على أنه لو امتنع يوما من الأيام بحيلة من الحيل الحكومية لبقي التفاوت الذي لا حيلة فيه لحكومة قط، ولا تعدله في قيم الحياة قيمة تتعلق بالأرزاق أو بالأموال؛ لأنه هو التفاوت الذي يسعد ويشقي، ويرفع ويضع، وتناط به الآمال والجهود، والغبطة والرجاء.
فقد يولد الإنسان بوجه جميل، يفتح له القلوب، ويسخر له اللذات، ويتمناه الألوف، فلا هو قادر على أن ينزل عنه، ولا هم قادرون على أن يأخذوه.
وقد يمتاز الإنسان بالقوة التي تقاوم العدل، وتستغني بالقليل من الطعام والكساء عن الكثير الذي لا ينفع الآخرين.
وقد يمتاز بالذرية التي تعز على غيره، أو يساوي غيره بالذرية ويمتاز عليهم بنجابة الأبناء.
وقد يمتاز بالعبقرية والنبوغ، وقد يمتاز بالفصاحة وذرابة اللسان، وقد يمتاز بالظرف والفكاهة والإيناس، وقد يمتاز بطول الأجل والرضا عن العيش، واعتدال المزاج، وقد يمتاز بالهيبة ووجاهة المحضر وبروز «الشخصية» بين الأنداد والأقران.
فلا بد أن يكون الإنسان مشغولا جدا بالعملة والنقد حتى يتخيل أن النقود وحدها هي التي خلقت الدرجات الاجتماعية بين هذه الفوارق التي لا تقبل الإحصاء، ولا بد أن يكون محسور النظر، حين ينظر إلى المستقبل القريب والبعيد، فيحسب أن هذه المزايا معطلة العمل، في خلق الدرجات والطبقات، وستظل معطلة العمل عشرات السنين، ومئات السنين، وآلاف السنين، إلى أبد الآبدين.
وما كان بالناس من حاجة إلى انتظار آلاف السنين ليروا أن هذه المزايا وأشباهها قد تعمل عملها، في ظل كل نظام، وعلى الرغم من كل نظام.
فقد تأسس النظام الشيوعي في البلاد الروسية منذ ثلاثين سنة، فحاول جهد المستميت أن يقضي على الطبقات والدرجات، فما هي إلا سنوات حتى ظهرت بوادر التفاوت بينها بعد نشأة الصناعة الحكومية، وهي قيد أنملة في أشواط الحياة الاجتماعية إذا قيست بالتاريخ المنتظر في الدهور بعد الدهور.
ظهرت بوادر هذا التفاوت بين أناس يرغبون جميعا في منعه، ويؤمنون جميعا ببطلانه، ويدينون بما تدين به حكومتهم من أسباب الفوارق بين الطبقات في حظوظ المعاش.
وقد دانوا بما تدين به حكومتهم؛ لأنهم ولدوا في ظلها، ولم يسمعوا رأيا غير رأيها، ولا فلسفة للتاريخ غير فلسفتها؛ إذ كان الجيل العامل في البلاد الروسية من أبناء العشرين إلى أبناء الخامسة والأربعين قد ولدوا بعد نشأة النظام الشيوعي، أو تعلموا دروس الطفولة والصبا على يديه، فليس في وسع نظام أن يطمع في معونة أصدق من هذه المعونة بين الحكومة والشعب؛ لتحقيق التجربة التي يؤمنون بها ويكرهون إخفاقها، ويعلقون عليها الرجاء الأكبر في الوجود كله؛ لأنها هي عقيدتهم في الوجود.
Shafi da ba'a sani ba