيقة لا تؤلمها لهذا السبب، ولو كان هذا سبب إيلامها لكانت عقوبة للرجل كما كانت عقوبة للمرأة، ولكنها في الواقع عقوبة نفسية في الصميم؛ لأن أبلغ العقوبات - كما قلنا في عبقرية محمد - «هي العقوبة التي تمس الإنسان في غروره، وتشككه في صميم كيانه؛ في المزية التي يعتز بها ويحسبها مناط وجوده وتكوينه، والمرأة تعلم أنها ضعيفة إلى جانب الرجل، ولكنها لا تأسى لذلك ما علمت أنها فاتنة له، وأنها غالبته بفتنتها وقادرة على تعويض ضعفها بما تبعثه فيه من شوق إليها ورغبة فيها، فليكن له ما شاء من قوة فلها هي ما تشاء من سحر وفتنة، وعزاؤها الأكبر عن ضعفها أن فتنتها لا تقاوم، وحسبها أنها لا تقاوم بديلا من القوة والضلاعة في الأجساد والعقول، فإذا قاربت الرجل مضاجعة وهي في أشد حالاتها إغراء بالفتنة، ثم لم يبالها ولم يؤخذ بسحرها، فما الذي يقع في وقرها وهي تهجس بما تهجس به في صدرها؟ أفوات سرور؟ أحنين إلى السؤال والمعاتبة؟ كلا بل يقع في وقرها أن تشك في صميم أنوثتها، وأن ترى الرجل في أقدر حالاته جديرا بهيبتها وإذعانها، وأن تشعر بالضعف ثم لا تتعزى بالفتنة ولا بغلبة الرغبة، فهو مالك أمره إلى جانبها وهي إلى جانبه لا تملك شيئا إلا أن تثوب إلى التسليم، وتفر من هوان سحرها في نظرها قبل فرارها من هوان سحرها في نظر مضاجعها ... فهذا تأديب نفسي وليس بتأديب جسد، بل هذا هو الصراع الذي تتجرد فيه الأنثى من كل سلاح؛ لأنها جربت أمضى سلاح في يدها فارتدت بعده إلى الهزيمة التي لا تكابر نفسها فيها، فإنها تكابر ضعفها حين تلوذ بفتنتها، فإذا لاذت بها فخذلتها فلن يبقى لها ما تلوذ به بعد ذلك، وهنا حكمة العقوبة البالغة التي لا تقاس بفوات متعة ولا باغتنام فرصة للحديث والمعاتبة، وإنما العقوبة إبطال العصيان، ولن يبطل العصيان بشيء كما يبطل بإحساس العاصي غاية ضعفه وغاية قوة من يعصيه ...»
وجملة القول أن هذه الوسائل تستنفد كل حيلة في الوسع للإبقاء على صلة الزواج واتقاء الفرقة بين الزوجين، فعلى الرجل أن يغالب كراهته للمرأة إذا تحول قلبه عنها عسى أن يكره شيئا ويجعل الله الخير فيه، وعليه أن يجرب النصيحة والهجر والتأديب بالضرب والتحكيم بين الأسرتين؛ فإن أفلحت هذه الوسائل بقيت الصلة ودامت المودة والألفة، وإلا فالطلاق حل لا مناص منه في النهاية بعد استنفاد جميع الحلول.
وقد عالجت أمم كثيرة من أمم الحضارة أن تستغني عن الطلاق وتحرمه في جميع الأحوال أو في معظم الأحوال، فأظهرت التجارب المتوالية أن الخطر على الزواج من تحريمه أفدح وأعضل من كل خطر يأتي من إباحته والاعتراف بلزومه في كثير من الحالات.
والقرآن يخول المرأة أن تطلب الطلاق إذا كرهت البقاء في عصمة زوجها
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا .
11
فإذا تصالحا على الفراق فذلك خير من البقاء على الشقاق الدائم؛ وخير من الفراق على عداوة ونقمة، وكل ما يطلب من المرأة في هذه الحالة أن تعفي الزوج من النفقة وترد إليه ماله، فليس لها أن تترك الرجل وتمسك ماله وتفرض النفقة عليه.
وقد جاءت امرأة إلى النبي عليه السلام وشكت إليه أنها لا تطيق زوجها - ثابت بن قيس - فسألها: «هل تردين إليه مهره؟» فقبلت أن ترده؛ فنصح لثابت أن يطلقها؛ إذ كان لا خير له في استبقائها، وتم الطلاق على وفاق.
ولم يوضع الطلاق بغير حدود، ولا أبيح كل الإباحة لغير ضرورة، فهو حيلة من لا حيلة له في الوفاق، وهو مع ذلك أبغض الحلال عند الله كما جاء عن النبي عليه السلام، ومن أقواله صلوات الله عليه: «لعن الله كل ذواق مطلاق»، و«لعن الله الذواقين والذواقات.» و«لعن الله كل مزواج مطلاق.»
ويراجع الرجل نفسه في حالة الغضب: «لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق»، ولا يقع من السكران أو المكره أو المحرج أو غير الرشيد.
فإذا وجب وقوعه وجب بإحسان ورفق ومروءة:
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله .
12
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا .
13
وللمرأة إذا طلقت وهي حامل أن تطالب زوجها بالإنفاق عليها حتى تضع حملها
وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ،
14
فإذا وضعت حملها فلها أن ترضع ولدها سنتين، وعلى الرجل أن ينفق عليها طول مدة الرضاع
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده .
15
هذه في جملتها وتفصيلها خير الحدود التي ترعاها الجماعة البشرية بين الزوجين في حالي الوفاق والفراق. •••
ونعتقد أن الأمم المتحضرة سترجع إلى كثير من مأثورات الزواج في صدر الإسلام لعلاج بعض المشكلات التي خلقتها أطوار الحياة الصناعية والثقافية في السنين الأخيرة من العصر الحديث.
فمن الكتاب والمصلحين في أوروبة وأمريكا من يكتبون عن الزواج في هذا العصر كأنه نظام منحل أو على وشك الانحلال!
ومنهم من يغرب في آرائه لعلاج مشكلة الزواج حتى يصبح علاجه بمثابة الاعتراف بالمرض والاسترسال فيه!
ومنهم من يقول شيئا يجوز النظر فيه، ومن يقول شيئا لا يستحق نظرا ولا يرجى الوصول منه إلى علاج ولا تمهيد للعلاج!
فالكاتب الإنجليزي ولز يشير بولاية الأمة للأطفال ويسمي ذلك إعتاقا للأبناء من ربقة الآباء والأمهات! وفي رأي ولز هذا رجوع إلى رأي أفلاطون القديم الذي استحسن فيه أن ينشأ الولد بأعين المربين الأفاضل والمربيات الفضليات، وهو لا يعلم من أمه ومن أبوه!
وآفة هؤلاء المفكرين وأمثالهم أنهم يقدرون أن الناس يرتقون من جانب ويلبثون على الجهل والنقص في غير ذلك الجانب، فيقدرون أن الجماعة البشرية تبلغ من التهذيب والفطنة والأريحية والعلم بفنون التربية أن يؤتمن فيها الرجل والمرأة على تنشئة أطفال لا تربطهما بهم صلة نسب ولا قرابة ... إلا الآباء والأمهات، فإنهم سيظلون على هذا الارتقاء العميم، غير أهل لأمانة التربية والسهر على الأبناء! فلماذا نستثني الآباء والأمهات وحدهم من فيض الارتقاء العميم؟! ولماذا لا يكون الآباء والأمهات الذين شملهم الارتقاء أصلح من غيرهم للتربية مع مزية الحنان المطبوع، ومزية العواطف الإنسانية التي تخلقها الأسرة ولا نعرف لها أصلا في الإنسان غير وشائج القرابة بين الآباء والإخوة والأخوات؟!
ورأى وزير فرنسي مسموع الكلمة وأديب معروف المكانة بين الأدباء - وهو ليون بلوم - أن الزواج في العصر الحاضر علاقة لا ينتظم عليها بقاء، وأن الخيانة فيه بين الأزواج ليست مما تطيب عليه العشرة والطمأنينة في أسرة سعيدة، وليست مما يمتنع بسلطان القانون؛ لاتساع مجال الحيل التي يحتال بها على مخالفته وانطلاق الرجال والنساء في حرية نفسية واجتماعية تستعصي على الحجر والرقابة، فلا مناص للمجتمع البشري من الاعتراف بهذه الحالة وتقديرها في نظام الزواج، وعنده أننا نعطي هذه الحالة حقها من التقدير إذا أخرنا سن الزواج إلى الثلاثين أو ما بعد الثلاثين، وأغضينا عما يجري قبل ذلك بين الفتيان والفتيات؛ لأنهم خلقاء بعد تجربة اللهو، وإشباع الشهوات منه، أن يسأموه ويثوبوا إلى الحياة الزوجية وهم زاهدون فيه صالحون للوفاء صلاح القناعة والاكتفاء، وصلاح القدرة على التعاون وتربية الأبناء.
والذي يسبق إلى الذهن من كلام مسيو بلوم أن الإباحة وابتذال الشهوات أمر لا يعاب لذاته ولا يستنكر في الذوق والخلق والآداب الاجتماعية لولا أنه معطل للزواج أو مخل بأمانة الزوجين، ولكن الواقع أن ابتذال الشهوات مرض معيب يدل على شيء غير سليم في بنية الفرد، كما يدل على شيء غير سليم في بنية الجماعة، فلو لم يكن في الدنيا زواج أو نظام للأسرة لكانت الإباحة خليقة بالعلاج لذاتها كما يعالج كل نقص في تكوين العقل والإرادة واستعداد المرء للعمل الجدي في الحياة الخاصة والحياة العامة، وخير لنا من التعويل على سآمة الفرد للشهوات واللذات أن نعول على سآمة المجتمع كله لهذه الآفة، وأن نتخذ من هذه السآمة دليلا على خطأ المبادئ التي تسمح للحرية الفردية أن تنطلق في العلاقات الجنسية بغير وازع ولا رقيب، فنحد من الاختلاط بين الجنسين بعض الحد ونقيم الآداب الجنسية أو النوعية على أساس غير أساس الحرية المطلقة لآحاد الرجال أو آحاد النساء، وقد نثوب بهذا إلى نظام قريب من نظام الآداب القرآنية في الحجر على كل انطلاق يفسد العلاقة السليمة بين جنس الذكور وجنس الإناث. •••
ومن الفلاسفة المحدثين الذين عرضوا لمسألة الزواج نابغة إنجليزي من نوابغ الرياضة والفلسفة؛ هو اللورد برتراند رسل الذي اشتهر بالجرأة في الرأي والاستقلال في شئون السياسة والدين.
فهذا الفيلسوف يرى أن سن الزواج قد تأخرت بغير اختيار وتدبير؛ فإن الطالب كان يستوفي علومه قبل مائة سنة أو مائتين في نحو الثامنة عشرة أو العشرين ... فيتأهب للزواج في سن الرجولة الناضجة، ولا يطول به عهد الانتظار إلا إذا آثر الانقطاع للعلم مدى الحياة، وقل من يؤثر ذلك بين المئات والألوف من الشبان.
أما في العصر الحاضر فالطلاب يتخصصون لعلومهم وصناعاتهم بعد الثامنة عشرة أو العشرين، ويحتاجون بعد التخرج من الجامعات إلى زمن يستعدون فيه لكسب الرزق من طريق التجارة أو الأعمال الصناعية والاقتصادية، ولا يتسنى لهم الزواج وتأسيس البيوت قبل الثلاثين، فهناك فترة طويلة يقضيها الشاب بين سن البلوغ وبين سن الزواج لم يحسب لها حسابها في التربية القديمة، وهذه الفترة هي فترة النمو الجنسي والرغبة الجامحة وصعوبة المقاومة للمغريات، فهل من المستطاع أن نسقط حساب هذه الفترة من نظام المجتمع الإنساني كما أسقطها الأقدمون وأبناء القرون الوسطى؟
يقول الفيلسوف: إن ذلك غير مستطاع، وإننا إذا أسقطناها من الحساب فنتيجة ذلك شيوع الفساد والعبث بالنسل والصحة بين الشبان والشابات، وإنما الرأي عنده أن تسمح القوانين في هذه السن بضرب من الزواج بين الشبان والشابات لا يئودهم بتكاليف الأسرة، ولا يتركهم لعبث الشهوات والموبقات وما يعقبه من العلل والمحرجات، وهذا ما سماه بالزواج العقيم أو الزواج بغير أطفال
Childless Marriage
وأراد به أن يكون عاصما من الابتذال ومدربا على المعيشة المزدوجة قبل السن التي تسمح بتأسيس البيوت.
في قاموس الإسلام الذي ألفه توماس باتريك هيوز
Hughes
بحث عن الزواج الإسلامي يقول فيه عن زواج المتعة: «إن هذه الزيجات الموقوتة هي ولا ريب أعظم الوصمات في تشريع محمد الأخلاقي، ولن تقبل المعذرة بحال من الأحوال.»
وزواج المتعة هذا ضرب من الزواج الموقوت، يروى عن النبي عليه السلام أنه أذن به في إحدى الغزوات للصحابة الذين انقطعوا عن أوطانهم، وطالت غيبتهم عن بيوتهم، ثم اختلفت الروايات في تحريمه، وقال بعض الفقهاء من الشيعة على الأكثر أنه مباح إلى الآن لبعض الضرورات.
قلنا ونحن نقرأ تعقيب مؤلف القاموس على زواج المتعة: لقد كان من النافع للرجل أن يعيش حتى يرى فيلسوفا من أكبر فلاسفة قومه يدرس مشكلة الجنسين في الحضارة الحديثة درس الفلاسفة المحققين فلا يهديه الرأي فيها إلى حل غير زواج المتعة أو ما هو من قبيله ... فقد كان خليقا به إذن أن يتهيب مشكلة الجنس والأسرة قليلا من التهيب، وأن يدرك مكرها أو طائعا أنها ليست باللعبة التي يلعب بها المتطلعون إلى سمعة اللطافة والفروسية المصطنعة في الأندية والمحافل، وأن مشكلات النوع الإنساني الضخام قد تلجئ أساتذة العصر إلى مقام المتعلمين من أبناء العصور الماضية، فيتعلمون أن الحذلقة أسهل شيء على طلاب المظاهر وأدعياء اللطافة، ولكنها سهولة لن تنفع البشر في المعضلات الصعاب، التي تتجدد مع الزمان وتستفحل على تعاقب الأجيال.
الميراث
أثبت القرآن نظام المواريث بتفصيلاته لجميع ذوي القربى، اعتبر الإرث حقا مشروعا للوارث لا يجوز حرمانه منه بحيلة من حيل التهريب.
وإجماع المفسرين منعقد على ذلك، لم يخالفهم فيه إلا فئة من فقهاء «الظاهرية» قالوا بمنع ميراث الأرض خاصة وإباحة الميراث من العروض والأموال؛ لاعتقادهم أن الأرض لله
إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون .
1
ولكنه تفسير يخالفهم فيه جملة الفقهاء من جميع المذاهب؛ لأن كون الأرض لله لا يمنع أن يرثها الصالحون من عباده
يورثها من يشاء ،
2
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ،
3
فهي ومن عليها لله
ولله ميراث السماوات والأرض ،
4
وهذا هو المعنى المقصود بميراث الله لكل ما في الكون، وليس المقصود به منع أجزاء من الأرض أن يملكها آحاد من الناس. •••
والميراث حق وعدل ومصلحة من وجوه كثيرة؛ أقواها في رأي المدافعين عن نظام التوريث أنه نظام لا ينفصل عن نظام الأسرة، وأن الأسرة دعامة من أكبر دعائم الاجتماع، لا تنعقد ثم تنفرط مرة في كل جيل، بل هي وحدة تناط بالدوام.
ومن الواضح أن الأسرة هي منبت العواطف الإنسانية في المجتمع على اتساعه، وأن الصلة التي بين الآحاد في الأمة لا تغني عن وشائج اللحم والدم بين الآباء والأمهات، والأبناء والبنات، والإخوة، وبني العمومة والخئولة؛ فإن «المجتمع» في نطاقه الواسع «كم مبهم» في نظر كل فرد من أفراده، وإنما الصلة العاطفية بين هؤلاء الأفراد هي صلة النسب والقربى في هذه «الخلية» التي تتركب منها بنية كل قبيل وكل جمهور كبير.
فالمجتمع الذي يجعل العلاقة بين الوالد والولد كالعلاقة بين كل فرد منه وكل فرد آخر أقل ما يقال فيه: إنه مجتمع «غير طبيعي» وغير متماسك الأجزاء، ومهما يقل القائلون عن واجبات الأمة على الفرد فلن تكون هذه الواجبات أقوى ولا ألزم من واجبات النوع على أفراده، وهي مع هذا الوجوب لم تفرضها الطبيعة على الفرد إلا من طريق استهوائه بلذته وعاطفته ومصلحته التي تمتزج بمصالح ذويه، فليس للاجتماع أن يدعي لنفسه من القدرة على تسخير أفراده دعوى تعجز عنها الطبيعة التي يتكون منها اللحم والدم والحس والعاطفة، فإنما هو ادعاء لا محصل له غير الألفاظ الجوفاء.
ومن الاجتماعيين من ينكر الميراث وينكر الأسرة معه؛ لأنهما يغريان بتضخيم الثروة وتحكيم رءوس الأموال في جهود العاملين!
ولكن هؤلاء الاجتماعيين يترجمون المسألة كلها بلغة المال، ويقفون عندها فلا يتجاوزونها إلى لغة الحياة أو الدوافع الحيوية، وهي لو ترجمت بهذه اللغة لكان معناها أن الفرد يأتي بغاية ما يستطيع حين يعمل للأسرة وينظر إلى توريث أبنائه، ولا يكتفي من العمل بأدنى حدود الكفاية أو بأيسر ما يتيسر في حدود الطاقة، ومعنى ذلك أيضا أنه سيخصص قريحته وجهده وكفاءته إلى الغاية التي يقوى عليها، وأنه لا يحسب قواه العقلية والنفسية حساب الشح والضنانة بل حساب السعة والسخاء، فيعمل أضعاف ما يعمل بغير هذه الوسيلة، ويفكر أضعاف ما يفكر، ويحس أضعاف ما يحسه، وهو يقبض على ذخائر قواه في وجه العالم كله فلا ينفق منها إلا بمقدار ما يعنيه في سنوات عمره، وليس هذا بالخسارة على العالم ولا عليه، ولكنه ربح للحياة الإنسانية كلها، وليس بالربح المقصور على الورثة أو المورثين.
وإذا قيل: إن هذا المال يؤخذ من المجتمع ليتحول إلى أفراد منه، فالذين يقولون ذلك يتخيلون أن الأسرة تخرج بميراثها من البيئة الاجتماعية التي تعيش فيها؛ لتنقطع به في عزلة عن تلك البيئة المغصوبة، وينسون أن الميراث يبقى في المجتمع كما كان؛ فإن أحسن أصحابه تدبيره، صرفوه في وجوه نافعة، وإن أساءوا خرج من أيديهم وآل على الرغم منهم إلى حيث ينبغي أن يئول.
أما تضخيم الثروة فقد يعالج بوسائل شتى غير وسيلة القضاء على نظام الأسرة ونظام التوريث، وما من شريعة تحول بين المجتمع وبين فرض الضرائب على التركات بالمقدار الذي يراه، فيأخذ المجتمع نصيبه المقدور ولا ينزع من الأفراد حوافز العمل التي يعملون بها كأحسن ما يعملون.
وللميراث جانب من العدل الطبيعي كما أن له هذا الجانب من الحق والمصلحة ... لأن الولد يأخذ من أبويه ما حسن وما قبح من الصفات والطبائع، ويأخذ منهما ما فيهما من استعداد للمرض والخلائق المرذولة، وليس في وسع الأمة أن تحميه من هذه الوراثة الطبيعية التي لا تفارقه من مولده إلى مماته، فليس من العدل أن تدع له هذا الميراث وتنزع منه ميراث المال، وهو مفضل فيه على غيره، ولا يتساوى فيه مع أبناء القاعدين عن الكسب والادخار. •••
هذا نظام يوافق حركة السعي والنشاط في الجماعات البشرية ولا يعوقها عن التقدم الذي تستحقه بسعيها ونشاطها، بل يرجع إليه الفضل أكبر الفضل فيما بلغته من الحضارة والارتقاء، ولو عمل الناس لأنفسهم منذ القدم آحادا متفرقين ولم يعملوا كما عملوا أسرا متكافلات لما بلغوا شيئا مما بلغوه اليوم من أطوار المعاش وآداب الاجتماع، ولا مما بلغوه من المعارف والصناعات، ولا مما بلغوه من العواطف المشتركة ومقاييس العرف والشعور. •••
وقد نظر القرآن إلى الميراث في نطاق أوسع من هذا النطاق؛ وهو نطاق الميراث الذي تتلقاه الأجيال عن الأجيال، أو الأعقاب عن الأسلاف.
فأنكر من هذا الميراث ما يعوق التقدم ويحجر على العقول ويقيم العادات و«التقاليد» سدا بين الإنسان وحرية الفكر والارتياء.
ولم ينكر القرآن شيئا كما أنكر الاحتجاج بالعادات الموروثة لمقاومة كل جديد مستحدث، في غير تمييز ولا تبصر ولا موازنة بين الجديد المستنكر والقديم المأثور، وكان أشد هذا الإنكار «للمترفين» الذين يتخذون من عراقة البيوت حجة للبقاء على ما ألفوه ودرجوا عليه.
وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون .
5
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون .
6
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون .
7
ولما استحسن اتباع الآباء استحسنه؛ لأنه تمييز بين عقيدة خاطئة وعقيدة أكرم منها وأحرى بالاتباع:
إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون * واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء .
8
وإذا كانت شريعة الميراث تحمي الأسرة، ولا تحجر على حرية الأجيال فهي على هذا أصلح ما تصلح به الجماعات البشرية من نظام.
الأسر أو «الرق»
نحن نكتب هذه الفصول وقد مضى على انتهاء الحرب العالمية أكثر من سنتين، ولا تزال الدول الغالبة توالي البحث في مسألة الأسرى وتحاول أن تشرع لهم نظاما جديدا يوافق العلاقات الإنسانية التي تقررها بين الغالبين والمغلوبين وبين الأمم كافة على التعميم.
ولا تزال أخبار الأسرى ومحاكماتهم تتردد في الصحف وتنقلها الأنباء البرقية أحيانا كأنها من المألوفات التي لا تحتاج إلى تعليق.
ومن تلك الأخبار أن الأسرى من أبناء الأمم المغلوبة ينقلون بالألوف وعشرات الألوف من بلادهم إلى بلاد الأمم الغالبة أو مستعمراتها وتوابعها؛ حيث يعيشون هناك في المعتقلات عيشة الأرقاء السجناء، ويسلمون العمل في تعمير الخرائب وإصلاح الأرض الموات وإدارة المصانع التي يعملون فيها بالكفاف أو بما دون الكفاف، ولا يؤذن لهم في أثناء ذلك بحرية الإقامة أو حرية الانتقال.
ومن تلك الأخبار محاكمة بعض الأسرى المسئولين عن سوء معاملة الشعوب التي كانوا يحكمونها، أو القسوة على من كان في حراستهم من الأسرى التابعين للأمم الغالبة، وفي بعض التهم التي يحاكمون من أجلها أنهم أزهقوا بقسوتهم أو بسوء معاملتهم مئات وآلافا من الأبرياء، الذين لا ناصر لهم ولا يعزى إليهم ذنب يلامون عليه غير وقوعهم في الأسر وإلقائهم سلاح القتال في الميدان، وقد حكم على بعض أولئك المتهمين بالموت أو بالسجن آمادا طوالا؛ لثبوت التهمة عليهم بمختلف أدلة الثبوت.
يقع هذا في أعقاب حرب عالمية يراد على آثارها تصحيح الآداب الإنسانية في معاملة الأسرى والمغلوبين، ويعترف الساسة والمفكرون بضرورة هذا التصحيح من وجهة النظر إلى الواجب والمروءة، ومن وجهة النظر إلى المصلحة العالمية؛ لتحسين العلاقات بين أمم الحضارة وتدبير الوسائل التي تمنع تجديد الحروب، وتتكفل بمحو آثارها من النفوس، واستلال الضغائن التي تثيرها بين الموتورين والمنكوبين.
وهذا غاية ما وصلت إليه المساعي في مسألة الأسرى بعد ألفي سنة من عصر المسيحية الأولى، وبعد التفاهم على ضرورة النظر فيها من جديد على ضياء المصلحة العالمية، وعلى قواعد الآداب الإنسانية التي تجمل بعهد الحضارة ورجاء البشر في التقدم والسلام. •••
على أن النظرة العقلية أو الروحانية التي نظر بها حكماء الغرب ومصلحوه عند نشأة الفلسفة أو نشأة الدين أو نشأة البحث المجرد في الحكومة المثالية لم تسبق هذه النتيجة الواقعية بشيء كثير، ولو من قبيل النصح والاستحسان والمحاولة التي تجدي كثيرا أو قليلا في السعي إلى الكمال.
فالفيلسوف «أفلاطون» قد اعتبر نظام الاسترقاق نظاما ملازما للجمهورية الفاضلة أو الحكومة الإنسانية في مثلها الأعلى، وحرم على الرقيق حقوق «المواطنة» والمساواة، وقضي على الرقيق الذي يتطاول على سيد غريب غير سيده بتسليمه إلى ذلك السيد للاقتصاص منه على هواه، ولا يجوز فكاكه من العقوبة إلا بمشيئته ورضاه، وإذا وجبت الرحمة بالرقيق فإنما تجب الرحمة به من قبيل الترفع عن الإساءة إلى مخلوق حقير لا يحسن بالسيد أن يهتم بالإساءة إليه.
والفيلسوف أرسطو جعل الرق نظاما من الأنظمة الملازمة لطبائع الخليقة البشرية، فلا يزال في العالم أناس مخلوقون للسيادة وأناس مخلوقون للطاعة والخضوع ... وحكمهم في ذلك حكم الآلات «الحية» التي تساق إلى العمل ولا تدري فيم تساق إليه، وغاية ما أوصى به أن يتفضل السادة بتشجيع هذه الآلات على الترقي من منزلة الآلة المسخرة إلى منزلة الآلة المتصرفة، كلما بدت منها بوادر الفهم والتمييز.
ولما ظهرت المسيحية في بلاد اليونان كتب القديس بولس إلى أهل «أفسس» رسالة يأمر فيها العبيد بالإخلاص في إطاعة السادة كما يخلصون في إطاعة السيد المسيح، وكان الحواري بطرس يأمر العبيد بمثل هذا الأمر، وجرت الكنيسة على منهجه، وقبلت نظام الرق، وزكاه الفيلسوف «توما الأكويني» أكبر حكماء الكنيسة؛ لأنه أخذ فيه بمذهب أستاذه أرسطو، وزاد عليه أن القناعة بأبخس المنازل من المعيشة الدنيوية لا تناقض فضائل الإيمان. •••
ولا بد من المقابلة بين تلك النتائج العملية وتلك التقديرات الفلسفية، وبين أحكام القرآن في مسألة الرق؛ لبيان كسب الإنسان الذي بلغته الحضارة البشرية من تقرير تلك الأحكام، لغير ضرورة توجبها دواعي الاقتصاد أو دواعي السياسة في مأزق من مآزق الحروب الكبرى.
فالقرآن قد أباح استخدام الأسرى؛ لأن الأسر حالة لا بد من دخولها في الحساب ما دامت في الدنيا حروب وما دام فيها غالب ومغلوب، ولكنه حث المسلمين على فك الأسرى كرما ومنا، أو قبول الفدية من أوليائهم أو منهم، ومعاونتهم على تيسيرها كلما استطيع التيسير:
فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ،
1
والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم .
2
وأوصى بالإحسان إلى الأرقاء كما أوصى بالإحسان إلى الوالدين وذوي القربى في آية واحدة:
وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا .
3
وقد تمم الإسلام هذه الأحكام - كما بينا في كتاب داعي السماء - «فجعل الإعتاق حسنة تكفر عن كثير من السيئات، وفرضها على الذين يخالفون بعض أحكام الدين كما فرض الصدقات وإطعام المساكين» ... وكانت وصية النبي للمسلمين قبل وفاته: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» وتكررت منه عليه السلام في أحاديثه حتى قال في بعض تلك الأحاديث: «لقد أوصاني حبيبي جبريل بالرفق بالرقيق حتى ظننت أن الناس لا تستعبد ولا تستخدم» ... وتجاوز الإشفاق على الأرقاء من سوء المعاملة إلى الإشفاق عليهم من الكلمة الجارحة، فكان عليه السلام يقول: «لا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، وفتاتي وغلامي»، أما ضرب الرقيق بغير تأديب فهو ذنب كفارته العتق، أو كما قال عليه السلام: «من لطم مملوكه فكفارته عتقه»، فإذا قتله فهو يقتل به في قول أشهر الفقهاء. •••
إن الباحثين الاجتماعيين من الأوروبيين أنفسهم قد عللوا حركة التحرير - تحرير الأرقاء - بعلل كثيرة من ضرورات «الاقتصاد» ... فذكروا أن المطالبين بتحرير الرقيق لم يفعلوا ذلك إلا احتيالا على الكسب ومنعا للمنافسة التجارية التي تيسر لأصحاب العبيد ومسخريهم في الصناعات أرباحا لا تتيسر لمن يستأجرون الأحرار ويبذلون لهم ما يرتضونه من الأجور، ولم تزل معاملة السود في أمريكا الشمالية - بعد تحريرهم من الرق - أسوأ معاملة يسامها بنو آدم في هذا الزمان، وذلك بعد أن دان المسلمون أربعة عشر قرنا بشريعة المساواة بين الأجناس، وعلموا أن فضل العربي القرشي على العبد الحبشي إنما هو فضل التقوى والصلاح دون فضل العصبية واللون.
ولم يأخذ الإسلام أتباعه بهذا الكرم المحض مجاراة لضرورات الاقتصاد، بل أخذهم به على الرغم من تلك الضرورات، وعلى الرغم من شح الأنفس بالأموال وما تملك الأيمان، وتلك هي مزية الإسلام الكبرى في السبق إلى هذا الأدب الرفيع.
العلاقات الدولية
من المستحسن في كتاب عن عقيدة الجماعة الإسلامية أن نلم بأصول الأدب التي يتعلمها المسلمون من كتابهم في معاملاتهم مع الأمم الأخرى.
ولباب ما يقال في هذا الصدد أن المعاملات الدولية كلها تقوم على العهود والوفاء بها وخلوص النية في التزامها.
وقد أوجب القرآن الكريم على المسلمين الوفاء بعهودهم في كثير من الآيات فقال:
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ،
1
وذكر صفات المؤمنين ثم قال:
والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ،
2
وجعل الخروج من فضيلة الوفاء كالخروج من فضيلة الإنسانية كلها حيث قال جل شأنه:
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون * فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين .
3
وقد غدر المشركون غير مرة بعهودهم كما جاء في الآية، فلم يكن ذلك موجبا لسقوط العهد مع من استقام منهم على عهده، كما بينت هذه الآيات:
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين * كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون .
4
على أن القرآن الكريم يأمر المؤمنين به أن يعاملوا الخائن بمثل عمله، ولا يتعدوه إلى الجور والتنكيل، ويزين لهم الصبر إذا آثروه على العقاب:
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين .
5
وقد غدر بعض المشركين بصلح الحديبية - وهو المقصود بالعهد «عند المسجد الحرام» - فلم يبطل النبي عليه السلام عهد سائرهم، ولم يقبل عنده قرشيا مشركا يجيئه في أثناء قيام العهد؛ عملا بما اتفق عليه المسلمون والمشركون، قال أبو رافع مولى رسول الله: بعثتني قريش إلى النبي فلما رأيت النبي وقع في قلبي الإسلام، قلت: يا رسول الله، لا أرجع إليهم، قال: «إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرود، ولكن ارجع إليهم، إن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع.»
بل روي في الوفاء بالعهد ما هو أكثر من ذلك؛ لأنه عهد بين آحاد في مثل حالة الإكراه، كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان؛ حيث قال: ما منعني أن أشهد بدرا إلا أنني خرجت أنا وأبي الحسيل فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدا؟ فقلنا: ما نريده، وما نريد إلا المدينة! فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننطلق إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله فأخبرناه الخبر فقال: «انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم.»
وقد أوجب القرآن الكريم إتمام العهود إلى مدتها، إن كانت موقوتة بأجل متفق عليه، وأوجب إعلان بطلانها متى صحت النية على إبطالها،
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم * إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين .
6
ولا نعرف إشاعة أكذب من قول القائلين - جهلا منهم أو تجاهلا بالقرآن الكريم: إن الإسلام دين سيف، وإن العلاقة بينه وبين الأمم علاقة حرب وقتال!
فإن شريعة القرآن لم تضع السيف قط في غير موضعه، ولم تستخدمه قط حيث يستغنى عنه بغيره.
وقد نشأت الدعوة الإسلامية بين أقوام يحاربونها، ويكيدون لها، ويصدون الناس عنها، وأمر المسلمون بقتال من يقاتلونهم في غير عدوان، ولا شطط:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين .
7
وكانت جزيرة العرب جزيرة بالمعنى السياسي - لا بالمعنى الجغرافي وحده - إذا نظرنا إلى الدول التي أحدقت بها في عهد الدعوة الإسلامية وتربصت بها الدوائر للإيقاع بالدعوة ودعاتها في إبان نشأتها، وكان على رأس تلك الدول أصحاب السلطان الذين يصدون عن سبيل الله؛ ذيادا عن عروشهم، واستئثارا بمنافعهم، وإطالة في أمد سلطانهم، ولا يرجعون في ذلك إلى الحجة والبيان؛ بل إلى السيوف والرماح، فإذا حورب هؤلاء فإنما يحاربون بسلاحهم؛ ولا يحاربون بالجدل والبينة الحسنة، السيف للسيف، فإذا انكسر سيف السلطان بقي رعايا الدول أحرارا فيما يختارون لأنفسهم من دين آبائهم، أو من الدين الجديد:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم .
8
فمن اختار الدين الجديد فهو مسلم كالمسلمين فيما له وفيما عليه، ومن بقي على دين آبائه فليس عليه غير ضريبة المحكوم للحاكم، ويمنعه الحاكم بعد ذلك مما يمنع منه المسلمين، ويحميه كما يحميهم ويعوله كما يعولهم، ثم لا يطلب منه جهاد ولا ذياد كما يطلب من المسلمين.
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
9
ولم يقل الكتاب: قاتلوهم حتى يسلموا كرها إن كانوا لا يسلمون اقتناعا! وكل ما هنالك من حكم السيف أنه قد أبطل حكم السيف الذي لا يدين بالحجة ولا بالرأي، وترك الناس لضمائرهم يدينون بما اختاروه من دين.
ولو أننا رجعنا إلى حروب العقائد من الوجهة العلمية لوجدنا أن أصحاب الأديان الأخرى قد شنوا على غيرهم من الحروب «المقدسة» أضعاف ما أثر عن تاريخ الإسلام، وقد رأينا في عصرنا هذا من دعاة الإصلاح من يؤلب الأمم على حرب كل حكومة تدين بمبادئ الطغيان في الحكم ولا تؤمن بمبادئ الحرية والشورى، ومن لم يسمع هذه الدعوة باختياره سمعها على قسر واضطرار، كما حدث في الحروب بين بلاد الفاشية والنازية وبين المنكرين لقواعد الحكم في تلك البلاد.
وعلاقات الحرب والسلم بين المسلمين وجيرانهم أو معاهديهم هي أرفع معاملة عرفت في عصور الحضارة الإنسانية: أمن الطريق، وأمان الوادعين المسالمين، وفتح المسالك للأرزاق والذهاب والمآب، وتنظيم ذلك كله بالعهود والمواثيق، مع حث المسلمين على رعايتها، ومسامحة الغادرين في غدرهم إذا أمنوا العاقبة ولم تلجئهم الضرورة إلى مقابلة الغدر بمثله؛ دفعا للهلاك، وصونا للحدود والحرمات.
وقد سبق الإسلام أمم الحضارة الحديثة إلى كل خير في معاملة الأسرى والرسل والجواسيس.
فالأسير يفتدي، والرسول لا يخشى على نفسه وماله، والجاسوس يعاقب بعقابه المصطلح عليه في كل زمان، ويعفى عنه إذا حسنت نيته واعتذر من عمله بعذر مقبول.
جاء ابن النواحة وابن آثال رسولا مسيلمة إلى النبي فقال لهما: «أتشهدان أني رسول الله؟» قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله: «آمنت بالله ورسوله، لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما»، فمضت السنة بتأمين الرسل والبرود.
وروى علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله أنا والزبير والمقداد بن الأسود، قال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ؛ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها»، فانطلقنا تتهادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب! فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب! فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله، فقال رسول الله: «يا حاطب، ما هذا؟» قال يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله: «لقد صدقكم»، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال: «إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ...»
فقوام المعاملات كلها في هذه العلاقات على الرفق ما أمكن الرفق، ثم على القوة المنصفة؛ لاتقاء ما لا يتقى بغيرها.
وعلى مثل هذه المعاملة تصلح العلاقات بين الأمم والحكومات، وفيها كل ما يهيئ الأسباب للوحدة العالمية بين الناس كافة، وهم الذين يعمهم القرآن الكريم بالخطاب ولا يخص المسلمين وحدهم حين يقول:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير .
10
وليس من مانع يعوق الوحدة العالمية عند أصحاب دين يصدقون الرسل جميعا، ويعتبرون الناس كلهم أمة واحدة كما جاء في القرآن الكريم:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ،
11
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون .
12
العقوبات
من المبادئ المتفق عليها في عصرنا أن الجريمة فساد في نفس المجرم، وأن العقوبة إصلاح له أو وقاية للمجتمع من فساده، وأن مصلحة المجتمع مقدمة على مصلحة الفرد، ولكن لا تغفل مصلحة الفرد في سبيل مصلحة المجتمع إلا إذا كانت إحدى المصلحتين معارضة للأخرى، وأن القصاص مصلحة اجتماعية، وأن تأويل الشبهة إنما يكون لمصلحة المتهم، فلا يدان المتهم إذا وقع الشك في أدلة الإدانة.
وهذه المبادئ كلها مسلمة في شريعة القرآن، فلا وزر على القاصر ولا على المكره ولا على المجنون، ولا وزر على من تاب وصلح على التوبة.
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب .
1
وفي كل ذلك تدرأ الحدود بالشبهات. •••
والعقوبات في الإسلام قسمان: قسم التعزير، وقسم الحدود؛ فالتعزير يتناول الزجر والغرامة والحبس والجلد دون مقدار الحدود، قال الإمام ابن تيمية في رسالته عن الحسبة: «منها عقوبات غير مقدرة وقد تسمى التعزير، وتختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كبر الذنوب وصغرها، وبحسب حال المذنب وبحسب حال الذنب في قلته وكثرته، والتعزير أجناس؛ فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب ... والتعزير بالعقوبات المالية مشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضع بلا نزاع عنه، وفي مواضع فيها نزاع، والشافعي في قول، وإن تنازعوا في تفصيل ذلك كما دلت سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في مثل إباحته سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده ... ومثل تضعيفه
صلى الله عليه وسلم
الغرم على من سرق مالا من غير حرز ... ومثل أخذ شطر مانع الزكاة ... ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك عن أصحاب مالك وأحمد؛ فقد غلط على مذهبهما، ومن قال مطلقا عن أي مذهب كان؛ فقد قال قولا بلا دليل.»
أما الحدود فهي في عقوبات العيث بالفساد والقتل، وإتلاف الجوارح والأعضاء، والسرقة والزنا وشرب الخمر.
فالقاتل يقتل، وشريعة القرآن الكريم في ذلك قائمة على أمتن الأصول؛ وهو صيانة البشر جميعا؛ لأن القاتل يعتدي على الحياة الإنسانية كلها ولا يقع عدوانه على نفس المقتول وحده.
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا .
2
والذين يعيثون في الأرض فسادا «فيحاربون» ويحملون السلاح ويأخذون على الناس سبلهم، ويقتلونهم؛ طمعا في أموالهم أو أعراضهم فجزاؤهم القتل والصلب أو ما دونه إذا سلبوا ولم يقتلوا:
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم .
3
وقال الحسن البصري وسعيد بن المسيب ومجاهد، وقال ابن عباس في رواية: إن «أو» هنا للتخيير؛ أي أن الإمام إن شاء قتل، وإن شاء قطع الأيدي والأرجل، وإن شاء نفى.
والنفي عند أبي حنيفة وكثير من المفسرين والفقهاء هو العزل أو الحبس، ولا يلزم منه الإقصاء إلى بلد آخر؛ لأن هذا البلد الآخر إن كان دار إسلام فحكمه وحكم كل بلد إسلامي سواء، وإن كان دار كفر فالنفي إليه حمل على الارتداد.
ويجزي القتل بالقتل وإتلاف الأعضاء بمثله:
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له .
4
ومعنى التصدق به العفو من ولي الدم، وهو كفارة عن إقامة الحد، ولكنه لا يمنع ولي أمر المسلمين عن تعزير الجاني ومعاقبته بما يرى فيه صلاحا له وصلاحا للأمة، ويشتمل هذا التعزير - كما تقدم - حكم السجن وحكم الجلد وحكم الغرامة.
أما السرقة فحكمها في هذه الآية من سورة المائدة أيضا:
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم * فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم .
5
وإجمال الآية هنا فيه مجال لتفصيل يتناول هذه الأمور:
أولا:
ما هي السرقة؟ وما هو المسروق؟ وهل حكم المسروق المحروز كحكم المسروق غير المحروز ؟ المتفق عليه أن السرقة لا تسمى بذلك إلا أن تكون فيها مسارقة لعين المالك على شيء هو محل الشح والضنة.
وثانيا:
من هو السارق؟ هل هو من يسرق مرة واحدة، أو من تعود السرقة؟ فإن كلمة الكاتب مثلا لا تطلق على كل من يكتب ويقرأ، وإنما تطلق على من تعود الكتابة وأكثر منها، والإشارة إلى النكال وإلى عزة الله في الآية الكريمة قد تفيد معنى الاستشراء والاستفحال الذي يقضي بالنكال.
وأيا كان القول في المقصود بالسارق في الآية الكريمة فالتوبة والاستصلاح تعفيان من إقامة الحد ويوكل الأمر فيهما إلى الإمام في رأي جملة الفقهاء.
ثالثا:
ما هو المسروق وما مقداره؟
وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا قطع إلا في ثمن المجن»، وأنه: «لا قطع إلا في ربع دينار»، وربع الدينار وثمن المجن محل اختلاف بين العلماء في التقدير على حسب البلدان والأوقات.
وأيا كان المقدار المسروق فالأئمة: أبو حنيفة، والثوري، وإسحاق يقولون بأن من يسرق شيئا يلزم غرمه، ولا يجمع بين القطع والغرم؛ فإن غرم فلا قطع، وإن قطع فلا غرم.
وقد اعتبر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن الاضطرار من الإكراه الذي يعفي من الحد، وإن كان لا يعفي من التعزير، فلم يقم الحد على غلمان حاطب بن أبي بلتعة؛ لأنهم سرقوا في عام المجاعة.
رابعا:
ما هي اليد التي تقطع؟ هل هي الكف، أو الأصابع، أو اليد اليمنى، أو اليد اليسرى؟
والاختلاف على هذا المعنى قليل بين الفقهاء. •••
أما الزنا فعقوبته على المحصنة والمحصن مائة جلدة:
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين .
6
وتثبت جريمة الزنا بشهادة أربعة عدول مجتمعين؛ فإن تخلف واحد منهم بطلت شهادة الآخرين، ولا يقام الحد إلا إذا شهدوا جميعا بوقوع الفعل لا بمجرد الشروع فيه، ولا حد على من لم يبلغ الحلم ولم يدن بالإسلام، ولا حد كذلك مع قيام الشبهة، وعلى القاضي لدفع كل شبهة في الإكراه أن يراجع المقر بالزنا أربع مرات، وأن يستثبت من وقوع فعل الزنا فيسأله: لعلك قبلت؟ لعلك عانقت؟ لعلك لمست؟ حتى يصر على الإقرار بعد تكرار المراجعة والسؤال؛ فإن عدل عن إقراره سقط عنه الحد، وجاز أن يعاقب بالتعزير. •••
وقد نهى الإسلام عن الخمر وجاء في القرآن الكريم جوابا لمن يسألون عنها وعن القمار:
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ،
7
وشمل حكم النهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام في سورة المائدة:
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون .
8
والمتفق عليه منذ صدر الإسلام أن عقوبة شرب الخمر ثمانون جلدة، ويقام الحد إذا شهد على الشارب شاهدان عدلان وأخذ ورائحة الخمر تفوح من فمه، وانتفت كل شبهة في تعاطيها خطأ أو للعلاج.
وفيما أحصيناه هنا أسس العقوبات في الشريعة القرآنية.
ولا يخفى أن الشرائع الدينية تستمد سلطانها من مصدر أكبر من مصدر الأمة أو ولاة الأمر فيها؛ لأنها تستمد من أمر الله.
ولكن مبادئ التشريع التي تقوم على مصلحة الأمة لا تعارض مبادئ الإسلام التي عمل بها المسلمون أو يمكن أن يتفق على العمل بها.
فالإمام هو المسئول عن إقامة الحدود والأخذ فيها بالتشديد أو التخفيف، ولكنه مسئول أمام الجماعة، وإجماع المسلمين مصدر من مصادر التشريع.
والعقوبات القرآنية تكفل للمجتمع حاجته التي تغنيه من العقوبة؛ وهي قيام الوازع ورهبة المحذور.
ولكنها لا تحرم الفرد حقا من حقوقه في الضمان الوثيق والفرصة النافعة، وأول ضمان للفرد فيها شدة التحرج في إثبات التهمة، وتأويل الشبهة لمصلحته في جميع الأحوال، وتمكينه من الصلاح والتوبة إذا كان فيه مستصلح ومتاب.
وإذا خيف أن يؤدي التشدد في حماية الفرد إلى إسقاط العقوبات والاجتراء على المحظورات فالإمام موكل بالنظر في منع تلك المحظورات من طريق الزجر والتعزير، وقد تقدم أن التعزير يتناول الحبس والضرب والغرامة المالية، ويعاقب به فيما دون الحدود.
وقد يرى الإمام أن اجتماع الشهود الذين يثبتون التهمة غير ميسور في بعض الأزمنة؛ إما للخوف والتحرج، أو لشيوع الباطل والزور، أو لاختلاط المسلمين بغير المسلمين، أو لاتخاذ الأماكن التي تدارى فيها المحظورات، أو لغير ذلك من الأسباب؛ فإن رأى ذلك ورأى أن الإعفاء من الحد مضرة ومفسدة فله أن يجمع بين ضمان الأمة وحمايتها، وبين إعطاء الفرد حقه من الضمان والحماية، فيعاقب بما يراه صالحا للأمرين من ضروب التعزير.
وأيا كان القول برعاية الحرية الشخصية في فرض العقوبات فليس في وسع غال من غلاتها أن يقطع بأن مسألة الزنا أو مسألة السكر من المسائل الفردية التي يترك فيها الأمر كله لآحاد الناس؛ ففي الزنا والسكر مساس بقوام الأسر وأخلاق الجماعة، وسلامة الذرية لا مراء فيه، ومتى بلغ من الزاني أن يشهده أربعة شهود عدول، وبلغ من السكير أن يصل إلى القاضي بين شاهدين عدلين والخمر تفوح من فمه؛ فليست المسألة هنا مسألة فرد يفعل ما يحلو له بينه وبين نفسه، ولكنها مسألة المجتمع كله في كيانه وأخلاقه وأسباب الأمن والطمأنينة فيه، وقد تبدو من هذا حكمة من حكم الشرائط التي اشترط الشرع الإسلامي توافرها لإقامة الحدود العلنية بين الناس.
ننتهي من ذلك كله إلى نتيجتين يقل فيهما الخلاف حتى بين المسلمين وغير المسلمين؛ وهما: أن قواعد العقوبات الإسلامية قامت عليها شئون جماعات البشر آلاف السنين وهي لا تعاني كل ما تعانيه الجماعات المحدثة من الجرائم والآفات، وأن قواعد العقوبات المحدثة لم تكن تصلح للتطبيق قبل ألف سنة، وكانت تنافر مقتضيات العصر ذلك الحين، ولكن القواعد القرآنية بما فيها من الحيطة والضمان ومباحث التصرف الملائم للزمان والمكان، قد صلحت للتطبيق قبل ألف سنة، وتصلح للتطبيق في هذه الأيام، وبعد هذه الأيام.
الإله
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد .
1
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم .
2
كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون .
3
خالق كل شيء .
4
وكان الله على كل شيء قديرا .
5
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله .
6
والله بصير بما تعملون .
7
ألا إنه بكل شيء محيط .
8
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون .
9
والله غفور رحيم .
10
ليس كمثله شيء .
11
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .
12
في هذه الآيات القرآنية مجمل العقيدة الإلهية في الإسلام.
وهي أكمل عقيدة في العقل.
وهي أكمل عقيدة في الدين.
خالق واحد، لا أول له ولا آخر، قدير على كل شيء، عليم بكل شيء، محيط بكل شيء، وليس كمثله شيء.
وعالم مخلوق، خلقه الله، ويرجع إلى الله، ويفنى كما يوجد، بمشيئة الله.
وإذا عبرنا عن هذه العقيدة بلغة الفلسفة قلنا: إنهما وجودان، وجود الأبد ووجود الزمان.
ومن الوهم أن يقع في الأخلاد أن الزمان قد يكون جزءا من الأبد، نمده أو نمطه من أوله فإذا هو أزل، ونمده أو نمطه من آخره، فإذا هو سرمد لا ينقضي على الدوام.
فالحقيقة أن الزمان غير الأبد، ننقصه كله فلا ينقص من الأبد شيء، ونزيده كله فلا يزيد على الأبد شيء؛ لأنهما وجودان مختلفان في الكنه والجوهر، مختلفان في التصور والإدراك.
فالأبد وجود لا نتصور فيه الحركة.
والزمان وجود لا نتصوره بغير حركة.
وإذا ثبت أحد الوجودين ثبوتا لا شك فيه فالوجود الأبدي هو الثابت عقلا وهو وحده الذي يقبل التصور بغير إحالة في الذهن والخيال؛ لأننا نذهب لنفرض أولا للوجود فنقع في الإحالة، وكذلك نقع في الإحالة حين نذهب لنفرض له آخرا أو عمقا أو امتدادا على نحو من الأنحاء، ولكننا لا نقع في إحالة ما إذا تصورنا الأبد بغير ابتداء ولا انتهاء ولا كيف ولا قياس على شيء من الأشياء.
وهكذا يؤمن المسلم بوجود الإله.
ولا يسع العقل أن يبلغ من الإيمان به فوق مبلغ الإسلام. •••
وليس بنا أن نطيل القول في قدم العالم وحدوثه، فلا حاجة بنا إلى ذلك فيما نحن فيه، وكل ما قيل عن قدم العالم خلط ليس له طائل، ولا يبطل عقيدة واحدة من عقائد الإسلام.
إن قيل: إن الزمان أبدي فهذا خلط في التفكير وخلط في الكلام.
وإن قيل: إن الزمان هو مقياس القدم فنحن حين نقول: إن الزمان قديم فكأنما نقول: إن الزمان هو الزمان، أو إن الزمان وجد حين وجد، ولم يوجد زمانان مفترقان.
وإن سأل سائل: لم وجد الزمان حين وجد، ولم يوجد في حين قبله؟ فكأنما يفرض زمانا موجودا قبل وجود الزمان.
ويكفي المسلم أن يعلم أن الزمان لم يوجد أبديا، وأن وجود الأبد أكمل من الوجود الموقوت، وهذا هو غاية التنزيه الذي يفرضه الإسلام على معتقديه، وهذا - أيضا - هو غاية ما ينتهي إليه تمييز العقول.
ولا إعضال في فهم الصلة بين الوجودين: الوجود الأبدي، والوجود في الزمان.
فالوجود الأبدي كامل مطلق الكمال، ولا يكون الكمال المطلق بغير قدرة وإنعام، ولا تكون القدرة والإنعام بغير خلق وإبداع.
ومن العبث أن يقال: إن الخلق إذن اضطرار.
لأننا لا نقول: إن الله جل وعلا مضطر حين نقول: إنه كامل مطلق الكمال، وإنه لا يقبل النقص والعيب، وإن الخلق من كمال جوده وقدرته وإحسانه؛ إذ ليس بالمعقول أننا ننفي الاضطرار عن الله حين نجعله ناقصا في قدرة الخلق والإبداع، بل نحن في هذه الحالة ننفي عنه مقتضيات الكمال.
ويستطرد بنا هذا إلى الكلام على صفات الله تعالى في القرآن الكريم؛ فإن هذه الصفات هي الصفات التي تنبغي لكل كمال مطلق منزه عن الحدود.
والكمال المطلق واحد لا يتجزأ، ولا يكون كمالا مطلقا إلا إذا كان غاية في القدرة والعلم والرحمة والعدل والإحسان والتصريف.
وعلة الزلل كله أن نحصر هذه الصفات وهي لا تقبل الحصر، أو نقيسها على شيء وهي أعلى وأكمل من كل شيء، فأصدق الإيمان - وأصدق التفكير معا قي هذا الصدد - أن الله ليس كمثله شيء، وأنه يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار.
وخير لنا من الخوض في تقسيمات الصفات النفسية أو الصفات الثبوتية أو الصفات السلبية، أن نضرب مثلا واحدا لخطأ العقول في استلزام بعض الصفات وبطلان بعض الصفات، فيما هو محسوس قابل للامتحان والاختبار: علاقة الجوهر البسيط بصفة البقاء، أو صفة التنزه عن الانحلال.
فالأقدمون - أو أكثر الأقدمين - متفقون على أن الكائنات العلوية، كالشموس والأفلاك، خالدة لا تقبل الفناء؛ لأنها من نور، والنور جوهر بسيط، والجوهر البسيط لا يقبل التركيب وهو من ثم لا يقبل الانحلال.
وها نحن قد رأينا في عصرنا هذا أن الأجسام كلها ذرات، وأن الذرات كلها تنفلق أو تنحل فتصير إلى شعاع أو تصير إلى نور.
ومع هذا تألفت من هذا النور عناصر، وتألفت من هذه العناصر أجسام، وتألفت في هذه الأجسام ألوان وأشكال وأطوار وأحوال، هي هذه المادة أو هذه الهيولى التي قيل في المذاهب القديمة: إنها معدن الفساد المنحل، ونقيض الجوهر البسيط.
فإذا كان هذا حكمنا على بساطة المادة فمن أين لنا أن نحكم على بساطة الجوهر الإلهي حكما نجريه مجرى اللزوم لما ينبغي أن يكون عليه؟ ومن أين لنا أن نقول: إن الوجود الأبدي يفعل هذا ولا يفعل هذا، ويكون من المناقض له أن تنسب إليه هذه الصفة أو يحدث منه الخلق على هذا المثال؟
غاية الغايات أن نقول: إن الوجود الأبدي أكمل وجود، وإن أكمل وجود يخلق وجودا آخر دونه في الكمال، وإن الوجودين لا ينعزلان.
فإذا كانت كيفية ذلك تعزب عن أذهاننا فقد عزبت عن أذهاننا كيفيات ما نراه ونحده بالأبصار، فلا جرم تعزب عنا الكيفيات فيما يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار.
وهل من الكيفيات المفهومة أن نقول مثلا: إن الوجود الكامل لا يقدر على الإيجاد أو على منح الوجود؟ أو هل من الكيفيات المفهومة أن نقول: إن الوجود كله طبقة واحدة بين ما كان أزليا أبديا وبين ما كان ذا زمان؟
أو هل من الكيفيات المفهومة أن نقول: إن الوجودين منعزلان لا علاقة بينهما بحال من الأحوال؟
أو هل من الكيفيات المفهومة أن نقول : إن هذه العلاقة تقف عند حد لا تتعداه كما قال أرسطو حين زعم أن الله حرك العالم ووقفت علاقته به بعد ذلك؟!
كل أولئك غير مفهوم في العقل ولا مفهوم في الإيمان.
ولكننا نفهم ولا نشك - دينا وعقلا - أن الوجود الكامل المطلق يصنع شيئا يقتضيه كماله، وأن الصانع من المصنوع، وأن المصنوع لا ينعزل عن الصانع، وإن أعيانا أن نحصر الصلة بينهما حصر الإحاطة والاستيعاب.
والأديان جميعا تؤمن بهذه العلاقة بين الخالق والمخلوق، ولكنها تفرق بين علاقة الخالق بالمخلوقات، وبين علاقة السبب المادي بالمسببات المادية، أو علاقة الحتم «الآلي» بين المقدمات والنتائج في القياس.
فالأسباب المادية - بالغة ما بلغت من العظمة - لا تنشئ دينا ولا تقر طمأنينة الإيمان في قلب إنسان.
والكون عظيم واسع لا شك في عظمته واتساعه، ولكن الإنسان لا يقنع بعظمته واتساعه ليؤمن به ويطمئن إليه، وإنما يركن إلى الإيمان حين يبحث عن إرادة حية وراء الكون كله ووراء الأسباب فيه والمسببات.
فعلاقة الدين علاقة حية بين خالق واع ومخلوقات واعية، تدعوه فيستجيب وتصلي إليه وتؤمن بجدوى الصلاة.
والقرآن صريح في إثبات هذه العلاقة بين المعبود والعباد:
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون .
13
والقرآن صريح كذلك في حث الناس على الاستعانة بأنفسهم والاعتماد على قوتهم مع اعتمادهم على القوة الإلهية في مقام الدعاء والصلاة، ولا يحرمه مع ذلك رجاءه في معونة القدرة الإلهية حين لا يستطيع، وذلك قصارى ما يعطيه الدين من قوة الصبر وقوة الرجاء.
يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين .
14
فهو يلهم الناس أن الله لا يخذلهم إن نصروا أنفسهم، ولا يحرمهم الطاقة التي تفوق الطاقة حين يتجهون إلى الله.
وكل دين لا يكفل لأصحابه هذا الرجاء فهو دين لا معنى له ولا حاجة إليه، وإن وجوده وعدمه سواء.
وليس المراد من ذلك أن الإيمان بالله قائم على الحاجة إليه، وإنما المراد به أن الإيمان بالله قائم على الإيمان بقدرته وكماله وعدله وسلطانه في الوجود واتصاله بهذا الوجود، فإن لم يكن المعبود كذلك فما هو بأهل للإيمان به، على الاستغناء عنه أو على الحاجة إليه.
وأكثر ما يعترض به المعترضون على حكمة الصلاة أنها لا توافق الإيمان بنظام الكون واطراد حركاته وسكناته على سنة واحدة أو قانون واحد مقدور الأعمال والآثار من أزل الآزال.
وهو اعتراض يقبل على فرض واحد، وذاك أن الصلاة عمل خارج من الكون غير داخل فيه، فهي لا تنبعث من نظامه ولا تؤثر في نظامه، ولا يكون لها شأن حقيق بها غير الشذوذ والإهمال.
فأما إذا كانت الصلاة داخلة في حساب الكون - كما هي في الواقع - فشأنها في الآثار والمؤثرات كشأن جميع الأعمال والحركات، فلا يقال لهم: كفوا عن التعرض لقوانين الطبيعة بالاختراع والصناعة؛ لأنها قوانين مقدورة الأعمال والآثار من أزل الآزال.
ولا مانع مطلقا من تأثير العوامل الروحية في أحداث الكون ولو قصرنا التأثير على النحو الذي نعانيه كل يوم في هذه المحسوسات فضلا عن الغيوب والمعقولات.
قال الإمام الغزالي في تهافت الفلاسفة: «لو لم ير إنسان المغناطيس وجذبه للحديد، وحكي له ذلك، لاستنكره وقال: لا يتصور جذب الحديد إلا بخيط يشد عليه ويجذب به؛ فإنه المشاهد في الجذب، حتى إذا شاهده تعجب منه، وعلم أن علمه قاصر عن عجائب القدرة».
وذلك بعد أن قال عن المؤثرات الروحية: «ذلك يكون بأسباب، ولكن ليس من شرط أن يكون السبب هو هذا المعهود، بل في خزانة المقدورات عجائب وغرائب لم يطلع عليها، ينكرها من يظن أن لا وجود إلا لما شاهده.»
وما يقال عن جذب المغناطيس يقال عن جذب الأجسام ولا سيما جذب الكواكب أو تجاذبها على هذه الأبعاد الشاسعة من السماء؛ فإن انتقال التأثير من الجاذب إلى المجذوب حقيقة لا ريب فيها، ولكنها لا تفسر إلا بالفروض والتخمينات وتقدير الوسائط التي لا يثبتها العيان ولا يقطع بها البرهان.
والعجيب أن أدعياء العلم والعقل يشاهدون هذا وأمثاله ويسمعون تعليله الذي يختلف فرضا بعد فرض، وتخمينا بعد تخمين، فيسكتون ويسلمون أنه معقول ومفهوم، ولكنهم يستكثرون تأثير الروح في الأرواح، وتأثير العقل في العقول؛ لأنهم يريدون أن يلمسوا بأيديهم كيف تؤثر وكيف تتأثر، ولا يقبلون هنا ما يقبلونه في عالم الحس والعيان.
كذلك لا مانع مطلقا من تفاوت الأرواح والعقول في قدرة التأثير بالصلاة وبالدعاء والإيحاء.
لأن الوجود كما أسلفنا طبقات وليس بطبقة واحدة، منها ما هو أقرب إلى الخصائص الإلهية ومنها ما هو أقرب إلى الخصائص الطبيعية، وليست كلها في التأثير سواء.
فالوجود الكامل يوجد غيره، وهو جميع هذه الكائنات.
ولكن هذه الكائنات درجات: فما يعي منها وجوده ويشعر بأنه موجود، أرفع من الكائن الذي لا يعي وجوده ولا يشعر بأنه موجود.
والكائن الواعي الذي يشعر بموجده أو يشعر بالوجود المطلق الكمال أرفع من الكائن الواعي الذي لا يعي غير ذاته أو ما حوى من المحسوسات.
فإذا كانت قدرة الإيجاد تختلف باختلاف طبقات الوجود فأقرب الكائنات إلى الله هو الكائن الذي يعي ذاته ويعي موجده، ويستمد منه قبسا من القدرة الإلهية يقصر عنه من دونه من هذه الكائنات.
ووعي الموجود لموجده كذلك درجات؛ فمن كان أكمل وعيا كان أكمل اقتباسا من قدرة الله، وأقرب لياذا به وبحكمته وتدبيره وعمله، ولا يعقل أن تخلو الكائنات الروحية من هذه الفوارق، ولا يعقل أن تكون بينها هذه الفوارق عبثا كأن وجودها وعدمها سواء، ولا يعقل أن يكون منها ما هو أقرب إلى الله ولا يقدر على شيء يختص به في أحداث هذا الكون على نحو يناسب القرب من قدرة الله، وهو تأثير العقل أو تأثير الروح.
فجدوى الصلاة لا تنفي نظام الكون؛ لأن المصلحين جزء من الكون وجزء من نظامه، بل بطلان جدوى الصلاة ينفي وجود الإله الذي يخلق النظام خلقا ولا يقوم بين منظماته مقام الآلة التي لا فرق فيها بين أن تدار وأن تدير. •••
أما فلسفة القرآن في إثبات وجود الله فهي جماع الفلسفات التي تمخضت عنها أقوال الحكماء في هذا الباب.
وأشهر الحجج التي اعتمدت عليها الفلسفة الإلهية ثلاث؛ وهي: برهان الخلق المعروف عند الأوروبيين بالبرهان الكوني:
Cosmological Argument
وبرهان النظام المعروف عندهم ببرهان الغاية أو القصد
Teleological Argument .
وبرهان الاستعلاء والاستكمال المعروف عندهم ببرهان القديس أنسلم أو
Onthological Argument .
وفحوى برهان الخلق أو البرهان الكوني أن المتحركات لا بد لها من محرك لا تجوز عليه الحركة، وأن الممكنات لا بد لها من موجد واجب الوجود، وإلا لزم التسلسل إلى غير انتهاء، وهذا الموجد الواجب الوجود هو الله.
وفحوى برهان القصد أن نظام العالم يدل على إرادة محيطة بما فيه من الأسباب والغايات.
وفحوى برهان المثل الأعلى أن العقل إذا تصور شيئا عظيما تصور ما هو أعظم منه، وإلا تطلب موجبا للوقوف عند حد من العظمة لا تتعداه، وكلما عظم شيء فهناك ما هو أعظم منه وأعظم حتى تنتهي بالتصور إلى العظمة التي لا مزيد عليها، والعظمة التي لا مزيد عليها لا تكون مجرد تصور يقع في الوهم ولا يوجد في الواقع؛ لأن العظمة الموجودة فوق العظمة الموهومة أو المتصورة، فالله إذن موجود؛ لأنه أعظم الموجودات.
والقرآن الكريم يكرر هذه البراهين في غير موضع، ويقيم الحجة بوجود المخلوقات على وجود الخالق، وبنظام الكون على وجود المدبر المريد، وبإثبات المثل الأعلى لله فوق كل مثل معروف أو معقول.
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور .
15
فخلق فسوى .
16
ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون .
17
أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله .
18
ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين .
19
وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج .
20
فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
21
وقد تكرر في القرآن الكريم برهان خلق الزوجين تكرارا متجدد الأساليب والمعارض دليلا على القصد والتدبير في سنن هذا الوجود، وهو لا ريب أقوى البراهين على القصد وابتداع الوسيلة إليه؛ لأن ظهور الحياة في وسط المادة عجيب، وأعجب منه أن تتهيأ الأسباب في جسدين مختلفين لدوامها وانتقال خصائصها وصيانة ولائدها بين عناصر الطبيعة وآفاتها، وقد عرض الآن من أسرار التوليد ما لم يكن معروفا بين الناس عند نزول القرآن الكريم، فإذا هو أعجب وأعجب من ظهور الحياة ومن اختلاف وظائف الجنسين: عرف الآن أن الناسلات التي يتولد منها الجنس البشري كله يمكن أن تجمع في قمع من أقماع الخياطة أقل من نصف فنجال، ويتسع هذا الحيز الصغير - كما قلنا في كتابنا «الله» - «لكل ما في النفوس من الأحاسيس والحوافز والأسرار، ولكل ما في العقول من الأفكار والفلسفات والمبتكرات ولكل ما في الضمائر من العقائد والأخلاق والأشواق، ولكل ما في الأجسام من الوظائف والمحاسن والأشباه، ولكل ما بين هؤلاء من الأواصر والوشائج والعلاقات».
وخليق بهذا أن يبين لنا - كما قلنا هناك - «أن الحياة قوة من عالم العقل لا من عالم المكان والزمان؛ لأن الحيز الذي يحتوي الناسلة هو الحيز الذي يحتوي على كل ذرة في حجمها من الذرات المادية، ولكنه يتسع لآفاق من القوى لا أثر لها في ذرات الأجساد». •••
وتوكيد القرآن الكريم لوحدانية الله كتوكيده لوجود الله، بل هو أشد وألزم في عقيدة الإسلام؛ لأن الإيمان بالإله الأحد ألزم من الإيمان بالعقيدة الإلهية على إطلاقها؛ إذ كان الإيمان بأكثر من إله واحد مفسدا لفهم الكون ومفسدا لفهم الضمير، ومفسدا لفهم الواجبات الأدبية والفرائض الدينية، ومفسدا لعلم الإنسان بحقيقة الإنسان.
وحجج القرآن على الوحدانية قاطعة، وإن قال بعض المتكلمين: إنها جرت مجرى الأدلة الخطابية لتوجيه القول فيها إلى الخاصة والعامة، وإلى العلماء والجهلاء.
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .
22
قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا .
23
والذين قالوا بغلبة الدليل الخطابي على الدليل القاطع في هذه الحجة زعموا أن الاختلاف بين الإلهين الاثنين أو بين الآلهة الكثيرة غير لازم عقلا لجواز الاتفاق.
وهو زعم مردود ظاهر البطلان؛ لأن الكمال المطلق لا يكون كمالين، ولأن الأبد لا يكون أبدين، ولأن الوجودين اللذين يتفقان في البداية والنهاية وفي تقدير كل شيء وتصريف كل عمل، ولا يختلفان في وصف من الأوصاف ولا في لازمة من لوازم هذه الأوصاف، هما وجود واحد لا وجودان، وليس بينهما من فاصل الذات عن الذات ما يجعلهما ذاتين اثنتين.
أما الآلهة المتعددة فهي إن أطاعت الله ولم تخرج عن قضائه وقدره فحكمها حكم المخلوقات، وإن كانت لا تطيعه فهي تنازعه وتبتغي
إلى ذي العرش سبيلا
فلا يستقيم على ذلك أمر الوجود. •••
ومتى ثاب المسلم إلى هذه الحكمة القرآنية في أمر الإله فقد تزود من كتاب دينه بعقيدة تصحح أخطاء الديانات كما تصحح أخطاء الفلاسفة؛ إذ كانت الديانات قائمة على الإيمان، ولا أحق بالإيمان من إله أحد صمد سميع مجيب ليس كمثله شيء وهو محيط بكل شيء، وإذ كانت الفلسفة قائمة على القياس، ولا يصح القياس ما لم يثبت في مقياسه كل فارق بين وجود الأبد ووجود الزمان.
مسألة الروح
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .
1
مسألة الروح أعضل مسائل العلم والفلسفة ومذاهب التفكير على التعميم منذ فكر الإنسان في حقائق الأشياء، بين أصحاب النحل والآراء في جميع العصور.
وسواء فهمنا من الروح أنها جوهر مجرد تقوم به حياة الأجساد، أو فهمنا كما يفهم الماديون أنها ظاهرة الحياة في تركيبة من تراكيب المادة - فلا يزال العلم بحقيقتها قليلا أو أقل من القليل.
لأن الماديين الذين يعتبرونها قوة من قوة المادة لم يخرجوا بها عن تسجيل الحس كما يرونه، ولم يستطيعوا قط تعليل الفارق بين الخلية المادية والخلية الحية بعلة من العلل المادية نفسها فضلا عن العلل التي تتجاوز المادة إلى ما وراءها، ولم ينكروا أن الفارق عظيم وأنه أبعد فارق بين شيئين من هذه الأشياء التي تقع في الكون المحسوس أو الكون المعقول.
فمن معجزات القرآن أنه وضعها هذا الموضع الصحيح من الفلسفة والعلم، وجعلها أعضل المعضلات التي يتساءل عنها الناس بغير استثناء.
ويزيد في تقدير هذه المعجزة أن القرآن لم يستكثر على الفكر الإنساني أن يخوض في المسألة الإلهية، وأن يصل إلى الإيمان بالله من طريق البحث والاستدلال والنظر في آيات الخلق وعجائب الطبيعة.
فالعقل يهتدي إلى وجود الله من النظر في وجود الأشياء ووجود الأحياء.
ولكنه لا يهتدي إلى حقيقة الروح من هذا الطريق، ولا يذهب فيها مذهبا أبعد ولا أعمق من الإحالة إلى مصدر الموجودات جميعا؛ وهي إرادة الله، أو أمر الله.
وقد عجب بعض المفسرين لذلك وراحوا يتساءلون: أتكون مسألة الروح أكبر من المسألة الإلهية وهي غاية الغايات في سبح العقول؟!
ولكنهم في الواقع يرجعون بالعجب إلى غير مرجعه الأصيل؛ لأن المعضلة الفكرية لا تبلغ مبلغ الإعضال بمقدار عظمتها واتساعها، بل بمقدار دقتها وخفائها ... وقد تكون عوارض الشمس أوضح في رأي العلماء من عوارض الذرة الخفية، وبينهما من التفاوت في القدر ذلك الأمد البعيد.
وقد أجمل الإمام الرازي أسباب هذا الإعضال في مسألة الروح فقال: «... إنهم سألوا عن الروح وإنه صلوات الله عليه وسلامه أجاب عنه على أحسن الوجوه، وبيانه أن المذكور في الآية أنهم سألوه عن الروح والسؤال يقع على وجوه»:
أحدها:
أن يقال: ما ماهيته؟ هل هو متحيز، أو حال في المتحيز، أو موجود غير متحيز ولا حال فيه؟
وثانيها:
أن يقال: أهو قديم، أو حادث؟
وثالثها:
أن يقال: هل هو يبقى بعد فناء الأجسام، أو يفنى؟
ورابعها:
أن يقال: ما حقيقة سعادة الأرواح وشقاوتها؟ «وبالجملة»: فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة، وليست في الآية دلالة على أنهم عن أي هذه المسائل سألوا، إلا أنه تعالى ذكر في الجواب:
قل الروح من أمر ربي ، وهذا الجواب لا يليق إلا بمسألتين:
إحداهما:
السؤال عن الماهية؛ أهو عبارة عن أجسام موجودة في داخل البدن متولدة عن امتزاج الطبائع والأخلاط؟ أو عبارة عن نفس هذا المزاج والتركيب، أو عن عرض آخر قائم بهذه الأجسام، أو عن موجود يغاير هذه الأشياء؟ فأجاب الله تعالى بأنه موجود مغاير لهذه الأشياء، بل هو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث؛ قوله: كن، فيكون، فهو موجود يحدث من أمر الله وتكوينه وتأثيره في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه مطلقا؛ وهو المقصود من قوله:
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .
وثانيتهما:
السؤال عن قدمها وحدوثها؛ فإن لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل كقوله تعالى:
وما أمر فرعون برشيد ، فقوله:
من أمر ربي ، معناه: من فعل ربي، فهذا الجواب يدل على أنهم سألوه عن قدمه وحدوثه فقال: بل هو حادث، وإنما حصل بفعل الله وتكوينه، ثم احتج على حدوثه بقوله:
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، يعني أن الأرواح في مبدأ الفطرة خالية من العلوم كلها، ثم تحصل فيها المعارف والعلوم، فهي لا تزال متغيرة من حال إلى حال، والتغير من أمارات الحدوث.
وتلخيص الإمام الرازي للمعضلة شامل لجوانبها المتعددة: كما بدت للمفكرين من الفلاسفة الأقدمين، وبخاصة علماء الكلام.
ولا نظن أن المحدثين جاءوا بفرض من الفروض في تفسير الروح لم يسبقهم إليه الأقدمون، مع ملاحظة الفارق في بحوث علم الحياة ووظائف الأعضاء بين علماء اليوم وعلماء الزمن القديم.
فمن المفكرين الأقدمين من قال: إن الروح أجسام لطيفة سارية في البدن سريان ماء الورد في الورد، باقية من أول العمر إلى آخره لا يتطرق إليه تخلل ولا تبدل، حتى إذا قطع عضو من البدن انقبض ما فيه من تلك الأجزاء إلى سائر الأعضاء.
ومنهم من قال: إنه جزء لا يتجزأ في القلب، أو قال: إنه جسم هوائي في القلب، أو قال: إنه جسم هوائي في الدماغ، أو قال: إنه قوة في الدماغ وهو مبدأ الحس والحركة، أو قال: إنه أجزاء نارية وهي المسماة بالحرارة الغريزية، أو قال: إنه الدم المعتدل تقوى الحياة باعتداله وتفنى بفنائه، أو قال: إنه جسم بخاري يتكون من لطافة الأخلاط وبخاريتها كتكون الأخلاط من كثافتها، وهو الحامل للقوى الثلاث؛ وهي: قوة الروح الحيواني، وقوة الروح النفساني، وقوة الروح الطبيعي، ومنهم من قال بأن الروح جوهر مجرد يتفاوت في التجرد والصفاء: فهو في العارفين الخالصين أصفى منه في غيرهم من ذوي الأرواح.
ومنهم من قال غير ذلك ولم يخرج عن فحوى فرض من تلك الفروض كما أحصاها صاحب كشاف إصطلاحات الفنون في مادة الروح. •••
أما المفكرون المحدثون فهم في الجملة بين قولين: قول بنشوء الحياة من جوهر مجرد، وقول بنشوئها من استعداد في المادة يظهر مع التطور والتركيب.
وليس بين القائلين بالجوهر المجرد من الأقدمين والمحدثين اختلاف كبير في غير أسلوب التعبير.
فالمحدثون يقولون: إن الجسم لا ينشئ الحياة، ولا طاقة للمادة بتوليد القوة الحيوية، ولكنها إذا بلغت مبلغا معلوما من الاستعداد صلحت لحلول الروح فيها وتهيأت لخدمتها، مثلها في ذلك مثل الجهاز الذي يصلح بالتركيب لقبول الكهرباء؛ فإن أجزاءه المتفرقة لا تتحرك ولا تقبل العمل الكهربائي إذا بقيت على تفرقها، أو اجتمعت على نحو غير النحو الصالح لاستقبال التيار وتلبية حركاته، وكذلك الأعضاء الجسدية لا تخلق الحياة ولكنها تصلح لاستقبالها وتلبية حركاتها متى تم تركيبها على النحو المعروف.
والأقدمون يقولون بمثل ذلك، ولكنهم يعبرون عنه بأسلوبهم المنطقي الذي يستخدمونه للتمييز بين الصور والأجسام؛ فالروح عندهم «كمال أول لجسم طبيعي آلي».
والكمال عندهم هو الذي تتحقق به ماهية الشيء؛ وهو قسمان: قسم يصدر منه الفعل؛ وهو الكمال الأول، وقسم الفعل نفسه وهو الكمال الثاني.
والإنسان جسم آلي لا تتحقق له الإنسانية إلا بحلول الروح فيه، فلا تتحقق له الإنسانية بمجرد وجود الأعضاء فيه بل باستقبال هذه الأعضاء لمصدر فعلها وحركتها، وهو الروح، فالروح إذن هي الكمال الأول لتركيب جسم الإنسان.
ودليل الأقدمين على أن الروح جوهر مجرد يلخصه الشهرستاني في كتاب «نهاية الإقدام في علم الكلام»؛ إذ يقول: «إن العلم المجرد الكلي لا يجوز أن يحل في جسم، وكل ما لا يجوز أن يحل في جسم، فإذا حل ففي غير جسم، فالعلم المجرد الكلي إذا حل حل في غير جسم» ويؤيد ذلك أنه غير قابل للانقسام.
ويوشك الأقدمون والمحدثون أن يتلاقوا في توضيح المشكلة التي تنجم عن القول بتجرد الروح ثم القول بتأثيرها في الأجسام.
فالأقدمون يجعلون الجواهر المجردة درجات في التلبس بالمادة وقابلية الاشتراك معها في عملها، فلا يؤثر الجوهر المجرد في المادة مباشرة بل يؤثر فيها بواسطة جوهر يقاربه من جهة، ويقارب المادة من جهة أخرى.
والمحدثون يقيمون هذه القنطرة بين العالمين - عالم الروح وعالم المادة - بفروض كثيرة؛ منها: أن الغدة الصنوبرية في الدماغ هي ملتقى الروح بالجسد، ومنها: أن يرتفعوا بالمادة الجسدية إلى غايتها من الصفاء؛ لكي تتقبل الأثر من عالم الروح، ومنها: أن يزيلوا العجب من تأثير الأرواح في الأجسام بقولهم: إن تأثير الروح في الجسد ليس بأعجب من هذه المؤثرات التي نراها تقع من الأجسام، فلا داعي للجزم بامتناع أثر الجوهر المجرد في صور المادة على اختلافها بين الجوامد والأحياء.
وكل فرض من هذه الفروض لا يزعم صاحبه أنه قال في معضلة الروح قولا يغنيه عن التمثل في هذه المعضلة بالآية القرآنية الكريمة:
قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا . •••
والماديون الذين يقولون بنشأة الحياة من المادة لا ينيبون - بطبيعة الحال - إلى علم الله في معضلة من المعضلات، ولكنهم ينيبون على الرغم منهم إلى رأي في تعليل الحياة هو أعجز وأبلغ في التسليم من إنابة المؤمنين؛ لأن قصارى ما ذهبوا إليه أن الحياة حصلت؛ لأنها حصلت، أو لأنها قابلة للحصول!
فهم يعترفون بالفارق البعيد بين الذرة المادية والخلية الحية، ولكنهم يقولون: إن الخلية الحية قد تترقى بالتطور والتركيب المتلاحق إلى اكتساب خصائص الحياة.
ويمثلون لذلك بالعناصر التي تتركب فتظهر فيها بعد التركيب خصائص لم تكن لعنصر من عناصرها على انفراد.
وهكذا يترقى التركيب بالمادة إلى مرتبة النبات فالحيوان فالإنسان العاقل، فما فوق الإنسان مع تطاول الزمان.
ولكنهم لا يذكرون دليلا واحدا على حدوث الحياة من مثل هذا التركيب ... ولا يذكرون سببا ماديا معقولا لالتزام المادة سلم الارتقاء طبقة فوق طبقة منذ الأزل الذي لا يعرف له ابتداء، ولا يذكرون سببا ماديا واحدا يوجب أن تنفرد بعض الذرات المادية بهذا التطور دون بعضها وهي سواء في الكنه والحركة وقوانين الوجود، ولا يشعرون بقصور هذا الفرض عن تفسير الخصائص التي تتوزع بين ألوف الخلايا التي تتولد منها الأنواع الحية، وفي كل خلية منها قدرة على التجدد والتعويض ونقل طبائع النوع كله، وهي في دقتها أخفى من أن تتراءى الألوف منها للعين بغير منظار.
فإن الناسلات التي تنشئ النوع الإنساني كله يمكن أن تجمع في قمع صغير من أقماع الخياطة، وفي هذا القمع الصغير تكمن جميع الخصائص التي يختلف بها ملايين البشر في الأفكار والعادات والأعضاء والألوان، وتكمن جميع الموروثات التي تلقاها سكان الكرة الأرضية عن آبائهم وأجدادهم منذ مئات الألوف من السنين، وجميع الموروثات التي يخلفونها لأعقابهم إلى مئات ألوف أخرى بغير انتهاء.
فإذا كانت الحياة معاني تقوم على الوعي الذي لا يوجد في المادة ويكفيها مثل هذا الحيز من الامتداد وهو أقرب إلى المعقولات منه إلى المحسوسات، فماذا أبطل الماديون من القول بقوة الروح المعنوية؟ أو ماذا أبطلوا من القول بتوسط هذه المعاني بين الوجود المجرد والوجود المحسوس؟
إذا كانت الحياة لا توجد في كل مادة، وكانت المادة الخاصة التي توجد فيها تتلقاها معاني لا يحصرها الحس، وتأخذ منها كل هذه الأجسام التي تملأ فضاء الكرة الأرضية، فهل هذا هو تفسير السر المغلق، أو هذا هو السر المغلق الذي يدق عن العقول؟
وأي أجسام بل أي آكام من الأجسام؟ أهي أجسام وكفى تتساوى في جميع الأشكال والأحجام؟
كلا، بل هي أجسام تختلف كل ذرة منها عن كل ذرة، ولا تنوب واحدة منها عن الأخرى أو تختلط شخصية منها بشخصية سواها، فأين يبتدئ التلغز والتخمين إذا كان هذا نهاية التفسير والتبيين؟ •••
وإذا كان الماديون قد بلغوا بتجريد قوة الحياة أقصى ما يستطيعه المادي من صفات التجريد، فإن القول بالتجريد المطلق لا يقطع الكلام في مسألة الروح ولا يتركه بغير بقية طويلة تستتبع الأسئلة الكثيرة بغير جواب.
فهل الجوهر المجرد البسيط يقبل الفناء؟ وهل كان معدوما قبل أن يوجد؟
إن فريقا من الفلاسفة يقول: إن الجوهر البسيط لا يتغير ولا يفنى؛ لأن الانحلال إنما يأتي من جهة التركيب وليس في الجوهر البسيط مركب، وما ليس بقابل للفناء غير قابل للإيجاد بعد عدم، وليس له ابتداء ولا انتهاء.
وبعض المتدينين يقول بقدم العالم كله؛ لأنه لا يخلق في زمان، والجواهر البسيطة من باب أولى قديمة على هذا الاعتبار، وقد يستشهد هؤلاء على قدم الروح بأنها من روح الله
ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون .
2
فالروح من روح الله، وهو أزلي وأبدي بلا أول ولا آخر ولا زمان ولا مكان، ومنهم من يقول بحدوث الروح، ويعني بذلك أنها غير قديمة، وينكر قدم العالم على الإجمال.
وهنا يرد على الخاطر سؤال عن تساوي الأرواح في القدم أو تساويها في الحدوث.
فهل وجدت أرواح الآباء والأبناء والأحفاد في وقت واحد؟ أو وجدت على تفاوت في الترتيب؟ وهل تنقطع صلة الأبوة بين الأرواح؟ أو هناك أرواح توصف بالأبوة وأرواح توصف بالبنوة على النحو الذي نشهده في الحياة؟ وما الفارق بين أرواح الآباء والأمهات وأرواح الذكور والإناث؟
ويرد على الخاطر سؤال آخر عن علاقة الروح بالجسد بعد دخوله والامتزاج بأعضائه: هل تأتي بالمعرفة معها من عالم الأرواح، أو هي تتلقى المعرفة من ملامسة الأعضاء وحس الحواس التي تتألف من البصر والسمع واللمس والشم والذوق وما إليها؟ وهل تحمل معرفتها معها بعد فراق الجسد أو تتركها وراءها بعد انقطاع الصلة بينها وبين الإحساس بالحواس؟
ويرد على الخاطر سؤال غير هذين السؤالين في مسألة الثواب والعقاب؛ فهل تخلص الروح من الجسد كما دخلته مبرأة من الذنوب؟ وهل يلصق شيء من الجسد بشيء من الروح؟ وإذا كانت قبل نزولها فيه وخروجها منه خالصة من تلك الذنوب؛ فكيف يكون العقاب؟ أو كيف تعاقب الأجساد بمعزل عن الأرواح؟ أو كيف تعاقب الأرواح بمعزل عن الأجساد؟
والذين قالوا بدخول الروح في الأجساد أكثر من مرة يسألون: لماذا ينسى الروح حياته الأولى في الجسد القديم بعد دخوله في الجسد الجديد؟ وهل يعود إلى التذكر بعد التجرد من الحياة الجسدية؟ أو هو في كل مرة يرجع إلى ما كان عليه قبل الحياة الجسدية كأنه لم يتلبس قط بالأجساد! وماذا تفيد الروح من تكرر الحياة إذا كانت تبقى بعد موت كل جسد كما كانت قبل حياتها فيه؟
ولا يقل عن هذه الأسئلة في الإعضال سؤال السائلين: هل الروح والنفس والعقل شيء واحد، أو هي أشياء مختلفات؟ وهل هي فردية، أو عامة في جميع الأحياء العاقلة؟
فمنهم من يقول: إن العقل والروح والجسد كلها هي قوام العنصر المجرد في الإنسان، وإن ما عداها عنصر جسدي قابل للانحلال.
ومنهم من يقول: إن العقل وحده هو العنصر المجرد، وإن النفس درجات والروح في أعلى هذه الدرجات، ثم تنحدر درجات النفس فتلتقي بالجسد في الحياة الحيوانية، ولا يختلف شأنها في هذه الحالة عن شأن الدم الذي تنبعث منه حركة الأعضاء، أو شأن الأبخرة اللطيفة التي تتخلل تلك الأعضاء.
والقائلون بذلك يقولون: إن العقل عام في جميع العقلاء، وإنه غير متوقف على الأفراد؛ لأن أحكامه واحدة في جميع العقول، وقضاياه ثابتة في جميع الأحوال.
وذلك على خلاف النفس التي تختلف بأذواقها ومشتهياتها بين فرد وفرد، وبين حال وحال.
فالعقل إذن هو الخالد الباقي الذي لا يفنى بفناء أجساد الأحياء، أما النفس فشأنها شأن الجسد في التميز والتحيز وقبول الفناء. •••
ومن الماديين من يأتي وسطا بين المجردين والمجسدين؛ فعندهم أن وجود الروح لاحق لوجود الجسد، وأن الجسد إذا ترقى في التركيب نشأت من تركيبه وحدة معنوية أو شخصية مستقلة صالحة للبقاء بمعزل عنه، وكانت وجودا جديدا لا ينعدم؛ لأن الموجود لا يقبل العدم، ولا فرق في ذلك بين وجود الكيفية ووجود الكم أو المقدار.
وأقرب ما يمثلون به لذلك وجود القصيدة في قريحة الشاعر، أو وجود اللحن الموسيقي في قريحة الموسيقار، أو وجود الفكرة في قريحة الفيلسوف.
فهذه الوحدات المعنوية من عمل الشاعر والموسيقار والفيلسوف، ولكنها استقلت بوجود قابل للبقاء بعد زوال من خلقوها وانفردوا بخلقها بين أصحاب القرائح التي لا تحصى.
وتمثيلهم هذا تمثيل تقريب وليس بتمثيل تحقيق؛ لأنهم يقصدون أن «الشخصية الروحية» التي يتمخض عنها تركيب الجسد أو تركيب الدماغ خاصة هي كيان قائم بذاته وليس بالكيان الذي يتوقف على غيره كقصيدة الشاعر ولحن الموسيقار وفكرة الفيلسوف، وكل منها لا يقوم إلا بسامع أو معين. •••
وإذا أردنا أن نشمل بالكلام في الروح أحاديث القائلين بتحضير الأرواح؛ فالأسئلة هنا تتوارد من أصحاب الدين كما تتوارد من أصحاب العلم وأصحاب الفلسفة.
فلك أن تسأل: هل السيطرة على الأرواح مسألة قدسية إلهية؟ أو هي مسألة آلية صناعية؟
إن كانت قدسية إلهية فما هذه الآلات والأشعة والمصورات والمحركات؟ وما هذا الارتباط بين تحضير الأرواح الحديث والمخترعات الحديثة؟ وما هذه السيطرة على الأرواح بسلطان تلك الآلات والمخترعات في أيدي قوم لم تعرف عنهم قداسة ضمير أو رياضة نسك وصلاح؟
وإن كانت صناعية فأي تغليب للمادة على الروح أقوى من هذا التغليب الذي ينوط كشف الأرواح بتقدم الصناعات والمخترعات؟ ويجعل عالم الروح كعالم المادة تابعا لآلة تدار أو مخترع جديد لم يكن معروفا قبل القرن العشرين؟ وكيف نفسر أن عالم الروح كله لم يستطع بجهوده وبواعثه أن ينفذ إلى عالم المادة، وأن عالم المادة استطاع ببعض الأجهزة أن ينفذ إلى عالم الروح؟ وهل سعت الأرواح إلينا فعجزت في مسعاها؟ أو هي لم تسع قط ونحن الذين أرغمناها على الظهور لنا والتحدث إلينا؟ وما معنى قدرتنا وعجزها في هذه الجهود التي لا قوة لنا فيها لغير أدوات التحضير؟ •••
وإلى هنا خصصنا الروح بالمعنى الذي يقصد به قوام الحياة - أو قوام الحياة والعقل - في الشخصية الإنسانية.
ولكن الروح عممت في القرآن لغير هذا المعنى، فسمي جبريل بالروح الأمين، ونسبت إلى الله روح بمعنى الرحمة تارة وبمعنى القوة أو الحياة تارة، وبمعنى العلم القدسي في غير هذه المواضع:
رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ،
3
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا .
4
وبهذه المعاني كلها ترتفع الروح من الوجود المادي إلى الوجود المنزه عن المادة وخصائصها، وقد تلحق بالوجود الإلهي الذي لا شبيه له في الموجودات.
ولكن الاصطلاح الذي لا يتعرض أصحابه للحصر والتحقيق يطلق الروح أحيانا على معنى الحياة في كل ذي حياة فيقولون: «كل ذي روح» ويقصدون به عالم الحيوان، ويجمعون بين الروح والنفس في معنى واحد، ثم ينحلون النبات نفسا ويفرقون بينها وبين نفس الحيوان ونفس الإنسان ببعض الخصائص التي تجعل معنى الكائنات «النفسية» أحيانا بمعنى الكائنات العضوية في اصطلاح العلم الحديث.
والذين يطلقون الاصطلاح هذا الإطلاق فيهم المؤمنون بالدين، وفيهم من تقدم الأديان الكتابية، وفيهم من ظهر بعدها وأنكرها كما ينكرها الدهريون الذين قالوا: إنها حياتنا الدنيا نموت فيها ونحيا!
فصاحب الهدية السعيدية المولوي محمد فضل الماتريدي يلخص معاني النفس فيقول: «إن المركب الذي له مزاج وليس من المعدنيات يكون ذا نفس أرضية، والنفس الأرضية إما نفس نباتية أو نفس حيوانية أو نفس ناطقة ... وعرفوا النفس النباتية بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي من حيث يتغذى وينمو.»
ثم يقول عن النفس الإنسانية: «إن النفس جوهر مجرد واحد ولها وجه إلى البدن، ويجب أن يكون هذا الوجه غير قابل لأثر من جنس مقتضى طبيعة البدن، ووجه إلى المبادئ العالية، ويجب أن يكون دائم القبول عما هناك والتأثير منه - فمن الجهة السفلية يتولد الأخلاق؛ لأنها تؤثر في البدن الموضوع لتصرفها مكملة إياه تأثيرا اختياريا وتسمى قوة عملية وعقلا عمليا، ومن الجهة الفوقانية يتولد العلوم؛ لأنها تتأثر عما فوقها مستكملة في جوهرها بحسب استعدادها وتسمى قوة نظرية وعقلا نظريا، فالقوة النظرية من شأنها أن تنطبع بالصورة الكلية المجردة من المادة، فإن كانت مجردة فلا يحتاج في أخذها إلى تجريدها، وإن لم تكن فتصير النفس مجردة بتجريدها حتى لا يبقى فيها من علائق المادة ...»
فإذا أغضينا عن فوارق الأسلوب ففي هذا الكلام مواطن اتفاق كثيرة بين الأقدمين والمحدثين، وبين الفلاسفة والعلماء، وبين أصحاب الدين وغيرهم من المفكرين.
فجميع هؤلاء متفقون على التفرقة بين الجسد العضوي، والجسد الذي لا تعضي فيه.
وجميع هؤلاء متفقون على إلحاق النبات بعالم الحياة في خصائصها التي تميزها من المادة على الإطلاق.
وجميع هؤلاء متفقون على أن «النطق» أو «العقل» خاصة إنسانية تميز الإنسان من الحيوان.
ولكنهم إذا جاءوا إلى الصفة التي تكسب الحي قدرة المعرفة وقع بينهم أكبر اختلاف يقع بين مختلفين.
فتوزع القوى المدركة في النفس على حسب الاتجاه العلوي أو السفلي كلام يسيغه بعض الفلاسفة وبعض المتكلمين، ولا يسيغه الآخرون.
وتدرج القوة العاقلة من الحيوان إلى الإنسان كلام ينكره الدينيون، ولا يتفق عليه علماء الطبيعة الذين يجعلون العقل من عنصر غير عنصر الغريزة أو البداهة الحيوانية.
وينتهون جميعا إلى «علم قليل» في هذا المبحث العويص الذي لا يدانيه في اعتياصه مبحث آخر من مباحث الطبيعة أو ما وراء الطبيعة.
ولسنا نسرد هذه الخلافات لنقطع فيها بقول فصل لا خلاف عليه، فليس إلى ذلك من سبيل.
ولسنا كذلك نسردها لنعود فيها إلى تلخيص القول في الخالق والمخلوقات ومكان الروح والحياة من تلك المخلوقات، فهذا بحث عرضنا له عند الكلام على وجود الله بما اتسع له المقام.
ولكننا نسردها ونكتفي بمجرد سردها؛ لأن مجرد السرد كاف لبيان إعجاز القرآن في وضع هذه المعضلة موضعها الصحيح بين معضلات الفلسفة الكبرى في جميع الأزمان.
فالرجل الأمي الذي تعلم من البادية كلها غاية علمها، أو تعلم من عصره كله غاية علمه، لا يتأتى له أن يبسط أمامه مشكلات العقل في حقائق القوة التي تقوم بها حياة الشخصية الإنسانية أو يقوم بها تفكيرها، ثم يحيط بما فيها من العقد وما يرد عليها من الأشكال والاستدراك، وما تنفرد به من المغلقات بين مسألة كالمسألة الإلهية أو كمسألة الوجود بجملته في السر والعلانية .
فإذا تتبع معضلة الروح إلى مداها، وعلم غاية ما يتاح للإنسان أن يستقصيه من حقيقتها، فما يعلم ذلك بوحي البادية أو بوحي القرن السادس أو السابع للميلاد، وإنما يعلمه بوحي من الله.
القدر
يظهر أن الإيمان بالقدر ملازم للإيمان بالمعبود منذ أقدم العصور.
فقبل الأديان الكتابية، وقبل الأديان الكبرى التي آمنت بها أمم الحضارة في العصور القديمة، كان الإنسان في جهالته الأولى يؤمن بالأرباب والأرواح ويعبدها؛ لأنها تتصرف في شئونه وتمنحه بعض ما يحب وتبتليه ببعض ما يكره، وتتدخل بإرادتها فيما يريد وما لا يريد.
فلم يكن في وسعه أن يجهل منذ أقدم القدم أنه محدود الحرية، مغلوب الإرادة، محتاج إلى رياضة القوى التي تحيط به وتملك إعطاءه ومنعه تارة بالقرابين والصلوات، وتارة بالرقى والتعاويذ.
ينتظر المطر فلا يسقط المطر، ويخرج إلى الصيد فيجده تارة على وفرة وتارة على نزارة، ولا يجده حيث ابتغاه تارات، فيعلم أنه خاضع لإرادة تقدر له نصيبه من النجاح والخيبة، ويعلم أن إرادته وحده ليست هي الشيء الوحيد فيما يشتهيه أو فيما يخشاه.
ذلك هو القدر في معناه الساذج القديم.
ولكنه قدر لا يستلزم في خلد الهمجي الأول نظاما مرسوما لتدبير الأكوان ولا خطة مقررة لتوجيه الإنسان، ذلك فهم للقدر لا يتأتى قبل فهم الكون أو فهم الظواهر الطبيعية وما يربط بعضها ببعض من القوانين أو العلاقات.
وكل ما كان يستلزمه فهم القدر على النحو الذي تخيله الهمجي الأول أنه سيطرة مرهوبة تملك الإنعام والحرمان، وتتحكم في الإنسان تحكم القوي الذي يمضي على هواه، ولا يعرف قانونا يتبعه فيما ينكره أو فيما يرضاه.
وربما خطر للهمجي أن الأرباب أو الأرواح التي يعبدها تلتذ تسخيره وتخويفه ويحلو لها أن تذله وتعتز بقوتها عليه، فهو لا يعرف ما تريد ولا ما ينبغي أن تريد، ولكنه يعرف أنها في حاجة إلى التمليق والمداهنة والاسترضاء؛ لتعطيه ما يريد. •••
ولما أدرك الإنسان شيئا من نظام الأكوان ترقى بالقدر من معنى الهوى الجامح إلى معنى التنظيم والتدبير، وأدخل في سلطان القدر كل موجود في الأرض والسماء، ومنها الإنسان، بل منها الآلهة والأرباب قبل الإنسان.
فالهنود الأقدمون كانوا يؤمنون بسيطرة «الكارما» أو القدر على الزمان والمكان وعلى الخالق والمخلوق، وأنه يعيد الكون مرة بعد مرة على نظام واحد يتكرر فيه كل موجود من أكبر الكواكب إلى أصغر دقائق الأجسام، ولا حيلة للقدر نفسه في تغيير شيء من هذه الأشياء؛ لأنه لا يعي ما يفعل، بل يقع منه الفعل كما ينبغي أن يقع ولا بد له من الوقوع، وكلما تمت دورة من دورات الوجود كان تمامها نهاية الوجود وبداية الفناء، ويبقى القدر مع هذا ليعيد الفناء وجودا متكررا متجددا على النحو الذي ابتدأ منه وانتهى إليه. •••
والبابليون كانوا كما نعلم أصحاب نجوم وأرصاد، فعرفوا الإيمان بالقدر على ما يظهر من طريق الإيمان بالتنجيم.
لأنهم آمنوا بسيطرة الكواكب على مقادير الأحياء، وغير الأحياء، فكل مولود يولد فإنما تكون ولادته تحت طالع من الطوالع التي تتعلق بكوكب من كواكب السماء، والأرض نفسها وجدت تحت طالع من هذه الطوالع زعموا أنه طالع الشمس في برج الحمل، ثم تقاسمت الكواكب خلائق الأرض وأيامها ومواقيت الزرع والعمل فيها، فلا يجري في الأرض حدث من الأحداث إلا بحساب مرقوم في سجل الأفلاك والبروج.
وكانوا يعتقدون بالسعود والنحوس، فمن النجوم ما يسعد ويعطي، ومنها ما يشقي ويحرم، ولا مهرب للإنسان من طالعه الذي يلاحقه بالسعد أو بالنحس مدى حياته، ولكن المنجمين قد يعلمون مجرى هذه الطوالع فيعالجونها بالحساب كما نعالج قوانين الطبيعة اليوم بما نعلم من أحوالها وما نملك من توجيه تلك الأحوال إلى جانب النفع دون جانب الإضرار. •••
ومن الراجح جدا أن القول بالثنوية - أو نسبة أقدار الوجود إلى مشيئة ربين اثنين - إنما كان حلا لمشكلة القدر عند حكماء المجوس الأقدمين، بعد أن بلغوا بصفات الإله الأكبر مبلغا لا يوافق إرادة النقص ولا إرادة الشقاء.
فجعلوا تقدير الخير لإله، وتقدير الشر لإله، وقسموا العالم شطرين بين النور والظلام، وبين الإيجاد والإفناء، وحدوا قدرة الخير؛ ليتجنبوا القول بأن إله الخير يريد الشر ويجريه في قضائه على العباد. •••
أما المصريون الأقدمون فكانوا وسطا بين الإيمان بحرية الإنسان والإيمان بسيطرة الأرباب؛ لأنهم آمنوا بالثواب والعقاب في العالم الآخر، فكان إيمانهم هذا كالإيمان بأن الإنسان يعمل، وأن الأرباب تتولى جزاءه على عمله بعد ذلك، فهي قادرة لا شك في قدرتها، ولكن الإنسان قادر على أن يعمل ما يرضيها ويستحق ثوابها، أو ما يغضبها ويستحق عقابها، وقد جاء في صلواتهم ما يدل على تصريف الآلهة أحوال العالم وأسباب الحياة ولكن الكلام في التقدير عندهم أقل ما عرف في أديان الزمن القديم. •••
واقتبس اليونان شيئا من البابليين وشيئا من المصريين: اقتبسوا التنجيم وطوالع الكواكب من بابل، واقتبسوا عقيدة الثواب والعقاب من مصر، ولكنهم لم يحفلوا - أو يستطيعوا أن يحفلوا - كما فعل المصريون بإعداد الأجساد للحياة الأخرى، وتزويدها بما تحتاج إليه في تلك الحياة من مقومات البقاء.
وقد كان القدر عندهم غالبا على الآلهة والبشر على السواء، وكانوا كثيرا ما يصورونه في أساطيرهم ورواياتهم غاشما ظالما يتجنى الذنوب على الناس، ويستدرجهم إلى الزلل والغلط؛ ليوقع بهم ما يحلو له من العقاب، وكانت عندهم للنقمة ربة يسمونها «نمسيس» تأخذ الجار بذنب الجار، وتقتص من الأبناء والأحفاد لجرائر الآباء والأجداد، وتلاحقهم بالغضب ملاحقة اللدد والإصرار من مكان إلى مكان، ومن جيل إلى جيل.
وكانت صورة «زيوس» رب الأرباب في شعر هوميروس أقرب إلى الجماح والكيد وإلى سوء النية الذي يغريه بإذلال البشر وترويعهم وأن ينفس عليهم حظوظهم ويردهم إلى القناعة والصغار، ثم ترقى به الشاعر هزيود إلى نمط من العدل في محاسبة الناس بميزان يزن الحساب في ميزان الحسنات والسيئات، فيعطف على من أحسن ويسخط على من أساء. •••
ولكن المساهمة في مسألة القضاء والقدر تحسب لليونان في ميدان الفلسفة والتفكير ولا تحسب في ميدان الدين والعقيدة؛ لأنهم طرقوا باب البحث في هذه المسألة فجاءوا بخلاصة الأقوال التي تلاحقت في مباحث الفلاسفة بعدهم إلى العصر الأخير، ولا نعني باليونان هنا يونان السلالة والوطن، وإنما نعني بهم كل من تشملهم الثقافة اليونانية في وطنهم وفي غيره من الأوطان.
وأول ما يتجه الذهن من الفلسفة اليونانية إلى رأي الحكيمين الكبيرين اللذين يحيطان بأطراف الموضوعات في أكثر مسائل التفكير؛ وهما: أفلاطون الملقب بالإلهي، وأرسطو الملقب بالمعلم الأول!
فأفلاطون يتابع أستاذه سقراط بعض المتابعة في نسبة الشر إلى الجهل وقلة المعرفة، ويرى أن الإنسان لا يختار الشر وهو يعرفه، بل يساق إليه بجهله أو بعوارض المرض والفساد فيه، ولكنه لا يساق إليه بتقدير الآلهة؛ لأن الآلهة خير لا يصدر عنها إلا الخير، وإنما يساق إليه باعتراض الكثافة المادية - أو الهيولى - في سبيل مطالبه الروحية، وأن هذه الكثافة المادية لازمة - مع هذا - لتمحيص الخير وتحقيق معناه؛ فإن الحياة الإنسانية التي تكون خيرة؛ لأنها كذلك ولا يمكن أن تكون غير ذلك ليست بخير يغبط عليه الإنسان، ولكنها تكون خيرة لها فضل في خيرها إذا اعترضها الشر فجاهدته وانتصرت عليه في هذه المجاهدة، فلا خير في الدنيا إذا زال منها الشر بالنظر إلى الإنسان.
وكل شيء من أشياء هذا العالم له - في رأي أفلاطون - صورة مثالية أو صورة كاملة في عقل الإله، فهذه الأشياء الموجودة في الحس هي محاولة لمحاكاة صورها الخالدة التي لا نقص فيها؛ وإنما يشوبها النقص في عالم الحس لاعتراض المادة دون تحقيق الصورة المثلى، وقد تجري محاولة الخلق على أيدي أرواح دون الله في القدرة والخير فيظهر النقص في عملها؛ لأنها لم تبلغ مع الإله كماله المطلق المنزه عن الشرور.
فالشر موجود في هذا العالم، ولكنه ليس من تقدير الإله، ووجوده لازم مع وجود الخير؛ لأن الخير الاضطراري لا قيمة له، ولا دلالة فيه على فضيلة فاعلة، وحرية الإنسان في طلب الكمال لا يحدها قدر مقدور من الإله الأعظم، بل تحدها عوائق الكثافة المادية أو الهيولى، وهي كذلك عائق في سبيل تحقيق الكمال الذي يريده الله. •••
ومذهب أرسطو في القدر يلائم مذهبه في صفة الإله؛ فإن إله أرسطو بمعزل عن الكون وعن كل ما فيه من حي وجماد، فلا يقدر له أمرا ولا التقدير من شأنه الذي يوافق صفة الكمال المطلق في رأي المعلم الأول؛ لأن الكامل المطلق الكمال لا يحتاج إلى شيء غير ذاته، فلا يريد شيئا ولا يفكر في شيء غير تلك الذات، وما كانت علاقة الإله بالكون إلا علاقة المحرك الأول الذي لا يتحرك؛ لأنه لو تحرك للزم أن نبحث عن مبدأ حركته وسببها وغايته منها، وكل أولئك لا يتفق عند أرسطو مع صفات الكائن الكامل الذي لا بداية له ولا نهاية، ولا غاية له من وراء عمل يعمله، بل لا عمل له غير أن يعقل ذاته في نعيم سرمدي لا يعرفه العاملون؛ لأن العمل حركة واختلاف من حال إلى حال، ولا اختلاف في طبيعة الكائن الذي بلغ التمام في أحسن الأحوال، وليس المراد بأنه هو المحرك الأول أنه عمل شيئا لتحريك جميع هذه المتحركات، وإنما المراد به أنه مصدر العقل وأن العقل يوحي إلى الأشياء أن تتسامى إلى مصدرها فتتحرك من صورة إلى صورة في طلب الكمال؛ لأنها هي المحتاجة إلى الحركة واستكمال الصور في ارتقائها، دون صاحب الصورة المثلى أو الصورة المحض التي لا تمتزج بالهيولى أي امتزاج.
ومذهب أرسطو في القدر يلائم هذا المذهب في صورة الإله، فلا قدر هناك ولا تقدير، وكل إنسان حر فيما يختاره لنفسه، فإن لم يستطع أن يفعل فهو على الأقل مستطيع أن يمتنع، وغاية الإنسان وغير الإنسان من هذه الكائنات أن تحقق ما ينبغي لوجودها على الوجه الذي يناسب ذلك الوجود. •••
ولفلاسفة اليونان - غير أفلاطون وأرسطو - مذاهب في القدر تتراوح بين مذهب الجبر ومذهب الحرية، وتتوسط بينهما أحيانا في القول بالاضطرار أو القول بالاختيار.
فعند ديمقريطس أن الموجودات كلها تتألف من الذرات، وأن الإنسان مثلها ذرات؛ تتألف فيحيا، وتندثر فيموت.
وعند هيرقليطس أن النظام قوام الأشياء، وأن الاختلاف ضرورة من ضرورات النظام، وأن العدل في طبيعة الوجود يعود بالأشياء إلى قوامها كلما طغى مزاج منها على مزاج، وأن الشر من صفات الأجزاء وليس من صفات الكل المحيط بجميع هذه الأجزاء ، فيخضع الإنسان له؛ لأنه جزء ناقص لا فكاك له من ضرورة النقص المحيق به وبغيره، ولا حيلة له في ذلك ولا للإله أو «الكلمة» التي ترادف عندهم معنى الإله، ولكنها تطرد مع قضاء النظام الشامل وتجري معه مجراه، إلى أن يدركها الاختلال فيردها سواء العدل إلى الاعتدال.
وعند فيثاغوراس كل شيء محسوب؛ لأن العدد هو قوام الوجود، فما من صفة نصف بها الموجودات إلا نراها مفارقة لها في طور من أطوارها، ما عدا العدد؛ فهو الصفة التي لا تفارق موجودا من الموجودات في طور من الأطوار، ولا يتضح رأي فيثاغوراس فيمن يحسب الحساب لتركيب هذه الأعداد، لكنه مقارب لمذهب أهل الهند في تعليق كل شيء بالحساب السرمدي أو القانون الأبدي المسمى عندهم «بالكارما» كما تقدم، ومرجعه إليه في مسألة القدر كمرجعه إليهم في مذهبه كله على التعميم.
وعند زينون وأتباعه الرواقيين أن الناموس يقضي قضاءه في جميع المخلوقات، فقولهم بالجبر أرجح جدا من قولهم بالاختيار.
وعند أبيقور أن الذرات هي قوام الموجودات، وأن الذرات إذا تركبت في روح الإنسان ملك بعض الحرية التي لا يملكها الجماد؛ لأن ذرات الروح ألطف من ذرات الجسم الجامد وأقدر منها على التصرف والاختيار، ولكن الآلهة لا تقدر للناس عند الأبيقوريين؛ لأنها سعيدة في سماواتها، ولا حاجة بالسعيد إلى التفكير في نفسه ولا في غيره! أما القدر الأعمى كما تمثله أساطير اليونان فهو عند أبيقور خرافة أصعب على التصديق من خرافات الأمساخ والغيلان، فهناك قدر في النظام لا يأتي من الأرباب ولا من ربة القضاء الأعمى، ولكنه يأتي من طبيعة الأشياء بمقدار ما فيها من تناسق الأجزاء. •••
وأهم الفلاسفة بعد أفلاطون وأرسطو رأيا في موضوع القضاء والقدر هو بلا ريب أفلوطين، إمام الأفلاطونية الحديثة الذي ولد بإقليم أسيوط واستفاد معظم دراساته من مدرسة الإسكندرية، وإنما يهم رأي أفلوطين في هذا الموضوع؛ لأنه على اتصال شديد بالمذاهب الدينية ومذاهب التصوف على الخصوص بين أصحاب الأديان.
ويؤخذ من أقوال أفلوطين المتعددة أن الإنسان في حياته الأرضية خاضع لقضاء سابق من أزل الآزال، وأنه يعاد إلى الحياة مرات كثيرة ويجزى في كل مرة على أعماله في حياته السابقة جزاء العين بالعين والسن بالسن والمثل بالمثل قيد الشعرة في كل جليل ودقيق، فمن فقأ عين إنسان فقئت عينه في دور من أدوار الحياة المتلاحقة في عالم الجسد، ومن ضرب أمه عاد إلى الحياة في جسد امرأة، وولد له البنون، واقتص منه أحدهم بضربه كتلك الضربة، يكفر بها عما جناه.
ولكن من الذي يقدر هذا القدر ويكتبه في سجله للحساب والقصاص؟
ليس هو الإله الأحد؛ لأن مذهب أفلوطين في الإله على غرار مذهب أرسطو في التنزيه والتجريد، ويتجاوزه كثيرا في عزل الوجود الإلهي عن هذا الوجود المحسوس.
فعند أفلوطين أن «الأحد» أرفع من الوجود، وأرفع من الوعي، وأرفع من التقدير، وأنه لا يحس ذاته؛ لأنه واحد لا يتجزأ، فلا يكون فيه بعض يتأمل بعضا، كما يحدث في حالة الإحساس.
وعنده أن المادة أو الهيولى لا تعقل ولا تقدر، ولا تقيم ميزان الحساب.
فإذا أردنا أن نسمي القدر في مذهب أفلوطين باسم مطابق لمراده فهو على الأصح قدر الضرورة التي لا محيص عنها في عالم الأرواح، أو في عالم الأجساد.
فالخلق يصدر من الله ضرورة؛ لأن الخالق يفيض بالإنعام، ضرورة من ضرورات الخير التي لا تنفصل عن آثارها، ولا بد لها من أثر.
والأرواح تصدر من الخالق ضرورة، على طبقات تتعالى وتتدانى، على حسب اقترابها من مصدرها الأصيل.
وكل روح يتصل بالمادة حتما؛ لأنه يقتبس طبيعة الخلق من مصدره الأول فيمتزج بالمادة؛ ليحكي فيها قدرة الخالق على الإعطاء والإنعام والتكوين.
ومتى اتصل بالمادة فهو يغالبها وتغالبه، وينتصر عليها أو تنتصر عليه.
فإذا غلبها ارتفع حتما في معارج الروح، وإذا غلبته بقي حتما في إرهاق الهيولى وحدث له حتما ما يحدث لكل روح وهيولى في مثل ذلك المزيج، كما يحدث التحول حتما في مزيج العناصر المادية، كلما امتزجت على نحو مقدور. •••
ومن المناسب أن نستطرد في تلخيص آراء الفلاسفة في القدر من ذلك العصر إلى العصر الحديث، قبل أن ننتقل إلى مذاهب الأديان ومذاهب العلماء الذين عرضوا للمسألة من جانب العلوم الطبيعية كما عرفت في القرن العشرين.
ونتخطى هنا الفلاسفة الدينيين؛ لنعود إليهم بعد الكلام على مذاهب الأديان، ونبدأ بالفلاسفة الذين عرضوا للمسألة من جانب البحث الفلسفي بمعزل عن المذاهب الدينية.
فالفيلسوف الإنجليزي «توماس هوب» يرى أن الإنسان يعمل ما يريد، ولكنه لا يريد ما يريد، بل يريد ما فرضته عليه الوراثة، وطبيعة البيئة، وعادات المكان والزمان، فهو بين الرغبة والامتناع يقدم أو يحجم، وكل إقدام أو إحجام فله باعث مفروض عليه، وما الإرادة إلا الرغبة الأخيرة من هذه الرغبات تأتي في النهاية مسبوقة بأسباب بعد أسباب.
والفيلسوف الفرنسي «ديكارت» يقول: إن الجسد محكوم بقوانين الطبيعة كسائر الأجسام المادية، ولكن الروح طليقة من سلطان هذه القوانين وعليها أن تجاهد الجسد، وتلتمس العون من الله بالمعرفة والقداسة في هذا الجهاد.
ومن تلاميذه من يقول: إن الإنسان حرف في كل فعل من أفعاله، ولكن الله يعلم منذ الأزل ما سيفعله كل إنسان؛ لأنه عليم خبير.
ويرى سبنوزا أن كل شيء يقع في الدنيا فلا بد أن يقع كما وقع، ولا يتخيل العقل وقوعه على نحو آخر؛ لأن كل شيء يصدر من طبيعة «الجوهر السرمدي»؛ وهو الله.
وما في الدنيا من خير وشر على السواء هو من إرادة الله، ولكنه يبدو لنا شرا؛ لأننا محدودون، ننقص من ناحية، ونتلقى الشر من حيث ننقض، أما الجوهر السرمدي فلا يعرض له النقص ولا تتصل به الأشياء إلا على وجه الكمال.
ومذهب ليبنتز يطابق مذهبه المعروف عن الوحدات، فكل موجود في الكون «وحدة» مستقلة لا تتأثر بوحدة أخرى، ولكنها قد تتفق في الحركة كما تتفق الساعات في الإشارة إلى الوقت، دون أن تتأثر ساعة منها بغيرها، وكل وحدة من هذه الوحدات، فهي محتوية على ذاتها، محاكية في وجودها للوجود الأعلى؛ وهو الله ... ولكنها تتفاوت في الكمال على حسب التفاوت في هذه المحاكاة، فإذا أصابها النقص فهو يصيبها من داخلها ولا يصيبها مما هو خارج عنها، وهي هي مناط قضائها وقدرها بغير سلطان عليها من سائر الموجودات، وكل ما هنالك أن الشر يعرض لها؛ لأنها ناقصة، ويقل فيها كلما زاد نصيبها في محاكاة الله.
والفيلسوف الألماني الكبير «عمانويل كانت» يقرر ضرورة الأسباب في عالم التجارب المحسوسة، ولكنه يرى هنالك عالما أعلى من عالم المحسوس؛ هو عالم الحقائق الأدبية، وحرية الإرادة حقيقة من هذه الحقائق عند الفيلسوف ... فإن لم نجد لها برهانا من ترابط الأسباب في التجارب الحسية فيكفي أن نعلم أن الإيمان بحرية الإرادة لازم لتقرير الأخلاق البشرية والتكاليف الأدبية، ولزومه هذا هو أقوى دليل نستمده من الحس على صدق الإيمان بها، ووجوب العمل على مقتضى هذا الإيمان.
ويتلخص مذهب هيجل كله في الفلسفة التاريخية التي تقرر «أن تاريخ العالم بأجمعه إنما هو ترويض الإرادة الطبيعية الجامحة حتى تخضع من ثم لقاعدة كونية عامة تتولد منها الحرية الذاتية».
فالقوى الطبيعية جامحة لا تعرف الحدود، وخضوع هذه القوى لقاعدة عامة هو الذي يكف هذا الجماح، ويخلق الحرية الأدبية، وفحوى ذلك أن الإنسان مسوق إلى الحرية بسلطان ذلك القانون، فهو يتلقى الحرية نفسها من طريق الاضطرار.
ويقوم مذهب شوبنهور على الإرادة والفكرة، ولكن الإرادة عنده هي مصدر الشر كله في الكون وفي الإنسان، والإرادة في الكون توحي إلى إرادة الإنسان أن يستأثر لنفسه بالمتعة ويعاني ما يعانيه من الطلب والكفاح، ولا يزال أسيرا لهذه الإرادة التي تعزله عن كل ما حوله حتى يخلص إلى عالم الفكرة فينجو من الأثرة الفردية، وينتقل إلى عالم السكينة و«العموم» الذي لا تنازع فيه بين أجزاء وأجزاء، ولا بين إرادة وإرادة.
فكلما كانت هناك إرادة فهناك شر، وكل تقدير في رأيه فهو على هذا تقدير شرور لا يتأتى الفكاك منه بغير الخروج من عالم التقدير. •••
ولا يزال فلاسفة العصر يخوضون في مباحث هذا الموضوع على تفاوت كبير بين القول بالجبر، والقول بالحرية الإنسانية، ومنهم من يقول بأن الإنسان يشترك في التقدير، ويخضع له؛ لأنه جزء من عناصر الطبيعة التي تفعل فعلها في الأحداث الكونية، ولا يقتصر أمرها كله على الانفصال.
ولكن الفلسفة لا تستأثر بمباحث هذا الموضوع في القرون الأخيرة؛ لأن نهضة العلوم الطبيعية قد أدخلت هذه المباحث في نطاقها، ولا سيما علم النفس الذي يعتمد على تجارب تلك العلوم.
وقد كان أول مدخل للعلوم الطبيعية في هذه المباحث الفلسفية من جانب علم الفلك، أو جانب الرياضة على الإجمال، بعد القول بدوران الأرض حول الشمس واعتبارها سيارا من السيارات الشمسية يجري عليها ما يجري على غيرها من أفلاك السماء ولا تخص بالوقوف في مركز الكون كله سواء في المكان أو في جلالة الشأن وحساب الخلق والتقدير.
فأخذ العلماء منذ القرن السادس عشر يقررون أن «القانون الآلي» هو ملاك النظام في هذا الوجود، وأن هذا القانون عام شامل لا يأذن باختلاف ولا استثناء، فلا محل فيه لتصرف الأقدار بالتبديل والتحويل.
ولكن «القانون الآلي» مع هذا لم يبطل القول بالعناية الإلهية أو بالتقدير الإلهي عند المؤمنين من العلماء الرياضيين أو الطبيعيين الذين يقبلون القول بالنظم الإلهية، والقوانين الشاملة لفلك الأرض وسائر الأفلاك.
فكان ديكارت يفصل بين عالم المادة وعالم الروح، ويرجع بقوانين الكون الحسي إلى المادة والحركة، ولكنه يعزل عالم الروح عن سلطان هذه القوانين.
وكان نيوتن يفسر حركات الأفلاك بقانون الجاذبية وبعض قوانين الحركة، ولكنه يسمي الجاذبية نفسها روحا
spirit
تسري بين الأجرام سريان الأرواح الخفية، وإن كانت لها آثار تقدر وتقاس.
ولما ظهر علم النفس على النهج الحديث لم يحسم هذا الخلاف بين الجبر والحرية الإنسانية.
فالقائلون بالمادة وحدها قالوا: إن أعمال الإنسان كلها آلية يستطاع تفسيرها بالتفاعل بين وظائف البدن وأخلاطه، ولا فرق في أساس هذا التفسير بين تصرف الإنسان وتصرف الحيوان.
والقائلون بالعقل أنكروا إمكان تفسير الظواهر العقلية كلها بالحركات الآلية التي تعمل في الأجسام، وقالوا بحرية العقل أو بحرية الإرادة الإنسانية في كثير من الأعمال.
وحلت الحتمية الحديثة
Determinism
محل الجبرية القديمة
Fatalism
في اصطلاح العلماء.
فالقائلون بالحتمية يقولون بها؛ لأنهم يؤمنون بالنظم الآلية وحدها ولا يؤمنون بإرادة إلهية تتعرض لتلك النظم بالتبديل والتحويل.
ومن ثم أصبح القول بالحتمية مناقضا للقول بالجبرية في كلام علماء الأديان؛ لأن الجبرية تحصر الإرادة كلها في الإله المعبود، أما الحتمية فهي على الأقل لا تستلزم وجود إله إلى جانب القوانين التي يفسرون بها حركات الوجود.
وتعاقبت الكشوف في ميادين العلوم الطبيعية، وكل منها يرجع إلى قانون يزعم أصحابه أنه صالح لتفسير كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة بغير حاجة على الإطلاق إلى مدد مما وراء الطبيعة، ولا فرق في ذلك بين ظواهر المادة العضوية، وظواهر المادة غير العضوية، أو بين الحي والجماد، فكان كل كشف من هذه الكشوف المتعاقبة يرجح بكفة الحتمية على كفة الاختيار من جانب الله، أو من جانب الإنسان.
ثم تقدمت الكشوف الذرية في أوائل القرن العشرين.
فإذا بكشف منها يضرب الحتمية ضربة قاصمة، ويفتح الباب واسعا للقول بالحرية والاختيار.
وذلك هو الكشف الذي جاء به العالم الدنمركي نيلز بوهر
Niels Bohr
صاحب جائزة نوبل للعلوم في سنة 1922.
فمن المعلوم أن الذرة قد وصفت في أقوال العلماء الطبيعيين بأنها منظومة كالمنظومة الشمسية، تشتمل على نواة كالشمس وكهارب تدور في فلك النواة كما تدور السيارات على وجه التمثيل والتقريب، وأن الإشعاع إنما يحدث من انتقال كهرب من فلك عامل إلى فلك آخر أقل منه عملا أو أقل منه في الطاقة على حسب تعبير الطبيعيين.
فجاء بوهر وقرر أن الكهرب يتنقل من فلك إلى فلك بغير قانون معلوم، وأن ألوف التنقلات لا يشبه بعضها بعضا ولا يمكن التنبؤ عن وقوعها ولا عن سبب وقوعها على أي أساس يمكن أن يسمى باسم القانون المطرد المعاد.
وجاء بعده أوجست هيزنبرج العالم الجرماني صاحب جائزة نوبل في سنة 1932 فذهب في إنكار الحتمية مذهبا أبعد من هذا وأفعل في إثارة الشكوك القوية من حولها، فقرر أن التجارب الطبيعية لا تتشابه على الإطلاق ولا تأتي تجربة منها وفاقا للتجربة الأخرى تمام الموافقة، ولو اتحدت الآلات والظروف، وسمى مذهبه هذا «باللاحتمية»
Indeterminacy ؛ لأنه ناقض به قول الحتميين كل المناقضة في صميم تركيب المادة، وهو تركيب الذرة وحركة الإشعاع.
وبلغ من وثوق بعض العلماء بصحة هذه التجارب أن عالما كبيرا كالسير آرثر أدنجتون أعلن أن الأمر فيها قلما يحتمل الخلاف، فقال: «لا أعتقد أن هناك انقساما ذا بال في رأي القائلين بهبوط مذهب الحتمية؛ فإن كان هناك انقسام في هذا الصدد بين المشتغلين بالعلوم فإنما هو انقسام الراضين والآسفين، فأما الآسفون فهم بطبيعة الحال يرجون أن تعود الحتمية إلى مثل مكانها الذي كانت تشغله في العلوم الطبيعية، ولعلهم لا يرجون المستحيل، ولكني لا أرى سببا لتوقع رجعتها في أي شكل وعلى أية صورة.»
ويضاف إلى هذا جميعه أن المادة قد انتهت إلى شعاع، وأن الإشعاع أوشك أن يدخل في حساب الحركة المجردة التي يرصد جانب منها بالحساب ويدق جانبها الأكبر عن الحساب والتخمين. •••
فالحتمية العلمية لا تثبت لقوانين المادة أنها تنفرد بتفسير كل سر من أسرار الطبيعة وكل حركة من حركات الأجسام، ولا تزال تعمل حيث تعمل ومعها متسع كبير للاختيار في أصغر الذرات فضلا عن أعظم الأجرام، وهي لا تمنع المؤمن أن يقول مع العلم كما يقول مع الدين:
عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ،
1
وليس معنى هذا أن الكون يجري على غير نظام، وإنما معناه أن النظام لا يمنع الاختيار ولا يغلق الباب على الإيمان. •••
وإلى هنا ندع العلم والفلسفة في موقفهما الأخير من مسألة القدر، ونعود إلى إجمال هذه المسألة كما عرضت في الأديان الكتابية؛ وهي: الموسوية، والمسيحية، والإسلام. •••
فالكلام على التقدير الإلهي قديم في الكتب اليهودية، وردت الإشارة إليه من أول الأسفار المعتمدة إلى آخرها، ولكن على درجات في أساليب التقدير باختلاف الصورة التي كانوا يفرضونها للإله، أو باختلاف نصيبه عندهم من عظمة المشيئة، وعظمة القدرة، وعظمة الصفات.
وكانت الصورة الأولى للإله عندهم صورة الملك المطلق الذي يريد أن يستأثر لنفسه بالمعرفة والخلود والسلطان، ويكره من الإنسان أن يتسامى إلى منازعته في هذه الصفات، فيبتليه بالعجز والحرمان ويحد من حظوظه في النعمة والحياة.
فالنوع الإنساني على هذه الصورة رعية متمردون يخضعون للقوة، ويتملصون منها بالحيلة والعصيان كلما وجدوا لهم سبيلا إلى التملص والاحتيال.
وعلى هذه الصورة وقعت الخطايا الأولى التي جرت عليهم غضب الله وحرمتهم نعمة الخلود، وهي الأكل من الشجرة، والعيث في الأرض بالفساد.
وقد غضب الله كما جاء في سفر التكوين؛ لأن الإنسان أكل من الشجرة التي نهي عنها، وهي شجرة معرفة الخير والشر، أو شجرة المعرفة الإلهية، فقال الرب الإله: «هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا، عارفا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد ...»
ومن هنا حاقت اللعنة بالإنسان؛ لأنه أكل من الشجرة، وبالمرأة؛ لأنها استمعت إلى غواية الحية، وبالحية؛ لأنها سولت لهما هذا العصيان، وكان قضاء مبرما على نوع الإنسان كله بعد آدم، فقال الرب الإله للحية: «لأنك فعلت هذا؛ ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، وعلى بطنك تسعين، وترابا تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها: هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه. وقال للمرأة تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا: لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك ... بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها؛ لأنك تراب، وإلى تراب تعود.»
ولم يكن الإنسان بالمتمرد الوحيد على إرادة الله؛ فإن أبناء الله سكان السماء - ويراد بهم الملائكة - نظروا إلى بنات الناس فرأوا أنهن حسنات فاتخذوا منهن نساء، وغضب الرب فقال: «لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد؛ لزيغانه، وهو بشر وتكون أيامه مائة وعشرون سنة!»
وبعد ذلك أيضا: «دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا، وهؤلاء هم الجبابرة المشهورون ...!» «فرأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض ، وأن تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف قلبه، فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته: الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء؛ لأني حزنت أنني عملته، وأما نوح فوجد نعمة في عين الرب!»
ويمكن أن يقال على هذا: إن الخطيئة الكبرى هي طموح الإنسان إلى العلم والخلود اللذين استأثر بهما الله، فالله على هذه الصورة مالك يكره من رعاياه أن ينفسوا عليه أسرار الحكم والبقاء، وهو يملك التقدير والتدبير، ولكن كما يملك الحاكم فرض الشرائع وفرض الجزاء والعقاب، وقد يراجع نفسه فيما قضاه فيبطله ويلغيه ويندم عليه، كما يفعل الملوك في سياسة الرعايا المحكومين.
وقد جاء في الأسفار المتعددة كلام صريح عن تقسيم الحظوظ بين الآحاد وبين الشعوب من قبل الميلاد، فمن ذلك تمييز بني إسرائيل على غيرهم وتمييز يعقوب على عيسى، وذرية يعقوب على ذرية عيسى، وكلاهما جنين في بطن أمه ... «وتراحم الولدان في بطنها ... فمضت تسأل الرب، فقال لها الرب: في بطنك أمتان، ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبده صغير».
وترقى الوعاظ والأنبياء في فهم عظمة الله، فدعا أشعيا إلى عبادة الله الذي علم الأشياء منذ القدم وهو «المخبر منذ البدء بالأخير».
ولكن «القدر» لم يزل عند بني إسرائيل مشيئة حاكم يأمر وينهى ويرجع عما أمر به وقضاه، ولم يفهموا القدر قط على أنه نظام شامل للوجود محيط بالأكوان، لا يكل عملا من أعماله إلى الغيب المجهول؛ ليمضي فيه بعد ذلك أو يرجع عنه رجوع الندم وخطأ الحساب.
ففي كتاب أشعيا يوصف الله بأنه جابل الإنسان، وينهى الإنسان عن مراجعته في قضائه؛ لأنه «خزف بين أخزاف الأرض، هل يقول الطين لجابله: ماذا تصنع؟ أو يقول: عملك ليس له يدان؟»
ولكن هذا الخزف يجبل ويعاد جبله ولا يستقر رأي الخزاف على حفظه أو تحطيمه، فيحطم بعد حفظ ويحفظ بعد تحطيم، وكذلك قال أرميا: «قم انزل إلى بيت الفخاري وهناك اسمع كلامي، فنزلت إلى بيت الفخاري وإذا هو يصنع عملا على الدولاب، ففسد الوعاء الذي كان يصنعه من الطين بيد الفخاري، فعاد وعمله وعاء آخر كما حسن في عين الفخاري أن يصنعه، فعاد إلى كلام الرب قائلا: أما أستطيع أن أصنع بكم كهذا بيدي يا بيت إسرائيل، يقول الرب: هو ذا كالطين بين الفخار أنتم كهذا بيدي يا بيت إسرائيل، تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك، فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها، فأندم على الشر الذي قصدت أن أصنع بها، وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس فتفعل الشر في عيني فلا تسمع لصوتي، فأندم على الخير الذي قلت: إني أحسن إليها به.» •••
وربما حسن لليهود أن يتشبثوا بفهم القدر الإلهي على هذه الصورة؛ لأنهم علقوا آمالهم كلها في الخلاص على «إله» يتحيز لهم، ويتحول من الغضب إلى الرضا؛ لإنقاذهم من سطوة أعدائهم، فأصروا على تصوير القدر لأنفسهم بهذه الصورة، على الرغم من تقدم العقيدة الإلهية في عهد الفلسفة وعهد الديانات السرية.
وقد أراحهم هذا الفهم من مشكلة القضاء والقدر عند أصحاب الديانات الأخرى؛ لأن المشكلة إنما تأتي من محاولة التوفيق بين إرادة إلهية، محيطة بكل شيء مقدرة لكل حساب، وبين فعل الإنسان للشر؛ طوعا لتلك الإرادة، فإذا آمن الإنسان بإله يمكن أن يقابله الإنسان بالطاعة والعصيان، ويمكن مع هذا أن يعدل عن العقاب إلى الثواب، وعن الثواب إلى العقاب، فلا مشكلة هناك ولا موجب من ثم لمحاولة التوفيق بين إحاطة القدر بكل كبيرة وصغيرة، وبين حرية الإنسان.
ولهذا سهل على رجل مثل يوسفيوس أن يقول: «إن الأمور كلها تجري بقدر مقدور، ولكنه لا ينتزع من الإنسان حريته في فعل ما يختار؛ لأن الله أيضا شاء أن يمزج بين القدر ومشيئة الإنسان؛ ليتاح له عمل الخير والشر كما يريد.»
وهذا بطبيعة الحال فحوى العقيدة الإسرائيلية من بدايتها الأولى، وهو غير المعنى الذي تصوره فيلون الفيلسوف الإسرائيلي الذي نشأ في الإسكندرية واقتبس عقيدته من الفلسفة وأسرار الديانة المصرية، فإنه يعترف بالشر في الوجود، ولكنه يرجع به إلى امتزاج الروح بالمادة، ومغالبة الحرية بضرورات الهيولى الجسدية، فهو ينقل المسألة من صورة الحاكم والمحكوم إلى صورة المبدأين المختلفين اللذين يقومان على اختلاف العقل والهيولى، ومهما يكن من تشابه بين الرأيين في النتيجة الظاهرة فالمصدر الذي يصدران عنه على أبعد ما يكون المصدران المتعارضان. •••
ثم بدأت الدعوة المسيحية في عصر فيلون ويوسفيوس، وذكر السيد المسيح الأرواح الشريرة التي تسكن جسد الإنسان، ولكنه لم يذكر قط شيئا يدل على أصول الشر التي وردت في الكتب الإسرائيلية الأولى.
وإنما فصلت العقائد القانون الإلهي والخطيئة الإنسانية والكفارة عن هذه الخطيئة على لسان «بولس» الرسول في عظاته ومحاوراته، ولا سيما رسالته المفصلة إلى أهل رومية.
ففي تلك الرسالة يقرر «بولس» الرسول أن أصل الشر في الإنسان هو عصيان آدم أمر ربه وأكله من الشجرة المحرمة، وأن الإنسان يعمل الشر؛ لوراثته هذه الخطيئة من أبيه، ولا كفارة لها غير الموت الذي يحل الجسد منها، ولكنه لا يحل الروح إلا بكفارة أخرى؛ هي كفارة السيد المسيح، فالذين يؤمنون بهذه الكفارة يستحقون الحياة الأبدية، ولكنه لا يقصر ذلك على اليهود أو بني إسرائيل، بل يعم أبناء آدم وحواء أجمعين، فكل وارث للخطيئة يشمله الخلاص بالنعمة الإلهية، وقضاء الله وحده هو الذي يفصل بين الأشرار والأخيار، وهو الذي يختار العباد للخلاص الأبدي أو للهلاك الدائم كما يشاء.
وقد عاد بولس في هذه الرسالة إلى مثل الخزف والخزاف؛ لينفي الظلم عن إرادة الله تعالى، فماذا نقول؟ ألعل عند الله ظلما؟ حاشا لله؛ لأنه يقول لموسى: أرحم من أرحم وأترأف على من أترأف، فإذن ليس الأمر لمن يشاء أو لمن يسعى، بل الله الذي يرحم ... ومن أنت أيها الإنسان حتى تجاوب الله؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها: لماذا صنعتني هكذا؟ أليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان؟ فماذا إن كان الله - وهو يريد أن يظهر غضبه ويبين قوته - احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك، ولكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد ... ليس من اليهود فقط، بل من الأمم أيضا كما يقول في هوشع أيضا: «سأدعو الذي ليس شعبي شعبي، والتي ليست محبوبة محبوبة.»
ولكن المسيحية ظهر فيها بعد بولس الرسول طائفتان من المدافعين عن عقائدها وقضاياها، هما طائفة المجادلين، وطائفة المسوغين أو المعتذرين.
فانصرف المجادلون - أو كادوا - إلى مناقشة أبناء الأمم الأخرى، وانصرف المسوغون - أو كادوا - إلى مناقشة اليهود والمعترضين من المسيحيين.
وكانت أكبر حجة للمجادلين أن الله الكامل لا يسأل عن الشر ولا يحبه، وأن الإنسان إذن هو مصدر الخطيئة وعليه وزر جزائها.
وكانت أكبر حجة للمسوغين على مثال ما تقدم في رسالة بولس الرسول وهي الرجوع إلى الأقوال المشابهة لعقائد المسيحيين في كتب أنبياء بني إسرائيل.
ووجد مع هذا من الآباء المسيحيين من أنكر وراثة الخطيئة، وقرر أن الموت نتيجة طبيعية للحياة، وأن الإنسان يموت ولو لم تقع خطيئة آدم، وأن باب الخلاص مفتوح لكل من تلقى نعمة السماء، وآمن بالسيد المسيح، وأشهر هؤلاء القس البريطاني «بلاجيوس» الذي نشأ في أواخر القرن الرابع، وتنقل بين رومة وإفريقية الشمالية وفلسطين، ونادى بدعوته في كل مكان؛ فأنكرتها مجامع المسيحية كلها في ذلك الحين، ومنها مجمع قرطاجنة ومجمع مليف ومجمع أفسس الثالث الذي ختم القرار في هذه المسائل سنة 431.
وعلى هذا أصبح من الباطل في عرف أصحاب تلك المجامع أن يؤمن المسيحي بأن (1) آدم كان سيموت ولو لم يخطئ. و(2) بأن خطيئة آدم أصابته وحده، ولم تورث بعد في سلالته البشرية. و(3) بأن الأطفال المولودين لهم من البراءة ما كان لآدم قبل اقتراف الخطيئة. و(4) بأن أبناء آدم جميعا يستحقون البعث لمجرد بعث المسيح. و(5) بأن الأطفال يستحقون الحياة الأبدية بغير عماد. و(6) بأن الإنسان قد يخلو من الخطيئة باتباع الوصايا الصالحة، واجتناب الخطايا الممنوعة.
وقد أصدرت هذه المجامع قرارها في عصر القديس أغسطين الفيلسوف المسيحي المشهور، ولم يشهد واحدا منها، ولكنه أقرها جميعا على ما ذهبت إليه، وألف كتابه عن «عقاب الخطيئة وغفرانها»؛ لتوضيح الفكرة من ناحية الدين، ومن ناحية الفلسفة، وخلاصتها: أن آدم كان حرا في مشيئة، فقادته هذه الحرية إلى الخطيئة، وأن أبناءه ورثوا عنه الخطيئة، ولكن العدل الإلهي لم يحرمهم وسيلة الخلاص منها؛ وهي كفارة الصليب!
وليس اعتقاد ذلك بالسهل على الذهن الفلسفي ولو كان له إيمان كإيمان القديس «أغسطين» ... فلم يزل يلقى من جراء التفكير في هذا الاعتقاد أو في هذه العقدة عنتا شديدا عبر عنه في كتاب الاعترافات؛ حيث قال: «ولكنني إلى ذلك الحين، وإن كنت أؤمن بأنك أنت يا ربنا الإله الحق الذي لم يخلق أرواحنا فحسب، بل خلق أجسادنا، ولم يخلق أرواحنا وأجسادنا فحسب، بل خلق جميع الكائنات وجميع الأشياء منزها عن النقص والتبدل، وعن كل اختلاف وتحول، إلا أنني لم أكن أفهم بغير مشقة أو غموض سبب وجود الشر في العالم، وأرهقت نفسي لكي أفقه ما كنت قد سمعته من أن الإرادة الحرة كانت هي سبب العمل السيئ منا، وهي سبب آلامنا وأوجاعنا، فلم أقدر على إدراك ذلك إدراكا جليا لا يشوبه الغموض، وكلما حاولت أن أنشل نفسي وأرتفع برؤياي من تلك الهاوية عدت إليها فغرقت فيها، ثم أكرر المحاولة وأكرر العودة إليها، ولكن هذه الجهود رفعتني قليلا إلى ضيائك حتى عرفت أنني أريد كما أنني أحيا، وأنني عندما أقبل شيئا أو أرفضه فإنما أنا نفسي الذي أقبل أو أرفض ولا أحد سواي، وبدا لي حينئذ أن هذا هو سبب الخطيئة، وكل ما صنعته على خلاف مشيئتي أدركت إذن أنني أحتمله أكثر مما أفعله، وأنه ليس في الواقع غلطتي، بل عقابي، وأرى لعدلك معترفا به أنني لم أعاقب ظلما وبغير جريرة، إلا أنني أثوب فأقول: ومن الذي خلقني هكذا؟ أليس هو الله الذي لا يوصف بأنه كريم فحسب، بل هو الكرم المحض والخير كله؟ فمن أين لي إذن أن أريد الشر ولا أريد الخير فأعاقب عدلا بهذا؟ من أودع ذلك طبيعتي وغرس فيها بذور المرارة وقد خلقت بيد الله الحلو الذي لا مرارة فيه ؟ وإن كان الشيطان هو السبب فمن أين أتى الشيطان؟ وإن كان ذلك الشيطان أيضا قد انحدر بطبيعته السيئة من ملك كريم إلى شيطان رجيم فمن أين جاءته تلك المشيئة التي عكست طبيعته فجعلته شيطانا؟»
ولكنه اعتقد بعد هذا القلق أنه استراح من وسواسه هذا بالتوفيق بين النقائض على النحو الذي قدمناه، وكان مدار راحته النفسية أن سبق العلم بعمل الأخيار وعمل الأشرار صفة لا تنفصل عن الذات الإلهية، وأن الله علم ما سيكون كما سيكون، ولا بد أن يعلمه العلم الصحيح، ويقدر تقديره على حسب علمه المحيط بجميع الكائنات.
وأكبر الفلاسفة الدينيين في المسيحية بعد القديس أغسطين هو القديس توما الأكويني، وهو يوافق أستاذه القديم، ويروي أن الإنسان يقود نفسه، ولا يقاد كما تقاد الدواب، وأن الإرادة تتبع العقل، والعقل من نعم الله على الإنسان، وغاية التقدير عنده كغاية التقدير عند أستاذه أنه علم سابق من الله، ولكنه كان يخالف أغسطين في نصيب الأطفال من الرحمة ويقول: إن الخطيئة أضعفت جانب الخير في الإنسان ولم تطمسه كل الطمس، وأن هذا الجانب هو الذي يعينه على تقبل الكفارة والخلاص.
وظل الفقهاء الدينيون يقولون بأن السقوط الذي أصاب الإنسان في الخطيئة هو سقوط من عالم «ما فوق الطبيعة» إلى عالم الطبيعة، فلما قام لوثر بدعوته فسر السقوط بأنه مسخ للطبيعة وزيغ فيها، وعزاه إلى الشيطان، خلافا لكلفن
Calvin
الذي عزاه إلى مشيئة الله؛ لحكمة يعلمها في سابق أزله.
على أن مجمع ترنت
Trent
الذي انعقد في أواسط القرن السادس عشر، قد عرض لمسألة الخطيئة، فقرر أن حسنات الوثنيين ومن لا يدينون بالمسيحية لا تعتبر من الخطايا ولا تكفي العقيدة وحدها للتكفير عن الخطيئة، وسمحت حرية البحث في العصور الحديثة لبعض الفقهاء أن ينكروا مسألة الخطيئة، وأن يعلن رجل كالدكتور كيرلس ألنجتون في كتابه «قال الأحمق»: «إن إدانة أجيال قبل أن تولد من جراء خطيئة آدم عسير أن توصف بالعدل، وإن كانت هذه هي العقيدة المسيحية، فعسير علينا أن ننظر في تزكيتها أمام ضمير الأمة .»
ولكن قرار الكنائس في هذا الصدد شيء وبحوث الفقهاء من أتباع الكنائس شيء آخر؛ لأنها آراء يدينون بها ويستندون فيها إلى المنطق العلمي قبل استنادهم إلى نصوص الدين.
ولما ظهرت الدعوة الإسلامية نهض المسلمون بالحصة الكبرى في مباحث القضاء والقدر؛ لأنها طرحت للبحث من جوانب متفرقة يتلاقى فيها أصحاب الدين والتفسير، وأصحاب السياسة والخلافة، وأصحاب العلم والفلسفة، وأصحاب الجدل والمناظرة مع أبناء الأديان الكتابية وغير الكتابية، وقد اختلط بهم المسلمون في كل بقعة من بقاع الدولة الإسلامية.
ولا نحسب أن قولا من الأقوال في مسألة القدر لم يرد له ذكر بنصه، أو بعد التعديل والتنقيح فيه، على لسان طائفة من طوائف المسلمين، ولكنا نجمل ذلك كله في المذاهب الثلاثة التي ينقسم إليها المتكلمون في كل مسألة من المسائل الكبرى، وهم جماعة الغلاة في الإثبات، وجماعة الغلاة في الإنكار، وجماعة المعتدلين المجتهدين في التوفيق بين هؤلاء وهؤلاء.
أو هم في مسألة القدر خاصة جماعة الجبريين، وجماعة القدريين الذين سموا بهذا الاسم؛ لأنهم يقولون باختيار الإنسان مع القدر خلافا لما يسبق إلى الذهن من مدلول هذه التسمية، ثم جماعة المعتدلين من أهل السنة المتوسطين، بين القول بالجبر والقول بالاختيار.
وأول القائلين بالجبر في صدر الدولة الأموية جهم بن صفوان وأتباعه ومريدوه.
كانوا يقولون: إن الله خلق العباد وخلق لهم أفعالهم كما خلق لهم أعضاءهم وألوانهم، وزعموا - كما قال الشريف المرتضى - أن ما يكون في العبد من كفر وإيمان ومعصية فالله فاعله كما فعل لونه وسمعه وبصره وحياته ... وأن لله تعالى أن يعذبه من ذلك على ما يشاء ويثيبه على ما يشاء ... وكان جهم يقول على ذلك: إن الله خلق في العبد قوة بها كان فعله، كما خلق له غذاء به قوام بدنه، ولا يجعل العبد فاعلا لشيء على حقيقة الفعل والإرادة.
ومذهب أبي الحسن الأشعري قريب من مذهب جهم بن صفوان؛ لأن خلاصة مذهبه أنه لا تأثير لقدرة العبد في مقدوره أصلا، بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى، ويرى الأشعري أن العبد مكتسب لأفعاله بقدرة يملكها ساعة الفعل ولا تسبقه، ولكنه لا يخرج بذلك عن مذهب الجبر؛ لأنه ينفي قدرة التأثير عن العباد، ويرجع بها إلى تفسير واحد؛ هو إرادة الله.
سأل أستاذه أبا علي الجبائي: ما تقول في ثلاثة إخوة: اخترم الله أحدهم قبل البلوغ، وبقي الاثنان، فآمن أحدهما وكفر الآخر، فأين يذهب الصغير؟ فقال الجبائي: إنه يذهب إلى مكان لا سعادة فيه ولا عذاب ... فسأله الأشعري: لماذا يذهب إلى ذلك المكان، وهو لم يأت شرا ولا خيرا؟ فأجابه: إنه اختبر، ولأنه علم أنه لو بلغ لكفر! فقال الأشعري: فقد أحيا أحدهم فكفر، فلماذا لم يمته صغيرا؟ فسكت الجبائي عن الجواب.
ومراد الأشعري بهذه الأسئلة أنه مهما يقل القائلون في تعليل التفرقة بين أهل الطاعة وأهل العصيان فمرجع ذلك، في النهاية، إلى علة واحدة؛ هي إرادة الله.
ويرى بعض الجبريين المعتدلين أن الفعل، من حيث هو، واقع بقدرة الله، وأنه واقع بقدرة العبد من حيث كونه طاعة ومعصية.
وهذا قريب من نفي صفات الخير والشر والحمد والذم عن جميع الأفعال في حال صدورها من الله؛ لأن الخير والشر إنما يصحان في حق من يزيد وينقص، ومن يتغير ويتبدل، ولكنهما لا يصحان في حق الواحد الأبدي الذي تنزه عن جميع الغير، وعن جميع أحوال الاختلاف.
ولكل فريق من أصحاب الأقوال في القدر حجج وأسانيد من آيات القرآن الكريم يعتمد عليها في إثبات دعواه.
فمن الآيات التي يعتمد عليها الجبريون:
والله خلقكم وما تعملون ،
2
إن هو إلا ذكر للعالمين * لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله ،
3
إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا * وما تشاءون إلا أن يشاء الله ،
4
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ،
5
ختم الله على قلوبهم ،
6
بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد ،
7
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها .
8
أما القدريون فهم من المعتزلة، ويسمون أنفسهم بأصحاب العدل والتوحيد؛ لأنهم يزعمون أنهم ينفون الظلم عن الله ويقولون بأن الإنسان حر فيما يفعل من خير وشر؛ لأن الله لا يجبره على الشر ثم يعاقبه عليه فيظلمه ويجزيه على غير عمله.
وعند القدريين أن سوء الاختيار الذي علم به الله في سابق علمه الأزلي هو الذي أوجب ما قضى به الله عليهم من طاعة أو عصيان، ولو لم يكن الإنسان قادرا على الفعل والترك لما وجب التكليف، وهم يفرقون بين الأفعال التي يختار فيها الإنسان كالتحرك يمنة ويسرة، والأفعال التي لا اختيار له فيها كالارتفاع بجسمه في الفضاء بغير رافع، ويؤمنون بأن الله لم يكلف أحدا فعلا من هذا القبيل، وإنما التكليف كله من قبيل الأفعال التي تفعل أو تترك بالاختيار.
ومن الآيات التي يعتمدون عليها في إثبات دعواهم:
وما ربك بظلام للعبيد ،
9
وما الله يريد ظلما للعباد ،
10
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ،
11
كل امرئ بما كسب رهين ،
12
اليوم تجزون ما كنتم تعملون ،
13
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ،
14
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم ،
15
لبئس ما قدمت لهم أنفسهم ،
16
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ،
17
رب إني ظلمت نفسي ،
18
قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي ،
19
وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم .
20
ولا يخفى أن المعتزلة المتأخرين نظروا في آراء فلاسفة اليونان وعرفوا صفات الله عندهم، ولا سيما صفة الله عند أرسطو معلمهم الأول، وهي صفة المحرك الذي لا يتحرك، أو الإله الخارج عن هذا الكون المحسوس، فلم يجدوا صعوبة في القول بحرية الإنسان وعمله بمعزل عن القضاء والقدر، وإن كان التكليف ينقض رأي أرسطو كما ينقضه القول بالثواب والعقاب. •••
أما المعتدلون من أهل السنة فيقولون بإرادة الله، ويقولون باختيار الإنسان فيما يقع عليه الجزاء، ولكنهم يفرقون بين الإرادة على الحتم والقسر، والإرادة على الأمر والتكليف.
فالله قال:
كونوا قوامين بالقسط .
21
والله يقول لكل شيء:
كن فيكون .
22
وكلا القولين إرادة من الله، ولكن إرادة الأمر تجاب بالطاعة أو العصيان، وإرادة الحتم والقسر تنفذ كما قضى بغير خلاف.
ومن الآيات التي يستشهدون بها:
إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ،
23
ولا يرضى لعباده الكفر .
24
ويذكرون أن آيات القرآن أنكرت حجة الجبريين؛ إذ حكت عنهم أنهم:
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ،
25
إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان .
26
أما استشهاد الجبريين بأن الله يقول:
والله خلقكم وما تعملون ،
27
فالكلام فيه موجه إلى قوم إبراهيم؛ إذ قال لهم:
أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون ،
28
أي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي تنحتونها، وليس المقصود به نسبة معاصي العباد إلى الله.
ويتفق أهل السنة والمعتزلة على التفرقة بين حركات الجبر وحركات الاختيار في الإنسان فيقولون: إن الإنسان ليس بأقل عقلا، ولا أقل اختيارا من الدابة التي يركبها، أو كما قال أبو الهذيل العلاف متهكما مفندا: «إن حمار بشر أعقل من بشر؛ لأن حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته فإنه يطفره، ولو أتيت به إلى جدول كبير وضربته فإنه لا يطفره ويروغ عنه؛ لأنه فرق بين ما يقدر على طفره وبين ما لا يقدر عليه، وبشر لا يفرق بين المقدور له وغير المقدور.» •••
هذه خلاصة وجيزة لأطراف القول في مسألة القضاء والقدر بين الفرق الإسلامية، ومن البين أن القول الفصل في هذه المسألة الجلي ليس لمذهب واحد من بين جميع المذاهب، ولا نحسب أنه تجمع لمذهب واحد على الإطلاق فيما علمناه وفيما هو شبيه بما علمناه؛ لأن المرجع في سر القضاء والقدر إلى حكمة الله، وحكمة الله تتعلق بالأبد لا ابتداء له ولا انتهاء، ولا تتعلق بهذه الحقيقة أو بتلك الحقيقة في الزمن الذي يحيط به المخلوقات.
وليس من دعوانا هنا ولا من عرضنا أن نأتي بالقول الفصل في مسألة من المسائل التي تتسع لاختلاف الآراء ولا تنتهي إلى قرار؛ لأن الغرض الأول من هذا الكتاب هو تقرير مكان الفلسفة القرآنية من الدعوات الدينية التي تنتظم عليها حياة الجماعات البشرية، ومكان الفلسفة الإسلامية بين تلك الدعوات واضح محدود.
فليس في الإسلام ما في اليهودية من صورة الإله الذي ينافس البشر وينافسونه، ويقدر لهم حسابهم فيخطئ الحساب؛ لأن قدر الله في الإسلام بكل شيء:
قد جعل الله لكل شيء قدرا ،
29
وكل شيء عنده بمقدار ،
30
وخلق كل شيء فقدره ،
31
الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا .
32
وليس في الإسلام ما في المسيحية من كفارة أحد عن أحد، ولا في القول بالخطيئة الموروثة بغير جريرة للمولود فيها؛ لأن القرآن يقول:
ولا تزر وازرة وزر أخرى ،
33
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .
34
أما مسألة التكليف، فالقرآن يجمع فيها بين القول باستطاعة الإنسان أن يتلقى الأمر والنهي وبتقدير كل شيء، ولا تناقض بين القولين في حكم العقل فضلا عن حكم الدين.
ولبيان ذلك نفرض كل فرض مستطاع في مسألة التكليف؛ لنرى أي الفروض أحق بالاعتقاد وأولى بالقبول في العقل والضمير.
فإما عالم لا تكليف فيه ولا جزاء.
وإما عالم يتساوى فيه التكليف ويتساوى فيه العمل ويتساوى فيه الجزاء.
وإما عالم يقع فيه التكليف والتقدير على اختلاف كما نرى في اختلاف العالم الذي نحن فيه.
فالعالم الذي لا تكليف فيه ولا جزاء لم يتخيله أحد من أصحاب الأديان، ولا من المفكرين المنكرين.
وقد تخيل أرسطو إلها لا تصريف له في الكون ولا شأن له بالخلق في كثير ولا قليل.
وهو إله لا يستقيم الإيمان به من الوجهة الدينية، ولا من الوجهة الاجتماعية، ولا يستقيم الإيمان به من الوجهة الفلسفية على حال من الأحوال.
وإنما قصر أرسطو عمل الإله على الحركة الأولى؛ لأنه اعتقد أن واجب الوجود أشرف الموجودات، وأن أشرف الموجودات يعقل أشرف المعقولات؛ وهو ذاته، فكل تفكير فيما دون ذلك فهو تفكير لا يصح عنده في حق الإله.
فكيف اتفقت هذه الحركة الأولى التي وقف عندها عمل الإله؟ هل جاءت من الكون شوقا إلى الله؟ أو جاءت من الله تشويقا للكون إليه؟
لا يستقيم القول على كلا الرأيين؛ فإن كان الكون قادرا على التحرك فقد بطل القول بالمحرك الأول، وإن كانت الحركة من قبل الله فحركة واحدة كألف حركة، بل كجميع الحركات من أكبر الموجودات إلى أصغر الخليات.
ومع هذا لا تناقض بتة بين تفكيره في الخلق وتفكيره في أشرف الموجودات؛ لأن أشرف وجود هو الوجود الذي يليق بالإله الخالق المنعم القادر على كل شيء، ولن يكون الإله خالقا بغير خلق، ولا منعما بغير إنعام، ولا قادرا بغير تقدير.
وإذا تركنا الجانب الفلسفي، وحصرنا مسألة التكليف في حدودها الاجتماعية، فالقائلون بالمؤثرات الطبيعية أنفسهم يوجبون التكليف مع إنكارهم لوجود الله، ولا يمنعون مجازاة الإنسان بعمله إلا أن يكون «إنسانا غير مسئول عن عمله»؛ كالمجنون والمريض والمكره على الإجرام، وهم لا يخرجون بذلك عن حكم القرآن الذي يقول:
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ،
35
ويقول:
ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ،
36
ويعفي الجاني المكره على جنايته
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ،
37
فمن اضطر غير باغ ولا عاد ،
38
ثم يرضى عن الآثم بالتوبة والإصلاح:
إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم .
39
ومهما يقل القائلون باضطرار الإنسان؛ لانطباعه على عمله بحكم الوراثة أو بحكم البيئة أو بحكم المزاج، فهم لا يقولون ببطلان فائدة التكليف على الإطلاق؛ لأن المشاهد أن الإنسان يستسهل الإثم الذي لا عقاب عليه، ويستصعب الإثم الذي يخشى عليه العقاب، وأنه لا يعلم ما ينطوي عليه من القدرة على الإحسان واجتناب الإساءة، فلا يزال بحاجة إلى الحافز والوازع لاستبطان تلك القدرة، واستخراج غاية ما تنطوي عليه.
ونعود بعد هذا وذاك فنقول: إن الإله الذي لا يكلف ولا يصرف، إله ملغي من حساب البشر، فلا يصلح لهم في مجال الإيمان ولا مجال التفكير.
أما العالم الذي يتساوى فيه التكليف، ويتساوى فيه العمل، ويتساوى فيه الجزاء، فليس بعالم موجود.
فالعالم الذي يتساوى فيه كل شيء لا شيء فيه.
لأن «التشيؤ» معناه تمييز شيء عن شيء، ووقوع الاختلاف بين أشياء وأشياء.
ولو تساوت الأشياء لاختلف بها الزمان، ولو تساوى الزمان لما كان هناك معنى لاختلاف شيء منها عن شيء، وهي على تعددها تتشابه في جميع الخصائص وفي جميع الأعمال، وفي جميع الأوقات.
فامتناع الاختلاف بالنسبة للأشياء عدم.
والمساواة بينها على تجدد الاختلاف بينها خلل وظلم ومباينة للمعقول.
فإذا حدث العالم المخلوق فلا بد فيه من اختلاف.
وإذا حدث فيه الاختلاف فلا بد من اختلاف التقدير واختلاف التكليف واختلاف الأعمال.
أما أن نبطل المخلوق، ونبطل ما يلزمه من صفات المخلوق، فمعنى ذلك أن يخلق الله خالقا مثله في الكمال والدوام بغير ابتداء ولا انتهاء.
وذلك محال.
وأقل ما فيه من فارق أن يكون هناك فضل للإله الخالق على الإله المخلوق.
ثم يلزم من ذلك ما لزم عند أصحاب القول بالعقول العشرة، أو بتوالي الموجودات من واجب الوجود إلى العقل الأول إلى سائر العقول والنفوس التي تتوالى من مصدر إلى مصدر في عالم الإمكان.
فالإله المخلوق سيخلق إلها دونه في صفات الكمال، والإله الذي خلقه سيخلق ما دونه حتى ينتهي الأمر إلى مخلوقات كهذه المخلوقات التي نراها على اختلاف كبير في العمل والتقدير.
فالعالم الذي لا اختلاف فيه لا شيء فيه.
والعالم الذي تختلف فيه الأشياء محال أن يتفق فيه التقدير والتكليف. •••
فلم يبق من فروض الإلهية الدينية غير فرض واحد يقبله العقل ويستقيم عليه الاعتقاد؛ وهو فرض الإله الذي يخلق الخلق على اختلاف في التقدير والتكليف.
ولا اعتراض على هذا الفرض الوحيد إلا أن يقال: إن التفرقة بين الناس بقضاء السعادة لقوم وقضاء الشقاوة لآخرين ظلم يناقض صفة العدل التي يتصف بها الإله القدير الرحيم.
ولكنه اعتراض لا يصمد للنظر طويلا دون أن يتبين له أنه لم يثبت على أساس متين؛ لأن العدل الأعظم هو العدل الذي يناط به قوام الموجودات، ولا قوام للموجودات كما أسلفنا مع المساواة المطلقة في التقدير والتكليف.
ولأن عدل الإله السرمدي إنما يتعلق بالأبد كله، ولا ينحصر في حالة من الحالات التي تتتابع بها الأزمان، وفي مجال الأبد متسع للتصحيح والتعديل، وبقية دائمة للموازنة والمراجعة، وللتسوية بين الأقدار والأطوار، إلى انتهاء مقدور، أو إلى غير انتهاء.
ومن أراد من الأبد أن يحصر حكمته في لحظة واحدة أو في عصر واحد أو كوكب واحد من هذه العوالم - التي لا نعرف عدادها - فقد أخطأ في حكم العقل، ولم يكن قصاراه أنه أخطأ في حكم الدين.
ومع هذا نستطيع أن نلحظ في التقديرات الزمنية بعض الدلائل على الحكمة الأبدية التي تقصر على الإحاطة بها مدارك أبناء الفناء.
فوجود الله لم يحرم الناس حرية كانت تكون لهم بغير وجود الله.
وقد أعطاهم الله حظوظا من الحرية هي هذه الحظوظ التي يملكونها في هذه الحياة.
ولكن المنكرين قد تعودوا أن يسخروا من هذا القول، وأن يصوغوه في الصيغة التي يحسبونها مواتية للسخرية، التفنيد، فيقولوا: نعم، إن الله قد خلق للناس الحرية ... أي أنه اضطرهم أن يكونوا أحرارا مختارين ...
يقولون ذلك ويحسبونه غاية الغايات في السخرية والتفنيد؛ ولو استطاعوا أن يقابلوه بصيغة واحدة تسلم من الإحالة لحق لهم أن يسخروا منه، ولا يطمئنوا إليه.
فإذا كان الله قد اضطر الناس أن يكونوا أحرارا فقد أصبحوا أحرارا كما أراد، وهذا هو الذي يعنينا من الحرية كيفما كان السبيل إليها.
ولا مقابل لهذا القول إلا أن يقال: بل ينبغي أن يخلق الناس الحرية لأنفسهم كما يريدون، وأن تطيعهم الأكوان في كل ما أرادوه، وأن تطيع كلا منهم على حدة في كل خاطرة تخطر لأحدهم وكل رغبة تهجس في ضمير هذا أو ضمير ذاك.
وليس هذا هو القول الذي ينجو بصاحبه من السخرية والتفنيد؛ لأنه حالة من حالات الوهم، لا تصح في الخيال فضلا عن صحة التفكير أو صحة الاعتقاد.
ومتى رجعنا إلى الله بخلق الحرية؛ فكيف تكون هذه الحرية التي يخلقها الله؟
أيخلق الله لكل إنسان حرية إله فعال لما يريد؟
ذلك محال.
أم يخلق لهم حرية المساواة في الأقدار والأعمال؟
ذلك أمر لا يقوم به قوام للموجودات في عالم الحدود.
فإذا لم تكن حرية آلهة ولا حرية تنفي الفوارق والأقدار، فهي إذن هذه الحظوظ من الحرية التي رأيناها للخلق في هذه الحياة.
وقد ساء ظنا وساء فهما من يرى أن الله قد أعطى الخلق قوامه بهذه الحظوظ، وهذه القسم، وهذه الأقدار، ثم يفوته أن قوام الخلق لا ينتهي إلى ظلم واختلال، وهو في ذمة الغيب وذمة الأبد، ولا يمكن أن يكون في الحاضر، ولا في ذمة العلم الذي يحيط به أبناء الفناء.
وعلى هذا يستطيع المسلم أن يؤمن بكل حكم من أحكام القرآن في مسألة القضاء والقدر على تعدد الجوانب التي تناولتها هذه الأحكام؛ لأنه يؤمن عقلا بأن وجود الله يبطل قيام التكليف، وأن قيام التكليف لا يبطل اختلاف الحظوظ والأقدار، وأن اختلاف الحظوظ والأقدار لا يختم قدرة الله في الأبد الأبيد على تحقيق العدل فيما قضاه.
وهنا محل الإيمان بما يرجع إلى الغيب ولا تحصره الشهادة.
ولكن الإيمان بالغيب إيمانان: إيمان بما لا يعقل، وهو تسليم مزعزع الأساس.
وإيمان بما ينتهي إليه العقل حين يبلغ مداه، وهكذا يكون الإيمان إن كان لا بد من إيمان.
ولا بد من إيمان.
الفرائض والعبادات
الفريضة الدينية أدب يراد به صلاح الفرد أو صلاح الجماعة.
ومن محاسن الفرائض الإسلامية أن كل فريضة منها تؤدي إلى المقصدين، وتجعل لإنسان ذي ضمير، ولجماعة ذات ضمير.
فصلاة الجماعة - في يوم الجمعة - واجب على المسلمين مقدم على البيع والشراء ومطالب المعاش:
يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون .
1
نعم، خير من مطالب المعاش، ولا شك أن تعلو الجماعة سرا وعلانية - في يوم من الأيام - عن صغائر الشح والجشع وهموم الدنيا؛ لتخرج من ضيق هذه الشواغل المحصورة، وتعرف لحياتها غاية أرفع من هذه الغاية، وقسطاسا أقوم من هذا القسطاس، وتذكر ما ينفعها ذكره كلما استغرقها ذكر المنافع والغوايات، وترى عظماءها وصغراءها معا في ساحة واحدة، بين يدي العظمة الإلهية التي تطامن من كبرياء العظيم، وترفع من رجاء الصغير.
وإذا صلى المسلم منفردا في سائر الأيام فهو في انفراده لا يغيب عنه شعوره بآصرة القربى بينه وبين الجماعة الإسلامية في أقطار الأرض من شمال إلى جنوب ومن مشرق إلى مغرب؛ لأنه يعلم أنه في تلك اللحظة يتجه وجهة واحدة مع كل مسلم على ظهر الأرض يؤدي فريضة الصلاة، ويستقبل معه قبلة واحدة، ويدعو بدعاء واحد، وإن تباعدت بينهم الديار.
وحسبه أن يقف بين يدي الله خمس مرات من مطلع الشمس إلى مغيبها؛ لتمتزج حياته بالعنصر الإلهي، ويتمثل الوازع الأعلى نصب عينيه ما بين كل صلاة وصلاة ...
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ،
2
ولا شيء أقمن بالنهي عنهما من الشعور بوزرهما كلما تمرست النفس بالدنيا بضع ساعات من ليل أو نهار. •••
والزكاة مصلحة للجماعة؛ لأنها تقيم دعائم التعاون بين المجدودين والمحرومين، وتعالج مشكلة الفقر والحاجة علاجا يقوم على التعاطف والولاء بين من يعول ومن يعال، وهي إلى هذا رياضة للنفس يأخذ منها الواهب كما يأخذ الموهوب؛ لأنها تعودها نبل التضحية بالمال العزيز على النفوس، وتعلمها مغالبة الحرص والسماح بالبذل والإيثار، وتلقي في روعها أنها مسئولة عن غيرها فيما تكسبه بسعيها وتدبيرها، فتشعر بتكافل الجماعة شعورا يخرجها من ضيق الأثرة والانفراد. •••
والحج «مؤتمر عالمي» يعقده المسلمون مرة في موعده المعلوم من كل عام، يجتمعون فيه إلى صعيد واحد، فيتعارفون ويتشاورون، ويفضي بعضهم إلى بعض بما يعلمون من أحوالهم وما يشكون من متاعبهم ورزاياهم، ويستعيدون ماضيهم كرة بعد كرة، فلا يصبرون طويلا على حاضر دون ذلك الماضي العظيم، ونعم العمل المشترك عمل لا ينقطع عاما من الأعوام، ولا يزال حافزا للهمم باعثا للذكرى كلما تجدد على مر السنين.
أما الفرد فله من الحج رياضة على المشقة ومنشط من طول اللبث والجمام، وعلم بما يجهله المقيم في مكانه، وهو علم يستفاد من السياحة ولا يستفاد من غيرها، ويحث عليه القرآن الكريم؛ لأنه يفتح البصائر والقلوب، ويقشع عمى الأبصار، وحجاب الأسماع:
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
3
والصيام في مظهره الاجتماعي يعطينا مظهر أسرة عظيمة - من مئات الملايين - تنتشر في جوانب الأرض وتقترن شعائرها الدينية كل يوم بأمس ما يحس الإنسان في معيشته اليومية؛ وهو أمر الطعام والشراب ومتع الأجساد؛ ملايين من الناس في جوانب الأرض يطعمون على نظام واحد ويمسكون عن الطعام على نظام واحد، ويستقبلون ربهم على نظام واحد، وقلما انتظمت أسرة بين جدران بيت على مثل هذا النظام.
أما الفرد فيستفيد منه خير ما يستفيده الإنسان في حياته الروحية أو حياته الخلقية؛ وهو ضبط النفس وشحذ عزيمتها وقدرتها على الفكاك من أسر العادات وتطويع الجسد لدواعي العقل والروح.
والصيام الإسلامي هو أجدى ضروب الصيام في تحقيق هذا المقصد؛ لأنه يجدد القدرة على ذلك كل يوم مدى شهر من شهور السنة، ولا يكون قصاراه نقلة واحدة من عادة شهور إلى عادة شهور.
ويقول بعض المتعللين بقواعد الصحة: إن الصيام على هذا النحو يخل بوظائف الهضم وما يتصل بها من الوظائف الجسدية! وهو قول لا يؤيده الواقع المشاهد في اختلاف أحوال البنية الحية في تدبير طعامها وشرابها على اختلاف المنبت والإقليم وعادات المعيشة، وما رأينا الناس قد احتاجوا قط إلى تربية اجتماعية قوية أو تربية فردية عالية، إلا كان قوامها ترويض الجسد على طعام غير طعامه المألوف وتعريضه لطوارئ من تقلبات الجو وتقلبات المعيشة غير التي تعرض لها ونشأ عليها، كذلك تربى الجيوش، وكذلك يربى الملوك والأمراء.
وتلحق «بفكرة» الفرائض الدينية فكرة العيدين في الإسلام؛ وهما: عيد الفطر، وعيد الأضحى، فعيد الفطر تحية للواجب، وعيد الأضحى تحية للفداء، وليس للنفس الإنسانية غاية من الأدب بعد رياضتها على الواجب ورياضتها على الفداء.
ومدار هذه الفرائض كلها على السماحة واليسر لا على العسر والإرهاق.
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا .
4
وما جعل عليكم في الدين من حرج .
5
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .
6
تلك رءوس الفرائض التي تعلمها المسلمون من كتابهم. •••
إن كانت للجماعة البشرية عقيدة دينية فلا بد للعقيدة الدينية من شعائر، وليس بين هذه الشعائر ما هو خير للمعتقدين من شعائر الإسلام.
التصوف
من آراء بعض الباحثين - سواء في الشرق والغرب - أن التصوف دخيل على الدين الإسلامي، وأن اسمه نفسه مقتبس من كلمة يونانية هي كلمة الثيوسوفي
Theosophy
أي الحكمة الإلهية.
واختلفوا في أصل التسمية فاستبعد بعضهم اقتباسها من اليونانية، وردوها تارة إلى أهل الصفة، وتارة إلى لبس الصوف، وتارة إلى الصفاء.
ومنهم من قسم التصوف قسمين: قسم يقوم على طلب المعرفة؛ وهو في رأيهم من بقايا مدارس الفلسفة اليونانية، ولا سيما مدرسة الإسكندرية، وقسم يقوم على تصفية النفس بالعبادة والانقطاع عن الدنيا و«الفناء» في الله، ومرجعه إلى أهل الهند الذين يؤمنون «بالنرفانا» ويعتبرونها غاية الغايات في الاتصال بالذات الإلهية.
ومما لا شك فيه أن بعض التصوف دخيل في الإسلام؛ وهو التصوف الذي يقول بالحلول ووحدة الوجود، ويغلب على النساك والمتفلسفة الذين جاوروا الهند، وأطراف البلاد الفارسية.
ومما لا شك فيه كذلك أن تخوم الهند وأطراف البلاد الفارسية كانت أصلح لانتشار بعض الطرق «السرية» التي لا ترضى عنها الدولة ولا سيما في عهد بني أمية؛ فإن الطرق السرية كانت تعلم الناس الإيمان بالإمام المستور، وإنكار السلطان الظاهر، وكان الغضب من السلطان الظاهر على أشده بين «الشعوبيين» أو بين غير العرب من المسلمين؛ لأن العرب استأثروا بدولة بني أمية، وصبغوها بالصبغة القومية، فكان هناك أكثر من عامل واحد لرواج التصوف بين الفرس وأبناء الأمم الإسلامية غير العربية، ومن ثم شاع القول بأن التصوف دخيل على الإسلام من أساسه، وأنه بقية من بقايا الفلسفة الهندية أو اليونانية ولا سيما «الأفلوطونية» وهي مزيج من عبادات مصر وعقائد الهند وفلسفة اليونان.
لكن التصوف في الحقيقة غير دخيل في العقيدة الإسلامية؛ لأنه كما قلنا في كتابنا عن أثر العرب في الحضارة الأوروبية مبثوث في آيات القرآن الكريم، مستكن بأصوله في عقائده الصريحة، فالمسلم يقرأ في كتابه أن
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ،
1
فيقرأ خلاصة العلم الذي يعلمه دارس الحكمة الإلهية، ويقرأ في كتابه:
ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ،
2
فيعلم ما يعلمه تلاميذ المتصوفة البوذيين حين يؤمنون بأن ملابسة العالم تكدر سعادة الروح، وأن الفرار منه أو الفرار إلى الله هو باب النجاة، ويقرأ في كتابه أن الله
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ،
3
و
كل شيء هالك إلا وجهه ،
4
فلا يزيده المتصوفة شيئا حين يقولون له: إن الله أزلي أبدي، قديم بغير زمان ولا مكان، عليم بالكليات والجزئيات، ويقرأ في كتابه أن
الله نور السماوات والأرض ،
5
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ،
6
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ،
7
فلا يزيد المتصوفة إلا التفسير حين يقولون: إن الوجود الحقيقي هو وجود الله، وأنه أقرب إلى الإنسان من نفسه؛ لأنه قائم في كل مكان يصلي له كل كائن
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .
8
ومن القرآن الكريم يعلم المسلم الخلاف بين عالم الظاهر وعالم الباطن أو عالم الحقيقة وعالم الشريعة؛ لأنه يقرأ مثلا واضحا لهذا الخلاف فيما كان بين الخضر وموسى عليهما السلام من خلاف ...
فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا .
9
فالمسلم الذي يقرأ هذه الآيات - وهو مطبوع على التصوف والبحث عن خفايا الآثار ودقائق الحكمة - يجد فيها غناء من الأصول الصوفية، ولا يفوته إذا اكتفى بها أن ينشئ منها مدرسة صوفية إسلامية تلتقي بالمدارس الأخرى في كثير، وتنفصل عنها في كثير، ولكنها لا تنعزل عن لباب التصوف «بالطبع والفطرة» كما يرى بعض المعقبين على الصوفية الإسلامية التي يستمدها المسلم من الدين.
ولكن القرآن حين يفتح للمسلم أبواب الحياة الروحية يحرم عليه أن يوصد بيديه أبواب الحياة الجسدية، وينهاه أن يترك العمل لينقطع عن الدنيا وينسى نصيبه منها.
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين .
10
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين .
11
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض .
12
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا .
13
فالحياة الروحية في الإسلام تجري على سنن القصد الصالح للحياة البشرية، لا استغراق في الجسد، ولا انقطاع عنه في سبيل الآخرة، قوام بين هذا وذاك.
وإذا كان الإسلام قد عرف أناسا من «النساك» الذين تفرغوا للمطالب الروحية فإنما كان ذلك على سنة التخصص في كل مطلب من مطالب الحياة الإنسانية، ولم يكن من قبيل الإلغاء أو التعطيل لمطلب من هذه المطالب الضرورية.
فليس في تخصيص إنسان لعلم الطب مثلا إلغاء أو تعطيل لغيره من العلوم الشريفة التي يتم بها قوام المعارف الإنسانية، وليس في التخصص إيجاب واستنكار وإنما هو سبيل التعميم والاستفادة من كل ملكة في الذهن والذوق والروح، ولا يوجب الإسلام التنسك على جميع المسلمين؛ لأن أناسا منهم تخصصوا له وفضلوه على مطالب الروح أو مطالب الجسد الأخرى، ولكنه يجيزه بالقدر الذي بيناه، وهو القدر الذي لا غنى عنه في تدبير حياة الإنسان.
فالملكات الإنسانية أكثر وأكبر من أن ينالها إنسان واحد، ولكنها ينبغي أن تنال، فكيف يمكن أن تنال؟
إنها لا تنال إلا بالتخصص والتوزيع، ولا يتأتى هذا التخصص أو هذا التوزيع إذا سوينا بينها جميعا في التحصيل وألزمنا كل أحد أن تكون له أقساط منها جميعا على حد سواء.
ولا نقصر القول هنا على الملكات العقلية أو الروحية التي لا يسهل إحصاؤها ولا تحصيلها، ولكنا نعم به هذه الملكات ومعها ملكات الحس والجسد، وهي محدودة متقاربة في جميع الناس.
فهذه الملكات الجسدية - فضلا عن الملكات العقلية والروحية - قابلة للنمو والمضاعفة إلى الحد الذي لا يخطر لنا على بال ولا نصدقه إلا إذا شهدناه.
وقد رأينا ورأى معنا ألوف من الناس رجلا أكتع يستخدم أصابع قدمه في أشياء يعجز الكثيرون عن صنعها بأصابع اليدين؛ يكتب بها، ويشعل عيدان الثقاب، ويصنع بها القهوة ويصبها في الأقداح ويشربها ويديرها على الحاضرين، ويسلك الخيط في سم الإبرة ويخيط الثوب الممزق، ويوشك أن يصنع بالقدم كل ما يصنع باليمنى أو باليسرى.
ورأينا ورأى معنا ألوف من الناس لاعبي البليارد في المسابقات العامة يتسلمون العصا ثم لا يتركونها إلا بعد مائة وخمسين إصابة أو تزيد، ولعلهم لا يتركونها إلا من تعب أو مجاملة للاعبين الآخرين، وهم يوجهون بها الأكر إلى حيث يريدون ويرسلونها بين خطوط مرسومة لا تدخل الأكر في بعضها ولا تحسب اللعبة إذا لم تدخل في بعضها الآخر، بحيث لو قال لك قائل: إن هؤلاء اللاعبين يجرون الأكر بسلك خفي لجاز لك أن تصدق ما يقول.
ورأينا من يقذف بالحربة على مسافات فتقع حيث شاء، ورأينا من ينظر في آثار الأقدام فيخرج منها أثرا واحدا بين عشرات، ولو تعدد وضعه بين المئات، ورأينا من يرمي بالأنشوطة في الحبل الطويل فيطوق بها عنق الإنسان أو الحيوان على مسافة أمتار.
هذه هي الملكات الجسدية المحدودة، وهذه هي آماد الكمال الذي تبلغ إليه بالتخصيص والمرانة والتوزيع.
فما القول إذا حكمنا على الناس جميعا أن يكسبوا أعضاءهم ملكة من هذه الملكات؟ إننا نخطئ بهذا أيما خطأ ونعطلهم به عن العمل المفيد، ولكننا نخطئ كذلك كل الخطأ إذا حجرنا على إنسان؛ لأنه أتقن ملكة من هذه الملكات الجسدية، ولو جار في نفسه على ملكات أخرى يتقنها الآخرون.
فإذا كنا جاوزنا بالقوى الجسدية حدودها المعهودة بالمرانة والتخصيص، فما الظن بالقوى الروحية أو العقلية وهي لا تتقارب في الناس هذا التقارب ولا تقف عند هذه الحدود؟
وإذا كان طالب القوة الروحية يؤثرها على جسده فلماذا نلومه، وننحي عليه، ونحن لا ننحي على اللاعب إذا آثر المهارة في اللعب على المهارة في فنون العقل أو الكمال في مطالب الروح؟
إذا لمنا من يجور على جسده؛ لأنه يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين فمن واجبنا أن نلوم كل ذي ملكة وكل ذي عمل وكل ذي فن وكل ذي رأي من الآراء، فما من واحد بين هؤلاء إلا وهو يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين!
ومما لا جدال فيه أن نوازع الجسد تحجب الفكر عن بعض الحقائق الاجتماعية فضلا عن الحقائق الكونية المصفاة.
ومما لا جدال فيه أن شواغل العيش وهموم الأسرة عائق عن بعض مطالب الإصلاح في الحياة اليومية، فضلا عن الحياة الإنسانية الباقية على مر الدهور.
ومما لا جدال فيه أن طالب القوة الروحية كطالب القوة البدنية، له حق كحق المصارع والملاكم وحامل الأثقال في استكمال ما يشاء من ملكات الإنسان، ولسنا على حق إذا أخذنا عليه أنه جار على جسده أو لذات عيشه؛ لأننا لا نلوم المصارع إذا نقصت فيه ملكة الفن أو ملكة العلم أو ملكة الروح.
لو أصبح كل الناس مصارعين لفسد كل الناس، ولكن لا بد من المصارعة مع هذا، ولا بد من المتفرغين لها إذا أردنا البقاء.
ولو أصبح الناس كلهم متصوفين معرضين عن شواغل الدنيا لفسدت الدنيا وبطل معنى الحياة ومعنى الزهد في الحياة، ولكن لا بد من هذه النزعة في بعض النفوس، وإلا قصرنا عن الشأو الأعلى في مطالب الروح وفقدنا ثمرة «التخصص»، أو ثمرة «القصد الحيوي» الذي ينظم لنا ثروة الروح وثروة العقول وثروة الأبدان. «القصد الحيوي» مكفول بشريعة القرآن في كل مطلب من هذه المطالب الروحية؛ فهي مباحة لمن يطيقها، وهي لا تفرض على جميع المسلمين.
ولا بد من هذه الإباحة، ولا بد من هذا الإعفاء؛ فإنهما يجريان بالقدر الذي يفيد ويمنع الضرر في كلتا الحالتين.
الحياة الأخرى
الأديان الكتابية على اتفاق في الإيمان بالحياة بعد الموت، وإن اختلفت بينها بعض الاختلاف في تمثيل تلك الحياة.
وقد آمن الفلاسفة بالحياة الأخرى قبل الأديان الكتابية جميعا وبعدها.
فمن أشهر المؤمنين بها من الفلاسفة السابقين أفلاطون، ومن أشهرهم في العصر الحديث عمانويل كانت، وهما يجمعان أطراف الآراء الفلسفية في سبب الإيمان ببقاء النفس بعد الموت.
فالنفس في مذهب أفلاطون جوهر مجرد بسيط لا يقبل التجزئة ولا الانحلال، وهي قوام الحياة، وما هو حياة لا يمكن أن يعود «لاحياة» كما أن «اللاحياة» لا يمكن أن تحيي المادة الصماء.
ولكن النفس تتلبس بالمادة في معارج الترقي والتطهير، وتخلص من المادة - طورا بعد طور - لتعود إلى عنصرها الأول من الحرية والصفاء.
وبقاء النفس في مذهب «كانت» مرتبط برأيه في «القانون الأخلاقي» الذي تدين به فطرة الإنسان، ويدل على إرادة إلهية فوق إرادة الآحاد والجماعات؛ فإن الإنسان مفطور على أن يفهم الواجب، وأن يفهم أن الواجب هو العمل الذي يصلح للاقتداء به، وأنه يتخذ قاعدة عامة تطلب من جميع الناس.
وليس من المعقول أن يغرس في النفس قانون كهذا ثم يشقى من يدين به ويسعد من ينبذه ويخرج عليه، فالحكمة التي غرست هذا القانون في الطباع خليقة أن ترد الأمر إلى نصابه في حياة بعد هذه الحياة؛ لأن الجزاء العدل لا يتم كله في حظوظ هذه الحياة.
ونريد من الإشارة الموجزة إلى رأي هذين الفيلسوفين، أن يذكر الناظرون في مسألة الحياة بعد الموت أنها مسألة بحث وتفكير، وليس قصاراها أنها مسألة اعتقاد وإيمان.
فالعقل لا يخرجها من متناول بحثه، وأصحاب العلم التجريبي أنفسهم لا يملكون من أسانيدهم العلمية ما يسوغ لهم بإغلاق الباب فيها؛ لأنهم لم يحصروا قط طبيعة الحياة، ولم يثبتوا قط أنها وليدة المادة الصماء، فليس لهم أن ينقضوا ويبرءوا في طبيعة شيء ليس بالمحصور في عملهم وليس مقطوعا لديهم بأصل تكوينه وغاية مصيره.
لكن العقل نفسه يستلزم فارقا لا بد منه بين تمثيل الحقيقة للبحث والتفكير، وتمثيل هذه الحقيقة بعينها للتدين والاعتقاد.
فالحقيقة الاعتقادية لا بد أن تمتزج بتصور المؤمنين بها؛ لأن الخطاب فيها موجه إلى ملايين من البشر منهم العارف والجاهل، ومنهم الذكي والغبي، ومنهم كبير النفس وصغيرها، ورفيع الحس ووضيعه، ومنهم من يطلب الكمال ومن لا يعرف كمالا يطمح إليه.
فلا بد من توضيح الحقيقة الاعتقادية بالمحسوسات في كثير من الأحوال، وعلى هذا ينبغي أن يروض فكره كل من ينظر إلى عقيدة الحياة الأخرى في القرآن الكريم.
فالقرآن الكريم يفرض على المؤمنين عقيدة البعث والحساب، ويدعوهم إلى الإيمان بالنعيم والعذاب.
والجنة هي مقر النعيم.
والنار هي مقر العذاب.
وفي القرآن أوصاف محسوسة للجنة كما وصفت في سورة الواقعة:
في جنات النعيم * ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين * على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزاء بما كانوا يعملون * لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما .
1
وفي القرآن أوصاف محسوسة للنار كما وصفت في سورة الفرقان:
بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا * إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا * وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا .
2
ولكن من المتفق عليه بنص القرآن ونص الحديث النبوي الشريف أن هذه الموصوفات غير ما يرى ويعهد في هذه الحياة:
فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ،
3
والنبي عليه السلام يقول: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.»
والواقع أن المسلمين يفهمون من هذه الصفات معنى النعيم ومعنى العذاب ولا يخل فهمهم لهذا أو لذلك بالغرض المقصود من وعد الله ووعيده بالمثوبة والعقاب.
فالإمام فخر الدين الرازي مثلا يقول في تفسير الاتكاء على السرر الموضونة: «معناه أن كل أحد يقابل كل أحد في زمان واحد، ولا يفهم هذا إلا فيما لا يكون فيه اختلاف جهات، وعلى هذا فيكون معنى الكلام أنهم أرواح ليس لهم أدبار وظهور، فيكون المراد من السابقين هم الذين أجسامهم أرواح نورانية جميع جهاتهم وجه، كالنور الذي يقابل كل شيء.»
وهذا فهم فيلسوف باحث في الجواهر والأعراض، وفي مطالب الأرواح والأجسام.
ويفهم المتصوفة أن نعيم الحياة الباقية كله هو الوصول إلى الله، ولا يتطلعون إلى جزاء غير هذا الجزاء.
سمعت رابعة العدوية قارئا يتلو قوله تعالى:
وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون ،
4
فقالت: نحن إذن صغار حتى نفرح بالفاكهة والطير.
وسمع الشبلي قوله تعالى:
منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ،
5
فصاح صيحة عظيمة وقال: فأين الذين يريدون الله تعالى؟ وكان يقول في قوله تعالى:
كلوا واشربوا :
6 «إن كان ظاهره إنعاما فباطنه انتقام وابتلاء واختبار؛ لينظر تعالى من هو معه ومن هو من حظ نفسه.» •••
فوصف الحقائق بالمحسوسات - كما رأينا - تعبير يفهمه الخواص الذين يرتفعون بالفهم وبمطالب النفس الباقية عن طبقة الجهلاء.
ولكن هل التعبير بالمعاني المجردة والحقائق المثالية مفهوم عند هؤلاء الجهلاء؟ إننا نعلم جميعا أن أحوج الناس إلى الإيمان بالحساب - بل أحوجهم إلى وازع الدنيا كله - هم طبقة الجهلاء الذين تستغرقهم المحسوسات ولا يخلصون منها إلى تجريد المعاني والشعور بحب الحقيقة وتقديس الكمال، وهؤلاء لا يعتقدون إلا بما يحسون ويفقهون، فإما عقيدة تمتزج عندهم بشعورهم وتصورهم، وإما إباق من كل عقيدة وفكاك من كل تكليف، وبهذا تبطل كلمة العقيدة في الجماعات البشرية كل البطلان.
ولا معدى إذن من إحدى صورتين لعقائد الجماعات البشرية.
إما أسلوب يحقق الحكمة من العقيدة عند جميع الناس خاصة وعامة، ولا بد فيه من التعبير عن المعاني بالمحسوسات.
وإما أسلوب يترك الخاصة لأنفسهم، وينفي العامة عن حظيرة الاعتقاد، وهو لا يحقق الحكمة من العقيدة بحال.
في ذلك الأسلوب لا خسارة على أحد من الخاصة أو العامة وفي هذا الأسلوب لا فائدة للخاصة ولا للعامة؛ لأن الخاصة متروكون لأنفسهم يفهمون ما يفهمون بمعزل عن الوحي والرسالة؛ ولأن العامة محجوبون عن الوحي والرسالة بكل حجاب.
وقد ضلل بعض المغرضين من دعاة الأديان عقولا كثيرة في شتى الأقطار حين زعموا أن الخطاب بالمحسوسات في أمر الجنة والنار مقصور على العقيدة الإسلامية، وأن المؤمنين بالدين لا يؤمنون به إلا إذا كانوا من المؤمنين بالقرآن.
فالأنبياء والقديسون في جميع الأديان الكتابية قد تمثلوا المحسوس في رضوان الله ووضعوه على هذه الصفة في كتب العهد القديم والعهد الجديد، وفي كتب التراتيل والدعوات.
ففي العهد القديم يصغي أشعياء يوم الرضوان في الإصحاح الخامس والعشرين من سفره فيقول: «يضع رب الجنود لجميع الشعوب في هذا الجبل وليمة سمائن: وليمة خمر على دردي سمائن ممخة: دردي مصفى ويفنى في هذا الجبل وجه النقاب. النقاب الذي على كل الشعوب والغطاء المغطى به على كل الأمم، يبلغ الموت إلى الأبد ويمسح السيد الرب الدموع من كل الوجوه.»
وفي العهد الجديد يقول يوحنا الإلهي في الإصحاح الرابع من رؤياه: «بعد هذا نظرت وإذا باب مفتوح في السماء والصوت الأول الذي سمعته كبوق يتكلم معي قائلا: اصعد إلى هنا فأريك ما لا بد أن يصير بعد هذا، وللوقت صرت في الروح وإذا عرش يعرض علي في السماء وعلى العرش جالس، وكان الجالس في المنظر شبه حجر اليشب والعقيق وقوس قزح، حول العرش في المنظر شبه الزمرد، وحول العرش أربعة وعشرون عرشا، ورأيت على العروش أربعة وعشرين شيخا جالسين متسربلين بثياب بيض، وعلى رءوسهم أكاليل من ذهب، ومن العرش يخرج بروق ورعود وأصوات، وأمام العرش سبعة مصابيح، نار متقدة هي سبعة أرواح الله، وقدام العرش بحر زجاج شبه البلور، وفي وسط العرش وحول العرش أربعة حيوانات مملوءة عيونا من قدام ومن وراء، والحيوان الأول شبه الأسد، والحيوان الثاني شبه عجل، والحيوان الثالث له وجه إنسان، والحيوان الرابع شبه نسر طائر ...»
ويقول في الإصحاح العشرين: «متى تمت الألف السنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض: يأجوج ومأجوج؛ ليجمعهم للحرب، وعددهم مثل رمل البحر ... فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم ... وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت ... وكل من لم يوجد مكتوبا في سفر الحياة في بحيرة النار.»
ويقول في الإصحاح الحادي والعشرين: «ثم رأيت سماء جديدة وأرضا جديدة؛ لأن السماء الأولى، والأرض الأولى مضيتا، والبحر لا يوجد فيما بعد، وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها، وسمعت صوتا عظيما من السماء قائلا: هو ذا مسكن الله مع الناس.»
وكانت آمال النعيم المحسوس تساور قلوب القديسين في صدر المسيحية فضلا عن عامة العباد بين غمار الدهماء، ومن أشهر هؤلاء الأقطاب المعدودين رجل عاش في سورية في القرن الرابع للميلاد وترك بعده تراتيل مقروءة يتغنى بها طلاب النعيم، وهو القديس إفرايم الذي يقول في إحدى هذه التراتيل: «ورأيت مساكن الصالحين، رأيتهم تقطر منهم العطور ويفوح منهم العبير، تزينهم ضفائر الفاكهة والريحان ... وكل من عف عن خمر الدنيا تعطشت إليه خمور الفردوس، وكل من عف عن الشهوات تلقته الحسان في صدر طهور.»
واتفق أحبار المغرب وأحبار المشرق في وصف النعيم بهذه الصفة، فقال القديس أرنيوس
Arenius
أسقف ليون في القرن الثاني: إن السيد المسيح أنبأ يوحنا الإلهي: أن ستأتي أيام يكون فيها كروم، لكل كرمة منها عشرة آلاف غصن، ولكل غصن عشرة آلاف فرع، ولكل فرع عشرة آلاف عنبة، وتعصر العنبة منها فتدر من الخمر، مائتين وخمسة وسبعين رطلا. •••
هذه الصفات وأمثالها كثيرة فيما كتب وسجل، وفيما وقع في الخواطر والأخلاد بغير كتابة وتسجيل، وكل ما يعنينا منها أنها تعم المعتقدين عموما لا يتأتى إغفاله في خطاب يتجه إلى جميع المعتقدين، ولا يبلغ في النفوس مبلغ اليقين إلا إذا تخلل الشعور وتغلغل في الضمير. •••
وقد رأينا في أول هذا الفصل أن الفلاسفة الذين قالوا ببقاء النفس بعد الموت يقولون بذلك؛ لأنهم وجدوا القول به ضرورة عقلية يستلزمها اختلاف النفوس وحاجة كل منها إلى التطهر والتكمل في حياة بعد هذه الحياة، ووجوب هذا التطهر والتكمل لاستقامة قضاء العدل الإلهي بين الأخيار والأشرار.
فهذا المعنى ملحوظ في تقدير العذاب الذي يبتلى به المذنبون بعد الموت كما قضت به شريعة القرآن الكريم؛ فإن المفسرين كادوا أن يجمعوا على انتهاء عذاب الآخرة إلى الغفران، وأن الخلود والأبد يفيدان الزمان الطويل ولا يفيدان البقاء بغير انتهاء، ويؤيد هذا المعنى حديث رواه البخاري يفصله بأسلوب الخطاب الذي يشرح المعاني بالمحسوسات، ومنه يقول عليه السلام: «... وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار ... فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا ... فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواما قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له ماء الحياة، فينبتون في حافيته كما تنبت الحبة في حميل السيل قد رأيتموها إلى جانب الصخرة إلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان إلى الظل منها كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الرحمن ...»
وللنبي عليه السلام أحاديث أخرى في معنى ما تقدم، فحواها جميعا أن العذاب تطهير وتكفير، وأن الأنفس جميعا تتلاقى في حظيرة الرضوان.
فإذا أعطينا أسلوب العقيدة حقه من التعبير، ففي العالم الآخر كما يدين به المسلم رضا للوازع الأخلاقي، ورضا لدواعي التفكير، ورضا لعقيدة الدين.
خاتمة
منذ الحرب العالمية الأولى كثرت في أوروبة وأمريكا مجموعات الفصول التي يبسط فيها كاتبوها آراءهم في العقائد والأديان، ويلخص كل منهم فيها عقيدته التي استخلصها لنفسه، وأحس أنها تناسب تفكيره وعلمه وشعوره بالعالم الذي يعيش فيه وبما يقتضيه أمر الاعتقاد في عصر العلوم «الوضعية» وتجارب الإنسانية الحديثة.
وتشتمل هذه المجموعات غالبا على آراء رجال ونساء، ينظرون إلى الحياة من جوانب شتى، فمنهم العالم والفيلسوف، ومنهم الفنان والمخترع، ومنهم السياسي وصاحب الأعمال، ومنهم من ينظر إلى العالم نظرة وسطى تتلاقى فيها جميع الطوائف، وجميع مذاهب الحس والتفكير.
وبعض هؤلاء قد اتخذ له «إلها» اصطفاه على حسب المثل العليا التي يتمثل بها الإله.
وبعضهم يدين بعقيدة بشرية أرضية لا محل فيها لما وراء الطبيعة، ولا تخرج عن كونها نخبة من قواعد الأخلاق وبرامج الإصلاح.
وبعضهم يفسر الدين الذي يؤمن به قومه تفسيرا يوائمه ويخالف ما اعتقده قومه من المراسم والعبادات.
وكلهم - في جملة آرائهم ومذاهبهم - يدلون على شيء واحد: وهو أن الإيمان - كما قلنا في خاتمة كتابنا عن الله - ظاهرة طبيعية في هذه الحياة؛ «لأن الإنسان غير المؤمن إنسان غير طبيعي فيما نحسه من حيرته واضطرابه ويأسه وانعزاله عن الكون الذي يعيش فيه، فهو الشذوذ وليس هو القاعدة في الحياة الإنسانية وفي الظواهر الطبيعية، ومن أعجب العجب أن يقال: إن الإنسان خلق في هذا الكون ليستقر على إيمان من الوهم المحض أو يسلب القرار.»
وقد راجعنا كثيرا من هذه العقائد المبتدعة أو العقائد الفردية فما وجدنا بينها عقيدة واحدة يدعي لها صاحبها أكثر من دعواه أنها تناسبه وتريحه، أو أنها خير ما يناسبه ويريحه، إن لم يكن بد من الاعتقاد، ولكنهم لا يدعون لها أنها عقيدة صالحة للجماعات البشرية، في أطوار متعددة، وأجيال متعاقبة، ولا يدعون أن هذه الجماعات البشرية تستغني عن كل اعتقاد موروث؛ لأنهم - وهم آحاد - بحثوا لأنفسهم عن اعتقاد، أو شعروا بخيبة الرجاء؛ لفوات حظهم من الاعتقاد.
وكل مقابلة بين العقائد الفردية التي من هذا القبيل وبين عقائد الجماعات البشرية تنتهي بنا إلى التفرقة بينها بهذه الفوارق التي لا مناص منها؛ وهي: أن عقيدة الفرد ترجع إليه في تفسيره وتوضيحه وأسلوبه في فهم الأمور بالحقيقة أو المجاز.
أما عقيدة الجماعة فلا مناص فيها من ملاحظة شرائط لا تدعو الضرورة إليها كلها في تلك العقائد الفردية.
ومنها أن دين الجماعة لا يخلو من المجاز؛ لأنه يوحي إليها بالمغيبات المحجوبة، ويقرب إليها المعاني الأبدية التي تمتزج بالضمير، ولا تستجيش الحس إلا إذا اشتملت على مخيلاتهم واقترنت بما يعهدونه من المألوفات والمشاهدات.
ومنها أن دين الجماعة يعم الخاصة والعامة والمجتهدين والمقلدين، ولا يؤدي غرضه الأسمى إذا قطع فريقا من هؤلاء عن فريق.
ومنها أن دين الجماعة لأجيال كثيرة وليس لجيل واحد، وفي هذه الأجيال الكثيرة يتسع المجال لكثير من المستحدثات في العلم، وكثير من الغير والأطوار في مبادئ الأخلاق ومشارب الأذواق.
وللجماعات البشرية فرص كثيرة لاستحداث العلوم ومتابعة الكشوف والمخترعات تستطيع أن تأخذ منها ما تشاء إن لم تأخذها من نصوص الدين، ولكنها لا تستطيع أن تأخذ الدين من غير مصادر الاعتقاد، وحسبها منه أنه يحضها على التعلم، ولا يصدها عن سبيل المعرفة، حين تتاح لها مع الزمن بوسائل البحث والاستطلاع.
ونحن في هذا الكتاب قد تعرضنا للكلام عن الفلسفة القرآنية من حيث هي عقيدة للجماعات الإسلامية؛ لنعرض هذه العقيدة عرضا حديثا يلبي مطالب أبناء العصر الحديث.
ولم يكن غرضنا في الكتاب - كما ألمعنا في مستهله - أن نستشهد للقرآن من مذاهب الفلسفة؛ فإن كثيرا من الفلاسفة الأقدمين والمحدثين يوافقون الفلسفة القرآنية، فلا يهمنا من ذلك إلا أن يعلم المفرقون بين مجال الدين، ومجال العلم والحكمة، أن الأوامر والنواهي التي في القرآن قد عرضت للحكماء في مجال المباحث الاجتماعية، كما عرضت لهم في مجال العقائد الدينية، فلم يكن فيها إعنات للفكر في سبيل إرضاء الضمير؛ لأنها من شأن الفكر ومن شأن الضمير.
مثال ذلك أنهم زعموا أن تحريم الربا أضعافا مضاعفة مسألة اجتماعية أو اقتصادية قد عرض لها القرآن، فأتى فيها بحكم قد يرضاه المتدينون، ولكنها لا ترضي علماء الاجتماع أو خبراء الاقتصاد!
لكن الفلاسفة الأقدمين والمحدثين قد عرضوا لهذه المسألة فوافقوا فيها عقيدة المسلم الذي يدين بأوامره ونواهيه، فأرسطو قد حرم الربا؛ لأنه يجعل المال نفسه تجارة وهو وسيلة التبادل في التجارة، وأعداء الاستغلال من فلاسفة الاقتصاد المحدثين يردون مصائب الاجتماع كلها إلى تسخير الناس باستغلال رءوس الأموال، ولم تتناول هذه المسألة قريحة أدبية عالية تقيسها بمقياس الشعور الإنساني والكرامة النفسية إلا وصمت الربا بوصمة الخسة والمعابة، كما قال شكسبير: «إنه صدأ المعدن الخسيس.»
فحكم القرآن في الربا حكم لا يجافي الفكر ولا يعطي الضمير حقا أكبر من حقه المقدور في تقرير المحللات والمحرمات، وهذا كل ما يعنينا من الموافقة بين مسألة فكرية، وحكم من الأحكام التي اشتملت عليها الفلسفة القرآنية.
ولم نشأ أن نستدل على قداسة القرآن بما ظهر من نظريات العلم الحديث؛ إذ القرآن كما أسلفنا «لا حاجة به إلى مثل هذا الادعاء؛ لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير، وخير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير ولا يتضمن حكما من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم حينما استطاع.»
ومن الخطأ أن نتلقى كل نظرية علمية كأنها حقيقة دائمة نحملها على معاني القرآن؛ لأن النظريات العلمية لا تثبت على قرار بين جيل وجيل.
ومن أمثلة ذلك ما قيل عن النظرية السديمية، وما قيل في التوفيق بينها وبين آيات من القرآن الكريم؛ منها:
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي .
1
وقد رجح بعض علماء الطبيعة - والفلك خاصة - أن المنظومات الفلكية نشأت كلها من السديم الملتهب، وأن هذا السديم تختلف فيه الحرارة فيتشقق، أو ينفصل بعض عن بعضه من أثر التمدد فيه، فتدور الأجرام الصغيرة منه حول الأجرام الكبيرة، وتنشأ المنظومات الشمسية وما شابهها من هذا التشقق وهذا الدوران.
ولكن النظرية السديمية لا تعدو أن تكون فرضا من الفروض، يقبل النقص والزيادة، بل يقبل النقض والتفنيد، ولم ينته - بعد - بين علماء الطبيعة إلى قرار متفق عليه.
فلنا أن نسأل: هل كان الفضاء كله خلوا من الحرارة، وكانت الحرارة الكونية كلها مركزة في السدم وما إليها؟
ولنا أن نسأل: من أين جاءت الحرارة للسديم دون غيرها من موجودات هذا الفضاء؟ ألا يجوز أن يظهر في المستقبل مذهب يرجع بالحرارة إلى الفضاء في حالة من حالاته؟! أليس خلو الفضاء من الحرارة - إذا صح هذا الخلو - عجبا يحتاج إلى تفسير؟ أليس انحصار الحرارة في السدم دون غيرها أحوج من ذلك إلى التفسير؟ ألا يقول بعض العلماء اليوم: إن الفضاء هو الأثير، وإن الإشعاع هو أصل المادة؟ وإن الإشعاع كله حالة من حالات الأثير؟
فالقول المأمون في تفسير الآية القرآنية أن السماوات والأرضين كانتا رتقا فانفتقتا في زمن من الأزمان ... أما أن يكون المرجع في ذلك إلى النظرية السديمية فهو المجازفة بالرأي في غير علم، وفي غير حيطة، وبغير دليل. •••
ومتى استوفى العقل والضمير حظهما من سعة القرآن على هذا النهج القويم، فلا حاجة به إلى موافقة النظريات المستحدثة، كلما ظهر منها فرض جديد.
وعلى هذا النهج نقرر أن الفلسفة القرآنية خير ما تتكفل به الأديان القائمة من عقيدة تعمر الضمير وتطلق للعقل عنانه في سبيل الخير والمعرفة وسعادة الأرواح والأبدان، ونحسب أننا وفينا القصد حين نقنع من يقرأ هذه الصفحات بالحقيقة التي أردناها؛ وهي: أن جماعة المسلمين لا يستغنون عن عقيدة، وأنهم لا يصطفون لأنفسهم عقيدة ميسرة سمحة خيرا لهم مما اعتقدوه.
عباس محمود العقاد
Shafi da ba'a sani ba